-->

الفصل التاسع عشر - شهاب قاتم

 


 




الفصل التاسع عشر


جلسا كليهما بصمت شديد داخل سيارة شهاب الذي لم يتحدث إليها بجملة مفهومة سوى استفساره عن طريق المشفى الذي تتواجد به هبة.. عدا ذلك لا شيء، لا كلام، لا حديث.. فقط أنفاسه المنتظمة الهادئة وتنهيداتها التي تعبر عن تفكير عميق لا يستطيع التوقف برأسها..

أين إعتذاره؟ إلحاحه؟ حديثه؟ تغزله بها الذي صدته؟! أين ذهب كل ذلك؟! هل هذا فقط بسبب رؤيته لإياد وأسما أم هناك المزيد في رأسه.. كما أنها ليست مستعدة أبدًا أن تكون في وضع من يسترضيه، فهو من أخطأ معها وليست هي.. 

"أخبار المستشفى إيه صحيح؟" ألتفتت له بملامح استفسارية بحتة 

"تمام.. تحبي تروحي تشوفيها؟" اجابها ثم سألها مقترحاً دون أي ملامح تستطيع قرآتها 

"ماشي.. نطمن بس على هبة وممكن نتفق نروح في يوم" أومأ لها بالموافقة دون أية تعابير ظاهرة على وجهه لتشعر فيروز بالريبة ثم عادت لتتذكر تلك الأوجه، كان دائماً ما يتظاهر بها في البداية..

ربما غضبه بعد ملاقاة إياد وأسما كان أكثر مما تعتقد هي ولكنه بمنتهى الذكاء تحكم به، ماذا لو طرقت على غضبه واستفزته؟ هل وقتها سيُعمى من كثرة الغضب أم سيتحكم بهدوءه؟

ربما هذا تفكيراً أحمق من قِبَلها! لا ليس ربما، بل بالتأكيد هذا تفكيراً في منتهى الحماقة.. حسنا.. إذا تركته ليظن أنها على علاقة بإياد وأسما لن يستبعد أنها تعرف كامل العائلة بأكملها، سيعود للشك مرة أخرى، سيرتاب في أمرها.. وسيريد الإنتقام أو معاقبتها أو ليسميه مثل ما شاء.. ولن يأتي هذا الإنتقام إلا برؤيتها والتواجد معها..

لا تستبعد أنه يريد استدراجها مثل بقية النساء، كما لاحظت أنه منجذب إليها بمرضيته السيكوباتية في أن يرى إنعكاس جاذبيته بأعين النساء وهذا ما لا يجده بها.. لا تستبعد أنه يريد أن يفعل بها مثل ما فعل مع غادة أو ميرال!! لا تستبعد ساديته وهوسه بتعذيب النساء، ولكن ليس معها.. تقسم أنه لو حاول حتى أن يلمس شعرة واحدة لن تتردد في كسر يده!!

دفعها تفكيرها لتتذكر محاولته في تجفيف دموعها التي انتهز بها حالة الحزن واللهفة التي كانت بها، لو كانت فقط في وعيها وبموقف غير الموقف لكانت كسرت تلك اليد!

كرهت ضعفها وقتها، لماذا سمحت له بما فعل؟ منذ متى وفيروز تترك رجلًا يتلمسها؟! حتى ماهر منذ معرفتهما ببعضهما البعض لم تسمح له بملامستها بمثل تلك الطرق إلا بعد أن عقدا قرانهما! ما الذي يحدث لها بجانب هذا الشخص؟! 

جعلها تفكيرها الذهاب لتلك اللحظة بالشرفة عندما اعتذر لها وأمسكها من معصمها ولم تمنعه ولم توقفه، أكان هذا لمحاولة عدم إثارة مشكلات في مثل تلك المناسبة أمام الجميع أم ماذا؟!

نظرت لتلتفت له بملامح مستفسرة بينما لم تتحدث بشيء وأطالت النظر إليه ليتعجب شهاب والتفت لينظر لها في استفسار لنظرتها تلك ليجدها مضيقة ما بين حاجبيها في شبه ذهول ثم أعادت نظرها أمامها عندما أدركت أنها أطالت النظر أكثر من اللازم ليزداد تعجب كليهما بداخلهما ولكن بطرق مختلفة..

صف السيارة في احدى أماكن الوقوف المخصصة أسفل المشفى وكادت أن تغادر فيروز بينما أوقفها صوت شهاب 

"إيه رأيك بعد أسبوع؟" حدثها بإقتراح لتلتفت له فيروز في تعجب بينما كانت تلك هي خلاصة تفكير شهاب، فأسبوع سيكون أكثر من كافيًا لمعالجة أمور الجميع، زوجة أبيه، بدر الدين، وسيُنهي تلك الجولة بتلك الساذجة الجالسة بجانبه

"أسبوع إيه؟! معلش مش واخدة بالي!" هي حقاً لم تكن تعرف ما يتحدث عنه

"الجلسة" المزيد من الملامح المبهمة لتصل فيروز لنفاذ صبرها

"بقولك إيه يا شهاب، أنا صاحبة عمري لسه والدة، مشاعر متحكمة فيا مش هاقدر أعبر عنها، أختي لسه مخطوبة لواحد من احسن الناس اللي قابلتها في حياتي، لسه متجاوزتش مشاعر الحزن على جوزي اللي كان نفسي يكون معايا النهاردة.. أهلي وكل اللي بيحبوني عايزين يشوفوني في احسن حال، أنا نفسي أرضيهم بس أنا تعبت يا شهاب، تعبت من كتر الضغط.. تعبت من عدم التوازن اللي موجود في حياتي واللي بحاول ارجعله واحدة واحدة.. عايزني اجيلك جلسة بعد ما كلمتني بطريقة زي الزفت؟ عايز إيه بعد كل اللي أنت عملته معايا؟ لف ودوران في الكلام وشوية تقولي أصحاب وشوية تقلب.. أنت عايز إيه يا شهاب؟! عايز إيه علشان أنا مش فاهماك بصراحة وفشلت في فهمك.." 

أكان هذا حاجز تضعه بينهما لملامساته والإنجذاب الذي تقرأه بعينيه؟ أم كبرياءها لا يزال يتألم من تلك الليلة؟ أو ربما هي تريد أن توضح له أنها لا تريد حتى التعامل معه، وها هي قد أخبرته عن إياد، أسما، أسرة والدته وليس هناك ما تخفيه.. هي لا تعلم لماذا قالت ذلك بالأساس!

رمقها بنظرة مطولة وهو يُعيد في كلماته برأسه حتى لا يتحدث بشيئًا غبيًا مثل ما فعل معها من قبل، لن يتقبل أن يكون بمنتهى الغباء مرة أخرى، لن يتوانى في إكتساب ثقتها وطمأنتها حتى يصل إلي ما برأسه

"أنا شخص صعب في التعامل أنا عارف، ومقدر إن وراكي حاجات كتير، علشان كده قولتلك اسبوع!" ابتسم بإقتضاب لتُمهل هي نفسها عدة لحظات من التفكير لتضيق عليه الخناق

"أنت الجلسة مهمة بالنسبالك؟"

"آه.. أكيد وإلا مكونتش كلمتك في الموضوع أكتر من مرة!" حافظ على ملامحه المبهمة التي لم تعبر لها ولو عن طفيف من مشاعر

"أنت واثق فيا إني أكون معالجتك النفسية؟" 

"طبعًا" جفناه لا إراديًا تقابلا عدة مرات لتتيقن من كذبه

"تمام.. سيبني أفكر وارد عليك، هاشوف ظروفي وأقولك" قررت وقتها أن تستفزه بالمزيد 

"فيروز!" ناداها وقد اتضح بنبرته الغضب "بلاش الأسلوب ده معايا" 

"وبلاش أسلوب الغصب معايا، ممكن على فكرة أروحلك كمان تلت أيام.. وممكن كمان أسبوعين.. من فضلك قدر ظروفي شوية" رمت له تلك الكلمات ثم اتجهت لتغادر السيارة دون إعطاءه المزيد من الفرص فهي تعلم أنه لا يزال كاذبًا ولا تستهون بما قد يفعله بعد مواجهته بإياد.. 

تعلم أنها عليها أنا تستكمل عدم الإكتراث وعدم التكالب على أن تكون معه وبجواره، تعلم أن عليها إدعاء عدم اللهفة، عليها التركيز بأمر المشروع ليس إلا.. ستحاول أن تضيع الوقت بأكمله حتى يُجن من عدم اهتمامها بحياته الشخصية وبحالته النفسية مثل السابق حتى يهرول هو خلفها ليُطالب بجلسة.. هذا إن كان يشعر بأن الأمر قد احدث فارقًا معه..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

حاول أن يتحكم في نظراته التي تجوب المكان في إنبهار تام، فهو الآن رجل الأعمال ليوناردو بينسوليو، حاول أن يتشبه بإل تشينو وكذلك كلوديا، حاول أن يُقلد هؤلاء الرجال الجالسون حوله، وتذكر جميع ما نصحه به وليد..

بالرغم من تهريب لوحة نادرة يشعر أنه أمرًا تافهًا بالنسبة لصفقات السلاح الكبيرة وكذلك صفقات المخدرات ولكن هذه أول مهمة إذن.. كُلف بأن يُحضر اللوحة فحسب.. ولكنه سيقوم بإبهار الجميع.. وخاصة تلك المرأة التي تظنه غبيا.. سيُريها..

بدأت المزايدات تتهافت من الجميع على عدة أشياء تافهة حقا بالنسبة له، شعر بالملل يسري بدماءه، لم يجد سوى أن يتفحص وجوه الجميع، يُقيمهم بنظرة سريعة وهو في انتظار أن تأتي تلك المُزايدة على اللوحة التي كلفته كلوديا بأمرها.. 

كلوديا تلك إمرأة يود أن يقتلع عيناها ويُمثل بوجهها، لا يستطيع تحمل نظراتها له، تظنه غبيا وجبانا وماذا أيضًا؟ بالرغم من أنها لوحة رائعة الجمال من الأنوثة الطاغية ولكن كلما ركز بعينيها وبطريقة حديثها يشعر بإنفجار يدوي بداخله وتستفز به أن يقتلها حية..

قام بالمزايدة على احدى اللوحات رخيصة الثمن حتى تكتمل خطته ولكن بداخله شعر بقليل من الزهو لإنتسابه لمثل هؤلاء القوم وهو يفعل مثلهم.. لكن هذا أيضًا كان من خطته التي نسجها بمنتهى السهولة بعد أن عرف أن تلك الفتاة التي ستزايد على اللوحة هي واحدة من فتيات أهم رجال الأعمال بأسبانيا..

آتى وقت المُزايدة على اللوحة ليفعل مثلما يفعل المزايدون، يرفع باللافتة التي تحمل احدى الأرقام ويتظاهر بالرقي مثله مثل الجميع، ولكن يبدو وأن تلك الشقراء تستميت لتحصل عليها.. فلتبدأ اللعبة إذن..

أستطاعت أن تحصل على اللوحة بمبلغ حقا سخيف.. يستطيع إنشاء ما يقارب من خمسة شركات في مجال البناء في مصر بذلك المبلغ.. حسنًا.. لن تنتهي الليلة ولن تُشرق الشمس قبل أن تكون معه تلك اللوحة..

لمحها بطرف عينيه وهي تغادر فلحق بها بخطوات معقولة لا يُسرع ولا يسير بخطوات بطيئة، مثل ما يفعل هؤلاء القوم، لا، بل هو واحدا من هؤلاء منذ الآن ومنذ الوهلة التي أخبرته كلوديا أنه رجل أعمال!

وقف خلفها حيث كانت في انتظار المصعد وهو يُطالع جسدها داخل الثوب المخملي ذهبي اللون وشعرها قارب بشدة على أن يشابه قطعة من ذلك الفستان ولكنه وضع يديه بجيبيه مثلما يرى هؤلاء الأثرياء يفعلون، لا، هو واحد منهم، ثم تحدث إليها بإنجليزية ولكن بلكنة إيطالية..

"مبارك لكِ" أخبرها لتلتفت هي إليه بغرور النساء الذي بات لا يكره سواه، غادة وكلوديا والآن تلك الشقراء.. يبدو أنها ستبدأ بإغضابه ولكن عليه أن يتحمل الأمر..

"هل أنت إيطالي؟" حدثته بإيطالية ليترك علامات الإندهاش الزائف تعتري ملامحه ولكنه فخور بداخله أنه وصل لما يُريد.. 

"نعم.. ليوناردو بينسوليو" قدم يده إليها فصافحته ولكنه باغتها بتقبيل يدها وتفحص عينيها الزمرديتان بداكنتيه ليُلاحظ ابتسامة إعجاب ترتسم على شفتيها 

"أنت إذن ممن يقبلوا ايدي النساء؟" نظرت له بقليل من الدلال 

"نعم ولكن أحياناً تكون المظاهر خادعة!" ابتسم لها بمكر بينما دلفا المصعد 

"بمعنى؟" نظرت له بإبتسامة ولكن بطرف عينيها

"أحيانًا يبدو الشخص لطيفا ولكنه في الواقع ليس كذلك.." أخبرها دون أن يتحرك من جانبها وبادلها نفس نظرتها

"أها.. وهل أنت لست بشخص لطيف سيد بينسوليو؟"

"هذا يتوقف على عدة أشياء.." أخبرها وهما يغادران المصعد 

"مثل؟" التفتت وهي ترفع احدى حاجبيها في استفسار 

"كالذي تريديه مني، وما أريده منكِ! هل علي أن أكون شخص لطيف معك وقتها أم لا!" ضحكت بخفوت بينما نظر لها هو بخبث ومكر ليقترب منها "لقد سعدت كثيرا بأنكِ أنتِ الوحيدة التي حصلت على تلك اللوحة.. لو كانت حصلت عليها إمرأة أقل منكِ فتنة كنت لأحزن كثيرا.. ولكن أنا متأكد الآن أن تلك الزمرديتان ستنظر إلي تلك اللوحة كل صباح، ستزيدها روعة وجمالا" 

"أوه سيد بينسوليو، أنت تستطيع المغازلة بشكل جيد" كانت مجرد محاولة منه ولكن كلماتها كانت كمثل أغنية أطربت أذناه

"هناك العديد من الأشياء الأخرى التي أفعلها بشكل أفضل.." أقترب إليها ويبدو أنها لا تمانع على الإطلاق "أتريدين تجربتها؟ كما أنني أستطيع إلغاء كل أعمالي بالصباح.. والساعة لا تزال العاشرة والنصف.." نظر لها نظرات داعبت أنوثتها "ووقتها ستعرفين هل أنا شخص لطيف أم لا" 

"لا أدري ما الذي جعلني أتحدث إليك ولكن شيئاً ما بحديثك قد راقني" ابتسمت له ولكن بعينتين امتلئت بالدلال "طابت ليلتك سيد بينسوليو!" أخبرته ثم التفتت لتذهب ولكنها أوقفها جاذبا يدها ولكن ليس بعنف ثم أقترب إليها وقبلها دون مقدمات ووضع يده بمنتصف ظهرها 

"طابت ليلتك آنسة.." همس بأنفاس ساخنة أمام شفتيها منتظرا أن تخبره بإسمها 

"اليكسا" همست ليعود ويُقبلها من جديد وعمل بكل ما بجهده أن يجذبها للمزيد من خلال تلك القبلة ويده بدأت تتلمس ظهرها المكشوف من ذلك الثوب ثم ابتعد قليلا بعد انتهاءه من تقبيلها ليريد جبينه على خاصتها 

"طابت ليلتك اليكسا" همس بشهوة أمام شفتيها وأخبرتها تحركات جسده في أنه ذاهب لتهمس له 

"كنت أتسائل.. ما هي الأشياء الأخرى التي تستطيع فعلها بشكل أفضل؟" أخبرته ليحدق بعينيها بنظرة جريئة ثم أقترب ليقبلها أكثر وبدأ في مداعبة جسدها بيده وتعلقت هي بعنقه تجذبه إليها حتى وصل كليهما إلي باب الجناح الخاص بها ليدلفاه على عجل سويًا في لحظة اثارة شديدة ثم أكملا ليلتهما..

كانت حيلة دس احدى الأقراص المنومة في شرابها جيدة، هي حتى لم تلاحظ ما فعله، يبدو وأن كل النساء يمتزن بالغباء الشديد.. لا بل ويستمتعن بالعنف أيضًا خلال العلاقة.. 

تذكر عندما فعلها مع غادة لأكثر من مرة بنفس الطريقة التي يُهددها بها، ما إن أستطاع أن يوصلها لحد النشوة الشديدة وتترك هي الشهوة تتحكم بها يرى بمنتهى السهولة إنعكاس إرادتها البالغة في إرادة المزيد!

نهض من على السرير ليُمسك بسرواله الداخلي ليرتديه وتوجه لقسم الإستقبال في جناحها لينظر لتلك اللوحة التي عليه أن يأخذها وابتسم في خبث ليتمتم بداخل نفسه "يالا بينا"

توجه لأحدى فتحات الهواء بأعلى الجدار ليقوم بخلعها بسهولة مستخدمًا مساكة الثلج التي توضع كأحدى مُلحقات الغرفة لإستخدامها في وضع الثلج بالكؤوس ثم آتى بكل الأدوات التي سيحتاج إليها لتبديل تلك اللوحة..

هو لن يسرقها فحسب، بل سيترك لها واحدة أخرى عمل عليها لأيام لتبدو بالنهاية صورة طبق الأصل من اللوحة الأصلية.. وأمّا عن اللوحة الأصلية فقام بوضع ملصق شفاف فوقها يحمل تصميمًا آخر ليُغاير الصورة النهائية، فعندما يراها أي شخص لا يعتقد ولا يخطر بباله أنها نفس اللوحة التي زايدت عليها تلك المرأة! 

وضع المُلصق بمنتهى الحرص بعد أن قام بتعرية اللوحة من الإطار نفسه، وقام بإلصاقها بلصق لا يترك آثرا حتى لا يُفسد اللوحة الأصلية السخيفة التي لا يكترث لماذا يتكالب عليها الجميع هكذا، ثم أعاد اللوحة للإطار وهو ينظر برضا تام عن صُنعه..

الآن كلا اللوحتان متشابهتان.. تلك التي زايد عليها بمبلغ زهيد، والأخرى الأصلية التي كلفته كلوديا بإحضارها.. الأمر يبدو سهلا إذن.. 

قام مرة أخرى بتفكيك اللوحة وطويها بمنتهى الحرص، وكذلك قام بتفكيك الإطار وهو مرتبكا ألا يُصيبه ولو خدش واحد ثم وضع كل شيء بحقيبة مستطيلة طويلة وتوجه لفتحة الهواء ليُعيدها مكانها وقام بربطها في احدى الحبال التي تنتهي عند فتحة الهواء بغرفته ثم توجه ليرتدي ملابسه.. لقد راقته حقا تلك الملابس الرسمية، يبدو كرجل أعمال بالفعل.. 

تفقد الساعة ليجدها قاربت على الثالثة صباحا ليذهب ويترك غرفتها دون أن يترك أية آثار خلفه وعلى وجهه ابتسامة انتصار وتلذذ غمر سائر دمائه لمجرد تخيل تلك الفاتنة عندما تدرك أنه تعرضت للخداع..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

نظرت فيروز لأحدى الحضانات التي وضعت بها ابنة هبة من خلف الحاجز الزجاجي ولم تستطع التحكم في تلك المشاعر التي عصفت بها ووجدت نفسها تذرف دموع الفرح الشديدة وهي تتفقدها بمنتهى الحنان..

لا تكترث أنه يتواجد بجانبها، فليذهب للجحيم، ليس هناك ما يتساوى بذلك الشعور، تلك الفرحة بأن ترى طفلة، جزء من رجل وإمرأة يتنفس، نتاج لعشق رجل وإمرأة، تكليل لعلاقة بُنيت بالحب ونتج عنها تلك الطفلة الصغيرة لتشابه كليهما.. اختلاط دماء رجل وإمرأة أخرى ليُنجبا مثل تلك الملاك التي تشاهده.. 

تواترت دموعها دون توقف، علا ثغرها إبتسامة سعيدة، لوهلة تمنت لو أن ماهر شاركها تلك اللحظة التي لطالما حلمت بمشاركتها إياه حتى ولو لم تكن تلك المولودة منها هي..

"لو سمحتي" همست بين دموعها التي حاولت تجفيفها "ممكن بس أدخل خمس دقايق.. أرجوكي دي بنت أختي" توسلت لتلك الممرضة التي كانت تمر بين أروقة المشفى ونظرت إليها ثم نظرت إلي شهاب

"حضرتك والأستاذ ممكن خمس دقايق بس لأن حالتها لسه مش مستقرة.. بس هتحتاجوا تعقييم الأول" أومأت لها فيروز بالموافقة بإبتسامة سعيدة ليحمحم شهاب خلفها لتلتفت إليه بإبتسامة ودموعها المتعلقة بوجهها لم تجف بكاملها بعد

"أنا مش لازم أدخـ.."

"شهاب مفيش احلى من اللحظة دي صدقني.. جرب مش هاتخسر حاجة" همست إليه وهي تقاطعه ولأول مرة تتوسل إليه لفعل شيء ليعقد هو حاجباه ثم نظر لتلك الطفلة التي يختلط وجهها بالإحمرار وسيطر على ملامحه الشعور بالغرابة والتردد 

"لا مش هـ.."

"تعالى بس" قاطعته وجذبته من يده ليتعجب فهي لأول مرة تفعلها معه ليجد نفسه يسير خلفها في حالة من الذهول، أكان ذلك تأثير بُكاءها؟ لا يعرف.. لماذا يتبعها ويجد عقله مشوشا للغاية هكذا؟ ما ذلك الذي يرتديه؟ متى حدث ذلك؟ أهو يرتدي مثل ما ترتديه فيروز أمامه؟ تبدو سخيفة.. لا سخيفة بحق.. 

أهي من تساعده مع تلك الممرضة في إرتداءه ذلك الثوب وقناع الوجه وغطاء الرأس السخيف!! لا يكره أكثر من ذلك اللون الأخضر بحياته.. ألم يجدوا سوى الأخضر؟ أين اللون الأزرق؟ لماذا يرتدون الأخضر في تلك المشفى!! ولكن عيناها تضحك وتبتسم بطريقة لم يرها في أي إمرأة من قبل.. تبدو سعيدة بحق.. حتى أكثر من غادة عندما حصلت على واحد من احدى المراكز العشر الأولى في ترتيبها باحدى السنوات.. لماذا يقارن الإثنتان؟ لماذا هي بذلك الحماس؟ لماذا يتبعها؟ عليه أن يتوقف!!

"بهدوء بس علشان الأطفال اللي نايمين.." اخبرتهم الممرضة بإبتسامة سعيدة ليجد شهاب نفسه متواجدا معها داخل تلك الغرفة التي يتواجد بها ثمانية من الأطفال حديثي الولادة واتجهت هي تجذبه من معصمه لتدفعه على السير بإتجاه ابنة هبة..

"بسم الله ما شاء الله.." شعرت بالقشعريرة تنفجر بكامل جسدها وحاولت ألا تقترب كثيرا حتى لا تتساقط دموعها فوق مهد الطفلة بينما هو شعر بخفقات قلبه تتزايد.. ربما لرائحة المكان الكريهة.. ما هذا التأثير الذي يشعر به؟

"جميلة.. جميلة أوي.. ربنا يحفظهالك يا هبة" همست ليشعر شهاب بأن عليه مغادرة هذا المكان على الفور وتراجع خطوة للخلف..

أقبلت باحدى أناملها وهي تتلمس يد الطفلة ليبتل قناع وجهها بالمزيد من دموع فرحتها الغامرة ثم نظرت إلي شهاب الذي اشتدت عقة حاجباه وارتباكه الشديد وشعوره بضرورة مغادرة هذا المكان على الفور 

"المسها يا شهاب" جذبت يده وهي لا تشعر بما تفعله أبدا وشعرت برفضه في أنامله التي تتلمسها بأناملها المرتجفة ولكنها جذبت يده أكثر ليجد نفسه يستجيب إليها وأخذ خطوة نحو المهد وليس هناك أي تفاعل بينهما سوى بنظرات أعينهم التي تظهر من خلف تلك الأقنعة الطبية ولمسة يد فيروز على يده..

"جميلة اوي مش كده؟" همست بتأثر شديد وبنبرة مهتزة وهي تضع احدى أنامله في هدوء على يد الطفلة ليجد نفسه يبتلع في خوف لم يشعر به من قبل أو ربما ارتباك.. تردد.. حيرة.. لا يدري.. لم يشعر أبدا بمثل ذلك الشعور في حياته، لا، يجب عليه المغادرة الآن ولن يتحمل أكثر من ذلك..

"جميلة بجد.. عمري ما شوفت حاجة بالجمال ده" همست لتقترب وهي تتفحص وجهها ولا تستطيع السيطرة على دموع فرحتها الشديدة بها لتتلامس أهدابها بعفوية وتسقط احدى دموعها على أنامل شهاب لينظر إليها نظرة مبهمة وتشنجت ملامحه في عنف ولم ترها ولم تلحظها هي وجذب يده بسرعة والتفت مغادرا إلي الخارج بخطوات سريعة وهو يخلع كل تلك الملابس السخيفة عنه وأخذ يسير مبتعدا وهو يشعر بضرورة مُلحة في الإختفاء بعيدا عن فيروز وبعيدا عن تلك الطفلة النائمة وبعيدا عن كل ما بالحياة من أشخاص، ومن جماد، وحتى من نفسه!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

في صباح اليوم التالي..

"أنا برضو مش مقتنع باللي انتي عملتيه" تحدث بدر الدين بنبرة هادئة 

"عمو أنا آسفة بس أنا مش هاقبل إني أفضل باكدب في كل حاجة.. أنا مش الشخصية دي.. وبعدين أنا مش هاكسر فرحة أختي! أسما قريبة جدا من فريدة.. أنا مكونتش عايزة أحرمها من وجود اقرب اصحابها ليها وحتى لو ده معناه إني مش هاكمل في الموضوع بتاع شهاب.. أصل اقصى حاجة هتحصل إيه؟ هيشك فيا مثلا زيادة على شكه؟ صدقني أنا خلاص.. قربت اوي اجيب اخري معاه.. اخر محاولة ليا هتكون الجلسة الجاية وخلاص كده!" حدثته بنبرة مرهقة ولكن انتظر بدر الدين قليلا قبل أن يُبادر بسؤالها عن حالها ليحمحم بعد تريث وتفكير 

"فيروز أنا مقدر إنك قبلتي الفكرة، وفعلا شكرا على كل وقتك.. أربع شهور ما بين كلام ودراسة شخصيته ومحاولة في إنك تفهميه وتدخليله وتقربي منه علشان تكسبي ثقته، وفي أي وقت لو حبيتي تنهي الموضوع أنا مش هقدر الومك وحقك.. بس أنا عايزك تاخدي بالك كويس من اللي جاي.. متستهونيش بذكاءه أبدا.. الناس اللي زي دي ممكن تعمل أي حاجة في سبيل تحقيق أغراضها وخلاص"

"أنا فاهماه كويس.. متقلقش عليا" 

"كمان عايز احذرك من حاجة مهمة، شهاب من كام يوم.." حمحم وهو يحاول صياغة التالي "رمى مرات أبوه عريانة في وسط الحارة اللي كانوا عايشين فيها زمان.. ده اللي لسه عارفه.. واخد اخوه بعد ما عذبها وأجبرها على علاقة مع راجل وصورها بعد ما اتخدرت.. خدي بالك كويس!! مش بعيد يعمل فيكي حاجة زي دي بالذات بعد ما شاف إياد!" استمع لتنهيدتها المطولة ليضيف 

"انتي زي بنتي.. ومن دور سليم تقريبا، ومش هاعوز يجرالك حاجة بسبب إني عايز أساعد واحد زيه.. أنا للأسف بفكر انهي الموضوع كله واستخدم معاه طرق تانية بدل الـ.."

"معلش اديني فرصة اخيرة، اعتبرها اخر محاولة وأنا واثقة إنه هيقبل ويبدأ يستجيب للعلاج" زفر هو الآخر بعد أن قاطعته

"عايز اعرفك إن كمان مرات والده جات لهديل اختي وولادها بإعتبار يعني انهم قرايب علشان تحكيلهم على اللي حصل.. أنا بصراحة مش هاخبي عليكي خايف من خطوة زي دي لأنه اكيد مراقبها وعرف إنها جاتلنا!" شردت فيروز في تفكير بعد أن استمعت لكلمات بدر الدين "لو حابة اخلي حراسة تتابعك أو لـ.." 

"لا أكيد هيعرف.. مش مستبعدة إنه يكون مراقبني أصلا أنا أو اهلي أو اخواته ومامته.. عقل واحد زي ده يعمل اللي اكتر من كده.." قاطعته بنبرة ازدادت ارهاقا وكذلك تفكير بالأمر 

"فيروز انتي كويسة؟" سألها بإهتمام 

"أنا تمام بس امبارح كان يوم طويل وهبة ولدت بدري في السابع ولسه معاها في المستشفى ومنمتش بس مش اكتر.. لكن غير كده أنا تمام" ارتسم على شفتيها ابتسامة ممتنة 

"طيب معلش لو هتعبك.. عايزك في استفسار.."

"لا مفيش تعب ولا حاجة.. اتفضل طبعا"

"دلوقتي أروى بنت اختي، من بعد الحادثة بتقول إنها مش فاكرة حاجة، والدكاترة قالت انها اتعرضت لإغتصاب.. كلنا حاولنا نتكلم معاها بتصمم إنها مش فاكرة.. وأنا حتى حاولت اهزر واتكلم معاها مفيش فايدة.. هو فعلا ممكن يكون فيه حاجة كده؟"

"طبعا.. العقل ساعات بيواجه الصدمة الشديدة بإنه بيمحيها منه.. يُعتبر أسلوب دفاعي بحت.. مُعرض جدا انها تفتكر بعد فترة وممكن تفضل ناسية"

"وحتى موضوع انها مش قادرة تمشي من ساعتها.. ممكن يكون ده سبب نفسي برضو؟ كل الدكاترة بيقولو إن جسمها نفسه سليم.."

"طبيعي بعد غيبوبة طويلة يحصل كده، هو بس مسألة وقت وهتكون كويسة إن شاء الله، هي مش بتابع مع أخصائي؟"

"آه" أخبرها بنبرة تمزقت من كثرة التفكير "أنا حبيت أتأكد بس مش أكتر لأني أنا عندهم دلوقتي والبنت برضو مستمرة في موضوع إنها مش قادرة تمشي ولا قادرة تفتكر" 

"متقلقش عليها يا عمو.. ادوها بس وقت وحاولوا تكونوا جنبها وزودوا دعمكم ليها ولكل اللي بتحبه وبلاش نظرات شفقة واتعاملوا معاها إنها شخصية عادية.. وبلاش ضغط عليها.. واتناقشوا برضو مع الأخصائي اللي بيتابع معاها ولو فيه ادوية يا ريت تتأكدوا انها ماشية عليها وإن شاء الله هتقوم بالسلامة"

"يارب" همس بدر الدين شاردا في تفكير 

"أنا عايزة اطمن حضرتك من ناحية شهاب.. أنا هماطل شوية معاه.. مش أقل من تلت أسابيع أو شهر من النهاردة، يعني.. لو أنا مزقوقة عليه هبقى متلهفة أعرفه واروحله وانتهز فُرص إني اشوفه او اتكلم معاه.. لكن لو الموضوع عفوي هتعامل عادي معاه، وحتى لو حصل كلام هيكون تركيزي على المشروع.. وهو ده اللي عايزاه يحس بيه.." 

"أنا كمان بفكر.. مجرد تفكير يعني.. لو في الفترة دي الهيه بشوية حاجات في شغله.. الفراغ هيكون صعب على واحد زي ده.. وأنا مش هاخبي عليكي أنا خايف جدا على الولاد، مش بعيد يتعرض لأي حد منهم بعد كل الرسايل والتهديدات اللي بعتهالنا، ولازم ابتدي في كل ده قبل ما زينة وسليم يرجعوا من السفر" أخبرها متنهدا لتحمحم فيروز في تعجب وهي لا تستطيع الإشتراك ولا حتى تقبل فكرة أذى أي شخص أيا كان من هو

"بس أكيد حضرتك مش هتأذيه، مش كده؟" 

"لا لا أأذيه إيه.. هي بس شوية ضجة كده على تدخل إعلامي وحبة مسئولين يضايقوه في تصاريح أو حاجات.. بس دي بالنسبة لأي واحد عنده شركات وشاطر في الـ business بيقدر يلمها.. بس بتعملنا دوشة شوية وبتطلب إجراءات كتيرة وبتاخد من عقلنا تفكير وبتشغلنا بس في الآخر بتتلم يعني"

"أكيد حد مادي بشخصيته الموضوع ممكن يفرق معاه فعلا"

"ربنا يسهل ويسترها إن شاء الله.."

"إن شاء الله.."

"أنا هاسيبك بقى علشان هبة وعلشان ترتاحي وأنا كمان عند هديل وشاهندة.. ومش هاوصيكي لو احتاجتي لأي حاجة عرفيني في اي وقت"

"أكيد يا عمو"

"مبروك البيبي ويتربى في عزكم يا حبيبتي"

"الله يبارك في حضرتك وعقبال ما تفرح بسليم وزينة"

أنهت مكالمتها مع بدر الدين على احدى التطبيقات الجديدة التي لم تشتهر بعد ولا تخضع لأي نوع من المراقبات ودخلت في حالة شرود شديدة في أمر شهاب، حقاً! أفعل ذلك بأخيه وزوجة والده؟! خدرها مثل ما فعل مع غادة بأول مرة لهما؟ أهذا هو أسلوبه؟ أهذا ما يتبعه مع النساء؟

لو ترسخ داخل عقله أن فيروز تريد شيئًا منه بمعرفتها لوالدته واخوته وإياد وأسما لن يكون بعيدا عنه أن يفعل معها مثل ما فعل مع زوجة ابيه وكذلك غادة.. وما خفي كان أعظم!! 

عليها التراجع، عليها التراجع عن امر ذاك المجنون المهووس بأفكاره الإنتقامية، عليها إعتزال الأمر، كل ما فعلته معه بالأيام الماضية ما هو إلا سراب..

ولكن هل تستسلم أمامه؟ هي تعلم منذ البداية بأنه سيكوباتي، تعلم أنه مُصاب بالبارانويا، تعلم بذك الحقد الطبقي المترسخ بداخله وبحقده على التجمعات العائلية.. علمت بكل ذلك منذ البداية.. فيروز تستسلم؟ تستسلم أمام من تعرف أن حالته لا ينفعها سوى السجن مع العلاج المُكثف؟ أو صدمة تعصف به حتى يتقبل التغير! حتى ذلك الإحتمال الأخير لا تظن أنه سينفع معه!

"فيروز" همست هبة بإرهاق لتخرجها من شرودها واتجهت نحوها "انتي لسه بلبس امبارح.. يا بنتي قولتلك روحي.. برضو عندتي معاهم وخلتيهم يمشوا وقعدتي انتي"

"متقلقيش احنا لسه بدري وزمانهم جايين.. وبعدين اسيبك برضو؟ اتعودتي مني على كده بذمتك؟" أخبرتها لتراها تحاول الإستناد على الوسادة خلفها فهرعت لتساعدها 

"ربنا ما يحرمني منك يا فيروز وعقبال ما أشيل ولادك" أخبرتها لتنظر لها فيروز بحزن ولكن ابتسامة ارتسمت على شفتيها في وهن 

"لا.. خلاص بقى.. مين بعد ماهر اللي اقدر اكمل حياتي معاه!" حاولت أن تدارك ما قالته حتى لا تعم الكآبة الأجواء "وبعدين ما أنا عندي بنوتة اهي زي القمر وهاربيها وأفرح بيها، ولا مش بنوتي ولا إيه!"

"ياختي اتفضليها خالص.. قال قمر قال.. دي مفعصة ومش عارفة اشوف منها حاجة.."

"حرام عليكي يا هبة دي جميلة.. جميلة اوي.. أجمل حاجة وأجمل بنوتة شوفتها في حياتي" 

"جميلة.." تمتمت هبة "أنا هاسميها جميلة.. كلمي ماما وسالم بسرعة" ابتسمت إليها فيروز لتتناول هاتفها حتى تقوم بالتحدث لزوج هبة ووالدتها

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

لا يدري أن جملة ضاقت عليه الأرض بما رحبت أكثر ما يصف حاله منذ الليلة الماضية.. تضاربات بداخله لا تتوقف، تفكير متوالٍ، بحث لا ينتهي، عنها وعن كل من تعرفهم.. أأصبح عقله لا يُفكر سوى بها وبكل ما يواجهه ويحدث له معها؟

ما الذي حدث له عندما شاهد ابنة هبة.. لماذا ذكرته بتلك التخيلات الساذجة التي وده أن يعيشها مع غادة.. يا للسخافة، كاميليا ابنته هو وغادة، تملك ملامح والدتها، ابسامتها وجسدها وعينيها العسليتان.. حقاً؟! يا له من تخيل غبي سخيف ساذج عاش يحلم به به طوال سنوات.. 

كره نفسه لذهاب عقله الذي يُفكر في ذلك الأمر وتلك المقارنة السخيفة التي أجراها بعقله.. ماذا حدث له عندما لمس دموعها؟ أتخيلها غادة؟!.. عقلهعليه أن يتوقف عن التفكير بها.. عقله الذي جُن من كثرة تملك فيروز منه!! إذا أخرج عقله ومسكه بيده سيراه بأكمله لا يُفكر سوى بها وبملامحها وصورها التي لا تتوقف عن التواتر برأسه.. 

ما كان ذلك التمرين السخيف الذي اخبرته عنه.. نعم.. التأمل والتركيز.. زوجة والده العاهرة التي ذهبت إلي الأفعى زوجة عمه هي وابناءها الذين يريد قتلهم بيديه!! 

عليه أن يأخذ إجراءًا معها وبمنتهى السرعة.. عليه أن يُعيدها إلي ذلك المنزل المتهالك حيث عاشت طوال عمرها.. آخر تهديد إليها، آخر تهديد قبل أن يقتلها هي أو ابنها!! إن لم تصدقه فهي لا تعرف أنه قد قتل سابقًا أكثر من مرة ولن يتوانى عن فعلها مجددا.. يكفي كلمات تلك العاهرة له! 

يا تُرى بم أخبرت هديل؟ يا تُرى من سمعها؟ هل أخبرتهم عن شيء من ماضيه؟ تلك العائلة سينتقم منهم أشد إنتقام.. فقط بدر الدين ذلك الرجل البغيض الذي يملك بين يديه مصائب.. لو فقط علم عنها أحد شيئًا سيتدمر.. لا، بل سيُقتل.. خاصة إن علم أحد من إيطاليا.. وقتها سيُقتل في ثوان!

 لقد كلفه الأمر عناء ثلاث سنوات كاملة من البحث والتفكير حتى يصل إلي اتفاق مع احدى اكبر زعماء المافيا بإيطاليا بأن يُغادرهم للأبد، لقد كان الأمر صعب للغاية.. وإذا فقط تم كشف أية تفاصيل مما يملكها بدر الدين قد يُعرضه هذا للموت!

بدر الدين وعائلته، يجب أن ينتقم منهم بصورة غير مباشرة ولكن كيف؟! هذا ما يقتله، الشعور بالعجز بالرغم من كل ما يمتلكه! بالرغم من عقله الذي دبر العديد والعديد من أصعب المهمات التي أستطاع أن يخدع بها الشرطة والمباحث التي ظلت لسنوات تُدقق في كل ما يفعله ولكنهم باءوا بالفشل.. لا يستطيع التصدي لهم!! كم كره شعور الفشل ذلك..

زوجة ابيه إذن.. عليه أن يبدأ بها.. عليه أن يُهددها مرة أخرى.. ولكن هذه المرة لن يذهب وحده.. حازم سيذهب معه!! أو جزء صغير منه!! ربما شبح طفل يكره والدته بشدة.. وقرر هذه المرة أنه لن يتبع العنف مثل السابق!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"حبيبتي مش هاتكملي فطار؟" نظرت هديل إلي أروى بحنان 

"لا يا مامي خلاص مش قادرة.." أومأت لها بتفهم بينما نهضت لتخبر أحد المساعدين بشئون المنزل أن يرفع الطعام 

"تحبي تطلعي الجنين مع خالو شوية؟" حدثها بدر الدين لتومأ هي له فنهض ودفعها بالكرسي للخارج بالرغم من أنه إلكتروني ولكنه ود أن يقوم بذلك 

"حاسة إنك أحسن؟" سألها بعد أن جلس أمامها 

"اه تمام.."

"بتاخدي الدوا ولا عايزاني اسيب نورسين واجي اقعد جانبك واديكي الدوا في بوقك زي الصغيرين" ابتسم وهو يتحدث إليها لتبادله الإبتسامة بالرغم من المضض والإمتعاض الذي تشعر به بداخلها

"لا يا خالو متقلقش باخده دايما" 

"تمام.. عايزينك بقى ترجعي الشغل زي الأول.. حاسس إن الدنيا من غيرك بتبوظ.."

"يا خالو" تصنعت الآسى في تنهيدة "إياد وعاصم موجودين، طنط شاهي.. وكمان سليم" نظرت إليه بنظرة ذات معنى 

"بمناسبة سليم.. أنا مش ناسي اللي حصل، بس انتي عارفة إنك غلطتي يا اروى، مكونتش احب أشوف واحدة من بناتي في الموقف ده"

"أنا حبيت سليم يا خالو.. وهو كدب عليا!" هنا كانت صادقة 

"ومين راح كدب عليه من ورا ضهره؟ ومين اللي دمر علاقته بزينة؟ ليه يا أروى عملتي كده؟ ده انتي حتى مجيتيش وحكيتيلي على شعورك من ناحيته ولا حتى روحتيله هو وصارحتيه.. أنا مش ببرر اللي عمله معاكي بس انتو الاتنين غلطتوا، وانتي اللي ابتديتي.. طول عمر سليم بيخاف عليكي زي اخته، إنما انتي مشاعرك من ناحيته مكانتش مجرد اخوة.. الصراحة ساعتها كانت ممكن تفرق، بس مش إنك توقعيهم في بعض يا أروى"

أنزعجت من تلك الكلمات التي وجهها إليها بدر الدين بينما ظهر الإنفعال على ملامحها وشعرت بالإرتباك لمعرفته بكل الأمور التي ظنت أن لا احد يعلمها بمثل هذا الوضوح 

"بصي يا حبيبتي.. اللي فات مات، احنا كلنا أهلك وبنحبك، اديكي شايفة هديل اتغيرت ازاي سواء معاكي ولا مع إياد وعاصم وحتى زينة.. انسي يا أروى وافتحي صفحة جديدة، مفيش حد يا بنتي حياته كلها حلوة ولا معملش اخطاء يندم عليها.. وكلنا جانبك وهنساعدك، وأنا أولهم" نهض لينظر لها بينما رفعت رأسها لتنظر إليه "اتفقنا؟" سألها لتومأ هي له بإقتضاب ليُخفض بوجهه إليها وقبلها على جبهتها 

"تعالي بقى علشان احكيلك على شوية حوارات في الشغل عايز اخد رأيك فيها.. فاضية ولا مشغولة؟"

"لا طبعا يا خالو فاضية" ابتسمت له وقد كرهت بداخلها ذلك التدخل في يومها فهي لم تتوقع زيارة بدر الدين وزوجته اليوم فلقد افسد هذا كل مخطاتها وذهبت معه على مضض..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

صباحًا.. بعد مرور ثلاثة أيام..

جلس شهاب يتناول قهوته بحديقة احدى منازله وهو يتذكر ما حدث، عندما دلف وهو ممسكا بيد حازم في حنان تصنعه ببراعة شديدة إلي احدى الشقق الفارهة بإحدي البنايات البعيدة نوعا ما عن ذلك المنزل الذي يجلس به حازم 

"شهاب.. هو احنا مش هنروح؟ I really need to sleep" تحدث حازم وشهاب لا ينفك يشعر بالحقد كلما حدثه بالإنجليزية 

"أنت مش مبسوط معايا؟ اتفسحنا واتغدينا وروحنا النادي.."

"اتبسطت طبعا بس عايز أنام"

"يعني خلاص مبقتش زعلان مني؟" أومأ له بالنفي "وأنا مش هاسيبك لواحدك تاني كتير.. اتفقنا.."

"اوك.. deal.. بس احنا جايين هنا ليه؟"

"مش كنت عايز تشوف مامتك" ابتسم إليه ليُسيطر الحماس على وجه حازم وابتسم في سعادة

"بجد؟ هي فين؟" 

"فوق.." بادله الإبتسامة ثم أشار نحو الدرج الداخلي لتلك الشقة، كان يكفي أن يجعل احدى نفس الرجال الذي رآه حازم من قبل يهبط الدرج غير مرتد لقميص ويكفي جعلها عارية أسفل الأغطية بعد أن قام رجال بخطفها وخدروها مجددا "هي قالتلي انها مستنياك"

تعجب حازم من ذلك الرجل ولكنه لم يكترث وصعد الدرج بسرعة حتى يبحث عن والدته ليراها دون ملابس أسفل الغطاء وملابسها مُلقاة على الأرض ونائمة 

"مامي.. اصحي.. أنا جيت.." حاول أن يوقظها ولكنها لم تستجب له "مامي.. انتي نايمة هنا ليه.. اصحي" حدثها مرة أخرى ولم يتلق منها أي رد ليفر مسرعا للأسفل 

"شهاب، مامي مش عايزة تصحى"

"غريبة، مع انها كلمتني وقالتلي انها مستنية تشوفك"

"طيب ممكن تصحيها معايا؟"

"تعالى" نهض شهاب بينما حازم هرول للأعلى حتى وصل قبله 

"مامي.. اصحي" ناداها ولكنها لم تفق ابدا ليهزها بيديه الصغيرتان "مامي" غمغمت بكلمات غير مفهومة 

"حازم" تنهد متصنعا الآسى "ماما يا حبيبي مش عايزة تشوفنا.. ومبسوطة انها قاعدة مع عمو اللي نزل من شوية.. لو كان فارق معاها كانت صحيت.. يالا يا حازم نروح" أظهر الحزن ببراعة 

"بس.." 

"ماما يا حبيبي مبسوطة مع جوزها، أنت مسئولية يا حازم، وهي مبقتش عايزاك.. حتى شوف نايمة ازاي ومش عايزة ترد عليك" قاطعه ليلتفت حازم ونظر لوالدته في حزن "انت لازم تروح المدرسة، تبقى مع اصحابك، تخرج وتتفسح وتقعد مع طنط عنايات في البيت بتاعنا.. وأنا خلاص هافضى وهنفضل طول الوقت مع بعض.. سيبها يالا وتعالى نروح" 

"بس ليه مامي عملت كده؟" سأله وهو لا يُصدق أن والدته لا تريد الإستيقاظ من أجله 

"علشان هي بتحب الفلوس.. لما بابانا مات ولما عرفت إني مش هاديها فلوس راحت اتجوزت واحد تاني.. لو بس كانت صبرت شوية كنت هاديها كل حاجة"

"بس أنا معايا مصروف كبير وممكن اديلها"

"ماما عايزة أكتر يا حازم.. يالا يا حبيبي" مد يده له لينظر حازم ليُمسك حازم بها في النهاية 

"متودنيش لمامي تاني، أنا مش عايز أشوفها.. هي مبتحبنيش"

"حاضر يا حبيبي"

ها وقد تمت المهمة بنجاح ساحق.. تذكر شهاب ما فعله الأيام الماضية من مصاحبته لحازم وإعطاءه القليل من الإهتمام وبمجرد تمثيلية تافهة استطاع أن يُكرهه في والدته.. ربما للأبد.. 

ابتسم وهو قد صور كل ما حدث وجلس معها ليشاهدا الفيديو المصور بعد أن عمل على ذهاب آثار المخدر من جسدها حتى لا تذهب للسلطات وتقوم بالإبلاغ عن الأمر..

"مظنش بعد كل اللي اقدر أعمله فيكي هتفكري تهوبي تاني مني او من ولاد عمي.. واياكي.. اياكي أعرف إنك روحتيلهم!! لو بس شميت خبر، صدقيني نهايتك هتبقى وحشة اوي.. أنا بمنتهى الهدوء كرهت ابنك فيكي، فضحتك وسط اهل حتتك، ولسه فيه مفاجأة شايلهالك لو جريتي ورا حوار الورث ولا ابنك.. بلاش أنا يا مرات ابويا! بلاش تزعليني علشان زعلي وحش اوي" 

"زعلي ممكن يوصل لفضيحة نشر الفيديو وساعتها أم بتسيب ابنها علشان تجري ورا ملذاتها هتبقى قضية وحشة اوي والحضانة مش هاتكسبيها.. ولا! ممم.. أم سابت ابنها لواحده ووقع من الدور التاني.. ويا ترى كانت فين! قضية دي تانية!" مط شفتاه وتصنع الشرود كمن يُفكر بشيء ما 

"لا لا.. أم سابت ابنها في الشارع علشان تشوف حبيبها وقالتله استناني وجت ملقتهوش، اهمال برضو.. بالذات لما عشيقها وحبيبها يعترف عليها.. فين الحضانة؟ أنا مش شايفها بصراحة.. آه.. أخوه الكبير الغني المسنود موجود.. كده شوفت الحضانة!" ابتسم في شر وهو ينظر إليها 

"الفلوس حلوة مش كده؟ بتقدر تعمل كل حاجة.. كنتي فاكرة إنك هتوصلي للي وصلتله بسهولة!" هدأت ابتسامته الساخرة ونظر إليها بجدية "ممكن الفلوس توصل لأبو يوسف، وأختك، وولادها، وجوزها.. صح؟" رآها تبتلع وهي تنظر له بغل ولكنه لم يكترث

"مرات أبويا، اتمنى متجيش في طريقي تاني.. وسيبيني كده افكر يمكن ارجعلك حازم، او ممكن لأ.. الاختيار ليكي! سلام" رمقها بإحتقار ثم غادرها

كانت تلك هي الكلمات التي القاها على مسامعها وهي تنظر له بغل شديد ورمقته في حقد وهي لا تستطيع التفوه بكلمة، كان عليه الذهاب إليها بعد ان انتهى من أمر حازم الذي انتهى به يبكي بين ذراعاه

"شهاب انت مش هاتسبني زي ما هي سابتني؟" 

كلما تذكر تلك الجملة وبكاء حازم يشعر بالحقد والإرتباك.. حاقدا لأن حازم يملك من يبكي بين ذراعاه ومرتبكا لأنه لن يُنكر أن رؤية احد يحتاجه بشدة ويريده ويشعر بالأمان معه تجعله يشعر بشيء لا يدري ماهيته! ولكنه مزعج على كل حال..

نهض حتى يستعد للذهاب لمنزل والدته، فيروز تتظاهر بإنشغالها.. حسنا، سيُريها.. ليس هو من ترفض إمرأة رؤيته.. ولكنه سيستدرجها، فلكل إمرأة طريقة وسبيل للوصول إليها وهو بارع مع النساء بشدة.. لم تستعص إمرأة أبدا عليه.. لقد تفنن في إيقاع النساء له حتى يصرفهن عن حياته.. ولكن فيروز حسابها أصبح عسير للغاية معه.. لن يصرفها وقتها بسهولة أبدا ولكن عليه إستدراجها له أولا..

هو أخٍ لهبة التي انجبت منذ أيام.. عليه التهنئة والمباركة فهو لم يراها بالمشفى.. ستضعهم هديته في مكانهم الطبيعي.. سيُريهم أنه أفضل منهم جميعا.. وكل هذا أمام عيني فيروز التي تمكث بصحبتها منذ ذلك اليوم..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"شكلك حلو اوي النهاردة" أخبرها عاصم بإبتسامة لتبتسم له لميس بخجل 

"ميرسي يا عاصم.." حمحمت في ارتباك وهي تضع احدى خصلاتها خلف اذنها

"أنا بصراحة مستغرب ليه معرفتكيش من زمان" نظر إليها وتوسعت ابتسامته لتنظر له نظرة خاطفة بخجل 

"كل وقت وليه ادان زي ما بيقولوا" أخبرته ليومأ هو لها 

"أنا مفضي نفسي بقى النهاردة علشانك.. أنا عايز أعرف كل حاجة عنك يا لميس.. وما صدقت دكتور عمرو اداكي إعفا ووافق على الاجازة" ضحكت في خفوت 

"عايز تعرف إيه بالظبط؟" نظرت له بثقة وهدأت ابتسامتها 

"كل حاجة.." تريث لبرهة ثم تابع "كل حاجة ممكن الراجل اللي عايز يرتبط ببنت يعرفها.. حياتك، أصحابك، أهلك.. شغلك، دراستك.. كل حاجة يا لميس" 

كانت تلك بمثابة المفاجأة ولكن هل عليه حقا معرفة كل شيء؟ معرفة أن والده قد تزوج من والدتها واختفى؟ هي لا تريد خسارة عاصم فلقد بدأت تُعجب به هي الأخرى.. ولكن هل ستملك الشجاعة لتخبره بالأمر؟!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .