الفصل الثالث عشر - شهاب قاتم
الفصل الثالث عشر
في احدى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي..
بجناح بأحدى الفنادق التي لا يذهب إليها سوى الأثرياء وصفوة المجتمع بمدينة النور، تعج بالظلام عدا تلك الشرفة التي تطل على برج ايفل بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث تلألأَت تلك الأضواء من بعيد لتلقي بأشعتها المنبعثة من المدينة لتضيء الشرفة..
بعد أمسية شاعرية تناولا بها العشاء جلست لتعانقه ليدفن وجهه بين ثدييها العاريان وهو يعانق خصرها بين ذراعيه القويان ويُقربها منه مستنشقاً تلك الرائحة التي لا تُمثل له سوى العشق الخالص ومناله السامي في الحياة بأكملها..
"بحبك.." همس سليم ولم يبتعد عنها بعد أن تشاركا أحدى الأوقات الحميمية
"بعشقك يا سليم" همست هي الأخرى وهو موصدة عيناها بينما التفت ساقيها حول خصره في تناغم تام "عارف النهاردة فكرتني بإيه؟" همست بالقرب من أذنه ليهمهم إليها في استمتاع واعتصر خصرها أكثر "فكرني لما عملتلي عيد ميلادي في ألمانيا.. اتعشينا، روحنا، بس النهاردة كملنا اللي مكملنهوش ساعتها" أخبرته بدلال ونبرة مرحة استطاع ملاحظة ابتسامتها خلالها
"علشان متجيش في يوم من الأيام وتقولي عشمني وخلي بيا"
"لا في دي عندك حق.." زفر مطلقاً نفساً طويلاً وهو لا يزال يعانقها
"بما إنك في الحالة دي أطول مني.. ممكن تناوليني الجاكيت بتاعي من وراكي؟" أخبرها لتبتسم هي ثم التفتت خلفها لترى ملابسهما التي انتهى بها الحال على الأرضية عندما وصلا الغرفة، لتنظر على ما فعلا وابتسمت في خجل ثم أمسكت بسترته وقربتها لتعطيها إليه
"اتفضل.." أخبرته في إنزعاج
"بكره لما ببعد عنك كده يا مغلباني" أخبرها هو في إنزعاج طفولي بينما ترك خصرها ليُمسك بسترته
"ماله الجاكيت دلوقتي ومال اللي احنا فيه؟"
"علشان متقوليش إني زمان كنت حاجة وبعد الجواز حاجة!" أخرج من جيب السترة الداخلي صندوق مخملي أسود اللون ليُعطيها اياه
"بس سليم أنا مـ.."
"هششش!!" قاطعها ثم أومأ لها لتفتحه ووجدتها أكثر سلسلة رقيقة قد رآتها عيناها يوماً ما مُعلق بها اسميهما معاً لتنظر له في امتنان
"حلوة أوي يا سليم.. ميرسي يا حبيبي" همست ثم أقتربت لتقبله وبادلها ثم فرق قبلتيهما ليُمسك السلسلة من يدها ثم ساعدها على ارتدائها
"السلسلة دي فيها GPS يا زينة.. لو بتحبيني متقلعيهاش أبداً.. متوريهاش لحد، وخليها دايماً تحت هدومك مش باينة.. اتفقنا؟" همس لها بهدوء لتومأ له
"بس هو فيه حاجة يا سليم؟ أنت خايف تاني من نفس الموضوع مش كده؟" سألته بمنتهى الهدوء لينظر هو لها والخوف ينهمر من عينيه
"عمري ما هابطل أخاف عليكي يا زينة.. أنا مش هاقدر أخسرك لأي سبب من الأسباب" نظر لها والقلق يسيطر على ملامحه ليحيط وجنتيها بكفيه "كفاية اللي حصل زمان، أنا مش مستعد نتعرض لده تاني.. معنديش استعداد ابعد عنك تاني.. أنا ساعتها حسيت إن روحي بتتسحب مني يوم ما عرفت إنك خلاص انتي وهو مـ.."
"اسكت" قاطعته هامسة أمام شفتاه بعد أن رآت عينيه تتلألأ بالدموع لتُقبله وأطالت من القبلة وعادت لتعانقه مرة ثانية وضمت رأسه لصدرها "مفيش حاجة في الدنيا دي كلها تقدر تبعدني عنك تاني.. وإن شاء الله مفيش حاجة وحشة هتحصل" أخبرته لتداعب خصلات شعره الأسود بين أصابعها ليُزيد هو من قوة معانقته لخصرها
"هو شعر خالو لسه حلو كده زي شعرك ولا انت شعرك بقي احلى؟" سألته ليبتعد قليلاً ورفع نظره لزرقاويتيها
"بت أنتي هبلة؟ قاعد معاكي قاعدة رومانسية، ولسه قايم بواجباتي الزوجية معاكي على اكمل وجه، ومكلف ودافع وصارف وفي الآخر تقوليلي شعرك ولا شعر خالو!! تصدقي فعلاً هبدأ أصدق حوار نكد الستات اللي بتكلموا عليه ده؟" صدحت بضحكتها ثم ابتعدت عنه لتجلس أمامه ورمقته بنظرة امتلئت بالإثارة والدلال
"لا أنا مرضاش أكون الزوجة النكدية أبداً" تحدثت بمزيد من الدلال لتقترب منه مرة أخرى وبدأت في إثارته ليستند هو بكلتا يداه خلف جسده وأراح رأسه للخلف ثم وصد عينيه في استمتاع شديد مما تفعله..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"يا أبو يوسف والله ما حصل.. أنت طول السنين اللي فاتت دي كلها عمر حد شاف حاجة وحشة عليا؟" صاحت ببكاء وهي تحاول نفي تلك التهمة البشعة ليرمقها بنظرة إتهام وتقزز
"أنا لولا أهل الحتة اللي كانوا هيموتوكي مكنتش خليتك تعتبي باب البيت.. قومي ومتعتبيهاش تاني.." نظر لها بمزيداً من الإإتهام "ربنا يُسترها على ولايانا"
"والله ما حصل، ده كرم بيفتري عليا علشان خـ" حاولت أن تستجير به من ذلك الظلم الذي رماها به زوجها
"راجل إيه اللي يقبل على نفسه إنه يتعاير من الكل بمراته فاجرة ويستنجد بالناس علشان أي حاجة والسلام؟ الراجل مننا يغسل عاره بإيده ولا يتفضح قدام الناس.. الراجل مننا عمره ما يفرط في شرفه.. ده بس علشان كرم راجل ابن حلال وعايز يربي حتة العيل اللي مفرقش معاكي مرضاش يموتك.. فكراني عيل وجاية تضحكي عليا بكلمتين وهصدق كلامك.. امشي اطلعي بره وإلا، الله في سماه لاخلي أهل الحارة يرجموكي.. أنا لو منه كنت قتلتك بإيدي ولا دفنتك حية" قاطعها لتنهمر دموعها في قهر شديد ثم نهضت وتوجهت بخطوات بطيئة بسبب إعياءها الشديد وقهرها مما سمعته وحملت المزيد من الألم لتغادر..
"بتتردلك يا أبو يوسف ولا إيه؟" تمتم وهو يرمق ينظر صوب تلك الغرفة التي بداخلها ابنته، جالساً على تلك الأريكة القديمة، مستنداً في حسرة على عكازه الخشبي، ليُفكر في هذا الأمر الذي حدث منذ ستة وعشرون عاماً، تذكر تلك الفضيحة التي كانت حديث الناس لسنتين، لا يستطيع نسيانها، أكانت تلك المرأة مظلومة؟ يستحيل!! لقد كان زوجها رجل من أفضل الرجال.. وإلا لم يكن ليقبل أن يزوج ابنته منه..
"يا خوفي لا اكون ظلمتك يا آمال" زفر بحرقة وهو يحاول أن يتذكر تلك الحادثة منذ سنوات ليرى ما إن كان ظالماً أم لا! أحقاً الزمن قد جار عليه بنفس ما فعله منذ سنوات؟!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"يعني أنتي ضد أسلوب العلاج التحليلي؟" سألها ثم تناول بملعقته المزيد من ذلك الحساء
"أنا مش ضده، بس شايفة إن العلاج السلوكي المعرفي أفضل بكتير.. لأنه بيعالج الأفكار نفسها" حدثته لتتناول هي الأخرى حساءها
"أنا مش متخصص زيك.. بس فكرة أي إنسان عن العلاج النفسي هو إنه يروح ويتكلم مع دكتور ويفضلو يحللو في المشاكل اللي حصلت وطريقة تفكيره في جلسات فأظن ده أسلوب صح!" ناقشها بمنطقية
"هو اولاً مفيش حاجة اسمها اسلوب صح واسلوب غلط.. هي أساليب.. وفي النهاية مدارس ونظريات بتختلف في الديناميكية بتاعتها وكل واحد يقدر يختار اللي شايف إنه هيجيب نتيجة.. صحيح بتخلتف على حسب الحالة، بس أنت عارف الأسلوب التحليلي ممكن يستمر مع المريض لعشر سنين، إنما السلوكي المعرفي أنت فيه بتلاقي الأفكار الغلط اللي عند المريض وبتصلحها وبتحولها كمان لنقطة إيجابية بدل من سلبية، وبرضو ده بيحصل بالكلام مع المريض.. ومن الآخر كده أنت بتخلي المريض هو اللي يعالج نفسه بعد ما تصححله افكاره.. وفي النهاية دي طرق، بس هقولك مثلاً.. لو أنتو محتاجين تقبضوا على خلية إرهابية بتعملوا إيه؟" سألته ليزفر بعمق
"فيه حاجات كتيرة.. يعني مثلاً ممكن نفضل مراقبينهم لغاية ما نعرف معلومات عنهم وبعدين نداهمهم، أو نراقب بيتاجروا في إيه ونقبض على ناس منهم علشان يقولوا كل اللي يعرفوه وساعتها نقبض عليهم إذا كانوا يعني في نفس المكان، فيه كذا طريقة"
"اهو الموضوع هو هو يا سيادة اللوا! ممكن قيادة تختار الحل الأولاني اللي ممكن ياخد وقت أكتر، وقيادة تانية تختار الحل التاني، وهكذا.. تعددت الأسباب والموت واحدُ يا سيادة اللوا يا قمر أنت" غمزت له ليضحك ثم نهضت لترفع الصحون من على المائدة ليفعل هو الآخر ليتجها إلي المطبخ ويضعا ما بيديهما بغسالة الأطباق.
"ما كفيانا نقاشات بقى في الطب النفسي وفي أساليب القيادة الإستراتيجية وتيجي أوريكي استراتيجيات تانية خالص" أقترب ليهمس بأذنها بنبرة مُداعبة لتبتسم هي ثم التفتت لتحيط عنقه بيديها
"أنا أؤيد وبشدة!"
لانت ابتسامتها في وهن وانهمرت احدى دموعها بعد أن تذكرت تلك الكلمات وأوصدت عيناها بشدة ووضعت أناملها فوق عينيها اللتان تعتصرهما وهي تشعر بالمزيد من الآلام تتجدد بداخل قلبها وهزت رأسها في إنكار .. فللتو ماهر كان يتحدث إليها، لماذا ذهب وتركها وحدها؟
بالرغم من تلك المحادثة الطويلة التي شاركت هبة بها لمدة ساعتان كاملتان على هاتف المنزل، وبالرغم من عدم حصولها على أي معلومة إضافية مما حدث بينها وبين شهاب في تلك الجلسة، مزاح حاولت هبة افتعاله، العديد من حالات الإدمان التي أرادت تناول رأيها بها، تحضيرات تلك الأمسية لهاشم وفريدة، هي تفكر الآن بماهر مرة أخرى!
"كلنا بنعاني.. محدش حياته كاملة.. فيه اللي بيعاني إنه يكمل، وفيه اللي مش عارف إنه بيعاني.. وفيه اللي مش قابل فكرة إن فيه معاناة أصلاً بيعانيها.. كلنا أمراض نفسية.. وأولهم أنا.."
تحدثت لنفسها في اقتناع بعد مقارنة ثلاث حالات تحتاج للمساعدة، شهاب، زينة، ونفسها!! تلك الثلاث حالات التي تعرضت إليهم في آخر سنة..
فتحت عينيها في محاولة أخرى جديدة للمضي قدماً ثم نهضت وأحضرت حاسوبها وشرعت في كتابة الملاحظات وتفريغ تلك الجلسة بكامل تفاصيلها التي تتذكرها مع شهاب لساعة كاملة حتى شعرت بالإرهاق..
لم تستطع ملاحظة الوقت وهو يتفلت دون شعورها، حتى بعد أن أوصدت الحاسوب ذهب عقلها لا تلقائياً ليتذكر العديد من المواقف ويُحللها..
"مش مهم، المهم إن احقق اللي أنا عايزه، وإن اسمي يكون معروف على كل تصاميمي اللي عملتها، وعلى فكرة أنا ببدأ في مشروع خيري جديد"
يريد فعل كل ما يريده بأي طريقة!! وكأنه لا يهتم بما يظنه الناس!! تحمل وجهين، وجهاً كاذب ووجهاً صادق.. طبيعة شهاب اتضحت لها منذ الوهلة الأولى.. لا يكترث!! ليس بشخص مسئول، ولا يملك أدنى مشاعر تجاه أي شيء.. ويظن أن كل ما يفعله سيستمر إلي الأبد.. بل حتى لم يُفكر في نهايته..
"مع إن ده نهاية طموحك، يعني لا مثلاً حابب يكون ليك زوجة وأولاد علشان تأمنلهم حياتهم ويكون ليك أُسرة عايشة كويس بعدك، ولا ورثة يكبروا اسمك ويشيلوه ويفضل موجود دايماً، ولا عندك مشاريع كبيرة لمساعدة الناس، فنهاية طموحك بعد ما تموت هتكون مجرد إسم وبطبيعة عالم الشركات ورجال الأعمال كل يوم فيه جديد قليل اللي هيفتكر اسمك ومع الوقت هتتنسي.."
لا تستطيع نسيان كيف رمقها بنظرة منزعجة لم يستطع التحكم بها ليُحمحم وتفحصها لبرهة، يبدو أنها ستستفز بداخله العديد من الأشياء في الفترة المُقبلة.. ورغماً عنها ابتسمت..
"وبالنسبة للنوم.. أقصاها فنجانين قهوة في اليوم.. لما تصحى واحد وممكن واحد بعد الضهر.. ووقف قهوة من الساعة اتنين أو تلاتة.. بطل تشرب مشروبات طاقة.."
هذه ليست بشفافية، هي تتلاعب به.. تعرف أنها بداخلها تريد أن تثأر منه لإستفزازه إياها.. من يوقف القهوة من الثالثة عصراً.. أي طبيب يوصي بوقفها من السابعة أو حتى السادسة.. ولكن عدم معرفته كيف يتصرف في تلك الجلسة جعلها تدرك أنه لا يدري شيئاً ويبدو أنهلم يذهب لطبيب من قبل لذا قررت أن تتلاعب به قليلاً.. ابتسمت في انتصار ولكنها قررت ألا تفعلها ثانيةً!! هذه ليست شخصيتها على كل حال.. ولكن هو راوغ وقتها لذا قررت أن عليها الإنتصار حتى ولو بشيء تافه كهذا.. حتى ولو لن يتبعه، وهو ما تتأكد منه تماماً!
"لا.. نوم و أحياناً Sex مش اكتر ومش دايماً كمان بيكون في السرير!"
تترسخ بداخله تلك الرغبة الذي يظن أنه يخفيها بشذوذه الشديد فيما يتعلق بالجنس، أظن أنه يفتح مجالاً حتى تتحدث معه عن ممارساته للجنس! يا له من غبياً.. سيكوباتيته الشديدة لم تُشفق عليه ودفعته لقول ذلك ظناً أنها ستجاريه! تلك الشهوة المريضة بداخله يبدو أنها هائلة.. وسيحتاج ذلك مجهوداً لا نهائياً منها حتى تُغيره!
"هههه.. يا بنتي الراجل اللي بيعذب الستات ده محتاج خمسين أخصائي لواحده علشان يعالجه لو هو مش شايف مصيبته السودا، إلا بقى لو هو حس وعايز يتغير من نفسه وعلشان نفسه كمان مش علشان خاطر واحدة بيحبها وبس، ساعتها الموضوع بيكون نقدر عليه.. بس بحث زي ده مش صعب عليكي شوية؟ ده غير إن مش سهل يتقبل أصلاً.. أنتي هتقدمي البحث لمين، حد أنا أعرفه؟"
هذه الخطوة كانت في منتهى الخطورة، يا إما سيُدرك أنها تعلم حقيقته، أو حتى لو بحث عن كارما أو علم أنها جارتها سيعرف أنها كانت تتحدث بمنتهى التلقائية عن الأمر! أو ربما سيراقب مكالماتها! لا تدري ولكن حتى إذا واجهها بالأمر فهي على ثقة أن شهاب لن يستطيع أن يفعل لها شيء..
ما يجعل الثقة تزداد بداخلها أنه لن يؤذيها أنه إلي الآن لم يتعرض لها، لم يُعاملها سوى بطريقة عادية للغاية، ولكنها على ثقة أيضاً أنه يستدرجها لشيء ما، ما عساه أن يكون؟!
"إيه يا فيروز يا حبيبتي اللي مصحيكي بدري كده، ولا منمتيش من امبارح؟!" سمعت صوت والدها لتتوقف عن التفكير وتلتفت له
"لا يا بابا منمتش.."
"ليه كده بس؟"
"النهاردة كان أول جلسة معاه.." ابتسمت له وقد ظهرت ملامح المعاناة الشديدة عليها
"حبيبتي أنا متأكد إنك هتقدري إن شاء الله"
"يارب يا بابا" همست بتنهيدة عميقة ليقترب منها والدها
"أنا مبسوط إني شايفك كده.. بس انتي مستعدة لده؟" أار والدها على ملابسها التي وجدها مُلونة لتومأ هي له "ربنا يريح بالك يا بنتي"
"يارب" همست له وقبل أن تعود لحزنها لم يتركها والدها
"تيجي تصلي معايا الفجر؟"
"يا سلام، وأنا الاقي إمام قمر كده فين.." نهضت من على سريرها ثم تعلقت يدها بذراعه "يالا يا دكتور"
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
صباحاً بالمقر الرئيسي لشركة DRE...
لديه حازم، لديه عمه كريم.. نجح في جمعهم، يا لها من أُسرة كبيرة!! ابتسم بإستهزاء وهو غارقاً في تفكيره بأمرهما.. أظنت تلك العاهرة أنها تستطيع أن تتغلب عليه فقط لمواجهته بماضيه الذي يكرهه؟! أظنت أن شهاب الدمنهوري من بين البشرية بأكملها من تستطيع العبث معه ولم تجد سوى النقود لتعبث بها معه؟!
غبية، غبية للغاية تلك المرأة، كيف لها أن تتخيل ولو حتى لثانية واحدة أن تأخذ منه ولو قرشاً واحداً، وتأتي لتهدده؟! يا للسذاجة!! هي حتى بعد كل ما فعله بها لا تدري أنه يملك لها مفاجأة من عيار ثقيل!!
فقط أن تتجرأ مرأة وتعامله مثل ما عاملته غادة وتتجرأ على إستهزاءه آتى بها صباح آخر إختبار من منزلها وأذاقها معنى العذاب!! والآن تأتي هذه النكرة لتُخبره ما أخبرته به وظنت أنها ستنتصر بتلك السذاجة.. غبية!!
"نعم!!" فتحت الباب في ملل وهي ترمق ذلك الرجل في تكبر وحدثته بتأفف وهي تريد أن تنهي الحديث سريعاً حتى تعود لمراجعة بعض النقاط قبل الإختبار ولم تعرف أن شهاب يُراقبها من تلك السيارة السوداء الضخمة التي أستأجرها، فهو في غضون أيام قليلة قد استطاع معرفة كيف تُسير هذه الأمور، وقد قرر ولأول مرة أن يترك العشق الساذج جانباً ويستخدم الحيل معها..
"أعتذر أنني قد أتيت مبكراً، ولكن ما حدث.." حدثها ذلك الرجل بالإيطالية وتظاهر أمامها أن هناك أمراً خطيراً "زميلك بالجامعة، كان يعبر الطريق وأنا.. للأسف أنا.. الليلة الماضية لقد.. لقد تناولت العديد من الكؤوس مع الأصدقاء و.. كنت عائداً للمنزل.. لم آراه.." تصنع المزيد ليتضح القلق بعيني غادة
"زميلي!! من تقصد؟"
"اسمه.. أظنه عربي.. هيثم، هل تعرفيه؟"
"ماذا حدث له؟ لدينا اختبار بعد ساعتان.. أين هو الآن؟" صاحت في لهفة
"هو بمنزلي وقد أخبرني أنكِ تستطيعين المساعدة، ولكن أرجوكي لا تقومي بإبلاغ الشرطة، أقسم أنني لا أريد أي مشكلات!"
ابتسم شهاب وهو يلمح علامات القلق واللهفة بعيني غادة وذلك الفتى الذي أعطى له بعض الأموال واقنعه أنه هيثم وهناك شجاراً بينه وبين حبيبته ويُحضر لها مفاجأة..
"هل أستطيع الذهاب له؟ أرجوك أخبرني أنه بخير.." صاحت وقد تملك من وجهها القلق واللهفة
"بالطبع.. ولكن أهدأي، لقد أتيت لنذهب له سوياً.. فقط اهدأي" أشار بإصبعه على السيارة لتوصد الباب خلفها وتتجه نحو السيارة التي أشار عليها الشاب ولم تلحظ شهاب الجالس بها فتبعها الشاب لتدلف هي بالكرسي الأمامي بتلقائية وانطلقت السيارة فور أن دلفت بسرعة لتجد أن شهاب هو السائق!
"شهاب! أنت.." نظرت له بدهشة ليلتفت لها وهو يرمقها بملامح جامدة ثم اعاد نظره على الطريق "أنت تعرف فين هيثم؟" سألته بينما أسرع هو ولم يجبها "شهاب رد عليا!! أنت تعرف فين هيثم؟ أنت تعرف حصله إيه؟"
لم يلق بالاً لما تتحدث به وقد ذهب لأحدى الأماكن النائية وهي تنظر له في تردد وبدأ القلق يتمكن منها لتشعر بالإرتياب وهي تنظر إلي الطريق
"احنا رايحين فين؟" سألته بنبرة اتضح بها الخوف ليلتفت إليها وهو يبتسم بمنتهى الشر
"أنت مبتردش عليا ليه؟" سألته وهي تنكمش بالكرسي جانبه بعد أن رآت ملامحه
"شهاب أرجوك رد عليا.. هو فيه إيه اللي بيحصل؟" توسلته ليرمقها بطرف عينيه ثم أسرع بالطريق
"طيب.. أنت.. أنت.. أنت لسه مضايق مني؟" سألته في تردد بعد أن تعالى رعبها الشديد
"احنا عندنا امتحان كمان ساعتين.. أنت موديني فين؟!" همست وبدأت الدموع تتكون فوق حدقتيها ليراها في حالة فزع شديدة ثم ابتسم بإستهزاء ليصل لذلك المخزن المجهور وترجل من السيارة وذهب لكرسيها ليجذبها لخارج السيارة
"شهاب.. أنت جايبني هنا ليه؟ آه!" تألمت عندما اشتدت قبضته على يدها ودلف ذلك المخزن الذي أغلق بابه من الداخل خلفهما
"إيه المكان ده!! أنت.. أنت هتعمل فيا إيه؟" سألته وقد بدأت في البكاء في وجل عندما رآت جهاز تصوير ومرتبة مُلقة على الأرض وشهاب يدفعها ليُلقيها عليها
"يااه يا غادة.. لا فلوس بابي، ولا فلوس هيثم هتقدر تنقذك مني دلوقتي" ابتسم إبتسامة جانبية وهي تنظر له في فزع وانهمر المزيد من دموعها وذقنها ترتجف في تأثر
"هصورك.. وانتي هتمثلي إنك مبسوطة.. ولو معجبنيش اللي بيحصل هافضل اعيد لغاية ما اقتنع.." ابتسم لها وهو ينظر إليها بمنتهى اللطافة وهو يخلع قميصه وألقاه أرضاً
"هتصور إيه يا شهاب؟!" همست في رعب وهي تنظر له في غير تصديق
"انتي يا حبيبتي.. وأنا.. واحنا نايمين مع بعض ومبسوطين" أجهشت بالبكاء ليهتز جسدها بأكمله على اثره "ولو معملتيش كده، لا في امتحان، ولا في بابي، ولا فيه هيثم.. ولا حتى هيكون فيه غادة.. خليكي بقى شاطرة ووريني الضحكة الحلوة.."
أومأت له بالنفي في حالة نكران تامة وحاولت التراجع بيدها إلي الخلف ليذهب هو وجذبها من ساقيها في عنف شديد وقد تفوق عليها لإختلاف قوة جسديهما
"ما انتي نمتي مع هيثم.. إيه اللي هيحصل لما تنامي معايا.. مش يا حبيبتي كنتي يوم معايا ويوم معاه؟ مش هيجرى حاجة لما تنامي معاه امبارح وتنامي معايا النهاردة.. وبعدين مش بذمتك أنا استاهل!! أنا ياما خليتك مبسوطة.. وياما كنت جدع معاكي وذاكرتلك.. الدور عليكي بقى ترديلي الجميل" ابتسم له وكأنه يتغزل بها ليتصاعد بُكاءها في هيستيرية شديدة ليتركها وذهب ليضع جهاز التصوير على وضع التسجيل لتنهض هي وهرولت نحو الباب ولكنه تبعها ليحملها غصباً وعاد بها مرة أخرى وألقاها على تلك المرتبة..
"شوفي بقى يا حبيبتي! أنا هنام معاكي وبمزاجك.. ودي الحاجة الوحيدة اللي هتخليكي تلحقي امتحانك وترجعي لبابي ومامي.. وتتجوزي هيثم حبيبك.. وبمزاجك برضو مش هتجيبي سيرة لحد وإلا هافضحك وانتي نايمة معايا وبمزاجك.. ويا إما خلينا قاعدين، أنا بصراحة مبقاش يفرق معايا موضوع الكُلية وبقى معايا فلوس.. وأكتر من اللي مع بابي وهيثم.. يعني مش هاتفرق معايا أوي.. و.."
توقف عن الكلام وابتسم إليها ثم أقترب ليزداد ذعرها وأوصدت عينيها وقد تشنج جسدها وهو يقترب أكثر حتى وضع يده أسفل المرتبة وأخرج احدى الأسلحة ومرره على جانب وجهها لتتساقط المزيد من دموعها وتعالت شهقاتها في رعب مرير حتى ظنت أنها قاربت على فقد وعيها
"لا لأ.. متخافيش.. عمري ما أقدر أأذيكي.. ده أنا حتى قولتلك إني بحبك.. مرضاش أكون أنا الراجل اللي يموت حبيبته" حدثها هامساً ثم احتضنها وهو يشعر برجفات جسدها لتتوسع ابتسامته ثم وجه السلاح إلي عنقها
"أنا عارف إنك بتعزيني.. وأنا عسول وكيوت زي ما انتي ما قولتي.. انتي تبسطيني، وتنامي معايا.. ساعة وهنخلص وهنروح الإمتحان وتروحي ومتقوليش لحد.. واعتبريه يوم حلو وحلم من الأحلام الوردية ولا ساعة من الساعتين واقلب وخلاص" اشتق من كلماتها التي أخبرت صديقتها بها يوماً ما ليمد أنامله ليُجفف دموعها
"ها يا حبيبتي.. بالعافية وأضرب وأربط.. ولا بمزاجك؟! لو حابة تلحقي الامتحان وترجعي بعدها البيت يا ريت تبطلي عياط.. ده أنا شهاب برضو اللي عمره ما رفضلك طلب" أخبرها وهو يربت عليها في حنان زائف وبكاءها لم يتوقف
"آه.. انتي خايفة من المسدس!! ازاي مخدتش بالي.." ابعد عنها السلاح الذي وضعه مكانه ثم ابعدها قليلاً عن صدره "ناقص ساعة ونص على الإمتحان.. يالا.. وهابقى حنين معاكي كمان.. دي مرة يعني قبل ما تبعدي عني وتروحي مصر.. وأوعدك هنراجع في الطريق واحنا رايحين الجامعة قبل الإمتحان.. وانتي عارفة إني عمري ما بكدب عليكي.. مش هاجيب سيرة لهيثم ولا لأي حد! اتفقنا؟!"
قهقه بمنتهى السخرية وهو يتذكر مرته الأولى معها، صوتها وهو يُجبرها أن تطلب منه أن يصفعها، صياحها بأنها مُستمتعه، بأنها تعشقه.. فعلت كل ما طلبه بسهوله.. يا لها من عاهرة!
وعاهرة أخرى تطلب منه الأموال ولا تدري ما الذي قد يفعله معها.. لقد فعل هذا بمن عشقها.. أول مرة يضاجع بها إمرأة جعلها تطلب الرحمة منه فقط لينتهي!! وها هي الآن تأتي لتواجهه بإرث لا تملكه لا هي ولا ابنها ولا والده نفسه! غبية للغاية! لا تعرف من هو شهاب بعد..
".. يا بنتي الراجل اللي بيعذب الستات ده محتاج خمسين أخصائي لواحده علشان يعالجه لو هو مش شايف مصيبته السودا، إلا بقى لو هو حس وعايز يتغير من نفسه وعلشان نفسه كمان مش علشان خاطر واحدة بيحبها وبس، ساعتها الموضوع بيكون نقدر عليه.."
صر أسنانه وعقد حاجباه عندما تذكر تلك الكلمات وتجهمت ملامحه بعد قهقهاته وهو يتذكر تلك الكلمات!! العاهرات جميعهن يستحقن العذاب.. بداية بغادة، ونهاية بزوجة ابيه!
أتعرف عنه شيئاً؟! كيف علمت؟ إذا كانت على علاقة بوالدته وأخوته فقط، فكيف علمت؟! أهي على علاقة بأحدى الفتيات اللاتي عذبهن من قبل أو مارس معهن الجنس؟!
ازداد ارتيابه وتذكر تلك القصة السخيفة التي قصتها على الفتاة الصغيرة بأول يومٍ عرفها به ليُخرج هاتفه بمنتهى الحنق وهو يتحدث لإحدى الرجال الذين يمتلكون العديد من الطرق الملتوية ليراقب مكالماتها الهاتفية بأكملها على رقميها!!
"مبقاش شهاب الدمنهوري إن ما عرفت انتي وراكي ايه!" تمتم ثم عاد ليشرد في أمر تلك المرأة مرة أخرى وعاد ليتذكر وقت تلك الجلسة السخيفة..
"طيب فيه أي تعاطي لمواد منبهه تانية.. مثلاً، مشروبات طاقة، ترامادول؟"
ماذا تظن؟! أتراه كمدمن؟ حقاً.. يا لها من غبية.. وحتى ولو كان مدمناً.. أتظن أنه سيجبها بصراحة!! قهقه في سخرية وأخذ يتذكر المزيد..
"يعني.. لما مثلاً تكون موجود وسط الناس، بتحب يشاوروا عليك ويقولوا ده شهاب الدمنهوري.. بتحب الأضواء ولا لأ؟"
ساذجة!! وبشدة!! الأضواء هي من تبحث عني أيتها المرأة الغبية.. لو فقط تعلمين أنني كنت أجعلك تُصدقين كل شيء خاطئ بمنتهى السهولة عني!! لو فقط تعلمين!!
"أنت لسه متعرفنيش.. ممكن اكون مش كويسة أو بكدب في حاجة أو يمكن إنسانة مش تمام.. متثقش في حد بسرعة.. دي نصيحة.."
أتعبث معه؟ ما الحقيقة وراء تلك النصيحة الرعناء، ماذا تريد تلك الساذجة منه؟ ماذا وراء كل ذلك؟ ولكنه قد سأم التخمين بأمرها وبشدة! عليه أن يُسرع في معرفة ما خلف تلك المرأة!
"هبة حكيتلي إن اطلقوا زمان علشان مكنش فيه تفاهم وباباك كان رافض إن مامتك تشوفك وبعد كده أنت سافرت ولغاية عزا باباك عمرك ما كلمتها ولما راحت العزا انت رفضت تكلمها برضو.. بس كده"
اشتد شروده ولم يُدرك أن ساقاه يهتزا بسرعة شديدة مبالغ بها ثم عاد ليتذكر أنها اخبرته بطريقة غير مباشرة بألا يأتي لذلك الاحتفال السخيف!! أتظن أنه سيفعل عكس ما تخبره به فسيأتي؟ أم أنها محقة؟ ماذا تريد تلك المرأة؟
أوصد عيناه زافراً بتنهيدة عميقة وقد بدأ يشعر بقلة النوم ولكنه عاد ليتذكر ملامحها، تلك الألوان التي ارتدتها، شعرها الذي أكسبها مظهراً جديداً، نظرات عينيها التي لا يستطيع فهمها بعد، تلك الملعونة تملك زوجاً من الأعين لم يرهما بإمرأة قط.. لماذا كل هذا التحول في مظهرها، أتستدرجه لأمر ما؟ ماذا تريد وهي ليست كبقية العاهرات؟ ماذا تريد وهي تُخبره بأنه ليس عليه أن يحضر تلك الحفلة الصغيرة؟ لماذا تريد أن تصل خلف ذلك المشروع الخيري وإطنابها في أنها إمرأة مخلصة لزوجها ولا تحاول إثارته بأي شكل من الأشكال؟!
خلل شعره وأراح جسده بكرسي مكتبه وأوصد عيناه في مزيداً من التفكير وقد سأم أن تلك المرأة لا يستطيع أن يُمسك عليها أي دليل ولا حتى ولو قليل من الكذب!! هذا الملل بطريقتها المستفزة تلك لا يظن أنه سيستطيع التخلص منه بسهولة!! عليه إيجاد حل وبسرعة حتى يُخرجها من حياته بأكملها!
فتح عينيه لينظر أمامه لحاسوبه وتلك الأوراق التي تحتاج توقيعه، ماذا حدث؟ لقد كان يعمل ثم ماذا حدث؟ أخيه، عمه، زوجة والده، غادة ثم فيروز، كان يُفكر بمزيداً من الإنتقام تجاه زوجة والده وبحرمانها من ابنها وبدر الدين وأولاده على ما فعلوه به يوماً ما وما فعله بدر الدين بعمه.. لماذا ذهب ليتذكر فيروز على كل حال؟!
هو الآن ذهنه غير صافياً ولا حتى يُفكر بالعمل كما زعم أمامها وانخدعت ببراعة، عليه الآن أن يُنهي عمله، بمنتهى السرعة، يريد الليلة أن ينال قسطاً من الراحة فهو حتى لا يدري متى كانت آخر مرة أوصد عيناه لما يزيد عن دقيقتان! ولكن كيف ورأسه يعج بها الكثير.. سيُسلط تركيزه على العمل، تفاصيله، وتلك الأمور التي لا تنتهي..
أقترب من تلك الأوراق ليقرأها بتأني وتفحص شديد للغاية وهو يُركز بكل حرف ارتسم أمامه، حاول ألا يُركز سوى في الكلمات وفي بنود تلك الأوراق، لم يكن يدري أنه يُنفذ ما أخبرته به بمنتهى التركيز، وامتثل كل ما أخبرته به بإذعان لم يشعر أنه يتحكم به..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"شكراً يا عاصم إنك فضتلي نفسك!" ابتسمت له في وهن وهي تنظر له بإمتنان زائف
"يا حبيبتي كلنا كان نفسنا بس تقومي بالسلامة واحنا نجيبلك حتة من السما كمان لو عايزة" قابلها هو الآخر بإبتسامة ليسود الصمت لفترة فلاحظت هاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين وكل مرة يوقفه حتى لا يُصدر صوتاً
"لو حابب تقوم أو تمشي أنا ممكن اقعد لوحدي عادي"
"لا أقوم إيه! أنا النهاردة واخدك أخرجك وطظ في أي حاجة تانية" تناول هاتفه ليحوله على الوضع الصامت ثم نظر إليها وهو يتذكر كلمات هديل له بمحاولة معرفة ما حدث ذلك اليوم الذي غادرت هي به
"أروى.. معلش أنا عارف إن الكل بيسألك، بس احنا طول عمرنا أقرب اتنين لبعض.. انتي فعلاً مش فاكرة اللي حصل يومها ولا.."
"لا يا عاصم، أرجوك بلاش الموضوع ده تاني، أنا فعلاً مش فاكرة، مش قادرة أفتكر أي حاجة، كفاية بقى حرام اللي أنتو بتعملوه معايا ده، أنا هاخبي عليكم ليه بس؟"
قاطعته وتظاهرت بالبكاء وأجبرت احدى دموعها على الإنسياب لينظر لها عاصم في حُزن وأروى أمامه تلك التي كانت لا تكل ولا تمل من الذهاب هنا وهناك وكانت تملك عقلاً شديد الذكاء، لا تنسى ولو حرفاً مما تفعله، ها هي الآن تجلس أمامه على كرسي متحرك ولا تستطيع حتى تذكر بعض أحداث ليشعر بالشفقة الشديدة عليها ليتنهد وهو يشعر بغصة في حلقه وهو يُمسك بإحدى يديها
"حقك عليا يا رورو أنا آسف.. سيبك بقى وقوليلي هنفطر إيه النهاردة، ولا هي عزومة مركبية يعني زي ما بيقولوا؟" ابتسم إليها ثم جفف دموعها ولم يكن يُلاحظ تلك التي تنظر إليهما من على مسافة..
كم تتمنى أن يهتم بها رجلاً كهذا، فتاة، مُقعدة، تنال هي كل ذلك الإهتمام من رجل جذاباً وسيماً يستطيع أن يُحضرها لهذا المكان الذي يشتهر بأنه للصفوة وحسب، يبدو أنه هائم بها، بينما هي بكل جمالها وأنوثتها وإخلاصها الذي هي مستعدة على تقديمه لأي رجل يُحبها جالسة هنا في انتظار أن ينتهي عمرو من ذلك الشجار مع زوجته في الصباح الباكر حتى تُخبره بما لديه من أعمال واجتماعات واتفاقيات ودوامة من أعمال لا نهاية لها..
"أروى وعاصم الدمنهوري.. أخوها على فكرة" أخرجه صوتها من شرودها ومتابعتها لهما لتبتسم له
"شكلهم مش أخوات.."
"لا أخوها، عارفة شركة الخدمات اللي اسمها الخولي holding، هي كانت الـ GM تقريباً.. مش فاكر الـ title اوي، بس معرفش اختفت فترة وأول مرة أشوفها وهي قاعدة كده على كرسي! هي أصلاً بنت واحدة من اصحاب الشركة"
جعلها ذلك تتذكر ذلك الإسم الذي يبدو مألوفاً، وركزت لبرهة لتحاول تذكر لماذا يبدو هذا الإسم وكأنها تعرفه..
"أيوة افتكرت اسم الشركة، دي اللي ماسكة الخدمات عندنا في فروع الشركة، بس مش أنت كنت قولتلي ساعة اجتماع الوفد الصيني إن فيه واحد اسمه شهاب الدمنهوري؟ ده أخوهم برضو؟" سألته وهي تنظر له بإستفسار
"لا.. أظنه تشابه أسماء.. لكن أروى دي معندهاش غير عاصم وإياد باين.. اخواتها" همهمت في تفهم "أنا اعرفها أصلاً، تحبي تقومي تتعرفي؟"
"لا يا دكتور احنا جايين نشتغل!! خلينا نركز علشان أنت قدامك يوم طويل ونشوف ورانا إيه"
"متبقيش بقى نكدية انتي كمان يا لميس، هلاقيها منك ولا من التانية اللي في البيت.. تعالي تعالي بس خلينا نفصل من الشغل شوية وبعدين الشغل مش هيطير يعني" نهض لتتبعه مُرغمة وكل تركيزها أنها تُقسم أنها سمعت أسماء كل هؤلاء في أكثر من مناسبة ولكنها لا تعلم أين ومتى!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
اليوم هو الحادي والعشرون من أغسطس، كل شيء يستمر في الحياة ما عدا هو، لقد مر على موته أكثر من عام بأكمله وشوقها لا يتوقف عن التأجج له، تنتظر عله يأتي، يقرع جرس الباب حتى تراه، يُخبرها أنهما ذاهبان الليلة لتناول بعض الطعام أمام البحر بالإسكندرية ثم يعودا لمنزلهما..
تدري أنها لن تتوقف عن عشقها له ولا تذكره هو ونقاشاته وتفاصيله وملامحه، تدري أنها تحتاج لأعجوبة حتى تستطيع أن تمضي قدماً..
لقد عشقها هو الآخر وعشق تفاصيلها، اهتمامه لم ولن يضاهيه إهتمام بالحياة، كم من مرة تناقش معها في عملها أو حتى في تفاصيل الطب النفسي الذي ليس لها بدارس، كم من مرة شجعها على المواصلة، دائماً ما كان يُظهر الحماس ويدعمها في كل ما أرادته!
لقد تحمست لفكرة تناول تلك المُشكلات التي يعاني منها السجناء، ليأتي هو ويسهل لها الأمر هو ومعاذ، دائماً ما كان يوقظها كي تكون بالموعد بمدرستها مع هؤلاء الأطفال الذين تعشقهم..
لقد ذهبت لكل طبيب وطبيبة عرفت أنهم يستطيعون مساعدتها لتنجب ولم يُبدي ولو لمرة واحدة غضب أو ملل تجاه محاولاتها المستميتة في الإنجاب..
حمل كل معان العشق معه وذهب دون رجعة..
تنهدت وأغلقت عينيها وهي تتذكر المزيد والمزيد من الذكريات لتبتلع تلك الغصة التي اجتاحت حلقها من الدموع المكتومة وهي تتذكر كلماته الرقيقة لها بعشقه لإبتسامتها..
ابتسمت بين دموعها التي انهمرت دون تحكم منها لتفتح عينيها وتجفف دموعها ثم أطلقت زفيراً مطولاً وهي تتذكر كل وعوده لها بالسعادة التي يتفاني في تحقيقها لها..
"حاضر يا ماهر.. هحاول.. مع إنه صعب بس هحاول.." تمتمت لنفسها وهي تتذكر كلمات هبة لها بالأمس وما إن رآى ماهر حالة الحداد التي تعاقب بها نفسها وتتمرمغ بها لن يكون سعيداً أبداً..
"فيروز.. انتي عارفة إن شغلي ممكن في أي لحظة لا قدر الله أتعرض لـ.."
"ماهر متكملش" قاطعته ليبتسم لها ثم أقترب ليُقبل جبهتها ثم أمسك بيديها وهو ينظر لها بتوسل
"عمرنا مش بإيدينا، ولا نعرف امتى معادنا.. بس علشان خاطري لو حصللي أي حاجة.. متزعليش كتير ومتلبسيش عليا أسود وتعيشي حزينة.. أنا عايزك دايماً تكوني مبسوطة.. عايز يوم ما تحلمي بيا تطمنيني عنك وأشوف فيروز بضحكتها الحلوة اللي حبتها.. عايز أشوفك الدكتورة الشاطرة اللي بتحب تساعد الكل.. متخليش أبداً الزعل يغير روح فيروز.. فيروز دي روحي.. عايزة روحي تبقى متعذبة؟"
بم يُفيد عهد العُشاق إذا لم نمتثل به؟
نترك الحُزن يتملك منا حتى ننقد أسمى الوعود ونتوه في دوامة من الذكريات والآلام لتنهش بأرواحنا..
ننسى كل شيء، ننسى من نحن وكيف كنا ونصبح جماد بلا روح، نترك الحزن ليحمل روحنا مع من ذهبوا ليتركوا بداخلنا شخصاً لا نعرفه..
ولكن أهذا ما يريده عاشقنا؟!
ابتسمت في وهن ثم توجهت حيث دولاب ملابسها وهي تُخرج قميصاً كان دائماً يحبه هو، كان يُخبرها أنه ينسجم مع لون عينيها أكثر من كل الملابس التي تملكها..
وضعته فوق جسدها دون أن ترتديه ثم نظرت للمرآة، كانت دائماً ما ترتديه عندما أرادت أن تحظى بلحظة رومانسية معه ليُعجب بها أكثر، ودائماً ما كانت ترتديه لتشعر أنه يجلب لها الحظ!! ربما ستحتاجه اليوم..
أخرجت بقية الملابس التي سترتديها بعد أن قررت أن عليها العودة للمدرسة، لن تظل أسيرة هذا الحزن أكثر من هذا، يكفي ذلك الوعد الذي نقضته لأكثر من عامٍ وأشهر! عليها أن تعود للمدرسة، للمصحة، لحياتها، كما عليها العودة لفيروز التي فقدتها وسط ضجيج الحُزن الذي لم يرأف بها منذ كثيراً من الوقت..
عُذراً أيها الحزن الهالك لروح من أحببت.. سأغادرك بلا رجعة.. وداعاً..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢