-->

الفصل التاسع - شهاب قاتم


 




الفصل التاسع


"اتفضلي" ابتسم إليها تلك الإبتسامة التي حاول بكل ما أوتي من سيطرة على أعصابه وبكل طرقه الملتوية أن تبدو حقيقية لتومأ له فيروز بوقار ثم دلفت خطوتان داخل منزله لتنظر بالأرضية بتركيز ثم أكملت حديثها بالهاتف

"والله اللي يشوفوه بقى، بس أنا مش حابة فكرة مكان بره، نخليه في البيت الأول وبعد كده ممكن ساعة الخطوبة نعلمها في المكان اللي يختاروه" شعرت بنظام حراسة من نوعاً ما يُصدر تكتكة ثم صوتاً تبعه في الباب نفسه

"بت انتي كويسة؟" سألتها هبة من الطرف الآخر من المكالمة 

"آه جداً أنا موافقة على الإقتراح ده" شعر بالإنزعاج لعدم إكتراثها به ليقف أمامها يتفقدها وهي تنظر بالأرض في تركيز وأخذ يتطلعها لينزعج أكثر من تلك الملابس الواسعة التي ترتديها فهي تحول بينه وبين اكتشاف المزيد منها..

"طب تقصدي يعني انتي عنده دلوقتي ومش عارفة تقوليلي؟" 

"أيوة أيوة، بالظبط كده" 

"طيب انتي فيه حاجة مضايقاكي أكلم الراجل اللي اسمه بدر الدين؟" 

"لا خلاص بقى سيبيهم براحتهم ويختاروا اللي همّ يحبوه.." أخبرتها بينما حمحم شهاب في هدوء "يالا هاكلمك تاني.. سلام" 

أنهت المكالمة بينما رفعت رأسها لتنظر إليه ليقابلها بداكنتيه اللامعتين وابتسم لها إبتسامة مخادعة أدركت عن طريقها مراوغته وكذبه ولكنها لن تدعه اليوم إلا بتحول شامل في علاقتهما.. إما أن تكسب ثقته بالكامل وإمّا أن تنهي هذا الأمر الذي أصبح سخيفاً للغاية..

"اتفضلي" أشار لها بيده يميناً نحو أريكة ضخمة عصرية للغاية لتسير نحوها وعملت أن تسير بجانبه فهي لا تحبذ حملقة الرجال إلي جسدها أبداً بطريقة لا تليق..

"معلش كنت بكلم هبة علشان ترتيبات قراية الفاتحة وكده"

"ولا يهمك" 

جلست ليجلس هو الآخر على مسافة مقبولة منها لتستكشف المكان بأكمله بنظرة سريعة لم تطل بها.. رخام أبيض لم تره بحياتها من قبل، كل شيء أبيض، لامع، نظيف، مُرتب، أين كل شيء على كل حال؟!

لا يوجد سوى تلك الأريكة العملاقة احتلت الركن الأيمن من المنزل أو ربما هي صالة الإستقبال ليس إلا وأمامها منضدة عصرية، بضع إطارات خشبية تحمل صور أو رسومات لفن تشكيلي من نوع ما، أضواء كثيرة لا تدري من أين تأتي، على يمينها ويسارها ستارتان من لون غريب لم تتعرف عليه، ليس بأبيض ولا ببني، هذه هي المرة الأولي التي ترى بها مثل ذلك اللون..

ويسار باب المنزل هناك طاولة مرتفعة خشبية ولكن بمنتهى العصرية التي تتشابه مع بقية التصميم، وكذلك أمامها مباشرة حيث تجلس الآن، على بعد سحيق مطبخ لا يفصله عن تلك الردهة الشاسعة سوى ثلاث درجات للأسفل، ولم تستطع تبين سوى فخامته، عصريته المبالغ بها، ولمعان تلك الجزيرة التي تتوسطه كاد أن يُزعج عيناها فخفضت بصرها قليلاً لتحاول تجاهله..

فقط بنظرة سريعة تبينت كل ذلك، ماذا لو أطالت النظر؟!

"تحبي تشربي إيه؟" سألها لتنظر له 

"أنا مش جاية علشان أشرب، ممكن توريني التصميم لو سمحت؟!" توجهت لعينيه مباشرة بجدية 

"لا ازاي مينفعش.. لازم تشربي حاجة" ابتسم لها مجدداً وقد كرهت ذلك التملق بعينيه 

"ماشي، مياة" اجابته بتنهيدة ليذهب هو وأحضر لها زجاجة من المياة ولم تتبعه حتى ببصرها ليضع الزجاجة أمامها ثم جلس ممداً ذراعه على ظهر الأريكة

"كان مالك بقى النهاردة؟ كنتي متعصبة اوي كده ليه؟" رفعت حاجبيها في تعجب ثم ابتسمت برسمية وتناولت نفساً عميقاً لتتلاقى أعينهما لبرهة دون حديث ولكن فيروز قررت أنها ستستغل كل الأمور لصالحها اليوم 

"عايز تعرف ليه يا شهاب؟" سألته بملامح تلقائية لم يظهر عليها أية تعابير مما أزعجه ولم يعرف بم يجيب 

"عادي يعني" هز كتفاه بعفوية 

"أنا تمام متشغلش بالك بيا.. ممكن توريني التصميم؟" عادت مجدداً لموضوعها الرئيسي ليومأ هو لها 

"اتفضلي" نهض لتتبعه وهو يسير مسافة نوعاً ما ليست بالقصيرة من رواق بتلك الصالة الشاسعة ولم يكن يقل عنها فخامة لتبتلع بقليل من التوتر ولكنها أكملت طريقها ليصلا إلي صالة أخرى ولكن أصغر بكثير واختلفت تماماً عن تصميم الأولي..

وجدت بها درج يصل للأعلى وباب زجاجي يبدو وأنه يطل على الحديقة وباب آخر فتحه شهاب ليشير إليها فدلفت بثقة شديدة بالرغم من عتمة الضوء ولكنها لم تكترث..

استمعت لخطواته التي تبعها بها التي توقفت للحظات ولم تسمع سوى صوت أنفاسها لتشعر بقليل من الإرتباك ووجدت شفتيها لا إرادياً تهمسان ببعض آيات من القرآن.. 

ضغط على احدى الأزرار بجهاز التحكم عن بعد لتضيء الأنوار الغرفة بأكملها ووجدته أمامها مباشرة ولكنها لم تُفزع فقط عادت خطوة إلي الوراء ونظرت إليه دون إكتراث بتفاصيل تلك الغرفة.. 

"فين التصميم؟" 

"مبدئياً ده التصميم على الورق" أشار لها لتبدأ تنظر في محتويات الغرفة لتجد العديد من الرسومات وكذلك العديد من أدوات هندسية لا تعرفها ولكنها واثقة أنها رآتها بأحدى المشاهد على الشاشة أو مع احدى الطلاب يوماً ما فأشار لها بيده لتتقدم وكلما أقتربت زاد اندهاشها من ذلك الإبداع الذي تراه مما أجبرها على نسيان أي شيء يتعلق به سوى أنه مبدع فحسب!

"هو ده أنت اللي رسمته بنفسك؟" أومأ لها لتعيد نظرها مرة أخرى إلي ذلك التصميم التي ظنت أنه يليق أن ينافس احدى التصماميم العالمية

"حلو اوي، أنا عمري ما شوفت حاجة حلوة أوي كده، بجد أنت عملته كده ازاي؟" أخبرته بمنتهى الصدق ليومأ لها بإبتسامة مقتضبة ثم عادت لتنظر للتصميم مرة أخرى بينما هو عاد بذاكرته لسنوات..

"شهاب، ما تخلص بقى، أنت بتعمل إيه كل ده؟" تحدثت غادة بدلال وتآفف

"بعمل تصميم، هادخل بيه مسابقة" ابتسم لها بحماس

"طيب مش مهم تكمله دلوقتي، تعالى نخرج" 

"بس كده، حاضر" 

لم يلاحظ وقتها كم كانت غادة تستحوذ على وقته بأكمله، تتحكم به ببضعة كلمات، ولم تكترث أبداً وقتها إلي أي شيء بدا مهماً بحياته..

فاق من تلك النظرة على تحركات فيروز بالغرفة وهي تطالع بقية تصماميم منها المنتهى ومنها الذي لا يزال يعمل عليه وقد رآى تهلل ملامحها والإنبهار الشديد بكل ماتراه 

"تعالي" بالرغم من استمتاعه بتلك النظرة على وجهها وبوجود أحد غيره يرى حصيلة شغفه الشديد ولكنه أوقفها حتى لا يُتابع ذلك الشعور الذي عصف بداخله ثم توجه إلي باب آخر من داخل تلك الغرفة ليجدها تتبعه ليضيء الأنوار ثم وقف بمحازاة الباب لتدلف هي وازداد انبهارها!

العديد من المناضد المرتفعة وعلى كل واحدة منها تصميم مختلف ولكنها رآت ذلك التصميم للمشفى لتقترب بمنتهى الإنبهار منه ثم التفتت لترمقه بإبتسامة 

"لا فعلاً أنا اخترت مهندس شاطر وشاطر اوي كمان" أخبرته ثم التفتت لتشاهد التصميم مرة أخرى ورغماً عن أنفه لانت شفتاه بإبتسامة لم ترسمها إمرأة من قبل على وجهه..

"أفهم من كده إنه عجبك؟؟" سألها لتلتفت له 

"جداً" أخبرته ليتنهد هو في هدوء 

"طيب تحبي تتعشي؟" سألها لتومأ له بالنفي

"شكراً، أنا يادوب أروح" عقد حاجباه وهو يحاول أن يجعلها تبقى قليلاً "بس.. بس كده الموضوع هياخد قد إيه؟"

"يعني، مش كتير، كل حاجة جاهزة فمش هياخد غير شهرين أو شهرين ونص بالكتير" قلب شفتاه بملامح تجعل الأمر يبدو هيناً 

"تمام.. أنا ممكن ابتدي أطلع التصريـ.."

"التصريح طلع" قاطعها لتنظر إليه بدهشة "الموضوع بسيط، متشغليش بالك" ابتسم مرة أخرى إليها 

"أنا بصراحة مش عارفة أقولك إيه.. شكراً يا شهاب"

"قولي إنك هتتعشي معايا!" ضيق عينيه وهو ينتظر جوابها ليرتفع حاجبيها 

"ليه؟"

"اعتبريه احتفال صغير إننا هنبدأ في المشروع" 

"بس أنا في بيتك ومكونتش عاملة حسابي ولسه هاروح باوبـ"

"هوصلك!" قاطعها لتحمحم هي وقد حسمت الأمر سريعاً برأسها علها تكسب اليوم القليل من ثقته

"ماشي بس ملوش لزوم توصلني وأنا ممكن أرجع لواحدي" أخبرته وهي تتوجه نحو الباب ليطفئ الأنوار واتجها للخارج 

"بتحبي الفراخ؟" تجاهل ما تحدثت به لتلتفت إليه بتعجب

"هو أنت اللي هتعمل العشا ولا إيه؟" سألته يومأ لها بالموافقة فابتسمت وأطلقت تنهيدة "أكيد طبعاً علشان عايش لواحدك أنت مضطر تعمل الأكل.. بس أنا هساعدك" أخبرته ليومأ لها بالموافقة واكملا الطريق نحو المطبخ حتى توقفا به وأخذ شهاب يُخرج المكونات من المبرد الضخم ووضعت هي حقيبتها على احدى الكراسي بالمطبخ 

"أنتي تعرفي هبة من امتى؟" سألها لتعود هي إلي هدفها الرئيسي

"عرفتها من أول سنة في الجامعة، كنا زمايل في كلية واحدة" اجابته بصدق بينما أخذت منه ما يُخرجه لتضعه على تلك الجزيرة التي تتوسط المطبخ 

"بس مش غريبة دي، أصغر منك بتلت سنين وكنتو مع بعض في نفس السنة؟!" ظن أنه يوقع بها بينما أدركت هي ما يفعل 

"لا مش غريبة.. أنا بابا كان بيشتغل في السعودية زمان، وأخدت اول سنتين في المدرسة بره، ولما جينا مصر كنا في نص السنة ومكنش ينفع أكمل وبابا كان شايف إن اعيد السنتين تاني علشان اتعود على نظام الحياة هنا وكمان يكونلي أصحاب وماما وافقته وأفتكر إنه اقنعني ساعتها، علشان كده فيه فرق ما بيني وبينها تلت سنين" 

أومأ لها بتفهم، لقد بحث عن هذه المرأة ولكن ليس منذ ما يزيد عن عشرون عام!! كانت منطقية للغاية..

"وأنت ليه يا شهاب مش موجود في حياتهم؟" سألته وهي تدرك جيداً ما تفعله ليُسيطر هو على ملامحه جيداً وبدأ في صنع الطعام بينما تأخرت إجابته ليعقد حاجباه في إنزعاج وقد لاحظت إرتباكه 

"من ساعة ما والدتي ووالدي سابوا بعض ومكنش ليا علاقة بيها كبيرة" اجاب بإقتضاب ليتدارك ما قاله "أو بيهم كلهم" أضاف لتومأ هي في تفهم 

"ازاي.. بس دي والدتك، ازاي تبعد عنها كده؟ الموضوع كان عادي بالنسبالك؟" قررت أنها لن ترأف به اليوم خاصةً بعد أن علمت الكثير من والدته التي تحدثت لها يوم الجمعة الماضي بالكثير من التفاصي مما يتعلق بما حدث منذ طلاقها 

"شهاب" نادته بعد أن تأخرت إجابته ليلتفت إليها بعد أن توقف عن تقطيع بعد الطعام لتحل محل ملامحه الهادئة منذ قليل ملامح أخرى قاسية 

"وهي بقى اللي بعتاكي تحنني قلبي عليها، مش كده؟ وانتي بتعملي كل الـ Show ده علشان خاطرها؟" سألها وهو يتفقد ملامحها بفراسة شديدة لتجدها تصدح بضحكتها ثم نظرت إليه لتجده يغضب 

"وتفتكر إيه اللي خلاها تستنى كل السنين دي؟"

"كانت مستنياه يموت" ازدادت عقدة حاجباه 

"عارف يا شهاب أكتر حاجة بكرهها في الدنيا هي إيه؟!" رفع احد حاجباه لتتابع هي "اللف والدوران.. مش سكتي خالص" أخبرته ثم توجهت لتُمسك بحقيبتها 

"لو كنت محتاجة أعمل show مكنتش دخلت ماهر في الموضوع، ولا ورثي منه، ولا ظروفي الشخصية اللي مش من حق حد يعرفها، ولا كنت سمحتلك تدخل بيت أهلي وبيتي أنا شخصياً.. ولو كنت محتاجة ألف وأدور مكونتش فضلت مرمية أسبوع قدام مكتبك علشان اعرف اقابلك.. ومكونتش صبرت على أسلوبك الزفت اللي أنت عاملتني بيه أول يوم.. أنا فعلاً كنت محتاجة حد يتبنى المشروع ده لأنه بالنسبالي حاجة كبيرة" علقت حقيبتها بكتفها لتنظر إليه نظرة ذات معانٍ كثيرة

"أنا اعرف مامتك من سنين، وكان قدامها طرق كتيرة اوي علشان تتكلم معاك بمنتهى السهولة.. بس تعرف.. أنا زهقت!" ابتسمت له بسخرية وتابعت 

"زهقت من أسلوبك وشكك اللي باين عليك، زهقت من طريقة اللف والدوران، وحقيقي مش شايفة أي حاجة تستدعي إني أكمل معاك في المشروع ده.. هاعرضه على حد تاني وإن شاء الله ربنا مبيضيعش تعب حد.. وزي ما عجبك هيعجب غيرك" كادت أن تذهب ليوقفها

"ما أنا ممكن أعمله من غير ما أرجعلك وخلاص الفكرة بتاعتي وانتي مش موثقة أي حاجة عن فكرة المشروع" حدثها بإستهزاء

"هتسرق الفكرة يعني!!" هزت كتفيها دون إكتراث "عادي هلاقي فكرة تانية، وحد تاني يتبنى المشروع، طول ما ده شغال" أشارت على رأسها "مفيش حاجة بتكون صعبة أو مستحيلة أبداً" تبادلا النظرات في صمت بينما نظر لها هو بعصبية شديدة "أنا الظاهر اخدت قلم في كل اللي بسمعه عنك وعن شركاتك، الغلط عندي أنا، كنت فاكراك حاجة كبيرة اوي بس كنت غلطانة.. ومن النهاردة مفيش لا مشروع ولا غيره! وآسفة إني عطلتك" 

التفتت لتغادر وتوجهت نحو الباب وهي بداخلها قد اقتنعت أنها قد فعلت كل ما بوسعها وحاولت فتح الباب الذي وجدته موصد لتطلق تنهيدة والتفتت لتجده خلفها تماماً فنظرت إليه ولم تحبذ تلك المسافة القريبة بينهما 

"فاكرة الموضوع بالبساطة دي؟" سألها واختلفت ملامحه لتتحول لملامح شرسة 

"وإيه اللي مش بسيط؟" 

"إن واحدة عارفة أهلي.. تدخل بفكرة مشروع خيري.. ووقت ما تتزنق يبقى خلاص! وتروحي تعيطلها وتقوليلها معلش سامحيني معرفتش أعمل معاه حاجة" تريث قليلاً لتنظر هي له بدهشة "فاكرة الهبل ده كله دخل عليا.. إنك طيبة وحنينة ومحترمة وفارق معاكي اللي اسمها آمال.. وقلبي هيحن واجري اروحلها في الآخر، مش كده؟" 

"أنت بجد عندك مشكلة كبيرة.. ربنا يكون في عونك" ابتسمت بآسى وهي تنظر له "أنت راسم سيناريو هايل في دماغك.. بس كله غلط للآسف" 

"يا سلام! فالمفروض أروح اتعالج؟"

"بشخصيتك دي آه، أنت محتاج علاج، وهياخد منك سنين يا شهاب" ضحك بسخرية للحظات ثم استعاد تجهم ملامحه

"وانتي بقى الأسطورة اللي هتعالجني وتخليني كويس مش كده؟"

"بعد اللي شوفته منك ده.. استحالة أقبل" اجابته بثقة ليحدق هو بعينيها وتعالى غضبه ومد يده ليجذب شعرها ولكن سرعان ما أمسكت بمعصمه بأكمله لتحذره بنبرة صارمة 

"بلاش الأسلوب ده معايا مش هاينفع.. افتح الباب وسيبني امشي" اشتد الغضب بعينيه وهو ينظر لها بغل بينما نجح في أن يُمسك بذراعها الأخرى بمنتهى القوة 

"انتي عايزة مني إيه بالظبط؟ مين اللي وراكي لو مكنتش هي؟" صاح بها غاضباً وتحملت هي تلك الملامح المخيفة على وجهه ولكنها ذكرت نفسها أنها جلست مع رجال يحملون أقسى من تلك النظرات!

"قولتلك مفيش حد ورايا، وعقلك المريض هو اللي مصورلك كل ده.. ولو لسه فاكر إن فيه حد ورايا يبقى ليه هاقولك إني عايزة امشي!" 

حاولت تذكيره للمرة الأخيرة أنه مريض وأنه يجب أن يُعالج حتى يستعيد تلك الروابط الأًسرية التي فقدها ثم دفعت جسدها بأكمله إلي الأسفل بحركة سريعة باغتته لتبتعد عنه ونظرت له في تحفز وحدثته بلهجة قاسية كخاصته 

"افتح الباب"

"ولو محصلش؟" رفع احدى حاجباه ظاناً منه أنه المتحكم في زمام الأمور لتبتسم له بسخرية 

"أنا مش فاهمة أنت عايزني في إيه! ما دام كل كلامك معناه إني بكدب فليه مخليني هنا، ما تخلص مني وترتاح!" 

"هاخلص بس بطريقتي!" أقترب نحوها مرة أخرى وعيناهما لا تتفارقان لتقف فيروز أمامه بمنتهى الشجاعة واعطته نظرة بمعنى أن يعطيها كل ما لديه من قوة!

وقف أمامها ولم يعد يفصلهما سوى مسافة تكاد تكون معدومة ليحدق بعينيها لتقابله بنفس نظراته التي لم تبرهن سوى التحدي الشديد من قبل كل واحد منهما 

"إيه، هتمد إيدك، ولا بتفكر في حاجة تانية؟" سألته بإستهزاء ليبتسم نصف ابتسامة 

"لا بفكر في حاجة تانية" 

أقترب ليُحاول الإمساك بملابسها بينما فلتت هي منه وابتعدت قليلاً ليلتفت نحوها وهو يبتسم بمكر لتروقه تلك اللعبة السخيفة أكثر وتوجه نحوها لتضحك هي 

"خلينا كده للصبح.. أنا معنديش أي مشكلة.. ولا مدورتش ورايا كويس وعرفت إني تانية جمهورية في الكونج فو؟" ظلت تبتعد عنه لينفذ صبره ليقف هو ومرر سبابته على شفته السفلي 

"بصي، لو مجيتيش لغاية عندي هاضطر أستخدم معاكي أسلوب تاني خالص!"

"اللي هو؟"

"همشيكي بفضيحة من هنا" أخبرها لتضحك في سخرية ثم عادت ملامحها للجدية 

"ما تسيبك من لعب العيال ده وبدل فضيحة وتحرشك اللي مش هتوصل بيه لحاجة معايا وتعالى نتفق على حاجة تانية خالص.." 

نظر لها وهو لأول مرة لم تشعر إمرأة أمامه بالخوف ولم تنظر له نظرات كمثل بقية النساء في حالته تلك، كيف لها أن تتحمل كل ذلك دون حتى الشعور ولو بإهتزاز الثقة بداخلها؟ بل وتريد عقد اتفاق معه؟ ما تلك الجسارة التي تتمتع بها؟

"أنا اكمل معاك المشروع، ولو عندك printer ممكن امضيلك حالاً على non disclosure agreement (اتفاقية عدم إفشاء) وتديني ست شهور بالظبط، ولو مثبتلكش إنك مريض نفسي ومحتاج العلاج يبقى ساعتها أعمل اللي أنت عايزه" نظر إليها بإبتسامة ساخرة 

"أنا لفيت في سجون كتير، وقعدت مع ناس شكلهم يرعب، وجبت معاهم نتيجة كويسة، فلا اللي هتعمله هيخوفني، ولا هاتقدر تطول مني شعره، أحسنلك وافق على اللي قولتهولك.." لم يُصدق تلك الترهات التي تتحدث هي بها بينما لن تتركه قبل أن يوافق 

"على فكرة لو معاك ورق زي ده ممكن يوديني في ستين داهية لو بس حكيت لحد زي مامتك ولا اختك حرف واحد من أي كلمة أنت هتقولهالي" أطلق ضحكة ساخرة 

"وبعدين مظنش اللي راسم السيناريو الجبار ده في دماغه مدورش ورايا كويس قبل ما يوافق على المشروع، بدليل إنك روحت رسمت التصاميم وطلعت التصاريح.. ولا كنت بتكدب في دي كمان" 

نظر لها بمنتهى الغضب ولم يعد يتحمل تلك الطريقة المستفزة التي تتحدث بها لتتعالى أنفاسه في غضب ليندفع نحوها ومد يدها مرة أخرى نحو شعرها لتفاجئه هي بإمساكها كلتا يداه ولكنه دفعها لأحدى الحوائط فكان ثقل جسده أكبر من جسدها ولكنها ستعطيه فرصة أخرى 

"وافق يا شهاب وخلينا أصحاب أحسن.. صدقني اللي بقوله ده هيفرق في حياتك كتير أوي.. ممكن ترجع تاني وتعيش وسط أهلك بدل الوحدة اللي أنت عايش فيها" أخبرته وهي تنظر بملامحه وانعكس لهاثه من شدة الغضب على وجهها ولكنها ثبتت بمنتهى الثقة لتنظر له فبادلها النظرات، حدق بعينتيها أكثر من اللازم، وأطال النظر إليها في صمت تام..

"شهاب.." 

فاق مرة أخرى من ذلك السيناريو الذي تخيله سريعاً، بعد معرفة كل شيء عنها وجمع المزيد من المعلومات أدرك أن إمرأة مثلها لن يستطيع الإنتقام منها بمثل تلك الطريقة، ذلك العنف الذي يستخدمه مع كل النساء لن يُفيد معها.. هي ليست بأحدى الفتيات المدللات وليست بعاهرة آتت له بمحض إرادتها، عليه أن يكون أذكى منها، وعليه أن يتحكم بعقلها أولاً حتى تطمئن وبعدها سيستطيع الإنتقام بمنتهى السلاسة..

"لو مش حابب تتكلم عن الموضوع فبراحتك، أنا عارفة حاجة زي دي شخصية و.."

"لا عادي" قاطعها بواحدة من إبتسامته المزيفة بينما تذكر سريعاً قبل أن يتخيل كل ما قد يحدث بينهما آخر جملة تفوهت بها "ازاي.. بس دي والدتك، ازاي تبعد عنها كده؟ الموضوع كان عادي بالنسبالك؟"

"أنا سرحت شوية في موضوع كده" أخبرها ثم عاد ليُحضر باقي الطعام 

"حابب تتكلم عنه؟" سألته وهي تتجه خلفه إلي الموقد لتضع القِدر وأوقدت النار ليطلق هو زفرة مبتسماً وقد قرر أن يخوض تلك اللعبة الساذجة معها

"موضوع في الشغل" تريث ليجد شيئاً منطقي ليبدأ به الحديث "يعني، شايف إني عايز أركز الفترة الجاية على المباني الإدارية أكتر من السكنية شوية"

"أنا بصراحة معرفش كتير عن شغلك بس، لو شايف إن دي حاجة احسن يبقى خلاص، go ahead" أخبرته بلباقة ليلتفت إليها وترك السكين وأمسك بلوح التقطيع الخشبي واتجه نحوها بعد أن تفقدها لبرهة ووجدها مستندة بجانب الموقد بمنتهى الأريحية فلم يلمح بها ولو قدر ضئيل من التوتر أو الخوف..

"الموضوع مش بالبساطة دي" أقترب للغاية منها وحاول أن يكون الأمر بمنتهى العفوية متظاهراً بشروعه في الطهي بينما حاول أن تلامس جسده إياها ليجدها هي الأخرى تبتعد بمنتهى الذكاء 

"معلش ثواني هاشوف الموبايل" توجهت لحقيبتها ثم اخرجت هاتفها واجابته بالرغم من أنه لم يُطلق سوى عدة اهتزازات

"أيوة يا بنتي"

"موتك ولا لسه؟" حدثتها بسخرية

"يا بنتي والله أبداً وبعدين اهدي بقى لغاية ما أجيلك، هنخلص كل حاجة والله سوا" 

"ما هو لو انتي كنتي رديتي عليا في الخمسمية مرة اللي كلمتك فيهم كنت اتطمنت، إنما انتي معندكيش دم" صاحت بها في عصبية

"يوووه! لما اخلص هاجيلك، وهبات معاكي النهاردة كمان.. مش جوزك عند مامته؟"

"آه"

"طيب خلاص هنبات سوا واهمدي بقى"

"ماشي خلاص مستنياكي" 

"سلام" أنهت المكالمة وهي تحدق بشاشة هاتفها متمتمة "مش هاتهمد غير لما تخلص كل حاجة أنا عارفة!" 

"دي هبة؟" سألها شهاب لتومأ هي له وشاهدها هو مستنداً بيداه يميناً ويساراً بجانب الموقد

"بص، أنا آسفة إني بتكلم في الموضوع تاني بس حقيقي اختك زنانة بشكل مش طبيعي، طول ما فيه حاجة بتعملها بتفضل تزن لغاية ما تخلصها، وموضوع قراية الفاتحة ده هو اللي شاغلها اليومين دول" أومأ لها بعد أن نظرت إليه نظرة عابرة لتشير بإصبعها "ثواني"

"دكتورنا العظيم! عامل إيه؟" .. "لا أنا مع شهاب، فاكره؟" .. "آه.. معلش يا بابا أنا هبات النهاردة عند هبة علشان عايزانا نجهز كل حاجة في موضوع قراية الفاتحة ده" .. "أنا قولت بس اطمنك" .. "لا يا حبيبي، ربنا ميحرمنيش منك.. سلام" 

انهت المكالمة ليعقد هو حاجباه وهو لا يُصدق أن إمرأة بذلك العُمر تأخذ الإذن من والدها، يا له من أمر سخيف..

"إيه في إيه؟" سألته وهي تراه ينظر إليها بنظرة إستغراب

"لا مفيش.."

"مستغرب إني بكلم بابا مش كده؟" سألته بإبتسامة ليرفع هو يداه في إستسلام وابتسم لها لتجد نفسها تضحك ولولا كل ما تعرفه عنه لأقسمت أنه من أفضل الرجال الذين تعاملت معهم واستمتعت بصحبتهم يوماً ما 

"تعرف.. أنا وبابا أصحاب أوي، أصحاب لدرجة غريبة، وكمان أنا فيا شبه منه كبير.. أو كل الناس بتقول كده، يمكن أنا أهو ست وأرملة، مش عجوزة اوي يعني" ضحكت بسخرية للحظة ثم تابعت "بس أنا بحب اطمنه مش أكتر، مش باخد منه الإذن يعني!" 

أحقاً استطاعت قرآته بتلك السهولة حتى تُنفي ما فهمه، أهي ذكية لتلك الدرجة؟ أم هي خلاصة خبرتها في ملاقاة العديد من الشخصيات؟ هو لم يغفل أبداً عن كل ما عرفه عنها وتحليله الشديد لتلك الشخصية جعله يدرك أنها لن تكون لُعبة سهلة مثلها مثل بقية النساء..

"براحتك طبعاً" أخبرها بإقتضاب ثم توجه لإحدى الخزانات ليُخرج احدى زجاجات النبيذ الأحمر ومن خزانة أخرى أخرج كأسين وفتح الزجاجة ثم سكب في كأس وهو لا ينظر نحوها أبداً وقبل أن يسكب بالأخرى حدثته فيروز

"شهاب ممكن تقولي الحمام منين؟ أصلي مصلتش العشا" سألته ليفهم هو ما تقصده بتلك الكلمات فتوقف عن سكب الكأس الأخرى 

"فيه واحد جنب السلم اللي كنا عنده من شوية" أخبرها لتتوجه هي لحقيبتها بمنتهى التلقائية ثم أخرجت شيئاً مطوياً وفهم أنها ملابس للصلاة ليزفر في ضيق متابعاً إياها بنظرة غضب ثاقبة ليُفكر كيف سينتقم من تلك المرأة يوماً ما واتجه ليُكمل إحضار الطعام وأطنب بالمزيد في وضع العديد من الخطط التي ستوقع بتلك المرأة بين يديه!

لم يكن يرى أن أعراض السيكوباتية الشديدة تجري بدماءه مجرى الدم بعروقه، لم يفق أبداً من أفكاره الإنتقامية التي لو نظر إليها سيجدها واهية وسخيفة، ولا يدرك أن كل تلك الخطط وخداعه لكل من وقع بطريقه كانت مجرد أعراض مرض بشع عليه التخلص منه بأقرب وقت!

أنهت وضوءها وهي تُفكر بطريقته الهادئة، كل ما يفعله اليوم ليس له سوى معنى واحد؛ ألا وأنه يريدها أن تقع بسحره وجاذبيته، هذا ليس نفس الرجل الذي لاقته أول مرة، كل مرة يحاول أن يجذبها أكثر بكل ما يفعله، ولكن لم؟ أعلم شيئاً عن حقيقة الأمر لذلك بطبيعته الإنتقامية يريد أن ينتقم منها هي الأخرى؟ 

لقد زجرته صباح اليوم بشدة عندما حاول الإمساك بيدها، لا تشك ولو للحظة أنه تغافل عن كل ما مرا به من أحداث بداية بمشاجرتهما أول يوم وصولاً إلي زجاجة النبيذ تلك منذ قليل.. ماذا يريد منها حقاً؟!

زفرت لتهدئة نفسها وحاولت إسترجاع ثقتها بنفسها وقررت الإطناب بمزيداً من المواقف عله يبدأ في فهمها ومراجعة نفسه، أتمزح هي؟! شخصية مثله ليس لديه ولو ذرة من تأنيب ضمير أو شعور بالذنب..

ارتدت ثوب الصلاة ثم توجهت للخارج لتجده أوشك على إنهاء تحضير الطعام ليقف لبرهة محدقاً إليها في تعجب لتسأله هي

"متعرفش القبلة منين؟" نظر لها ملياً ثم مط شفتاه وهز كتفيه لتدرك من حركته أنه لا يعلم فتوجهت إلي هاتفها لتتبين منه اتجاه القبلة ومنها توجهت للداخل وفي الطريق صاحت له "متجيش لغاية ما أخلص صلاة"

رفع حاجباه في تعجب، تتصرف بمنتهى الثقة والأريحية وتملي عليه الأوامر في منزله، لن يستمر هذا الوضع أكثر من ذلك!! فقط خدعة بسيطة ستجعله يكسب ثقتها حتى تتعامل معه بمنتهى الإطمئنان ووقتها يستطيع الإنتقام بمنتهى السهولة وسيجعلها تدرك أنه ليس هناك من خُلق كي يعبث مع شهاب الدمنهوري!

سار بمنتهى الهدوء كي يتسلل وهو يشاهدها، أقنع نفسه بأنه لا يستطيع الإطمئنان لها ولا الثقة بها لذلك أراد أن يُتابعها ويرى ما تفعله.. ولكنه لم ير أنه دائماً ما شعر بالراحة كلما كسر احدى القواعد أو فعل خلاف ما تنص عليه العادات أو التقاليد وهذا هو عرض آخر كان عليه إستيعاب أنه سيدمره يوماً ما عاجلاً أم آجلاً..

تابعها بعينيه ولوهلة شعر بالغضب، كيف لتلك المرأة أن تكون ذكية، مُخلصة لزوجها بالرغم من محاولاته في استمالتها إليه، ملتزمة بدينها، تستطيع التغلب على أي رجل قد يقترب منها، لا تخاف، لديها أصدقاء، لديها علاقات جيدة بأسرتها، أتظن أنها تجذبه بكل تلك الترهات التي تفعلها؟

صر أسنانه بمزيداً من الغضب عندما رآها أنهت الصلاة وتوجه بهدوء للخارج بينما لم يستمع لتضرعها التي أطالت به كثيراً وهي على ثقة شديدة بأن الله سوف يُعينها على هذا الأمر وسيريح قلبها يوماً ما بعد كل ما عانته..

توجهت للخارج لتنظر إليه بينما سألها بتلقائية دون أن ينظر إليها 

"تحبي تاكلي بره في الجنينة؟" هزت كتفيها ثم خلعت الثوب وعدلت من شعرها الذي يزعجه كثيراً كلما نظر إليها 

"زي ما تحب.. ده بيتك يا شهاب أنت اللي تقوللي هنقعد فين" ابتسمت بلباقة ليومأ هو

"طيب تمام.. ساعديني نطلع الحاجة بره" أخبرها وبدأ في وضع أكبر قدر من الصحون على احدى الصواني وحملها لتتبعه هي بما استطاعت أن تُمسك بيديها بينما ترك كأس النبيذ فعاد لينظر إليه وتوقف وأومأ لها بأن تُحضره لتومأ له بالنفي 

"مش هاشيله لأ!" قلبت عيناها ثم انتظرت ليأخذه هو ويضعه على الصينية التي يحملها 

"ليه يعني؟" تظاهر بأنه لا يدري ثم أكمل طريقة لتتبعه هي 

"علشان حرام.. ولا أنت متعرفش ده؟" تريث لبرهة قبل الإجابة بينما وصلا لحديقة منزله 

"أنا مبهتمش كتير بموضوع حرام وحلال ده" أخبرها ليجلس على احدى المقاعد وجلست هي على المقعد المقابل له 

"أنت مش مؤمن يعني؟ بأي دين عموما!" سألته ليومأ لها بالإنكار "مع إن جوجل بيقول رجل أعمال مصري مسلم!" أخبرته ليُطلق ضحكة ساخرة وشرع في تناول الطعام لتفعل هي الأخرى 

"مش كل حاجة تشوفيها تصدقيها" أخبرها ثم حدق بعينتيها 

"عندك حق" أخبرته ثم تناولت بشوكتها بعض الطعام ثم سألته بجرأة "والمفروض مصدقش إيه كمان عنك؟" 

"أنا حد بسيط جداً" هز كتفاه بعفوية "يمكن مفيش حاجة في حياتي غير الشغل"

"بس مش غريب شوية الموضوع ده؟" ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر له في استفسار

"إيه اللي غريب بالظبط؟" سألها بملامح تلقائية تحكم هو بها بمنتهى البراعة 

"يعني حد زيك مالهوش اصحاب، مش قريب من أهله، مش متجوز أو مرتبط، مبتحسش إن حياتك كده مش طبيعية؟" سألته ليبتسم لها في تهكم 

"الطبيعي إن يبقى عندي عيلة كبيرة وحوارات كتيرة ووجع دماغ!" أطلق ضحكة ساخرة "أنا أكتر واحد في الدنيا ممكن يكره الطبيعي والمفروض.. تقريباً لو كنت في مرحلة في حياتي عملت الطبيعي والمفروض مكونتش وصلت للي أنا فيه دلوقتي" 

سخريته تلك أدركت من خلفها أنه يرى نفسه عظيماً للغاية بسبب كل ما تبعه وكل ما وصل إليه لتبتسم هي له بإقتضاب ثم نظرت إليه بجدية 

"يعني اللي أفهمه إن النجاح والفلوس بالنسبالك أهم حاجة؟" ابتسم لها بمكر حاول التحكم به ومحاولة خداعها ولكنه فشل أمامها تماماً وتناول المزيد من الطعام وهو يُسلط كامل تركيزه على محاولة جذبها إليه ومحاولة كسب ثقتها

"فيروز.. أنا فكرت كده في كلمة قولتيها لما كنا بنشوف الأرض!" همهمت له بأن يُتابع بينما تناولت طعامها في صمت ليأخذ هو رشفة من كأسه وتابع "قولتيلي لوحبيت تكلمني في أي وقت أنا موجودة وهاسمعك.. وبصراحة شايف إن فكرة دكتورة زيك تسمعني في الوقت الحالي هتكون مناسبة بالنسبالي" 

توقفت عن الطعام وهي تنظر له بعسليتين مرحتين وتفقدته بإبتسامة توسعت مع مرور الثواني ليُحدق إليها هو بإنزعاج تفلت منه ولم يستطع أن يُخفيه لتعود هي لسيطرتها على نفسها فربما تستطيع أن تبدأ معه من هذا الخيط وعادت عن سخريتها التي أوشكت أن تُطلقها أمامه

"هو أنا يبقالي الشرف طبعاً.. بس.. إيه اللي خلاك تحس إنك محتاج أخصائي نفسي؟" تحدثت بمنتهى التريث وانتقت كلماتها بعناية وها هو أول سؤال في صميم مشوارها معه ولم يعلم أن ما بدأه معها كي يستميلها إليه ويجذبها إليه بل واختياره لذلك الأمر بالتحديد كان طريقاً وعراً له ولن يستطيع أبداً الصمود أمامها!

"يعني، ممكن يعمل تأثير في حياتي" مط شفتاه وأكمل طعامه في هدوء 

"أفهم من إجابتك إنك واخد الموضوع من باب الملل؟" نظرت إليه تتفحصه بينما هو تظاهر أنه منهمك في الطعام لتنتظره حتى ابتلع ما بفمه من طعام وتحولت نظرته إليها لتُصبح ثاقبة كمن يحاول التغلغل بداخلها 

"لأ.. أكيد واحد زيي عنده مليون حاجة يعملها، والـ mental health (الصحة النفسية) مهمة برضو مش كده؟" تغيرت ملامحه لتعود للثقة وابتسم إليها بلطف شديد 

"أكيد طبعاً مهمة، بس فيه حاجة لازم تاخد بالك منها" اعتدلت بجلستها  لتستمد المزيد من الثقة وقررت ألا تبدو متلهفة لعلاجه غير أنها أدركت أنه يتظاهر بكل هذا، ولا يشك ولو للحظة أنه يعاني من أمر.. ثم أكملت حديثها إليه 

"اللي بيطلب تدخل حد متخصص بيبقى عارف ومتأكد إنه عنده مشكلة، أو بيعاني من حاجة، أو حتى حصله صدمة أو مدمن ومش عارف يتخلص من إدمانه، لو أنت عندك سبب مقنع مفيش أي مانع اننا نتكلم في الموضوع.. لكن بدون أسباب كده لو شايف كل حاجة تمام فأظن هضيع وقتك.." نظرت إليه بمنتهى الجدية بعد أن تريثت لتتابع "ووقتي كمان"

ابتسم إليها وهز رأسه في إنكار وأخذ رشفة أخرى من نبيذه لتتابعه هي وأكملت طعامها ولم تضغط على الأمر بل تركته وودت أن تخرج ما بداخل رأسه لتستكشف بما يُفكر الآن ولكنه جعلها تنبهر بما قاله

"يعني لو واحد ذهنه مش صافي بالرغم من إن معندهوش مشاكل تقريباً، مبينمش كتير.. دول مش سببين كافيين؟" اعتدل هو الآخر بجلسته بمنتهى الثقة ونظر صوب عينيها بمزيداً من تلك النظرات التي قد طفح كيلها منها

"لا كفاية أوي.. ما دام كده شوف الوقت المناسب امتى بالنسبالك وبلغني تحب نتقابل فين" أومأت بتفهم بينما وضعت شوكتها فوق الصحن الخاص بها "شكراً على العشا.. وكان حلو جداً على فكرة" انحنى لها برأسه في وقار لتبتسم بإقتضاب ثم نهضت لتُمسك بطبقها ليلمحها وأوقفها عما كادت أن تبدأ به

"سيبي كل حاجة، أنا هاشيلها" أخبرها لتنظر له بإمتنان 

"طيب.. ممم.. أنا هامشي"

"تمام.." نهض هو الآخر ليسيرا سوياً حتى وصلا خلف الباب وانتظرها إلي أن احضرت حقيبتها ليبتسم في تهكم دون أن تلاحظه وعاد لما تخيله ولكنه يُدرك أنها ليست بالمرأة السهلة التي يستطيع التغلب عليها مثل بقية النساء.. أقترب من تلك المنضدة المُرتفعة ليُمسك بمفاتيح سيارته وقد نظرت إليه فيروز بإستغراب 

"بجد ملوش لزوم توصلني، مش عايزة أتعبك"

"لا.. مفيهاش تعب ولا حاجة" ابتسم إليها بلباقة 

"شهاب! أنا هاروح لوحدي" أخبرته في تصميم ليزفر هو ثم رمقها مُضيقاً عيناه 

"ازاي وانتي مش معاكي عربية؟" 

"زي ما جيت.." أخرجت هاتفها لتطلب احدى السيارات 

"أنتي سمحولك تدخلي علشان قولتلهم إني مستنيكي مش اكتر!" وضع يداه بجيباه ونظر إليها بنظرة سيطرة شديدة استطاعت هي أن تقرأها بسهولة لتهز رأسها

"تمام، لو كده ممكن توصلني لغاية البوابات اللي بره.. لكن مفيش داعي توصلني لغاية بيت هبة" ضيقت عينيها وهي ترمقه في جدية وبداخل عقلها تحاول أن تخزن أكبر قدر من حركاته وإيماءاته وردود أفعاله

"خلاص.. ما دام شايفة كده.. اتفضلي" أخبرها بعد أن قرر أن يتنازل هذه المرة إلي أن تقع بكامل إرادتها بين يديه وفتح الباب بعد أن طبع كلمة مرور سرية لتخرج هي وتبعها هو في صمت..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ 

#يُتبع...