الفصل الرابع عشر - شهاب قاتم
الفصل الرابع عشر
"النهاردة اليوم السابع يا ماهر من ساعة ما اخدت القرار، 27 أغسطس 2019، كل حاجة حساها اختلفت جوايا، أنا بحاول ارجع بس مش عارفة هاقدر أكمل ولا لأ..
المصحة زي ما هي، والمدارس قربت، على قد ما أنا مبسوطة إني اخدت الخطوة بس نظرات الشفقة اللي في عينيهم بتضايقني..
محدش بيبطل يسأل إذا كانوا لقوا اللي قتلك ولا لأ.. محدش بيبطل يسألني عاملة إيه دلوقتي ومحدش بيبطل صعبانيات..
يمكن لما المدارس تشتغل ارجع وسط الولاد كويسة تاني.. نفسي أقدر أكمل وأكون كويسة يا ماهر.. وإن شاء الله هاقدر"
أنهت تلك الكلمات التي خطتهما بدفتر يومياتها ثم وضعت الدفتر بحقيبتها وتناولت نفساً مطولاً لترغم إبتسامة على شفتيها وهي تذكر نفسها أن عليها أن تعود لما كانت عليه يوماً ما..
ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتذكر أمر شهاب، لم يهاتفها الأسبوع الماضي بأكمله، شعرت بالغرابة، كيف يحاول إستدراجها لأمر وبنفس الوقت يستطيع أن ينتظر كل ذلك الوقت دون مهاتفتها أو حتى يخترع واحداً من أسبابه المخادعة كي يراها!
هل يراقبها مثل ما خمن بدر الدين؟ أم أنها لم تستطع أن تخدعه هي الأخرى!! فقط عليها الإنتظار، سيتحدث عاجلاً أم آجلاً وسترى ما وراءه وما أخذ كل ذلك الوقت منه..
هي على علم أن بدر الدين يُراقبه، لو كان هناك أمراً كان ليُخبرها، ولقد تحدثت له يوم أمس ولم يخبرها بأن هناك شيئاً جديداً.. سوى أنه أحضر غادة من بيتها، مجدداً!
لماذا تلك المرأة تصمت على كل هذا؟ هل حقاً تخاف من تهديداته؟ هل كل ما أخبرتها به عن تاريخهما سوياً وبما يملك عليها من تسجيلات بأوضاع قد تجعل أي أحد يظن أن الأمر تم برضاها كان صحيحاً؟
ولكن كذلك بدر الدين أخبرها أن غادة ولأول مرة قد ذهبت له ثم ذهبت في غضون نصف ساعة فقط، ماذا حدث؟ ولماذا لا تزال كالشيطان الأخرس؟! لماذا لا تطالب بحقها؟ فليذهب زوجها إلي الجحيم إن لم يُصدقها!!
كم تمنت لو أن تجلس معها أو تحدثها حتى تعرف ما الذي حدث بينها وبينه.. ربما سيعرف بدر الدين بطريقة من طرقه الملتوية التي لا تحبذها ولكن هذا الحل مع مجرم مختل مثله!!
لو فقط كانت مكانها لكانت قاضته وآتت بأنف هذا المختل حتى تحصل على حقها بسجنه وعقوبته! لماذا النساء بمجتمعنا ضعيفات للغاية هكذا؟! لماذا يسكتن على حقهن؟ وإلي متى سيفعلنها؟!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"هسألك سؤال واحد بس.. وجاوبي بصراحة.. مش هاعملك حاجة المرادي" حدثها بعد أن حاول لمرات أن يقترب منها ولكنه لم يستطع ولأول مرة يشعر بالتقزز منها وتعالى هي بُكائها وهي تنظر له في خوف ولكنه لم يكترث
"لو كنت ساعتها إبن ناس ومولود في بقي معلقة دهب، شاطر وذكي زي ما أنا، كنتي اخترتيني بدل هيثم؟!" سيطر ببراعة على نبرته الجامدة كما أن غادة نفسها لم تصدق أنه لا يُعنفها ولا يقوم بتصوريها مثل كل مرة ولم يُرغمها بأن تتظاهر بممارسة الحب معه لتبتلع في توتر وهي ترمقه في غير تصديق
"جاوبي.. مش هامد ايدي عليكي النهاردة.." أخبرها لتتردد في إجابتها فهي قد رآت شهاب غاضب من قبل ولا تريد أبداً تكرار هذه التجربة المريرة، فوجهه الغاضب الذي يشابه الشيطان آخر ما تود أن تراه
"جاوبي بصراحة.. وخدي بالك إجابتك هيترتب عليها رد فعل.. بلاش تكدبي يا إما هتتحملي عواقب كدبك" أخبرها وهدوءه كان فوق المعتاد حتى أنه آتى بقميصه ليرتديه مرة أخرى
"لا.." أخبرته بنبرة مهتزة ثم ابتلعت وهي ترمقه في خوف شديد لينظر لها بجمود ودون أية تعابير على ملامحه وكأنه لم يتأثر بتلك الإجابة سوى بعقدة حاجباه التي ازدادت لتشعر هي بخفقات قلبها تزداد في وجل وكأنما قلبها أصبح تحت قدميها
"امشي اطلعي بره!"
تذكر لقاءه بغادة، تذكر أنها لا تزال عاهرة، لا زالت لا تختاره، لا زالت مثل ما كانت يوماً ما.. ولكن ما الذي حدث له هذه المرة؟ لماذا ولأول مرة يشعر بالتقزز منها بالرغم من أنه كان يشعر بلذة الإنتقام كلما ضاجعها وأجبرها على ما تفعله؟!
وجد نفسه يُقارن بينها وبين فيروز، بعد كل ما استمع له من مكالمات بينها وبين هبة، أقارب زوجها، أصدقائها، محاولاتها المستميتة لكي تعرف هل تم القبض على من قتل زوجها، عشقها الشديد له، صوت بُكاءها، تعلقها به الذي دام بعد موته، كل ذلك أحدث زوبعة بداخل عقله وهو لا يُصدق أن هناك إمرأة قد يصل عشقها لهذا الحد..
لا يُصدق أنها ليست مثل بقية النساء، لا يُصدق حتى أنه لا يوجد ولو دليل واحد قد يستطيع الوصول له سوى أنها حقاً لا تريد منه سوى ذلك المشروع الخيري.. بعد تلك المكالمات التي استمع لها حتى أرهق عقله لا يجد أي شيء!!
إذن هي لا تتحدث لهبة عنه، ولا تتحدث لوالدته عنه، وليس له علاقة بموت زوجها، ليس هناك سبب منطقي لإقترابها منه سوى بناء تلك المشفى لمساعدة النساء.. هل هذا حقيقي؟ أهناك إمرأة على وجه الأرض كل أهدافها هي مساعدة الجميع! ليست مثل بقية النساء التي عرفهن..
مزق رأسه تفكيراً، حاول إيجاد سبب واحد ولكنه فشل وكم كره هذا الفشل، لقد تعود ألا يفشل بأمرٍ منذ أن كان طفلاً.. إذن ما الذي عليه فعله؟ أيُصدقها؟!
زفر بعمق ثم عاد ليتذكر كلماتها وقت تلك الجلسة التي كانت منذ ستة أيام، لقد أعادها برأسه بدل المرة مائة، لماذا أزعجته للغاية؟ لماذا جددت بداخله ذلك الآلم الذي لم يُقر به أمام أحد.. دلفت حياته في غضون أيام قليلة، بتلك الهالة التي تحيطها من أشياء غريبة لم يكترث لها أبداً ولم يُفكر بها بلحظة، لتواجهه بحقيقة كل ما أراده يوماً ما..
"..يعني لا مثلاً حابب يكون ليك زوجة وأولاد علشان تأمنلهم حياتهم ويكون ليك أُسرة عايشة كويس بعدك، ولا ورثة يكبروا اسمك ويشيلوه ويفضل موجود دايماً، ولا عندك مشاريع كبيرة لمساعدة الناس، فنهاية طموحك بعد ما تموت هتكون مجرد إسم وبطبيعة عالم الشركات ورجال الأعمال كل يوم فيه جديد قليل اللي هيفتكر اسمك ومع الوقت هتتنسي.."
حقاً هذا كل ما أراده يوماً ما، هذا كان حلمه منذ عشرون عاماً وهو فتى غبي لا يتعدي عمره الرابعة عشر، كان يريد أن يكون ناجحاً، يؤسس أسرة سعيدة مع إمرأة يعشقها وتعشقه ويكون رجل ناجح.. حياة مختلفة تماماً عن تلك الحياة التي عاشها بصغره.. ما الذي غير ذلك الحُلم؟ لماذا عشق غادة منذ البداية؟ ولماذا عشقها لتلك الدرجة المرضية؟ هل لو كان اكتشف حقيقتها مبكراً لما كان شهاب الدمنهوري رجل الأعمال المشهور الناجح الذي أصبح عليه الآن؟!
كره مواجهة نفسه بتلك الحقيقة.. كما كره أنه سيلتقي بتلك المرأة التي احتلت تفكيره غداً.. وما الذي حدث له أمام غادة اليوم؟ أأصبح لا يستطيع مضاجعة النساء أم فقط شعر بالتقزز منها؟
نفض تلك الفكرة عن رأسه، نفى تلك الحقيقة وتجنبها، لا، ليس تلك طبيعته، ولن يلتفت لمثل تلك الأفكار فقط بسبب أن تلك الحمقاء احتلت الكثير من تفكيره، هذه الليلة لن تنتهي إلا بإحدى العاهرات المرتعدات من مجرد نظرة منه بعد أن يفرغ منها..
أم عن تلك المرأة التي لا يدري ما الذي تريده بدخولها حياته، سيتبع معها أسلوباً جديداً تماماً.. أخرج هاتفه ليُراسلها بموعد غداً ولكن بذلك المنزل الذي اعتاد أن يُحضر به النساء.. ستكون قريباً واحدة منهن!!
توجه بعدها ليجذب احدى مفاتيح سياراته التي يرى الذهول بأعين النساء بمجرد الوقوف أمامها ورؤيتها، ثم توجه للخارج كي يذهب لأحدى الملاه الليلة الخاصة للغاية التي لا يستطيع أحد الإقتراب منها سوى الصفوة وقد قرر بداخله أن يُثبت لنفسه ولتلك الحمقاء أنه يكره النساء جميعهن..
ولكنه لم يُدرك وقتها أنها لم تطالبه بأية إثباتات.. كان أعمى حتى الثُمالة..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"يعني همّ خمس أخوات.. إياد، عاصم، أروى، آسر، زينة كريم الدمنهوري!! إياد خاطب أسما قريبته، عاصم ده محدش سمع عنه اوي، أروى حصلها حادثة من كام شهر، آسر بره في فرع أمريكا، وزينة لسه متجوزة أول الشهر ده ابن خالها.."
تحدثت لميس إلي نفسها بعد محاولة معرفة المزيد عن هذه العائلة التي عرفتها من قِبل الصدفة بعد أن قدمها عمرو صفوت إلي اثنين منهما الأسبوع الماضي.. حسناً.. جميعهم أبناء كريم الدمنهوري.. ولكن أهذا نفسه هو زوج والدتها الذي رحل وترك والدتها دون أية اخبار.. هو حتى لم يُطلقها!! أيُمكن أن يكون هذا الرجل هو نفسه زوج والدتها؟!
عندما تركها والدها كانت بالثانية من عمرها.. ووقت زواج والدتها من كريم كانت تبلغ من العمر الثانية وستة أشهر، هي حتى لا تتذكر أي شيء عنه!! عليها أن تعرف من والدتها المزيد من التفاصيل..
ولكن هل تلك العائلة لها علاقة بشهاب كرم الدمنهوري؟! أم هذا مجرد تشابه أسماء؟! تناولت نفساً طويلاً ثم زفرته وهي تفكر في الأمر وتناولت حقيبتها لتتجه لتلحق بعملها لتقابل في الطريق والدتها..
"صباح الخير يا حبيبتي"
"صباح الخير"
"إيه مش هتفطري برضو النهاردة؟" سألتها بنبرة حنونة لتتفقد الساعة بيدها وهي تزفر في ضيق ولكن دون مبالغة
"لا.. هافطر معاكي.." ابتسمت والدتها إليها بإمتنان ثم حضرت إليها الطعام لتجلس معها وهي لا تستطيع إيقاف رأسها التي تُفكر في أمر تلك العائلة
"ماما.. هو كريم اللي اتجوزتيه، متعرفيش مين كانت مراته؟"
"ليه يا بنتي بس السيرة دي على الصبح!" تحولت ملامح والدتها للحزن
"عادي يعني.. يمكن تعرفي توصليله"
"بعد العمر ده كله يا بنتي!!" أطلقت زفرة ساخرة في تهكم وآسى صاحبها بحة من صوتها "ما خلاص بقى، لو كان عايز يجي كان جه"
"مش يمكن جراله حاجة وانتي متعرفيش.. مات مثلاً.."
"لو كان مات يالا ربنا يرحمه، ولو كان حي ربنا يسامحه على اللي عمله فيا"
"بس لو مات وانتي معرفتيش يبقى من حقك تورثي فيه"
"الله الغني.. اديني عايشة مستورة أنا وانتي اهو ومش محتاجين حاجة من حد" أخبرتها بتنهيدة حزينة ولم تستطع إكمال طعامها
"يعني يشوفك في المستشفى ويتجوزك على مراته وانتي ترضي بالوضع ده وفي الآخر تقولي مش محتاجة حاجة من حد؟" سألتها بإستنكار وهي تتناول الطعام "ده حقك، ازاي تسكتي عليه أصلاً كل السنين دي"
"والنبي يا لميس يا بنتي ما تفكريني بقى"
"متعرفيش مراته كان اسمها إيه؟"
"مش فاكرة هدير ولا هديل باين.."
"فيه واحدة برضو تنسى اسم ضرتها" تحكمت سريعاً في ملامح الدهشة التي ارتابتها ثم تظاهرت أنها طبيعية للغاية وحدثتها بتهكم
"والله يا بنتي كنت كل اللي عايزاه إني اتستر وانتي عيلة في ايدي، وساعتها لما ابوكي سابك معايا ورفض يصرف عليكي وكريم جه وجابلي ساعتها شيء وشويات كان عايز استغفر الله العظيم يبقى فيه بنا علاقة بس أنا رفضت وهو عرض جواز في السر وأنا مقلتلوش لأ علشان الاقي بس اربع حيطان يلمونا واقدر أصرف عليكي.. شغلي وقتها كان بيرميلي ملاليم ومعرفتش أتصرف غير كده"
"يالا.. كتر خيرك" أخبرتها بنبرة متهكمة ثم نهضت لتغادر "سلام"
"هترجعي امتى النهاردة؟" نهضت والدتها وهي تتابعها لباب شقتهما
"لسه مش عارفة.. بلاش تستنيني.. اتعشي انتي.. سلام"
تركتها وهي لا تُصدق أن هذا الرجل بالنهاية يكون والد لحفنة من رجال الأعمال وفتاة حدثها عمرو عنها كثيراً بأنها واحدة من أذكى النساء بالمجال!! يا تُرى هل كان كريم يملك كل هذه الأموال هو الآخر أم أن هذه أموال زوجته! لابد وأن تعلم.. لابد وأن تتقرب منهم حتى تعرف كل شيء ووقتها تستطيع المطالبة بأموال والدتها!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"لا بقى.. أنت شكل الموضوع بقى over أوي.. فيه إيه يا بدر؟"
"قلقان، خايف لا فيروز تعالجه، ولا هو يتصلح حاله، خايف على سليم وزينة، وعليكي انتي وسيدرا!" تنهد بعمق عاقداً حاجباه ثم عاد لشروده مرة أخرى
"ما بلاش بقى يا بدر نظرية المؤامرة دي" أخبرته ليُطلق زفرة متهكمة ثم تفحصها بثاقبتاه
"نظرية المؤامرة اللي عدلت هديل، ونظرية المؤامرة اللي كشفت كريم، ونظرية المؤامرة اللي خلت شهاب يحل القضية اللي كان هيلبسها لإبنك.. شايفة كل ده هبل ونظية بس مش كده؟"
"أنا مقولتش هبل.. بس أنت محسسني إن الموضوع خلاص هـ.."
"نورسين!! أرجوكي أنا بالي مش رايق! بلاش الكلام ده دلوقتي.. أنا بحاول أشوف حل قبل ما الولاد يرجعوا من السفر.. يوم ما هيرجعوا مش بعيد كل واحد ينزل يشوف شغله واللي تروح كُليتها وساعتها هراقب مين ولا مين ولا ننزل حراسة مع مين ولا مين وهتفسريلهم بإيه وهتقنعيهم ازاي.. سيبيني أشوف حل بقى لكل ده"
"ماشي يا بدر أنا غلطانة إني جاية اقعد معاك" نهضت لتغادره
"استني يا نورسين" صاح ليوقفها ولكنها لم تستجب ليزفر في ضيق ثم وجد نفسه يشرد مرة ثانية بكل الأمور!
ماذا لو نفذ شهاب تهديداته؟ ماذا لو أذى زينة أو سيدرا أو حتى سليم؟! وأبناء هديل!! ماذا سيفعل وقتها؟ أفرغ بدر الدين من جميع الحيل؟! ماذا حدث له؟ أتقدم في العمر حتى أصبح لا يستطيع إيجاد حل لشخص واحد فقط يهدد عائلته بأكملها؟!
غرق تفكيره بإستعادة جميع الأحداث بمنتهى التأني وحاول ألا يفوت ولو هفوة وهو يُرتب كل ما حدث، كل لقاءاته بشهاب، كل ما مر عليه مع زينة وسليم، القضية، أمر عمل شركتيهما معاً، يوم عزاء والده، يوم تهديد بدر إياه، ونهاية بتلك الرسائل التي كلما ظن أنه توقف عن إرسالها يعود مرة أخرى ليُذكره أنه لم ينس!!
ربما بإعادة التفكير سيتوصل لحل، أو سيفهم شيئاً جديداً لم يدرك أنه هناك!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"شوف أنا بكلمها في إيه وهي تقولي شهاب بعتلي Message ومعاده النهاردة.. ما يولع أكتر ما هو محروق وتركزي هنجيب الشبكة منين!" حدثتها هبة لتزفر فيروز وهي تجمع شعرها وتربطه بمثبت معدني
"أنا غلطانة إني بقولك.. متبقيش تيجي تسألي بعد كده، ويا ستي ننزل نجيبها من ميدان الجامع"
"بقولك يا هاشم، فيروز شايفة نجيبها من ميدان الجامع، شوف فريدة لو موافقة يبقى تمام" أرسلت لأخيها رسالة صوتية "بت أنتي.. مش وقته بقى.. لما نخلص قراية الفاتحة دي على خير نبقى نشوف سي شهاب ده كمان"
"ماشي ياختي، وسعي لما أقوم أروحله" نهضت من على السرير لتقذفها بأحدى الوسائد "يا بنتي بطلي هبل"
"والله انتي اللي هبلة علشان تسيبيني اجهز كل حاجة مع طنط وفريدة وتروحي للحيوان ده، ما كنتي قولتيله إنك مش فاضية"
"خليني يا هبة أشوف آخرتها معاه إيه.. وبعدين كمان أنا مش عارفة هيجي قراية الفاتحة ولا لأ!"
"عشان تبقي تتسحبي من لسانك تاني وتعزميه.. جته وكسة!" التفتت فيروز وهي تنظر لها في ضيق ولكنها شردت لثوانٍ "إيه!! اكلتي سد الحنك فجأة واحدة كده ليه؟"
"تفتكري هيجي؟" سألتها فيروز لتتنهد الأخرى
"بصي.. أنا شاكة في حاجتين.. والاتنين أنيل من بعض!" أخبرتها بنبرة جادة لتضيق فيروز ما بين حاجبيها وتوجهت لتجلس مرة أخرى في مقابلة هبة على السرير
"إيه همّ؟" سألتها بجدية
"بعد كل التحليلات والمناقشات والكلام الكتير ده يا إمّا شهاب عارف كل حاجة وهينتقم! يا إمّا انتي دخلتي دماغه علشان كده بيجاريكي في حوار الجلسات والكلام ده" نظرت لها فيروز بدهشة "وسواء كده ولا كده الإحتمالين أسوأ من بعض"
"إيه يا بنتي الهبل اللي انتي بتقوليه ده؟! انتي عبيطة يا هبة!"
"لا مش عبيطة ولا اللي بقوله هبل.. بس بكرة يجيلك كلامي.. علشان كده بقولك ابعدي وسيبي الحوار ده" حدثتها بمزيد من الجدية
"وليه متقوليش إنه اقتنع بفكرة المشروع؟ وليه متقوليش إنه من أول جلسة حس بتغيير!"
"المشروع ماشي هبلعها، بس أول جلسة!! لا بجد.. انتي مصدقة نفسك بذمتك ولا بتتكلمي معايا علشان اقنعك إنك تشيلي ايدك من الحوار ده كله!"
"يادي النيلة.. أنا غلطانة والله!" نهضت فيروز لتتوجه وتعود إلي دولابها لإستخراج ملابسها منه فنهضت هبة هي الأخرى
"وياريت تبطلي تروحيله البيت.. لا شخصيتك ولا تفكيرك يقبلوا بكده يا فيروز.. مش علشان عجبتك فكرة إنك تعالجي واحد زيه يبقى خلاص تقبلي بكل حاجة في سبيل الفكرة.." التفتت لها فيروز وهي تنظر لها في تردد "وإجابة سؤالك إنه آه هيجي.. يا هيجي علشان يشوفك ويكون معاكي وهو ما صدق إنك عزمتيه، يا إما هيجي علشان يتأكد إن ماما مش زقاكي عليه" أطلقت زفرة مطولة وقبل أن تستطيع فيروز التحدث سبقتها هبة
"هاسيبك تغيري واروح اشوف طنط وفريدة!"
بالرغم من طريقة هبة القاسية في حوارهما ولكن كلماتها منذ قليل دفعتها لتُعيد التفكير بالأمر برمته منذ البداية!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
تململ في فراشه عندما صدح هاتفه بالرنين ليُزعجه ليُطلق صوتاص متأففاً نعساً وتناوله ليوقفه عن الرنين ثم تفقده بعين واحدة استطاع فتحها بصعوبة ليرى أن عشر دقائق تفصله عن موعده بفيروز..
اعتدل ليستلقي على ظهره ثم ابتسم براحة شديدة بعد قضاؤه ليوماً بمضاجعة تلك المرأة التي لم تأخذ وقتاً في الإستجابة له!! لم يقس عليها كثيراً ولكنه كان متأكداً أنه يستطيع تعذيب النساء مرة ثانية.. لقد سأم غادة ليس إلا..
اقتنع بهذا التفكير الذي وجده صائباً ولم يرى حقيقة أنه صدق أخيراً أن غادة لا تستحق، لم يرى أن العلاقات قد تستمر وقد لا تستمر، تنجح أو تفشل، نلتقي من يستحقون العشق ونلتقي أُناس لا يستحقوا الحب.. لم يرى أنه بداخله بدأ في تصحيح نظرته إلي غادة بسبب كلمات فيروز التي بدأت تصيبه بعنف!
فرك وجهه الناعس وهو يُفكر أنه لن يتنازل عن معاقبة غادة، سيأتي بها مرة أخرى، ولكن لا يملك بالاً لها الآن.. عليه فقط معرفة ما وراء تلك الساذجة الأخرى..
"آه سيبوها تدخل" اجاب هاتفه ليجد احدى الموظفين على بوابات المجمع السكني يسألوه بإنتظاره لشخص ليسمحوا لها بالمرور في النهاية وقد لاحظ أن الوقت تفلت ولم ينهض من سريره إلي الآن..
نهض وهو يسير ببطء نحو باب منزله وتثاءب في محاولة لطرد النعاس ولم يكترث أنه لا يرتدي سوى سروالاً قصيراً يستر نصفه السُفلي فقط، وحقاً لم يكترث إلي ما ستظنه تلك الساذجة..
فتح الباب لتقابل عسليتاها النقيتان داكنتيه الناعستان لتنظر له في تعجب وهي ترى ملامح النعاس على وجهه ليتثاءب مرة أخرى ثم مسح عينيه
"ادخلي" ضيقت ما بين حاجبيها لتدلف ثم حمحم هو وتركها بجانب الباب ولم يكترث ليقودها إلي مكان لتجلس به وتوجه لمطبخه لصنع القهوة
"اكيد مش مستنية عزومة يعني" صاح من على مسافة لترمقه هي بتعجب لتتجه حيث اتجه هو ونظرت إليه وهو يقوم بصنع القهوة
"طيب لما انت نايم ومش فاضي خلاص كنت عرفني وكنا خلينا المعاد يوم تاني" أخبرته بينما لم يجبها وقد لاحظت أن طريقته معها غريبة للغاية اليوم
"شهاب" نادته وهي تتابعه بعينيها وهو مولياً ظهره العاري إليها فزفرت في تحفز على همهمته التي فهمت بسهولة من خلالها أنه لا يكترث "أنا شكلي جيتلك وانت مش فاضي.. خليها يوم تاني" أخبرته ليلتفت هو إليها وأقترب منها بمسافة مقبولة نوعاً ما لتنظر له في استغراب ولم يظهر تعابير على وجهه ومظهره مختلفاً كثيراً بشعره غير المُرتب ونعاسه الذي بدأ في أن يتركه
"انتي إيه مُشكلتك دلوقت؟" سألها وهو ينظر إليها بداكنتيه العميقتان
"مشكلتي إنك نايم، وشكلك لسه بتفوق وعريان تقريباً.. ده غير إنك مديتش المعاد أهمية.. فقولت اسيبك براحتك"
"أظن انا اللي فتحتلك فده معناه إني مش نايم، لسه بفوق دي مش مشكلتك، وأنا مش عريان! وبعدين انتي اللي جايالي البيت يعني عايزة تشوفيني ازاي؟" حدثها بلهجة لم تقبلها لتومأ له في تفهم وتحكمت بصعوبة في غضبها الذي شعرت به بسبب طريقته المستفزة
"تمام! بعد كده نتقابل بره، وأظن إني قولت كده من الأول.. ده لو هيكون فيه بعد كده أصلاً" رمقته بنظرة جافة بعد أن حدثته بهدوء والتفتت ليتابعها بعينيه وهو يتفقد قوامها ليراها ستغادر
"وانتي فاكرة شهاب الدمنهوري هيقعد مع دكتورة نفسية قدام الناس؟!" سألها بإبتسامة متهكمة لتلتفت وهي تنظر إليه بملامح جادة
"ما أنا قدرت ظروفك وجيتلك البيت علشان احترم خصوصيتك بس واضح إنك حتى معندكش احترام لمعادنا"
"مشكلتك يعني إني مش لابس.. مش عارفة تمسكي نفسك ولا إيه؟" نظر لها بوقاحة وابتسامة خبيثة ولم تستطع هي إخفاء ملامحها هذه المرة
"أنت ازاي تتكلم معايا بالأسلوب ده؟" رمقته بإحتقار ثم هزت رأسها في إنكار والتفتت لتغادره
"فيروز!" ناداها بصوته العميق الذي بدأت في أن تكرهه لتتوقف دون أن تلتفت إليه "أنا لسه صاحي.. كان بقالي يومين منمتش ولسه فعلاً بحاول أفوق.. استنيني هالبس واجيلك.. وكنت بهزر يعني ميبقاش قلبك أسود اوي كده.. ولا هو علشان ميعاد الـ session النهاردة بلاش اعاملك زي اصحابي؟"
"أولاً أنت مالكش اصحاب، بإعتبار إنك كنت صريح معايا، ثانياً أنا عندي اصحاب رجالة كتير بس فيه ما بيننا احترام.." التفتت وهي لا تنظر سوى لعينيه وتترقب ملامحه التي تحللها برأسها "لما تيجي تهزر وتتعامل معايا فيه حدود يا شهاب!! سمعت؟!"
زجرته بنظرات نارية من عينيها بينما هو كل ما تخليه برأسه أن يجذبها من شعرها ويصفعها إلي أن تتخدر يداه أو أن تفقد هي وعيها!!
"طيب.." اجابها بهدوء ولم يظهر على ملامحه أية تعابير ثم التفت ليسكب القهوة باحدى الأكواب ثم تركها وتوجه لغرفته حتى يرتدي قميصاً قطنياً..
كادت أن تنفجر من الغضب الذي انفجر بداخلها ولكنها حاولت أن تذكر نفسها أن كل هذا طبيعي، شخص مثله قد يفعل حتى الأكثر من ذلك.. تناولت شهيقاً عميقاً ونفثته ببطء وهي تهدئ من غضبها لتستمع لخطواته فنظرت نحو الخطوات لتراه مقبلاً في اتجاهها وينظر إليها نظرة ثاقبة لم تجعلها تشعر بالإرتياح ولكن لا تدري لماذا..
جلس بجانبها على مسافة مقبولة لتلتفت له وملامحها تبدو تلقائية لتعود إلي هدفها الرئيسي
"إيه الأخبار.. فيه أي تحسن؟ النوم اتظبط أو التمارين اللي قولنا عليها نفعت؟" أطلق صوتاً من حنجرته يُفيد التهكم اللاذع ثم أشار لها بكوب قهوته
"انتي شايفة إيه؟"
"شهاب!! الفايدة من الـ session إنك تتكلم، وأنا مش بحكم عليك، أنا عايزاك أنت اللي تحكيلي، ومظنش إنك بيبي صغير علشان اقولك انت ازاي نايم لغاية دلوقتي ولا ازاي بتعمل قهوة دلوقتي وهتعوز تنام بليل.."
"طيب.. طيب" اجابها بسأم "مفيش حاجة نفعت" اخبرها وقد قرأت عدم الإكتراث بعينيه
"يعني منعت القهوة وحاولت تعمل التمارين اللي قولتلك عليها وواظبت على الجيم ومفيش حاجة نفعت؟" سألته مجدداً ليزفر بتململ
"آه" إجابة مقتضبة أخرى.. حسناً .. سأريك أيها الوغد
"طيب شهاب ممكن تقولي الشغل بيمثلك إيه غير إنك تحقق نفسك؟" سألته ليرمقها في تعجب ومط شفتاه
"حاجة عايز أوصلها وحققتها، زي أي حاجة تانية"
"شايفة من كلامك إنك بتتكلم عن شغلك كأنه حاجة عادية مثلاً زي ما تكون عايز تعمل قهوة وقومت علمتها!"
يا لها من عاهرة، أتعلم كيف كان الأمر صعب حتى تتحدث عنه بمثل هذا الإستهزاء..
"أنا متعود أوصل دايماً للي أنا عايزه" اجابها بملامح تحكم بها ببراعة ولم يدعها تقرأ أية مشاعر على وجهه ولا حتى غضبه منها
"تمام.. وصلت للي أنت عايزه وبقيت شاطر ومشهور وناجح وبعدين؟"
"وبعدين إيه؟" سألها وهو يرمقها بتفحص
"وبعدين.. عايز توصل للأكبر من كده وبعدين هتوصل للي عايزه، بس مش شايف إنك بتقولي إن السبب هو الشغل وبس علشان طموحك.. أنت اللي بتقولهولي إنك عبارة عن machine (آلة) بتطلع شغل وكل ما تعملها upgrade (ترقية) بشوية تفكير أكتر وأنت بترهق أعصابك ومبتنمش بتطلع شغل أكتر وهكذا.. وبعدين.. آخرة ده إيه؟!"
"مش فاهمك" عقد حاجباه وتظاهر بعدم فهمه لما تريد أن تصل له ولكنها لن تتراجع عن طرقه المراوغة
"لما تحقق هدفك وطموحك هتحس بإيه؟"
"بالراحة"
"تمام.. ولما توصل للراحة دي ونقطة تحقيق طموحك هتيجي تاني تفكر في إنك تكبر وتتعب نفسك وترجع في نفس الدايرة اللي ملهاش نهاية مش كده؟" سألته ليشعر بالإنزعاج من منطقية حديثها
"أنا شايف إن كل ده مفيهوش مشكلة"
"يبقى خلاص.. مفيش مشكلة عندك أصلاً.. يبقى مفيش لازمة لكلامنا النهاردة ولا المرة اللي فاتت ما دام أنت مقتنع باللي بتعمله"
حقاً؟ أظنت أنها بتلك الكلمات ستوقفه عن الذي بدأ به!! يا لها من غبية..
"بس فكرة إن بالي مشغول ومش بنام دي مش قابلها" أخبرها لتتنهد وقد علم أنها بدأت بالإنزعاج
"هو أنت متأكد إنك تحقق طموحك بس هو ده السبب الوحيد؟"
"آه" اجابها بثقة ونظر لها دون ملامح تستطيع قرآتها هي
"طيب شهاب ممكن تحكيلي وأنت صغير، في مرحلة الدراسة مثلاً كنت بتشوف نفسك ازاي؟" ركزت للغاية في تعابيره ليستمر هو بنفس الملامح المبهمة التي لم تستطع التعرف منها على شيء
"كنت بشوف نفسي زي ما أنا دلوقتي.. شاطر في شغلي وناجح زي ما كنت على طول"
"طيب إيه الدافع اللي خلاك تشوف نفسك كده؟"
"يعني..!" أحقاً لا يفهمها!! تباً لمراوغتك التي لا تنتهي!
"يعني إيه اللي خلاك عايز تحقق ده؟ إنك تكون رجل أعمال ناجح بالشكل ده؟"
"عادي.. مش الأطفال بيسألوهم بيقولولهم عايز لما تكبر تشتغل إيه.. أنا كنت شايف نفسي مهندس ناجح وعندي شركات مباني واستثمارات في مجالات المباني والمواد بتاعتها.."
"ليه؟"
"هو إيه اللي ليه؟" ابتسم لها وتظاهر بعدم الفهم
"يعني والطفل بيقول عايز اكون دكتور بيقول علشان اساعد الناس وميحسوش بوجع.. واللي عايزة تكون مدرسة علشان بتحب الأطفال مثلاً أو المذاكرة.. واللي بيقول طيار علشان بيحب الطيارات ونفسه يسوق طيارة.. أنت كنت عايز تكون مهندس زي باباك مثلاً ولا بتحب إنك تصمم مباني؟"
"آه بحب التصميم!" إجابة مقتضبة أخرى..
"حبيته ليه؟ إيه اللي شوفته فيه ملقتهوش في حاجة تانية؟"
"اللون الأخضر ده مش لايق عليكي.. متلبيسهوش تاني" نظرت لملابسها ثم إليه وهي تعلم أن يراوغ بأي شيء عدا أن يجيبها بصراحة
"شهاب.. أنت مش عايز تتكلم النهاردة مش كده؟!" سألته مباشرة ليبتسم وهو يومأ لها
"ليه، مين قال كده"
"طيب تحب امضيلك على حاجة علشان تطمن في الكلام معايا لو لسه مش واثق في إنك تتكلم معايا؟"
"لا خالص.. أنا معنديش أي مشكلة"
"طيب قولي يا شهاب مين عرفك موضوع تصميم المباني ده، عرفته ازاي وأنت صغير؟"
"والدي" اجابها بإقتضاب
"ازاي عرفهولك؟"
"عادي يعني.. مش فاكر" يراوغ! لا يتوقف عن المراوغة وإعطاء تلك الإجابات المبهمة!
"أنا عرفت قبل ما نبدأ المشروع إنه كان مهندس، كنت بتشوفه بيقعد يشتغل في التصاميم وأنت صغير وساعتها كنت عايز تكون زيه.. مش كده؟"
"تقريباً آه" لماذا هو مصمم على أن يُجيب تلك الإجابات؟! حسناً.. لن ترأف به
"حاول كده تحكيلي أي يوم فاكره وانت صغير معاه أو في بيتكم مثلاً وأنت بتشوفه بيشتغل"
"مش فاكر بصراحة"
إجابات مراوغة، يتناول قهوته التي تتأكد أنها نفذت، لا يريد أن يُعطيها أية إجابات واضحة ويبدو أن الأمر لن يغادر نقطة اللاشيء التي هي كل ما وصلت إليه منذ بداية الجلسة!!
"طيب احكيلي أي حاجة فاكرها وأنت صغير"
"زي إيه؟"
"زي موقف في المدرسة، موقف مع باباك ومامتك، موقف مع حد كنت تعرفه، يوم مش قادر تنساه، أي حاجة تقدر تفتكرها احكيها"
"بقولك إيه.. أنا جعان ومفطرتش.. تاكلي؟!" ابتسم إليها وملامح الترحيب على وجهه تنتظر سماع موافقتها
"سيب الأكل دلوقتي واحكيلي"
"احكيلك إيه؟"
"أي موقف وأنت صغير"
"زي؟"
"طيب شهاب أنا ملاحظة إنك واخد الموضوع بهزار ومش مستعد تحكيلي حاجة أو مش عايز.. فأنا شايفة إن الأحسن تشوف حـ.."
"انتي عايزة إيه بالظبط؟" قاطعها بعد أن لاحظ أنها أوشكت على المغادرة
"عايزة أساعدك.. عايزاك تحكيلي وأنت صغير كنت بتفكر ازاي وحصلك مواقف إيه تخليك بتفكر في الشغل بالطريقة دي"
"اشمعنى وأنا صغير؟"
"علشان الإنسان الطبيعي مواقفه ودوافعه بتتكون وهو صغير"
"ما ممكن تكون دوافعي اتكونت وأنا كبير"
"بس انت قولتلي من وأنت صغير كنت عايز تطلع مهندس زي باباك.." حاولت التحلي بالهدوء بالرغم من أنها لم تعد تستطيع التحمل
"أنا قولتلك كده.. مش فاكر صراحة"
يتظاهر بالنسيان، يترك كوب قهوته، نهض منذ فترة ليتمشلا بالمكان أسفل عينيها، يتحدث عن الطعام وعن ما ترتديه ويحاول الهروب ولن تتركه
"آه قولتلي كده"
"طيب إيه المشكلة؟" ابتسم لها لتلاحظ طفيف بسيط كاد أن ينعدم من توتره الذي يبدو وأنه بارع في إخفاءه
"شهاب.. أنا تقريباً بسأل وبجاوب على نفسي.. صدقني إنك مش مضطر تحكيلي لو مش عايزني أساعدك وممكن امشي!"
"أنا مش فاهم أنتي ليه بتتكلمي كده مع إني بكلمك عادي وبجاوب على كل أسألتك" اجابها وهو يبتسم يتعجب بينما أكمل سيره أمامها حول المنضدة مجيئاً وذهاباً
"أنت بتتهرب!"
"اتهرب!" أطلق ضحكة خافتة بمنتهى السخرية ونظراته استطاعت هي أن تقرأها فلقد اتضح الكذب بعينيه "هتهرب من إيه يعني؟!"
"من ساعة ما سألتك تحكيلي مواقف وأنت صغير"
"ما يمكن مفيش حاجة تتحكي.."
"ويمكن فيه وأنت مش عايز تجاوب.." رفعت احدى حاجبيها وهي ترمقه بجدية
"لا خالص أنا بجاوبك عادي"
"طيب هسألك تاني، إيه وأنت صغير حببك في انك تكون مهندس غير التصاميم اللي شوفت باباك وهو بيعملها!"
"مش عارف"
"ممكن تحكيلي موقف مع باباك أو مامتك أو في المدرسة خلاك تحب إنك تكون مهندس"
"مش فاكر"
لم تستطع أن تتحمل أكثر من ذلك فنهضت لتتحول ملامحه لتتعجب وهو يتابعها بعينيه في استغراب وكأنه لا يعلم لماذا تغادره بعد تلك الغميضة التي يمزح بها معها منذ أول الجلسة..
"واضح إني مش مناسبة، ممكن تروح لحد تاني احسن مني.. بعد اذنك" أخبرته بإبتسامة مقتضبة ثم التفتت لتغادره فأوقفها
"فيروز! انتي عايزة تعرفي إيه بالظبط؟" عقد حاجباه وهو ينظر في اتجاهها لتلتفت هي له
"أنا مش عايزة أعرف.. أنا عايزة أساعدك، ومش هاعرف اساعدك غير لما أعرف بدأت تفكر في الشغل من السن الصغير ده ازاي وإيه كانت نظرتك ليه وكان بيمثلك إيه بالظبط.. علشان كده عايزاك تحكيلي عن طفولتك او بموقف جمعك مع حد قريب ليك خلاك تشوف نفسك في المستقبل رجل اعمال ناجح وشاطر وعايز يكون عندك نجاح رهيب في الشغل لدرجة إنك بتأثر على نفسك لا بتنام ولا بتبطل تفكير فيه.. بس أنت رافض وأنا مش حابة أضغط عليك.. ممكن برضو تكون المشكلة إني مش قادرة أفهمك أو مفيش بيني وبينك ثقة علشان كده امشي أنا احسن وأنت براحتك ممكن تشوف حد غيري.." تريثت لبرهة ثم نظرت إليه "سلام يا شهاب!"
التفتت مرة أخرى لينزعج بشدة، عليه أن يُجاريها، ولكنه لن يُخبرها الحقيقة، عليه أن يُعيدها عما برأسها وإلا إذا غادرت ولم تشعر بثقته بها لن يستطيع معرفة ما وراءها..
ولكنه لن يستطيع أن يُشاركها تلك الأيام السوداء التي لم يشارك بها أحد بحياته سوى العاهرات أسفله وهن على وشك الإغماء بعد تعذيب دام لساعات
"فيروز.. أنا.. معنديش ذكريات حلوة ولا مواقف اقدر احكيها" حمحم ثم ناداها ليوقفها فالتفتت إليه لتنظر له في نفاذ صبر
"أنت واثق في إنك تتكلم معايا يا شهاب؟"
"مكونتش عرضت عليكي الموضوع من الأول" ازدادت عقدة حاجباه التي علمت أنها من التوتر في امرها هي نفسها
"أنا هارجع وهنكمل وانت هتجاوبني بصراحة وإلا لو فضلت تلف وتدور كده أنا مش هاكمل وهامشي.. واللي مضايقك قول إنك مش قادر تجاوب على السؤال ده!" أخبرته ليومأ لها بجدية بينما بداخله ضحك بمنتهى السخرية، أتظن أن الأمر سيفرق معه!! يا لها من غبية حمقاء..
"أنت مرتاح وانت واقف كده؟" أخبرته بعد أن عادت مرة أخرى لتجلس
"آه أنا تمام"
"طيب.. احكيلي امتى حبيت تكون مهندس.. كنت في سنة كام؟"
"ابتدائي تقريباً بس مش فاكر امتى بالظبط" اجابها، ليست تلك الإجابة التي ترضيها فهي تعلم أن رجل مثله يتذكر كل شيء جيداً
"كنت بتشوف باباك وهو قاعد بيشتغل قدامك؟"
"ساعات"
"كان بيخليك تشاركه او بيكلمك وهو بيشتغل ولا كان بيركز في الشغل؟" مط شفتاه وهو يومأ بالنفي لترى بعينيه مشاعراً غريبة
"كنت بتحب تمسك الأدوات اللي كان بيستخدمها؟!" استمع إليها ثم غاب عقله بذكرى كريهة لا يدري كيف استطاعت تلك الحمقاء أن تُذكره بها
"إياك تقرب من الحاجات دي تاني.. سامع!" صرخ به والده الذي صفعه بشدة وهو كل ما كان يريده أن يفعل مثله لينظر إليه في حُزن وخيبة أمل شديدة ثم اتجه ليذهب لغرفته..
"شهاب.. انت سامعني؟"
"نعم" ازدادت عقدة حاجباه بينما تعالت وتيرة أنفاسه
"السؤال ضايقك؟"
"لا" اجابها ولم يُسيطر على ملامحه المنزعجة التي تفلتت منه رغماً عنه بسبب تذكره لتلك الذكرى السوداء
"طيب قولي عمرك مسكت الأدوات أو ابتديت ترسم بيها او تستخدمها وأنت صغير؟"
"انتي عايزة إيه بقى؟" سألها وهو يرمقها في غضب لتنهض وتتجه نحوه وهي تتحدث له ناظرة صوب عينيه بإصرار تام وهي متأكدة أن الضغط سيكون أفضل طريقة معه
"احكيلي رسمت بالحاجات دي ولا لأ؟ كان رد فعل باباك إيه ساعتها؟ هو اللي علمك؟ هو اللي خلاك تحب الحاجات دي؟ قالك لما تكبر هتشتغل بيها؟ جاوب على أسئـ.." قد اكتفى من إزعاجها وكلماتها المعسولة التي تُظهر أنه طفل طبيعي لم يعان أبداً حتى وصل إلي تلك المكانة التي هو بها الآن
"لا مكنش بيقول كده، مكنش عايزني أقرب، مكنش مسموحلي أصلاً أهوب ناحيتها" قاطعها بغضب لتزفر هي في راحة بينما احتل الغضب الشديد والتأثر المنزعج الذي صاحبه بعض الآلام وجهه بالكامل ونظرته أصبحت كنظرات من يتعرض لحادث مروع أمّا أنفاسه المتعالية المتلاحقة كانت بمثابة إشارة البدأ لفيروز!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يتبع . . .