الفصل الخامس والعشرون - شهاب قاتم
الفصل الخامس والعشرون
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
~ عدم قُدرتي على التفكير والرصد والكشف والتذكُر والتكلُم والمُشاركة تزداد بإستمرار، إنني أتحجر ،يجب أن أُقر بذلك.
(فرانز كافكا)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
ذلك الهواء المنعش، رائحة البحر، حيوية الجو وصفاءه، تلك السحب المتفرقة في هذا الوقت من العام واختلاط بياضها بلون رمادي، ذلك المشهد الممتع، خصلاتها التي هربت من جديلتها وهي تتطاير حول وجهها الملائكي، روحها وحيويتها بصحبة ابتسامتها الساحرة لم تتركه سوى بإبتسامه وهو يشاهدها!! كم ذهب عقله من تلك المرأة!.. لأول مرة يرى مثل هذا المشهد..
كان كثيرا بصحبة غادة أمام البحر ولكنه أدرك الآن كم كانت متكلفة، كم كانت ابتسامتها له غير حقيقية، وبتلك المقارنة البسيطة وجد نفسه ينجذب أكثر إليها..
"بجد أنت لو كنت قولتلي اننا هنيجي هنا كنت جيت معاك من غير مسدسات وعربيات وتمانية body guards" نظرت إليه وعينيها تبتسمان ليفق من غفلته وحاول التظاهر بجمود ملامحه وترك تلك الإبتسامة لتحلق بعيدا بينما عاد التجهم لملامحه
"تعالى تعالى نقعد شوية.." أخبرته بإبتسامة ثم تركته خلفها وتوجهت مرة أخرى بالقرب من الشاطئ وببساطتها المعهودة جلست على الأرض وهي تحدق في البحر مياهه الساحرة الفيروزية.. فهي بعيدة كل البعد عن الزرقة.. أين هما على كل حال؟!
"هو احنا فين يا شهاب؟" التفتت لتسأله بينما تفقدت خلفها فلم تجد سوى ذلك المنزل الذي هبطت عليه الطائرة وعلى مسافة وجدت أنها بمكان تحت الإنشاء من خلال رؤيتها لتلك المباني غير المكتملة وكذلك لمحت معدات ثقيلة كالحفارات المستخدمة في البناء..
"العلمين" أقترب منها وهو ينظر لها أسفل قدميه بعلو شديد واشرأبت عيناه بعدها لتلك الأمواج المتلاطمة ووقف بجانبها واضعا يداه بجيوبه وأخذ ينظر للبحر في سكون لم يخرجه منه سوى نبرتها الهادئة والتي كذلك امتزجت بسعادة حقيقية
"عارف من وأنا صغيرة كنت بستني الأجازة تيجي علشان نسافر.. كنت بحب البحر جدا.. حتى لما روحت أسبانيا علشان الدبلومة اللي عملتها كنت بفضي أي وقت علشان أروح واقعد عند البحر" نظر إليها أسفل قدماه بمنتهى الزهو والغطرسة "بقالي كتير جدا مقعدتش قدام بحر" أخبرته وهي ترفع عينيها الذي رآها تحولت لرمادية قاتمة ولا تستطيع النظر إليه بكامل اتساعها بفعل ذلك الهواء الغبي "والأستاذ اللي قولتله نروح اسكندرية صد رد اتخانق معايا وسابني على الطريق"
ماذا تريد منه تلك المرأة؟ ولماذا لا يستطيع التحدث معها؟ ولماذا تذكره بذلك اليوم المشؤوم؟ أكان على وشك الذهاب معها فعلا؟ لماذا لم يفعل؟ أكان ليشعر بمتعة من نوع خاص بصحبتها؟ بم يفكر عقله الغبي هذا؟!
"أقعد بقى رقبتي اتلوحت بصراحة" أخبرته في همس ليزفر حانقا ولا يدري ما الذي جعله يجلس بجوارها ثم حدق بالبحر "فكرت في الكلام اللي قولتلك عليه؟" سألته دون أن تنظر له وهي الأخرى تحدق بالبحر أمامها بينما لم يأتي رده لفترة فالتفتت إليه لتحاول قراءة ملامحه وهو مضيقا لعينيه التي تبدو وكأنها تتابع تلاطم الأمواج في اهتمام شديد!
"شهاب.. أنا فعلا عايزة أساعدك.. ومش مجنونة ولا عايزة أموت نفسي علشان أعمل حاجة تضايقك ولا أعرف حد عنك حاجة.. مش هتحايل عليك أكتر من كده!! أرجوك كفاية! ابدأ اتكلم، ساعدني إني افهمك واساعدك" همست إليه بتوسل ليلتفت إليها ناظرا لها بملامح لا تدري أهي ملامح غضب؟ إنزعاج؟ ارتياب؟ أم رفض تام؟!
"عايزة تعرفي إيه؟" سألها بمنتهى الهدوء الشديد
"احكيلي وأنت صغير.. فاكر إيه، مع مامتك، باباك، زمايلك في المدرسة، أو لو كان عندك اصحاب.. احكيلي اللي تحبه!" أخبرته في هدوء ليلتفت هو ناظرا للبحر بملامح منزعجة واضيقت عينيه وهو يحاول أن يواجه ذلك الهواء القوي ثم زفر في ضيق ولكنه آبى بمنتهى النفور أن يقر بحقيقة ماضيه ولن يظهر أبدا أمام أحد كالكتاب المفتوح!
"مفيش.. حياتي وأنا صغير مدرسة، بيت، مذاكرة.. والدي ووالدتي اتطلقوا.. زمايلي مكنتش قريب منهم وماليش أصحاب!" هكذا.. بمنتهى الإقتضاب! حسنا
"كنت قريب من مامتك؟ كنت بتحبها ومتعلق بيها ولا مش أوي؟" سألته وهي تنظر إليه بينما اشتدت ملامحه في تعبيرات لأول مرة تراها على وجهه، أصبح مخيفا مثل يوم أمس، ولكنه مخيفا بنكهة مريبة، هو يتظاهر بتلك الملامح!! هل يتظاهر بتلك الملامح كي يجعلها تخاف مثلا؟ إذن لماذا لا ينظر نحوها؟ أهو يشعر بالتألم من شيء وهذه هي طريقته في التعبير عن الأمر؟ أهكذا تتحول ملامحه عندما يشعر بالآلم؟
"عادي" بعد سكوت دام اجاب بكلمة مقتضبة ثم نهض لينظر بساعة يده ليجدها قاربت على الثانية ظهرا "اعملي حسابك الساعة ستة هنتحرك!" أخبرها ثم توجه للداخل لتتابعه بعسليتيها وملامحها يسيطر عليها خيبة الأمل!
إذن والدته! ستبدأ معه من هنا..
نهضت لتتبعه للداخل قبل أن تضل الطريق بهذا المنزل الضخم فهي ليست على استعداد لإكتشاف المزيد من ثراءه الموحش والبحث عنه بغرف لا نهاية لها!
"شهاب" حاولت إيقافه ولكنه لم يفعل فظلت تتبعه حيث وجدته يتجه للمطبخ "شهاب" نادته مرة أخرى ومجددا لم يستجب لتقترب منه بتلقائية
"أنت مش عايز تتكلم عن مامتك ليه؟" سألته ليلتفت إليها بملامح غاضبة
"ما رديت عليكي" أخبرها بنظرة أدركت خلالها أنه يُحذرها عن الخوض بالأمر لتحمحم هي
"طيب وباباك؟ أنت كنت قولتلي قبل كده إنه مكنش بيسمحلك تقرب من حاجته.. كان بيتعامل معاك ازاي؟" سألته بملامح مهتمة بينما تذكر العديد من الذكريات التي لا يكره سواها فأخذ يتنفس بأنفاس وتيرتها تعالت شيئا فشيئا
"كان كويس.. كان راجل مكافح وبنى نفسه بنفسه.. زيي.. مكنش بيسمح أقرب من حاجته لأني كنت طفل وصغير وكان ممكن أبوظها.. عرفتي كده؟!" حدثها بأنفاس متوترة فهمت من خلالها وكذلك من خلال لغة جسده وأهدابه التي تلاقت أكثر من مرة أنه يكذب بالأمر!
زفرت زفرة مطولة وهي تنظر له وشعرت بإرهاق عقلها أكثر من اللازم! ذلك الرجل لن يكون معه الأمر هينا أبدا.. نظرت حولها ثم له وهو لا يزال ينظر لها ولكن هدأت أنفاسه عكس ما كان عليه منذ ثواني لتدرك أنه الآن أستعاد سيطرته على نفسه!
"أنت جاي هنا ليه؟" سألته بمنتهى العفوية لينظر لها في تقزز واستغراب منها
"أنت هتحاسبيني ولا إيه؟ ده بيـ.."
"أنا كنت هاعمل قهوة.. تحب أعملك معايا؟" قاطعته ونظرت إليه في استغراب من ردة فعله بينما استكان قليلا لينظر لها بملامح مبهمة
"ماشي.." أخبرها بإقتضاب بينما بدأت هي التحرك في المطبخ لتتفقد محتوياته
"بتشربها ازاي.. تركي ولا امريكان؟"
"امريكان" أخبرها بإقتضاب بينما ذهب ليجلس على احدى الكراسي المرتفعة حول جزيرة المطبخ وهي تحاول الوصول لبقية المحتويات فهي ستصنع قهوة تركية لها وله هو تلك القهوة السريعة
"هو فين القهوة؟" سألته بعفوية
"معرفش.. أنا أول مرة اجي هنا!" اجابها لتلتفت له في تعجب وازداد استغرابها ثم أكملت ما تصنعه
"أنا بصراحة مستغربة المكان، شكله أصلا زي قرية لسه بتتبني" حدثته بعفوية
"دي قرية جديدة هتتسلم السنة الجاية.." حدثها لتهز هي كتفيها بإستغراب بينما لا تزال تصنع القهوة أسفل داكنتيه اللتين لم يتركاها
"واشمعنى البيت ده اللي خلص؟" سألته لتستمع لزفرته
"عشان أنا كده دايما عندي بيت في كل حتة بروحها، كل حاجة بتخلص بسرعة علشان أنا اللي بديهم تعليمات بكده" يا لك من متغطرس مختل!! لم تدري بم عليها أن تتحدث معه بعد ذلك ولكنها تذكرت ما أخبرها به منذ قليل
"هو احنا هنروح فين الساعة ستة؟"
"قولت فيه زفت علشان المستشفى، أنا مبحبش الغباء!" تحدث بضيق لتلتفت هي له وناولته كوبه
"نسيت معلش!" نظرت إليه وكأنها تُصدقه تماما ثم ذهبت لتحضر قهوتها في ذلك الفنجان الذي وجدته ثم نظرت إليه بتفحص ليقابها بنظرات مثلها
"خير؟" أومأ برأسه إليها لتهز كتفيها في تلقائية
"أنت غريب اوي بجد.. عمري ما اتخيلت إني أعرف حد زيك" ازدادت عقدة حاجباه في محاولة لتفسير ما تتحدث به "أنا علاقاتي بالناس بسيطة اوي، وأنت مش عايز تساعدني حتى في إني أقرب منك ونكون حتى اصحاب.. ولا عايز تحكيلي أي حاجة.. ده دليل يا شهاب إنك بتعاني من مشكلة!" نظرت إليه بجرأة ليسيطر التجهم على ملامحه لتتركه وبدأت في تفقد المنزل لتتجه نحو أريكة وشعرت به يتبعها خلفها
"لو حد معندوش مشاكل ولا بيعاني من حاجة ممكن بس فترة في الأول ميتكلمش لغاية ما يتأكد من اللي قدامه، وأظنك عرفتني أهو على مدار شهرين، في نفس الوقت شاكك في إن عندك مشكلة وبتكابر ومش عايز تعترف بده.. وابسط دليل إنك مش عايز تحكيلي حاجة!" تنهدت وهي تجلس على الأريكة بهذا البهو الضخم وقربت قهوتها منها تستنشقها في انتظار كي تبرد قليلا حتى تستطيع الإرتشاف منها
"حقيقي أنا مش عارفة أعمل معاك إيه! بجد يعني عاجزة عن كل الحلول" تحدثت وأظهرت ببراعة نبرة عاجزة واعترفت بفشلها، بينما كانت تتبع أسلوبا جديدا معه فنظرت إليه بأعين مليئة بالمزيد من خيبة الأمل "أنت واضح إنك عارف نفسك كويس، قولي أعمل إيه معاك!"
كلماتها التي نطقتها بمنتهى السهولة كانت مرعبة بالنسبة له، أتظن أنه يعرف نفسه أو حتى يعرف ماذا يُريد؟ يا لها من ساذجة!!
"يعني فشلتي في اقناعي!" تظاهر بالجدية وهو يرمقها بعد أن جلس على احدى الكراسي بجانب الأريكة التي جلست هي عليها واحتسى من قهوته
"لغاية النهاردة اه فشلت.. بس اللي متأكدة منه إنك ابتديت تفكر! ودي خطوة كويسة.."
"افكر في إيه بالظبط؟" سألها مبتسما بسخرية واختلفت ملامحه، هو عقله لا يتوقف عن التفكير منذ أول يوم رآها به ويشتد الأمر كلما مرت الأيام عليه بحضورها
"فيا، في أسلوبي، في أعراض المرض بتاعك، بتحاول تواجه نفسك، مش قادر تثق فيا بشكل كامل بس في نفس الوقت بتقول ليه لأ، بتحاول على قد ما تقدر تظهر شخصية مخيفة يترعب منها أي حد بس جواك مش كده.. واللي ضايقك بجد إحساس إني مش خايفة منك.. وهاقولك بقى اللي هيضايقك أكتر، الإنسان الضعيف بيهرب من المواجهة، بيهرب من الثقة، وبيهرب من الحقيقة! واجه كده نفسك ولو لثواني وأسأل نفسك، أنت ضعيف يا شهاب؟!" سألته لتمتعض ملامحه في غضب لتنهض هي لتوقف عقله عند كلماتها لتدفع عقله للتفكير وجذبت قهوتها ثم توجهت للخارج لتتركه في حالة من التشويش!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"حبيبة خالو عاملة إيه النهاردة؟" دلف بدر الدين على أروى التي كانت جالسة بشرفة غرفتها
"تمام يا خالو.." ابتسمت إليه ابتسامة ليست بحقيقية على الإطلاق
"احنا مش هنرجع الشغل ولا إيه، العيال خاربينها من غيرك.. عاصم خلاص مركزلي في الخطوبة، إياد مع أسما، ومفيش غير سليم وشاهي اللي ماسكين الدنيا"
"كام يوم كده بس وهارجع تاني" تنهدت ليقترب منها بدر الدين وهو يجلس أمامها
"أنا بهزر معاكي.. خدي كل الوقت اللي محتجاه، وملعون ابو الشغل يا ستي أهم حاجة ترجعي كويسة"
"إن شاء الله متقلقش" ابتسمت إليه بينما لا يدري بدر الدين لماذا التعامل معها صعب للغاية هكذا
"اعملي حسابك بقى هتروحي معانا لأهل لميس"
"لا يا خالو بلاش نكون كتير كفاية حضرتك ومامي وإياد وعاصم"
"لا ازاي ده انتي صاحبتها"
"مالوش لزوم ونبقى نروحلها أنا وعاصم يوم تاني.. وبلاش برضو الموضوع صعب بالكرسي وكده.. خليني كمان اقابلها بره احسن ما نطلع عندهم البيت ومنعرفش في الدور الكام وفيه سلالم ولا لأ" حدثته في توسل وهي تتظاهر بالبراءة لينظر إليها هو مليا
"طيب يا حبيبتي زي ما تحبي.." نهض من على كرسيه "أنا رايح طمن على ماما، عايزاني ابعتلك حد أو حاجة؟"
"لا شكرا يا خالو" ابتسمت إليه ليومأ لها ثم توجه للخارج وأوصد الباب لتزفر في حنق خلفه ثم توجهت بالكرسي لتدخل من الشرفة للغرفة وبعدها نهضت وهي تمدد جسدها في حنق وضيق وأخذت تسير بالغرفة لتُفكر متى عليها بإظهار حقيقة أنها تمشي، ربما هذا ليس هو الوقت المناسب..
أقتربت لتأخذ هاتفها من على الأريكة بغرفتها وفكرت بأمر سارة التي تعجبت من هدوءها غير المعتاد وهي تحاول التوصل بعقلها بما قد يؤخرها عن مكالمتها ثم استمعت لمن طرق الباب لتتوقف ولمحت مقبض الباب يلتف ثم نظرت بسرعة للكرسي فهو بعيدا عنها فبسرعة تظاهرت بالسقوط قدر ما استطاعت في اتجاه الكرسي..
"أروى انتي كويسة؟!" هرول سليم نحوها ثم ساعد برفعها من على الأرض لتمسك هي في ذراعيه وهي تتظاهر باللهاث بينما لعنت بداخلها، لماذا غاب كل تلك الفترة ووقت ما يود رؤيتها يراها بهذا المنظر؟
"سليم.. أنا.. وقعت وأنا بحاول اجيب الموبيل.. أنا كويسة متخافش" أخبرته وهو يُجلسها على كرسيها
"بدر لسه خارج ما كنتي قولتيله يجبهولك بدل ما تتعبي نفسك"
"لا محبتش اتعب حد معايا" ابتسمت إليه بينما نظر إليها بقليل من الضيق وحاول أن يخفيه
"حمد الله على سلامتك يا أروى.. اجمدي كده علشان ترجعي تكوني معانا كلنا زي الأول" أخبرها وهو يتفحصها لتنظر هي له متصنعة ملامح الحزن
"مفيش حاجة هترجع زي الأول، يمكن الاقي الشغل، بس مش هالاقيك يا سليم" زفر بعمق وهو ينظر إليها ولا يدري حتى بعد رؤيتها لا يستطيع تقبلها أبدًا
"بلاش تفتحي في القديم يا أروى.. مبقاش ليه لازمة خلاص!" زجرها بنظرة من عينيه
"طبعا.. أروى طول عمرها مش فارقة مع حد وملهاش لازمة عند حد زي زينة مش كده؟ زينة اللي طلباتها أوامر.. شهاب مرة وسليم دلوقتي.. حتى بعد ما اتخطبنا راحـ.."
"اروى!!" قاطعها بنبرة محذرة "أنتي كنتي فاهمة وعارفة كويس إني بحب زينة من زمان، وانتي اللي فرقتي ما بيننا وعايشة دلوقتي في وهم ملوش وجود!! قولتلك بلاش نفتح في القديم.. ده أحسنلك.. وعموما أنا كنت جاي اطمن على بنت عمتي واختي الصغيرة.." نظر إليها بإنزعاج ثم أضاف "وأخت مراتي!"
تركها وتوجه للخارج لتشعر هي بمزيدا من الإحتراق يندلع بداخلها وهي تقسم أنها ستنتقم منهما أشد إنتقام وستفرقهما بأي شكل كان، ظنت أنها بإدعاءاتها قد جعلته يُصدق حقيقة مرضها، ولم تلاحظ أن نظرات سليم لرؤيتها على الأرض قد جعلته ترتاب بالأمر!!
فرأسها كانت مقابلة للكرسي نفسه وقدميها بعيدا عن الكرسي في الإتجاه المقابل!! ولن يترك سليم هذا الأمر جانبا دون التفكير فيه!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
احتست القهوة حتى انتهت ونظرت بالساعة لتجد أنها قد نست أداء صلاتها لتُمسك بالفنجان وتوجهت بسرعة للداخل لتجد شهاب يحول بينها وبين الطريق لتنظر له في إستغراب ولكنه بادر بالحديث
"وبتسأليني عن آمال علشان أكلمك عنها وتقوليلي إن هي لسه بتحبني.. وأجري أنا عليها واحضنها.. وتخلص الحدوتة برجوع الإبن لأمه!.. وأنا أهبل وهاصدقك" أخبرها وداكنتيه تخبرها أنه لا يُصدقها لتزفر هي في إرهاق
"يا شهاب أنا أعرف طنط آمال من سنين.. من أول سنة ليا في الجامعة وأنا أعرفها.. إيه بس اللي هيخليني اجيلك دلوقتي علشان أصلح العلاقات بينك وبين مامتك! بص أنا زهقت من شكك فيا، ولو ليه بسألك على مامتك فأنا هجاوبك.. الأم وعلاقتها بإبنها أول حاجة في الدنيا الطفل بيحس بيها، أول علاقة بيخوضها مع طرف خارجي.. لا ده كمان بيكون فيه بينه وبينها علاقة من أول الحمل لأن الطفل بيحس بيها، وعلشان كده مبيسكتش غير معاها ودايما بيبقى عايز يسمع صوتها ويشم ريحتها حتى وهو لسه عنده أيام وبيستمر ده معاه لغاية ما بيكبر حتى وهو عنده خمسين سنة لو العلاقة ما بينهم طبيعية ودايما الأم ليها التأثير الأكبر في حياة ابنها وبتمثله الأمان وصورة نقية عن الحب.. أنا قولتلك كمان احكيلي عن باباك اللي اتوفى ومظنش هو اللي باعتني!!" هزت رأسها في إنكار وهي تنظر إليه
"أنا عمري ما هاروح احكي حاجة لمامتك وهبة لأن أسرار أي حد بيتابع معايا ربنا هيحاسبني عليها، الأمانة في إن حد يحكيلي عن أسراره وحياته وتجاربة عمري ما هخونها.. وبعدين أظن أنا بتعامل مع راجل عاقل وكبير مش بيبي صغير!! ممكن تحكيلي كل حاجة، واقولك روح لمامتك وانت ببساطة ترفض.. مش هاجبرك ولا هاخطفك مثلا ولا هتلاقيني جايباها وبنخبط على بيتك بنقولك دخلنا هنتكلم معاك.." تحدثت في نفاذ صبر ونبرتها آتت هادئة "ده أنا حتى قربت اتوه من كتر البيوت اللي معرفش عددها" تابعت في سخرية
"بص، خلاص، متحكليش عن مامتك، براحتك.. ابقى احكيلي عن زمايلك في المدرسة.. ودلوقتي سيبني علشان اروح اصلي وعلى ما اتوضى اعرف القبلة فين.. وخد شيل ده" أعطت له الفنجان وطبقه "أنا اللي عملت وأنت اللي تشيل" حدثته من على مسافة وهي تحاول استكشاف طريق الحمام ليتابعها بنظره وهو قارب على فقد عقله من تلك المرأة!
كلمات في غاية السهولة، تبدو في غاية الإستسلام والشفافية ولكنه لا يستطيع أن يثق بها، لا يود التحدث، بالطبع لن يفعل!!
"دايما الأم ليها التأثير الأكبر في حياة ابنها.. وبتمثله الأمان وصورة نقية عن الحب" "دايما بيبقى عايز يسمع صوتها ويشم ريحتها"
تردد صدى هاتان الجملتان في رأسه ليجد غضبه يزداد شيئا فشيئا وهو يحاول أن يكبح استمرارية ذلك الشعور البغيض الذي تولد بداخله ليجد نفسه يُلقي بما يُمسكه أرضا ليتهشم الفنجان وتعالت أنفاسه في مزيد من الغضب وتوجه للخارج وهو يحاول أن يستعيد سيطرته على نفسه ويحاول كذلك إدراك ماهية ذلك الشعور بداخله!! لم يشعر به منذ كثير من الوقت!! إنه الآلم!!
"ماما.. هو ليه بابا مش بيحبنا؟"
"لا يا حبيبي طبعا بابا بيحبك وبيحبني"
"طيب ليه مش بيقعد معانا كتير ولا بيجبلنا الحاجات اللي عايزنها؟"
"علشان بابا يا حبيبي بيعمل شغل كبير اوي ويوم ما يكبر احنا كمان هنكبر معاه وهيقعد معانا كتير وهيجبلك كل حاجة نفسك فيها" أخبرته ليعانقها هو بكلتا ذراعيه الصغيرتان ودفن رأسه بصدرها لتبادله في حنان
"بس أنا عايزه معانا، مش عايز شغل كبير"
"شهاب" التفت إليها بعد أن أفاقته من تذكره لأمه ولاحظت القليل من قطرات العرق على جبينه وملامحه غاضبة للغاية لتبتلع في قلق كما رمقت الفنجان الذي تهشم أرضا "هي القِبلة منين؟" توجه نحوها وتعالى غضبه منها ثم زم شفتاه وأمسك بمعصمها بقوة حتى شعرت بالآلم وهي للمرة الثانية منذ أمس تلاحظ قوته الغريبة التي لم يكن عليها بالسابق
"أنتي عايزة مني إيه؟ ها؟ عايزة إيه؟" سألها بين أسنانه المطبقة لتتوسع عيناها وهي تنظر له في استغراب
"القِبلة علشان أصلي.. وبعدين اديك مسكتني ونقضت الـ.."
"بت انتي أنا مش عايز استهبال!! انتي اخرتك إيه بالظبط؟" قاطعها لتنظر له محذرة ولكنها ارتابت بالأمر، هل كلماتها ايقظت شيئا بداخله؟!
"انا مش عايزة حاجة، أنت اللي عايزني هنا علشان اثبتلك إن عندك مشكلة.. سيب ايدي يا شهاب وتتكلم معايا بإحترام زي ما بكلمك بمنتهى الإحترام، مينفعش نتعامل مع بعض بالأسلوب ده!" أخبرته بنبرة في منتهى الجرأة ليقترب منها بأنفاس متسارعة شعرت بإنعكاسها على وجهه
"انتي تعرفي إيه بالظبط؟ آمال قالتلك إيه؟!"
"لو مامتك قالتلي حاجة يمكن كنت قولتهالك وأنا بقولك تشخيصك!! بس أنا معرفش عنك حاجة!! ولتاني مرة بقولك سيب ايدي" زجرته بنظرات عبرت عن قوتها وعدم خوفها منه بالرغم أنها لن تُنكر هو يبدو مرعبا بتلك الداكنتين التي تنظر إليها ليزداد هو تنفسه ثم زم شفتاه وشعرت هي بحيرته التي تظهر عليه
"قولتلك سيب ايدي ومتخلنيش أتصرف معاك تصرف تاني!" كررت كلماتها وملامحها المُحذرة لم تختلتف لتجد معصمها يُعتصر بين قبضته وهو ينظر لها كمن فقد القدرة على الكلام، هل يود الإدلاء بشيء؟ ملامحه تمتزج بشيء سوى الغضب!! ترى ذلك.. أهو متألم من ذكرى قد ذكرته بها بسبب كلماتها إليه؟! فلتلتزم الصمت ولتتريث قليلا عله يتحدث، لو فقط تحدثت الآن بأي شيء قد يعود ليرتاب بأمرها .. ولكن يده اللعينة تلك تؤلمها بشكل مبالغ به لا تدري إلي متى ستتحملها!
"كنت بحبها علشان عيل اهبل ومش فاهم وكنت متعلق بيها وهي سابتني! ارتاحتي؟ عرفتي كده؟" لانت ملامحه واختفى الغضب وحل محله التألم الواضح وكذلك لانت قبضته ليتركها بالنهاية "ده يثبتلك إني مريض؟ ده يقنع أي حد عاقل إن عندي مشكلة؟ إني سيكوباتي زي ما بتقولي" تحدث ثم ولاها ظهره كمن يريد الإختفاء عن أنظار الجميع فتبعته ولكنها تركت له مساحة ولم تواجهه
"الحب بيخليك قوي يا شهاب مش أهبل.. أنا مبسوطة إنك قولتلي وعارفة إن الموضوع صعب عليك.. هاسيبك شوية وهاروح اصلي ولما تحس إنك عايز تكمل كلام قولي.. بس ممكن موبايلك أعرف منه القِبلة؟" التفت لينظر إليها بإستغراب وكاد أن يصفعها لا يدري لماذا وشعر بمزيدا من الإنزعاج نحوها ولكن ملامحها الهادئة أجبرته على الهدوء شيئا فشيء.. أتريد هاتفه، فلتذهب لأي لعنة بعيدا عنه الآن!
"خلاص.. أنا هاروح اسأل أي حد من الحراس .. أكيد يعرفوا" أخبرته ثم التفتت لتغادره وتركته في تشتت رهيب!!
يشعر وكأن هناك دوامة برأسه، دوامة من ذكريات شتى لا تعد ولا تحصى، دوامة من إرتيابه بأمر تلك اللعينة الساذجة، دوامة أخرى تعصف بكيانه وتزلزله كلما رآها ورآى ملامحها ونظر إليها، تحدثه بهدوء شديد، أحيانا يجد نفسه هائما بها، ما تلك اللعنة التي تفعلها به.. يبدو أنه مريض حقا وفي حالة إعياء بسبب كل ما يحدث له!!
ماذا سيحدث إن أخبرها.. سيعطي لها بعضا من المعلومات.. او لربما سيخبرها بكل شيء وفي النهاية يقتلها، ماذا لو أخبرت أحد؟ لماذا عقله يتوقف عن التفكير الآن؟ لماذا لا يجد حلا مع تلك المرأة ولماذا لا يعرف ما يفعله معها؟
لقد كانت أمامه، شبه عارية، نائمة، لماذا لم ينتهي من أمرها؟ شعر وكأنما شعره قارب على الخروج بيده من كثرة تخليله إليه ومن كثرة ذلك الشعور الذي لا يفهمه، ما حيلتها؟ بأي حيلة تخدعه؟ طبيبة ماذا التي تظن نفسها التي تستطيع أن تخرج منه تلك الكلمات؟ كيف أقر لها بذلك؟ وكلماتها اللعينة لماذا تملك تأثيرا عليه.. يكفي تفكير بأمرها.. لا بل عليه أن يجد حلا نهائيا ليخرجها من حياته.. ولكن أيريدها فعلا خارج حياته؟ ماذا إن كان مجنون مثل ما أخبرته؟ هل الجنون مرض؟ أمريض هو؟ لا .. ليس بمجنون!!
تلاطمت الأفكار برأسه وظلت تتوالى كموج أهوج في أعتى عواصف الشتاء لتدمر ثنايا عقله وتنتزع مقدرته على التفكير الصائب حتى شعر بالشلل الفكري من كثرة تساؤلاته واستجوابه لنفسه ولأمر تلك المرأة على حد سواء.. شعر وكأن عقله يتحول لجماد متحجر من كثرة التفكير!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
لقد أصبحت الرابعة.. عله قد هدأ نسبيا.. ستذهب له مجددا حتى تحاول معه مرة أخرى.. ما الذي تغير حتى جعله بتلك العدوانية والغضب؟ بالتأكيد قد ذكرته بأمر ما.. ستحاول ولن تيأس..
توجهت لتبحث عنه كثيرا في ذلك المنزل العملاق، يبدو أنه يملك من الأموال الكثير للغاية ليمتلك منزلا بذلك الأثاث والتجهيزات الحديثة للغاية، لقد سأمت التواجد في مثل هذه المنازل التي تفتقر للدفء.. بالرغم من صراخ الثراء الفاحش بكل ركن ولكنها تشعر بالبرودة الشديدة كلما تمعنت في تفاصيلها!!
أُرهقت من البحث حتى وجدته أمام مسبح متوسط الحجم وتصميمه جعلها تتوقف لتتفقده كالمسحورة.. لا تدري أين حواف المسبح.. المياة تتساقط من حوله بشكل غريب وأين تذهب تلك المياة.. نظرت تتابع بعينيها ذلك الجدار الزجاجي الضخم الذي تستطيع رؤية البحر خلاله.. حقا المشهد بأكمله من هنا يأسر الأنفاس.. يجعلها تود أن تلقي بنفسها في هذا المسبح دون الخروج منه أبدا..
"شهاب" نادته في هدوء بينما وجدته ممدا لجسده على احدى المنامات الموجودة أمام المسبح ويبدو مسترخيا للغاية واضعا ساعده على جبينه ليرمقها بداكنتيه في إرهاق
"عايزة إيه؟" سألها لتجلس على منامة بجانبه ونظرت إليه
"تحب تتكلم معايا في إيه؟"
"مش عايز أتكلم.." اخبرها بإقتضاب للتتنهد هي في قلة حيلة ثم مددت جسدها هي الأخرى على المنامة البعيدة عنه قليلا ونظرت في استمتاع لذلك المنظر الخلاب
"أنا واثقة فيك.. واثقة كمان إنك كنت حد قوي اوي علشان يعدي فترة طفولة لواحده من غير أم جانبه.. أنا أعرف إن هي وباباك انفصلوا وانت صغير بس مش عارفة امتى ومحدش حكالي!.. بس إنك تكون دلوقتي راجل واصل للنجاح ده كله أكيد كنت قوي جدا.. وشاطر وذكي.. أنا فعلا عايزة أعرفك يا شهاب" همست إليه دون أن تلتفت له لتشعر بنظراته عليها بل شعرت به ينهض كذلك وهو يجلس بدلا من تمديده لجسده
"ولما تعرفيني؟"
"هساعدك.. وصدقني هانكون اصحاب.. والتجربة خير دليل يا بشمهندس" أخبرته في لين دون أن تنظر إليه ليتفقدها بنظرات عبرت عن خوفه ولكنه في لحظة من تملك الإستسلام منه والإرهاق وجد نفسه يتحدث
"أنا حياتي كلها وأنا صغير لغاية ما بقى عندي تمن سنين مكنش فيها غيرها.. وبين يوم وليلة اتطلقت من والدي علشان كانت عايزة تتجوز راجل تاني.. جيت البيت وملقيتهاش.. بس بعد كده عرفت إنهم اتخانقوا خناقة وصلت لكل الناس تقريبا.. وعرفت إنها كانت على علاقة بواحد تاني غير والدي.. أنا مش ضعيف، بس مبحبش افتكر قد ايه كانت خاينة ومقرفة وقذرة بالمنظر ده!"
"شكرا إنك بتحكيلي.. أنا عارفة الموضوع صعب.. بس ممكن أسألك لو فاكر اليوم ده ممكن تحكيهولي بالتفصيل؟" سألته وهي لم تلتفت إليه بعد
"مش فاكره كله.. نزلت، روحت المدرسة، كانوا بيتخانقوا كالعادة.. رجعت عرفت إنهم اتطلقوا" أخبرها بإقتضاب
"كالعادة؟ همّ الخناقات بينهم كانت كتير؟" سألته لتسمعه يهمهم إليها بالموافقة "كانوا بيتخانقوا على إيه؟" التفتت لتنظر إليه ليزفر هو زفرة مطولة وتبادل معها النظرات وقد وجدت ملامحه مسالمة
"الفلوس! دايما خناقتهم كانت على الفلوس!" همس بإمتعاض وتقزز
"وأنت كنت بتعمل إيه لما بيتخانقوا؟ بتعيط؟ بتسمع وبس؟ ولا مثلا بترسم أو بتكتب حاجة أو بتكسر حاجة في البيت؟"
"كنت بسمع.. مكنتش بحب خناقتهم! بس هي.." نطق بصعوبة بينما صبرت هي حتى يتحدث من تلقاء نفسه "هي كانت، كانت.. بتحاول تهون عليا دايما بعدها" نبرته كانت هامسة ويبدو أن كلماته المتألمة قد ذكرته بمواقف شتى "أو كانت بتمثل بقى.. معرفش" عادت نبرته الجلية الواثقة مرة أخرى بالرغم من أنه يدعي أنه لا يعلم..
"وكان إيه مشكلة الفلوس بالظبط؟" سألته بينما رمقته في اهتمام
"والدي كان دايما عايز يعمل مشروع، شركة مباني.. وكان بيخلي كل الفلوس على جنب وهي مستحملتهوش، بكل بساطة راحت خانته وهو عرف!" مزيدا من الإمتعاض والآلم ظهر عليه ولكنها لمست شيئا، هو يريد التحدث عن أمر والدته.. لقد تحدثت عن الأموال بينما هو آتى على ذكر والدته مرة أخرى، هو منفتح الآن ليدلي بالمزيد من المواقف التي تريد الغوص بها
"فاكر صوتهم، أو كلامهم يومها؟" همست في استفسار لتزداد عقدة حاجباه وطال الصمت ولم يتسلله سوى خرير الماء الذي ينساب من على حواف المسبح ثم بدأت ملامحه تتخذ شكلا غريبا، هل هو غضب أم مزيد من آلام تأثير تلك الذكرى عليه.. لماذا يُجالسها ويقص لها طفولته؟ أفقد عقله؟ أظنت أنه يثق بها؟ لا وألف لا!!
نهض ليرمقها في استغراب شديد وابتلع بملامح ظهر عليها على الغضب وصفعته مشاعر غريبة عليه لم يشعر بها من قبل وبادلته هي الأنظار في هدوء وملامح تلقائية
"الساعة ستة بالدقيقة تكوني جاهزة.. فيه هدوم تانية في الأوضة اللي اول ما تطلعي من السلم على اليمين!" لمحها بنظرة أخيرة دلت على التعجب ثم تركها خلفه وغادرها لتزفر هي في إرهاق وهي لا تدري متى ستتغلب على جبروته الداخلي بعدم حاجته للتحدث!
إذن إذا كانت والدته هي من تهون عليه الأمر، وإذا كان صادقا فيما يخص الأصدقاء، وكان متعلقا بها ويُحبها، أيُمكن أن يكون نمى معه الإكتفاء الذاتي بعدم البوح والتحدث؟! لا هذا في منتهى المنطق إذا كان صادقا بكثرة تفكيره بالأمور وعدم نومه.. شهاب لا يتحدث لأحد! لا يبوح ولا يتخذ شخصا سوى نفسه كي يتحدث معه!!
يا لها من لعنة لم تحسب لها!! كيف ستتغلب عليها؟! ها هي تعود لنقطة الصفر من جديد!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
لا تدري إلي أين ذهب ولم تكترث حقا سوى بتفكيرها بطريقة جديدة حتى تستطيع أن تحصل على المزيد من ثقته وحضه على التفكير وكذلك الإنفتاح في الحديث إليها!
ذهبت لتلك الغرفة التي أخبرها عنها سابقا وتفقدت محتويات الغرفة لتجد دولابا للملابس ففتحته لتتنهد في راحة، وأخيرا بعض الملابس التي تليق بها.. جيد.. ينصاع إليها في أمر، هو ليس انصياع.. بل تقبل، تقبل لما هي عليه.. نقطة لصالحها بتلك اللعبة!
ركزت قليلا وتذكرت كلماته عن العمل، ولكن هما بتلك المدينة، سيروجان للمشفى.. إذن.. ملابس ليست برسمية.. تمنت بداخلها ألا تكون مخطئة.. اختارت بنطالا من الجينز وكنزة ملونة طويلة نوعا ما تخفي منحنياتها ثم أوصدت الدولاب..
أستعدت باكرا ثم رمقت الساعة لتجدها عبرت الخامسة بقليل وعقلها غاب تماما في التفكير بأمر شهاب وحثه وتشجيعه على الكلام والبوح لها بالمزيد من طفولته.. نسجت العديد من السيناريوهات برأسها وعقلها وهي تتوقع ردود أفعاله!! لا يجب أن تدخل حياتها أكثر من هذا بعلاجه.. ولكن ربما هو الحل الوحيد أمامها.. فلقد أُرهقت حقا من كثرة التخمينات والبحث عن حلول!!
لن تستطيع استخدام أسلوب الضغط معه، فذلك الرجل المخيف المتبجح بمنتهى الوقاحة التي أحضرها بها إليه قد يفعل المزيد، وهي تريد حل الأمر وكسب ثقته!! لا تريد أن تسوء العلاقة بينهما أكثر من هذا..
فكرت ببعض الأمور ثم قررت بم ستواجهه.. علها تنجح هذه المرة!! ربما ستفعل.. لن تستسلم ولن تيأس من أول يوم معه.. لابد وأن تنهي الليلة بنجاح بأي طريقة ممكنة!!
ذهبت لتتوضأ ثم قامت بالشروع في صلاة ركعتان، شعرت بالحاجة لذلك.. ذلك التوتر والخوف لا ينهيه سوى مناجاة ربها.. ضعفها الذي تشعر به من حين للآخر لا يُذهبه سوى دعوات وتمتمة هامسة لربها، تلقي إليه كل ما بجعبتها ثم تعتريها ثقة وقوة غريبة لا تدري كيف ولكنها تنجح كل مرة!! الثقة بالله وطلب العون منه لا تردها خائبة أبدا..
انتهت وجلست في خشوع شديد على الأرض بعدما فرغت من الصلاة وهي تتناول شهيقا مطولا وتطلقه في هدوء موصدة لعينتيها في لحظة من سكون وهدوء شديد ولم يفقها سوى ذلك الباب الذي اندفع بعنف لتجد شهاب أمامها بملامح غاضبة فنظرت إليه في هدوء شديد وكأنما تخبره بعينتيها ماذا هناك!
وقف للحظة يبتلع وهو يتفقد مظهرها ولا يستطيع إنكار أنه شعر بقليل من التوتر ولكن لا يدري لماذا! سيطر على مشاعره الجديدة التي لم يواجه مثلها من قبل لينظر إليها بملامح مبهمة.. وتفقدته هي لتراه مرتديا لسروال قصير وقميصا غير رسمي لم يغلق زراه الأخيران وحذاء كذلك غير رسمي ليشابه عارضي الأزياء على غلافات المجلات
"يالا.." أخبرها بحدة لا تعلم ما خلفها وما سببها لترمق الساعة لتجد أن هناك عشر دقائق لا تزال متبقية
"طيب ممكن استأذنك في حاجة؟" يعاملها بغضب وتقابله بهدوء واحترام!! لا تترك له حتى الفرصة بأن يرفض لها شيئا!! عله يشعر ويدرك ذلك، همهم لها في إنزعاج "لسه ناقص عشر دقايق.. هاصلي المغرب وننزل سوا على طول، ممكن؟" حدثته ليلتفت بملامح غاضبة أكثر ثم صفع الباب خلفه مرة أخرى بشدة مثل السابق فلم تكترث هي لإختلاله الواضح وشرعت في الصلاة..
انتهت ثم توجهت بسرعة للخارج حتى تكون على الموعد فليس خطأها أنه اختار الساعة، هو من كان مبكرا وليست هي.. دلفت السيارة بجانبه وبرأسها لا تزال مصممة على ما فكرت به، تريد أن تدفعه للحديث أكثر عن ماضيه وعن ذكرياته وكانت تظن أنها ستستغل الطريق بالتحدث إليه ولكن تحدثه الذي لم ينتهي على الهاتف بأمور تخص عمله ومتابعة مشروعات شتى طوال تلك الساعة أفقدها تركيزها نوعا ما..
انتهت الساعة ولم تستطع استغلالها لتجد نفسها تتوقف أمام فندق عملاق، هي تعرف هذا الفندق.. الوحيد المتواجد بمدينة العالمين!! ولكنها فوجئت بتغطية إعلامية كما لمحت وجوها مألوفة علمت أنهم مشاهير يُسلط عليهم الضوء..
هي لم تتواجد من قبل في تلك الأجواء ولكنها تصرفت بتلقائية، وقليل من التوتر لن تنكر لمواجهة هذا لأول مرة بحياتها وبمجرد وجود شهاب بجانبها أختلف الأمر كثيرا..
في لمح البصر تحول من رجل الأعمال المشغول المتجهم الملامح، رجل المافيا الذي هددها، الرجل الوقح الذي لا يكترث إن ظهر عاريا أمامها لرجل آخر جذاب، دمث الخلق، ابتسامته مليئة بالسحر وكذلك الوقار، حتى عينتيه الداكنتين لمعتا بشكل غريب تحت أضواء اجهزة التصوير..
للحظة شعرت أنها لم تعرفه من قبل، كيف لهذا الرجل الجذاب أن يفعل أفعلته الشنيعة؟ انعقد لسانها وهي تتابعه في إنبهار تام وكأنها تتعرف عليه من جديد.. لاحظت نظرات النساء إليه.. أما تلك الحوارات التي صرح بها للصحافة فلا تخرج سوى من رجل كرس حياته بأكملها للمشاريع الخيرية ومساعدة الناس وكأنما هذا هو شغفه منذ نعومة أظافره.. كلمات في منتهى الإقناع، ابتسامات عدة توزع عليه من كل من يسأله سؤالا.. يا له من سيكوباتي لعين!! ويا له من خطر ينتظرها!
فاقت من نظراتها المُسلطة عليه دون الجميع عندما توجه إليها احد الصحافيين بسؤال عن فكرة هذا المشروع الخيري ولم يكن منها سوى أنه عمل خيري وأسبابه تود الإحتفاظ بها لنفسها لأنه أمر شخصي للغاية..
اجابت بدبلوماسية ولباقة شديدتان ثم توجها لداخل الفندق لترى عالما جديدا لم تره من قبل، عالما من وجوه مُزيفة، مساحيق تجميل، أثواب قصيرة، رجال يحتسون الخمر، نساء تصدح ضحكاتها بشكل مقزز، بالرغم من الوجوه المعروفة والشهيرة ولكنه مجتمعا غريب لم تطق التواجد بينهم ولو لدقائق..
كانت الأمسية عبارة عن قاعة، مقبلات، طاولات صغيرة مرتفعة يتجمع حولها الناس، شهاب يتحدث إلي البعض بضحكات جذابة مخادعة، صوت تلك الموسيقي صاخب للغاية.. أعليها أن تتحمل المزيد من ذلك؟ أهذا ما يُسمى بمؤتمر أو بأي لعنة.. هذه حفلة سخيفة يجتمع بها رِكاك القوم، يسحرون أعين الناس بحفنة أخبار تافهة، ويتبنون مشاريع ويروجون لأي لعنة تكسب من تعاطف الناس.. بينما وجوههم الحقيقية لا تناسب أبدا ما يروجون إليه..
شعرت بالمزيد من الغرابة، شعرت بالكره الشديد لعدم تحملها التواجد هنا، كما شعرت بالتعجب تجاه نفسها، هي لا تحكم على أحد أبدا دون أن تعرفه، ولكن تلك المناظر تثير تقززها بطريقة لا تُحتمل..
اختلت بنفسها بعيدا تحاول التوجه للحمام، علّ الأمر يكون أهون وتبتعد عن تلك الموسيقي والجو الغريب الذي لم تشعر بالألفة به وأخذت تتنفس في محاولة للهدوء ثم وجدت احدى العاملين بالفندق مما بدا عليهم الكد الشديد لتخرج حفنة أموال واقتربت من العامل لتستأذنه في الهاتف مُدعية أنها نست هاتفها..
"الو!" اجابت هبة بنبرة رسمية
"أنا فيروز يا هـ.."
"انتي بتستهبلي!! بتستهبلي صح؟ اديني سبب واحد يفسرلي اللي بتعمليه! شهاب إيه الزفت اللي رايحة تسافري معاه علشـ.."
"هبة ارجوكي أنا على اخري ومستلفة موبايل اكلمك منه واكيد لاحظتي إن الرقم غريب.." قاطعتها وهي تزفر في ضيق "شهاب بيستجيب يا هبة أخيرا.. ده اللي هاقدر اقولهولك.. ادعيلي اليومين الجايين يعدوا على خير، وأنا كويسة وبطمنك مش أكتر"
"ايه اللي بيستجيب وانتي كويسة! فين موبايلك وليه مش بتكلميني؟ وتاني شهاب! مش قولتي إن خلاص مش هاتعرفيه تاني؟" صاحت بإنزعاج زاجرة
"مش وقته الكلام ده هفهمك بعدين، لما أعرف اكلمك تاني هقولك.. ادعيلي بس.. أنا مضطرة أقفل دلوقتي! سلام" أنهت المكالمة بعدما حاولت في صعوبة شديدة أن تخفي حزنها خلف نبرة تلقائية بينما هي شعرت بمشاعر غريبة وتشوش هائل بعقلها..
ناولت العامل الهاتف بإمتنان ولكن ملامحها الحزينة كانت أكثر مما ظنت أنها تخفيه، عقلها لا يتوقف عن التذكر والتفكير في كل شيء، منذ موافقتها بدر الدين على التوغل بحياة شهاب إلي حواراته مع الصحفيين بقليل.. وكأن كلمة واحدة من هبة أعادتها لأرض الواقع..
تمر علينا الكثير من لحظات الإنهيار، أوقات عصيبة، وجراح تُشكلنا لنبدو بمظهر غير الذي ألفناه، نفعل أشياء عديدة، نكتئب، نصرخ ونبكي، نتحول لجسده بلا روح، نتحول من كائن حي إلي جماد.. ونهرب.. نهرب إلي شيء جديد لم نختبره من قبل ولم نعرفه أبدا.. أو نهرب إلي شخص!!
أدركت وقتها بعد تفكير استمر لدقائق أنها تحتاجه، تريده أن يكون جزءا من حياتها، بداخلها رغبة في مصادقته بالفعل.. الآن تدرك أنها ودت الهروب، أرادت ألا ترى ملامح التألم على وجه أفراد أسرتها، أرادت أن تتظاهر أنها بخير أمام هبة وكل من يعرفها، أرادت فردا جديدا بداخل حياتها حتى يسمعها، ينصت إليها، شخص لا يعرف عنها أي شيء، تود مشاركته كل ذكرياتها وتختبر حياة جديدة معه.. كأصدقاء، أرادت علاقة نقية.. لا يشوبها آلام الماضي بكل ما فيه!
ولكن علاقة نقية مع سيكوباتي؟ أهذا ما هدتها نفسها إليه؟ أظنت أنها في تلك المرحلة التي تعاني فيها من اضطرابات لن تتأثر به؟ أظنت أن معالجة شخص بحيلة تافهة والإقتراب منه لن يؤثر عليها هي ولا على تفكيرها ومشاعرها بل وحالتها؟
لا تريد أوجه كل من يعرفها وهو يخبرها أأنتِ بخير؟ كيف حالك؟ ألا تحتاجين شيئا؟ سئمت تلك الأسئلة وسئمت الشفقة السخيفة والإبتسامات الحزينة بأوجه كل من عرفها يوما.. أرادت من يتقبلها من جديد ويعرفها من جديد.. هي تهرب!! تهرب ومستمرة في ذلك الهروب!
فشلت، فشل ذريع!! ألهذا الحد قد وصل إكتئابها ومعاناتها حتى تدفعها في الهروب من كل من تعرفهم ولم تجد سوى شخصا مريض لتطلب منه المساعدة؟! شخصا من المفترض أنها من ستقدم له المساعدة وليس العكس؟!
"مالك.." لا تدري أين هي ولا كيف ساقتها قدماها إلي هنا وفاقت على صوته العميق ذو النبرة الجلية
"مفيش" همست إليه لترى ملامحه التي يتحكم بها ببراعة بمنتهى الدبلوماسية منذ أن وصلا
"علشان كده بتعيطي؟" سألها وداكنتيه يتفحصا عينيها لترفع أناملها لوجهها سريعا فوجدت أن دموعها أنهمرت دون إرادة منها
"معلش" حمحمت وهي تجفف دموعها "حاجة بس فكرتني بماهر، وشوية صداع، بقالي كتير مركبتش طيارة، منمتش.. أنا مش مركزة شوية!" همست وآتت نبرتها مهتزة لينظر هو لها في ترقب وأدرك بسهولة أنها كاذبة!
"طيب يالا نمشي!" أخبرها لتومأ له بينما ذهب هو لتتبعه وما مر الكثير حتى آتى لهما السائق على باب هذا الفندق ودلفت بسرعة السيارة وكأنما تريد الإختفاء بعيدا عن كل هذا، بعيدا عن كل الناس، وخاصةً شهاب!! ولكن يبدو أنها مُجبرة على تحمل البقاء بصحبته!
طوال الطريق لا تُفكر في مدى غباءها! تريد الهرب من حزنها لمساعدة شخص آخر، وبدلا من ذلك تريده بدلا من هبة أو معاذ أو حتى هاشم واختها.. تريد شخصا لتتحدث إليه، ليساعدها مثل ما تساعده.. تريد صداقة جديدة.. شخص لا يعرف حياتها ولا يعرف فيروز القديمة، تريد من يتقبلها على حالها الآن ويساعدها في التخلص من ذلك الإكتئاب والوحدة الشديدة.. يكفي أن كل من حولها وكل من يعرفوها تمزقوا آلما لها بما فيه الكفاية! ألم تجد سواه؟!
ما الذي ذكرها بكل ذلك على كل حال؟ هل كانت كلمات هبة المقتضبة؟ أو ربما تواجدها بذلك الجو غير المألوف وابتعاده عنها وانشغاله بأمور أخرى.. لكن هي لا تنزعج أبدا عند إنشغاله بمكالمات العمل مثلا! ومرت العديد من الأيام دون أن تراه ولا تهاتفه.. ما الذي حدث اليوم إذن؟ لأنها رآت الوجه الآخر لسيكوباتيته دفعها ذلك على إعادة التفكير في الأمر من جديد لتجد نفسها تنغمس بعلاقة معه! أتتخذ من ذلك السيكوباتي صديق؟ بين هؤلاء المليارات من الناس أختارته هو.. يا لها من غبية!
تحاول التظاهر أنها بخير، تنظر خارج النافذة وكأنها تشاهد الطريق المظلم.. أتظن أنها خدعته؟ ما الذي حدث؟ يشعر من جديد بالإرتياب في أمرها.. ولكنه سينتظر إلي أن يصلا.. وقتها سيستخرج من تلك الشفتان الورديتان كل شيء!
لن يُنكر أن بداخل عقله يزداد تعجبه من مظهرها الحزين.. ولكن ما الذي حدث لها؟ هو لم يُغضبها.. بل بالعكس لقد استطاعت دفعه على الحديث.. أيشعر أنها الآن تستطيع معرفة كل شيء عنه؟ كيف كان بتلك السذاجة؟ يبدو أن سذاجتها مرضا لعينا انتقل إليه من كثرة رؤيته إليها!
مرت تلك الساعة بالسيارة عليها كمائة عام أو أكثر، قرن كامل من صمت، وكأنما شعرت بالإختناق لإدراك أن معاناتها هي من أفسدت الأمر تماما، تشعر أنها تريد الإبتعاد بأي طريقة الآن فهي ليست في حالة حتى للتحدث بهذا التشتت بداخلها! اختناق بكل ما حدث منذ أكثر من عام.. اختناق لم تنتهي منه منذ ذلك الخبر برحيل زوجها وإغمائها.. اختناق لم تستطع التنفس بعده منذ أن علمت بفقدانها لآخر من تبقى من زوجها، ابنها، تلك النطفة التي لم يمر عليها سوى شهر ونصف.. والدها الذي ينظر إليها نظرات متألمة، محاولات هبة لإخراجها من حالة الكآبة.. أختها التي تحاول بإستماتة أن تُشركها في كل أمور حياتها.. نظرات الجميع بالعمل.. نظرات الحزن والشفقة وتلك الكلمات التي تستمع لها خلف ظهرها.. مكالمات معاذ.. تشعر بالإختناق ولا تجد الهواء.. أين الهواء هي لا تستطيع التنفس!!
تركت السيارة بخطوات سريعة للداخل ثم خرجت في اتجاه البحر ليتبعها شهاب من على مسافة مقبولة وأخذ يدرس خطوته المقبلة معها، لن يذهب ليُبدي الإكتراث بالطبع، ولكنه يريد معرفة ما الذي حدث حتى تُصبح بهذه الطريقة الغريبة تماما عليها.. ألن تكف على دفعه لذلك التفكير اللعين؟!
تلك المرأة التي لا تخاف، الواثقة، بإبتسامتها وحديثها الذي لا يتوقف وإلحاحها عليه بأسئلتها ومواقفها الساذجة.. أين اختفت الآن؟ أين تلك المرأة التي تحثه على التحدث؟!! أين ذهبت؟! لماذا ابتعدت وتركته؟ فك أزرار قميصه وهو يتابعها بداكنتيه ليجدها جالسة على الرمال في عتمة الليل فتوجه لبار صغير بالمكتب ليسكب كأسا من النبيذ ثم تناوله وهو يذهب نحوها ووقف خلفها لينظر لجسدها النحيف وهي تضم ركبتيها لصدرها وشعرها يتطاير حول منها ثم جلس بالقرب منها ولم ينظر نحوها
"مالك؟" التفتت إليه لينظر لها بينما وجدها تبكي بشكل غريب!! هو رآها قبل ذلك بتلك الملامح، عندما تذكرت زوجها يوم أعطته أوراق الأرض.. ولكن ما الذي حدث حتى تبكي بتلك الطريقة؟!
نهضت وتركته وأخذت تبتعد وهي لا تعلم إلي أين تتجه ليزفر شهاب في ضيق، أهو من أجبرها على التواجد معه أم هي من تجبره أن يعرف ما بها؟ ما تلك اللعنة التي هو بها؟
تبعها بعد أن ترك كأسه وهو يراها تأخذ خطوات سريعة شابهت الهرولة من كثرة سرعتها ثم هرول قليلا حتى وصل إليها ليُمسكها من احدى ذراعيها ليجبرها على الإلتفات إليه لينظر إليها متعجبا من بكاءها ولكنه شعر بالغضب لا يدري لماذا، هل لتصرفها؟ أم لرؤيتها ليست بخير؟
"هو أنا مش بكلمك والمـ.."
"كفاية بقى.. كفاية أنت إيه؟" قاطعته ودموعها تنهمر وقد وصلت لمرحلة من الإنهيار التام وقد توقف عقلها عن العمل وقررت أن تترك لمكنونات صدرها الإنطلاق حتى ولو أمامه ولكن كل با تُخنق به كان لابد أن تنتهي منه بأي شكل من الأشكال!
"أنا مفيش حد في الدنيا حسسني بفشلي زيك، أنا، أنا اللي كان كل الناس بتحب تكلمني وتقعد معايا وبترتاحلي شككتني في نفسي.. ليه يا شهاب؟ ده أنا حتى قربتك مني.. حكيتلك على كل حاجة بتحصلي بمنتهى السهولة، كنت بفضفضلك وبحكيلك زعلي ووجعي ووثقت حتى في إنك تسمعني.." نظرت له بأعين صرخت بالحزن الشديد وأنفاس متعالية لينظر لها هو الآخر في تعجب وكأنه لأول مرة يراها بتلك الحالة.. عتاب خالص بين شخصين!
"أنا.. أنا كنت محتاجة صاحب يوقف جنبي ويخرجني من اللي أنا فيه، حد جديد في حياتي.. مش قادرة اتعب هبة واهلي تاني وكل اللي اعرفهم وانا بقالي اكتر من سنة وانا بحاول وبفشل، كنت فاكرة فعلا إننا ممكن نساعد بعض، كنا ابتدينا نكون كويسين وكنت بكون مبسوطة وأنا معاك.. بينتلك احتياجي ليك بمنتهى السهولة.. إنما أنت.. أنت خذلتني! أنت مش ممكن! مش طبيعي.. انت ليه شايفني وحشة؟ ليه فاكر إن فيه حد زاققني عليك زي ما بتقول؟ هتفضل لغاية امتى تواجهني بده؟ ليه مش مآمنلي؟ ولا أنت اصلا جبتني هنا ليه لو مش شايفني انفع اكون معالجة شاطرة؟" تضاربت كلماتها لترتخي قبضته على ذراعها شيئا فشيء وهو ينظر لها بملامح جديدة على كلاهما
"اهدي" نطق بها ليرتفعا حاجبيها بين بكاءها وهي تنظر له بدهشة
"اهدى!! اهدى إيه؟ أنا تعبت منك.. بتثق فيا وبعدين ترجع تهرب في الكلام، تجبني هنا وبعدين تقولي اقنعيني إني مريض وأنت مش عايز ده!! أنا إيه اللي يجبرني أساعد واحد كل شوية يطلع ندل معايا؟ من عصبية، لأنه يخدرني، وبعدين يهددني!! أنت عايز إيه يا شهاب؟ نفسي أعرف أنت عايز إيه؟!" نظر لها بملامح مبهمة وهو يحاول استيعاب حديثها بينما أشتد بكاءها ليحاول من جديد أن يوقفها عن البكاء
"طيب فيروز ممكن تـ.."
"انت مش متخيل بسببك إيه اللي بيحصلي ولا حتى بتخليني أفكر ازاي! أنت حسستني بفشلي بشكل مش منطقي.. خلتني أسأل نفسي للدرجادي أنا فشلت وخلاص حياتي كلها اتدمرت ومش هانجح معاك؟ كل احلامي في إني أساعد الناس اتدمرت علشان ماهر مات؟ ولا أنا شكلي بقى مريب ومبقاش حد بيثق فيا؟ شكلي للدرجادي بعاني لدرجة إن خلاص الكل بيبصلي وبيقول عليا مريضة؟ أنا عايزة اساعدك واساعد غيرك علشان ارجع كويسة، أنا عمري ما هاكون كويسة غير لما أرجع تاني لشغلي.. غير لما ارجع اقرب من الناس.. أنت ليه صعب اوي ومش عايز تساعدني، ليه؟! هو أنا قولت لمين حاجة عنك ولا عملتلك إيه وحش؟ حتى احتياجي ليك كإنسان أنت مش بتقدره، ولا بتحط حدود ولا عندك ذرة احترام!! أنا تعبت من كل ده ومبقتش قادرة استحمل، شوفلك صاحبة ولا دكتورة تانية.. أنا خلاص فاض بيا ولا قادرة أساعد حد ولا حتى قادرة أساعد غيري.. أنا منفعش حتى إني أكون إنسانة سوية"
قاطعته ثم هان عليها نفسها في خضم تلك التذبذبات من كثرة الأفكار وذلك الإختناق بداخلها والذكريات التي لا يتوقف وميضها عن الإشتعال برأسها لتصارع أنفاسها الباكية وشهقاتها المتوالية بينما هو لا يستطيع أن يتذكر سوي تعبيرها عن حاجتها إليه، أحقا هناك من يحتاجة بتلك الشفافية وتلك البراءة؟ علاقة صداقة؟ أهي حقا تبكي من أجله؟ أتكترث له بالفعل؟ أكل ذلك فقط لمحاولة أن تتقرب منه؟ إمرأة لا تبكي خوفا، ولا تبكي بسبب تهديد، تبكي فقط لفشلها بكسب ثقته؟ أتلك المرأة التي تستطيع عشق زوجها بمنتهى الإخلاص تكترث له هو أيضا؟
"فيروز انتي مش بتـ"
"أنا كنت محتاجة اللي يكون جانبي ويخرجني من ده.. محتاجة صاحب فعلا.. حد بعيد عن حياتي القديمة.. كل واحد حواليا مشغول بحياته وأنا مش عايزة اتعبهم اكتر من كده.. كلهم تعبوا بما فيه الكفاية لغاية إني بقيت أشوف حياتهم حزينة بسببي.. محتاجة متسابش لواحدي ومحتجاك تحكيلي! محتاجة تخليني أساعدك ونتكلم ونكون جنب بعض!! ليه الرفض ده كله وليه كل اللي بتعمله ده؟ شوفت مني إيه وحش علشان أوصل لأني متهددة من واحد ومخطوفة بالمنظر ده"
المزيد من تلك الدموع وتلك التصريحات ولأول مرة هناك من يفرق معه شهاب، شهاب نفسه، ليست أمواله ولا إنتقامه ولا ليلة جامحة.. ألهذه الدرجة يفرق معها حياته؟ أتهتم لتلك الدرجة الرهيبة التي تظهر على ملامحها؟ أهذا الصدق الذي يراه بعنتيها يتوقف بأكمله على حديثه واقترابه منها كأصدقاء مثل ما تريد؟
"طيب بطلي عياط علشان نتكلم" نطق بصعوبة عليه وهو لأول مرة يتحدث لإمرأة بهذا الشكل بينما لم تتوقف هي وبكاءها ازداد
"أنا خلاص.. مش مكلمة في الموضوع ده.. أنا عايزة امشي.. مبقتش قادرة كل شوية أكون خايفة إنك هتعمل إيه لما نتكلم ولا هتتعصب ولا أيا كان ولا ممكن تقلعني هدومي ولا تقلع قدامي.. يا ريتني ما جاتلي فكرة مشاريع ولا زفت.. أنت خلاص بقيت مثال لفشلي.. مثال إني عندي مشكلة كبيرة ومحتاجة دكتور!! أنا فشلت بسببك يا شهاب، أكتر حاجة بكررها في الدنيا هي الفشل، وكل ما أشوفك تحسسني بيه.. أنا مبـ.."
احتضنها لينتشلها من حالة الإنهيار تلك ولم يدري لماذا فعل ذلك بالرغم من توقعه لتلقي لكمة في أي وقت الآن بوجهه ولكن تبدو أن هذه الطريقة الوحيدة التي ستستجيب لها فهو يعلم جيدا أنها لا تحبذ إقترابه منها ولا تسمح له بذلك
"ابعد عني" همست بين شهقاتها وهي تشعر بدفء صدره العاري بين قميصه ولكنها شعرت بالخجل والغضب من استمراره بفعل كل ما لا يليق "بقولك ابعد" صاحت في تهديد بينما حاوطها جيدا إلي أن يشعر بعدم بكاءها وبدأ خوفها يزداد فالآن كل مرة يقترب منها بها تُصبح قوته شديدة بشكل لم تجده منه في السابق
"خللي عندك دم وابعد بقى" صرخت ليبتعد هو بينما تفقد وجهها بصعوبة في تلك الظلمة حتى يتأكد أنها كفت عن البكاء بعد صراخها الذي دل على غضبها وليس حالة البكاء تلك
"ده الحل الوحيد إنك تبطلي عياط.. مكنتيش هتفوقي غير كده.." رمقته بتقزز واحتقار ثم كادت أن تغادره ليوقفها متحدثا
"انتي مش فاشلة يا فيروز، انتي شاطرة جدا.. انا عمري ما كان ليا حد احكيله، ولا اعرف يعني ايه صاحب أو صاحبة!! المشكلة فيا أنا، شكاك، مبتكلمش، ومبثقش في حد.. أنا اللي فاشل في العلاقات!" كانت كلمات صعبة للغاية عليه ولكن ملامحها وكلماتها منذ قليل دفعاه للإستسلام
"أنا اتعلمت من زمان إن مفيش حد يسمعني، وصعب عليا إني اتكلم مع حد.. انتي الوحيدة اللي كلمتها.. الوحيدة اللي سمحتلها بحاجات مسمحتش بيها لحد تاني.. وتقريبا الوحيدة اللي بتخليني في دوامة افكار مش عارف أخرج منها.. أنا بكون مبسوط وأنا معاكي بس مش بعرف أعبر عن ده.. يمكن كدبت عليكي كتير بس فيه حقايق كتيرة اوي بحاول أنكرها لغاية دلوقتي زي إني محتاجلك كصاحبة، محتاج اهتمامك ومحتاج مساعدتك زي ما انتي محتجالي، ويمكن اكتر، بنكر كل اللي بتواجهيني بيه ودماغي بتفضل تودي وتجيب، بس أنا خلاص مبقتش قادر على التفكير ده.. أنا اللي فاشل في علاقاتي بالناس مش انتي اللي فاشلة! فاشل إني أقرب من حد الفشل مش منك انتي! وكل يوم بيعدي من ساعة ما قولتيلي حقيقة مرضي وأنا بحاول انكر كل إثبات بتثبتيه على إني فعلا مريض!"
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .