-->

الفصل التاسع والعشرون - شهاب قاتم

 








الفصل التاسع والعشرون


تنويه:

الفصل القادم سيتم نشره على مدونة رواية وحكاية يوم 12 أكتوبر 2020 في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل على الواتباد بتاريخ 13 أكتوبر 2020

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

~ كل أسرار قلوبنا ووجداننا غير قابلة للاندثار .. كل ما في الأمر أنها تنطمس تحت سطح الوعي .. وتتراكم في عقلنا الباطن لتظهر مرة أخرى في أشكال جديدة .. في زلة لسان أو نوبة غضب او حلم غريب ذات ليلة..

( د. مصطفى محمود - الأحلام)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

يا تُرى ما الذي يخفيه عنها؟ ما الذي دفعه لنوبة الغضب تلك؟ إذا كان والده هو السبب بكل ما حدث له، وإذا كانت والدته بقيت لسنوات معذبة بسببه هكذا، فما الذي قد يحدث لطفل بعمر الثامنة؟

"..من ساعة ما نزلت من البيت، بصات غريبة، والأمهات نفسهم والجيران بيبوصولي بطريقة معرفتش انساها لغاية دلوقتي.. لدرجة إن كان فيه واحدة جارتنا بعدت ابنها عني كأني شيطان!"

"أنا مكونتش فاهم كان فيه إيه، ومكونتش أصلا قريب من حد.. بس اليوم ده بعد ما خلصت المدرسة.. أنا كانت أول مرة في حياتي اتخانق، أضرب حد، حاولت بس معرفتش! كانوا أكتر مني"

"اتخانقنا أنا وهمّ بعد كلام زي الزفت سمعته منهم، مكنش قدامي غير الطوب اللي في الأرض، ضربت اللي ضربته، هدومي اتبهدلت.. ولحقنا مدرس كان معدي بالصدفة.. يومها أنا مش قادر أنسى كلمة واحدة.. هنوريك بكرة يا ابن الـ.." 

كان يتضح عليه الضعف، الصعوبة، محاولته ألا ينظر بعينيها، لا يملك حتى القليل من الشجاعة للتحدث بالأمر، أخذت تتذكر كيف بدت ملامحه وتحركاته حتى نبرة صوته التي تستميت لأن تبدو غير متأثرة كي يجعلها تعلم أن ليس هناك للإكتراث نصيبا من مشاعره وكل ما يتحدث به هو مجرد حفنة أحداث من ماض بعيد لا يكترث بها ولكنها استمعت للخوف والتردد والطفل الصغير الخائف وليس لشهاب الذي عرفته يوما ما..

زفرت وهي تحاول أن تفكر أكثر بما يعانيه، تنمر جسدي، تنمر لفظي.. إيذاء.. إيذاء نفسي لطفل بالثامنة من عمره.. ترهيب لفظي، ترهيب نفسي من الجميع.. من مجتمع بائس لا يملك ولو ذرة من شفقة على طفل مثله، مجتمع فاسد، يُفسد جيل بأكمله ليرمم طفل سيكوباتي وأطفال متنمرين.. وبالطبع كل واحد منهم سيروي أولاده وعائلته بما كان يفعله، فمن شب على شيء شاب عليه!

 لم يكن هناك أي نوع من المواساة، المؤازرة، الحنان، وبالطبع والده كان يعمل لكسب الأموال؛ هي حتى لا تريد الإستفسار عنه وعما كان يفعله وقتها تجنبا لذلك الغضب تجاه شخص غير مسئول دمر ابنه بمنتهى اللامسئولية!! 

التوت شفتاها في آسى وهزت رأسها في تقزز، ماذا ينتظر الناس من طفل، عاش بالفقر أولى سنوات حياته، لم ينتبه أحد في سنوات عمره الأولى لتنفيسه عن غضبه بتلك الطرق التي أخبرها بها، واجه تنمر مؤلم هي حتى لا تعرف ما كامل نتائجه بعد، أينتظرون طفل سوي كي يكون رجل رائع؟! 

كيف يفعلون ذلك؟ كيف يتزوجون وينجبون دون الإكتراث بأطفالهم؟ كيف ينظرون للأمر بمنتهى السطحية ولا ينظرون إلي تلك الكوارث البشرية التي يلقون بها لتصنع أمم وشعوب وأجيال تُفسد الحياة بأكملها؟ أين المسئولية؟ أين حتى الدين هنا؟ 

أذهبت لتخبر الجميع بأنها إمرأة خائنة وهذا حرام أو لا يصح من منظور العادات والتقاليد؟! أين إذن دينك؟ ألم تستمع بحياتك كلها أيها المهندس المرموق المتكالب على الأموال بأن الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته؟! أين رزقهن وكسوتهن بالمعروف؟! أكل ذلك من أجل الأموال؟! تدمر أسرة بأكملها لأجل الأموال فقط؟! وأنتِ أيتها المرأة المتعلمة ألم تستمعي أبدا عن وجود محاكم، سُلطات؟ حقك في الطلاق الذي شرعه الله؟!! لماذا قبلتِ بالحياة معه منذ البداية؟ أكنت تنتظرين حبكما الجارف ليصلح كل ما أفسدتماه من طفل لا ذنب له؟! 

شعرت بالغضب وتقززت من كل تلك الأفكار والصور والخبرات السابقة التي انتعشت في ذاكرتها لتمتعض ملامحها من تلك الحياة وعدم اللاشعور واللامسئولية تجاه ذلك المجتمع الظالم الذي أفسد أجيال بأكملها! هي الآن لا تُفكر بشهاب فحسب.. شهاب مجرد طفل وحيد!! ابتسمت بسخرية وهي تفكر برجل ذو الخمس أطفال، والأكثر.. المدمن السارق، الرجل الذي يريد التزوج بمرات لا تعد ولا تحصى لرغبته الجنسية بالنساء، أو الفقير الذي يعلم جيدا أنه لا يملك القدرة المادية فيذهب ويتزوج بغرفة واحدة وينجب ثلاث أبناء.. ثم يأتوا ليصرخوا بطفل أغتصب أخته، أو والدته، أو شرع في الإدمان منذ سن صغيرة، أو سرق أو قتل من أجل المال! 

أو ربما إمرأة كرهت الحياة مع زوجها الذي لا يستطيع توفير حياة كريمة لهم فتركته هو وأبناءه كي تحيا حياة كريمة وتشرد أطفالها بعد أن تزوج زوجها السابق من إمرأة طردت أطفالها بالشارع وأنجبت ثلاثة أطفال آخرون.. ولا عزاء لذلك الرجل الغبي الذي يملك ستة أطفال لا يعلم عنهم أي شيء!!

زفرت ثم نهضت وهي تحاول ألا تدع ذلك الغضب ليعميها، عليها أن تقوم بكتابة كل ما تتذكره من تلك الجلسة مع شهاب، كما عليها أن تكون هادئة معه للغاية غدا وألا تثير أعصابه وكذلك عليها ألا تطنب بالتفكير أكثر من هذا في تلك الأوبئة التي تنتشر بالمجتمعات كي لا تنفجر أمام شهاب مرة أخرى، يكفي أنها لم تكن متزنة منذ أيام وهي لتوها أستطاعت أن تقنعه بضرورة التحدث وبفكرة مرضه! 

وأخيرا تشعر أنها عادت مجددا لتلمس أرض الواقع بعد أكثر من سنة من هروب وإنفصال عن الحياة بأكملها.. كانت من البداية تعلم أن حالة شهاب هي الحالة التي ستعيدها من قوقعة إكتائبها وستجعلها تتذكر من هي!!

ولكنها لم تعرف أنها بعيدة كل البعد عن العودة، هي تغرق بكل وعيها به، لم تلاحظ أنها تعاطفت أكثر من اللازم!! ولم تلاحظ خفقات قلبها التي صرخت بالآلم من أجله عندما رآت ملامحه تصرخ بالآلام! 

 ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

أوصد عينتاه وبكى من جديد، بكى على كل ما تذكره، ليس على صرامة والده، ليس على خيانة والدته، لم يكن حتى يبكي من أجل شناعة إغتصاب طفولته المنتهكة، ولا من إجبار والده له على العمل منذ أن بلغ العاشرة.. فقط يبكي لأنه لم يعد يتحمل كل ما يحدث له!

فتح عينيه ليراها تبتعد، ألم تكن معه منذ دقائق، لقد كانت تعانقه.. لماذا تركته؟! لقد أخبرته أنها لن تطلق الأحكام وستتقبل كل ما به وكل ما هو عليه؟ هي تتخلى عنه.. هو من عليه أن يكون غاضبا وليست هي كما تنظر إليه بعينيها الزمرديتان الغاضبتان! 

شعرها ليس بقصير، لماذا يبدو قصيرا للغاية هكذا؟! هو لم يفعل لها شيء.. لماذا تتباعد عنه.. هو حتى أصبح لا يراها بوضوح، وما ذلك الصوت؟!!

"شهاب.. شهاب" طرقت الباب ربما للمرة الألف وأخذت تناديه وللحظة بين العبور من أرض الأحلام إلي الواقع المرير نظر حوله بعد أن استيقظ ليدرك أنه كان يحلم! بها!! 

لماذا يحلم بها؟! ولحظة أهو نائم إلي الآن؟! كم الساعة؟ المؤتمر!! لقد نام أكثر من اللازم على ما يبدو.. نهض بسرعة ثم توجه نحو الباب ليفتحه وعلى وجهه آثار النوم، الغضب، ولكن أكثر ما صرخت به ملامحه كان الفزع!!

"صباح الخير" أخبرته بإبتسامه جعلته يستكين تماما ونسى كل ما كان يعانيه منذ ثوان ولم تعلق هي على عدم ارتدائه لقميص مثلما كانت تفعل دائما ولكنها رمقت شعره غير المرتب وتعرقه الغزير الذي تعجبت هي له، فيبدو أنه من الأشخاص الذين يتعرقون كثيرا عند نومهم!

"احنا أتأخرنا، المؤتمر ناقص عليه أقل من ساعتين.. تحب أعملك فطار خفيف على ما تجهز؟" سألته بملامح هادئة ونبرتها آتت لتجعل صباحه يشرق بإبتسامة بالرغم من بساطتها ولكن مفعولها كان يتعدى مفعول الشمس على عينيه بألاف المرات!

حمحم في محاولة للإستفاقة وهو يمسح على وجهه ثم أومأ لها بالموافقة لتتركه وتذهب ووقف هو لبرهة يحاول يستجمع كل ما حدث منذ فجر اليوم إلي الآن ثم حك رأسه ورمق الساعة ليجد أنه قد بالغ بالنوم وقد تبقى بالفعل أقل من ساعتان على المؤتمر وهو حتى لم يبدأ يومه بعد ليوصد الباب وهرع نحو الحمام وهو يتمتم بكلمة إيطالية واحدة لأكثر من مرة؛ وليس بمهم معناها أبدا!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

أستمعت لخطواته التي أعلنت عنها ذلك الحذاء الرسمي الذي ترك انطباعاته على الأرض الرخامية لتلتفت إليه بملامح هادئة وتحدثت إليه في البداية كانت نبرتها تلقائية ثم تحولت لتغيب في حالة من الإرتباك وتلعثم بسيط استطاعت التغلب عليه بالنهاية

"كويس متأخرتش أنا.. عملتلك.. قهوة وسندويتشات" 

حمحمت وهي لا تدري لماذا؟! ليست بأول مرة تراه، وليست أول مرة تلمح جزءا من صدره العاري الذي لا يزال واضحا من أسفل ذلك القميص الرسمي الأبيض الذي ارتخت عليه ربطة عنق رسمية سوداء لم يعقدها بعد، وهو يأخذ في إغلاق أزراره من نهايتها وهو يرتفع شيئا فشيئا واتجه نحوها بملامح مستيقظة عكس الناعسة التي رآتها منذ قليل.. 

هل هذا لإنتعاشه الذي لم يكن عليه منذ قليل أم أن هناك أمرا آخر تغير وهي لم تلحظه؟ التفتت لتزجر نفسها عن مراقبتها له التي لاحظها هو بمنتهى السهولة ثم التفتت إليه بعد أن استطاعت التركيز قليلا

"تحب سندويتشات تاني ولا كفاية كده؟" اشارت للطبق الموضوع على المنضدة المرتفعة الرخامية ليومأ لها بالإنكار بإبتسامة مقتضبة 

"شكرا" استطاعت داكنتيه البنيتين تمييز نظراتها إليه ليبتسم بداخله بينما حافظ على ملامحه التلقائية ولم تفترق عينيه عن خاصتها التي يبدو أنها تتفقد شعره، عنقه، لحيته، مظهره.. حسنا فليعبث قليلا معها.. 

مد ذراعه للأمام بحركة سريعة وهو يثنيه أمامه ليستمع لشهقتها وتقهقرها للخلف بخطوة سريعة ليضحك بخفوت وتحولت ضحكته لقهقهات اهتزت على اثرها كتفيه وخلفت نبرة سعيدة بحنجرته لاحظتها هي بينما أوصد زر نهاية كم قميصه لتنظر هي له بلوم غاضب وضيقت عسليتيها بعد أن استطاعت التحكم بذلك الشيء العجيب الذي يحدث لها منذ الصباح 

"دماغك متروحش بعيد.." تحدث لها ثم أغلق الزر الآخر وعقد ربطة عنقه بمنتهى الحرفية دون النظر لمرآة لترفع هي حاجبيها وحدثته بجدية 

"أنت مش هاتبطل الحركات دي؟" 

"حركات إيه بالظبط؟" هز كتفاه بتلقائية وهو ينظر لها لتراه قد أنهى ارتداء ملابسه لتعقد حاجبيها في تفكير متى حدث ذلك ثم عادت لتتحدث بتصرفاته 

"أنت فاهم ومتستعبطش!" رمته بنبرة زاجرة ليبتسم إليها لتجده يقدم احدى ساقيه تجاهها لتتوسع عيناها في زجر وتحذير "أنت هـ.." ولكنه بحركة سريعة هبط ليعقد رباط حذاءه مما جعلها تتوقف عن الحديث وزفرت في غضب تجاه نفسها 

"مش عارف حقيقي دماغك بتفكر في إيه بس أنا بجهز علشان منتأخرش!" حدثها بنبرة عجت بالمكر وبداخله لا يستطيع مقاومة ذلك الشعور الذي جعله يدرك أنها باتت متأثره بملامحه ومظهره الآن عكس السابق تماما لتلتفت هي وتتركه لا تدري غاضبة من نفسها لتفكيرها أم غاضبة تجاهه هو؟!

"لو ممكن بعد إذنك الموبايل من اوضتي علشان منتأخرش أكتر ياريت ابقى شاكر ليكي جدا" صاح ليُسمعها وهي تغادره بينما بدأ في تناول الطعام والإرتشاف من قهوته بسرعة 

"هاته لنفسك" صاحت هي الأخرى ليبتسم ثم رفع حاجباه في تلقائية وهو يرتشف مجددا من قهوته وهز رأسه في إعجاب بما فعله وقرر بداخله أن يلهو معها قليلا!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

توجهت نحو غرفتها وهي تفكر بما يحدث معه منذ الصباح، يبدو أنها تُشفق عليه كثيرا بسبب ما أخبرها به فجر اليوم.. عليها الإستيقاظ من تلك المشاعر، أم نست أنها معالجة نفسية لا يليق بها أن تنجرف وراء أية مشاعر خاصة بأي حالة..

تعلم أنها لطالما كانت غاضبة تجاه تلك المجتمعات المشوهة وآتى شهاب ليوقظ تلك الكراهية بداخلها بسبب ما أخبرها به عن طفولته ولكن عليها أن تتعامل بحزم أكثر من ذلك تجاه نفسها أولا ثم تجاهه ثانيا!

تناولت هاتفها وحقيبتها ثم تجهمت ملامحها لبرهة وهي تُفكر، كان يبدو إكتراثها نحوه حقيقي.. كانت تريد الإطمئنان عليه منذ ذلك الحديث المؤلم، كانت تريد أن تخبره كيف كانت ليلتك ولكنها تركت الشفقة والإكتراث يتحكما بها لا أكثر ولا أقل!! كما أن تلهفها لمحاولة اكتساب المزيد من ثقته والتأثير عليه حتى يتحدث لها كان أكثر من الزائد.. عليها التراجع، وإلا وقتها سيلاحظ هو.. هي لا تستهين بذكائه أبدا!

خرجت حتى تذهب له كي يفرغا من ذلك المؤتمر، زفرت في ضيق.. تلك المؤتمرات تصيبها بالتقزز، اليوم هو السابع من أكتوبر على كل حال! تبقى فقط أربعة أيام وباليوم الخامس ستعود لحياتها الطبيعية بعيدا عن هؤلاء الناس الغريبة! 

أوقفها رنين هاتفه التي لاحظت أنه لا ينقطع ثم تذكرت أنه أخبرها بأن تحضر هاتفه له لتتنهد في إرهاق من ذلك الرجل وكل ما يُلم به من تفاصيل ودلفت غرفته وتوجهت نحو هاتفه ليقع نظرها على سريره ووسادته التي كانت شبه مبتلة بالكامل فتلمستها بأناملها وتلقائيا اشتمت لرائحة غريبة أدركت في ثوانٍ أنها رائحته هو، ولكن لماذا رجل مثله يتعرق بمثل هذا الشكل.. هذا ليس بطبيعي..

أمعنت التفكير قليلا ثم تذكرت مظهره صباحا منذ قليل، هل يُمكن أن يُعاني مثلا من شيء ما هو السبب في ذلك؟ أم مثلا هذه هي عادته؟! قلبت شفتيها وهزت كتفيها بعفوية ثم جذبت هاتفه والتفتت لتجده خلفها ينظر لها مضيقا داكنتيه وعاقدا لذراعيه أمام صدره ويبدو أنه كان هنا منذ فترة.. 

"كنت بجيبلك الموبايل" أخبرته سريعا ليبتسم إليها ثم توجه نحوها 

"أنا مسألتكيش كنتي بتعملي إيه" تحدث لها بهدوء وهو يرمق تلك الرماديتان!! اللعنة على تلك الحدقتان، لقد رآهما منذ قليل ولم تقترب أبدا من الرمادية.. لماذا تصعب عليه الأمر هكذا كلما حاول معرفة لون عينيها..

"طيب يالا علشان منتأخرش" حمحمت ثم قدمت له الهاتف "كان عمال يرن على فكرة" أضافت وحاولت التصرف بشكل طبيعي بل ولديها الأسباب على ما كانت تفعله حتى إذا سأل! 

تناول الهاتف منها وهو ينظر إليها متفحصا إياها لترمقه هي الأخرى بمنتهى الجدية وقد بدأت في الشعور بالإنزعاج من تلك الإبتسامة الغريبة التي لا تغادر شفتاه فعاد هاتفه للرنين مرة أخرى ليجيبه دون أن يرى من المتصل ولم تغادر بنيتيه تلك الحدقتان أمامه وكذلك لم يعطها المساحة لتغادره

"شهاب.. أخيرا رديت.. I miss you so much، أنت ليه مش بترد عليا؟ كلمتك كتير" استمع لذلك الصوت لتختلف ملامحه 

"معلش يا حازم مشغول" اقترب حاجباه بقليل من الإنزعاج استطاعت فيروز رؤيته 

"عديني لو سمحت" أخبرته لينظر إليها ولم يتحرك 

"كل ده مشغول، أنا بقالي كتير مشوفتكش.. where are you؟" 

"أنا هاجيلك كمان يوم وهنعمل اللي أنت عايزه حاضر" تعجبت قليلا ممن يتحدث إليه ولكنها لم تكترث 

"وليه متجليش النهاردة؟"

"علشان أنا مسافر، لما أخلص هاجيلك" 

"طيب ليه مخدتنيش معاك؟"

"ولما اخدك معايا هتروح المدرسة ازاي كل يوم؟" إلي من يتحدث؟ تمنت لو عرفت ولكنه عليه هو من يخبرها أولا دون ضغط منها 

"خلاص أوك.. هتيجي امتى؟" أخبره في حزن عجت به نبرته 

"على اول الأسبوع الجاي"  تحركت فيروز لليمين كي تغادره بينما حال بينها وبين الطريق ليصدها فرفعت حاجبيها بإندهاش وأخذت خطوة كذلك لليسار فوجدته من جديد يحول بينها وبين الذهاب

"ما تحاسب!!" توسعت عيناها بالمزيد من الجدية ليومأ لها بالإنكار 

"أنا لسه هاستنى كل ده" حدثه حازم بالمزيد من الحزن 

"طيب حازم هاكلمك تاني.. سلام" أنهى المكالمة لتعقد ذراعيها في تحفز 

"مش فاهمة فيه إيه مالك.. بقولك عديني!" أخبرته بحزم 

"كنتي بتعملي إيه عند السرير؟" سألها وداكنتيه المتسائلتين لم تغادر خاصتها لتبتسم في سخرية وهي تشيح بوجهها للحظة ثم أعادت عسليتيها إليه 

"لا متقلقش مش حركات مراهقات.. أنا كنت مستغربة بس من شكلك النهاردة الصبح ولما شوفت المكان اللي كنت نايم فيه استغربت أكتر.. أنت لو مش متعود إنك تعرق كده راقب الموضوع ولو استمر انت محتاج تروح تعمل شوية تحاليل.." حدثته بثقة بينما نظر إليها بتعجب لتضيف 

"مش داخلة غير علشان اجيبلك الموبايل علشان منتأخرش متقلقش" حدثته مجددًا وهو بداخله حقا لا يُصدق أن ذلك هو السبب كما أنه لم يلحظ الأمر من قبل ولم يلق له بالا "دلوقتي ممكن تحاسب وكفيانا تأخير كده" 

لم يعد يدري ماذا تفعل به تلك المرأة كلما تحدثت، بالسابق قبل بذلك المشروع، ثم تلك الجلسات، قصة والدته وأبناءها، مرضه النفسي، والآن تأتي لتهتم به، تصنع قهوته وطعامه، تكترث لتلك التفاصيل التي لم يلحظها سواها، حديثه لها فجر اليوم!! إلي أين تذهب به؟! ماذا بعد كل ما تفعله معه؟! أأقترب مما يريد الوصول إليه أم لا؟ أتعامله فقط كمجرد حالة من حالاتها أم بدأت أن تقع في عشقه مثلما أراد؟! 

"عندك حق!" تنهد ثم ابتعد عنها بملامح لم تستطع قرآتها ليذهب جاذبا سترته وشعر بها تغادر ليلحق بها مهرولا كي لا يتأخرا أكثر من هذا!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

في مساء نفس اليوم 

أجتمع الجميع بمنزل بدر الدين حيث قد دعا كلا من هديل وشاهندة وحمزة وأبناءهم بعد أن قرر كلا من زينة وسليم أخيرا الإفصاح عن أمر حمل زينة التي ظنت أن تلك الأخبار السعيدة بمصاحبة خِطبة عاصم التي سيعقدها قريبا وها هو قد آتى بصحبة لميس اليوم، سيرفعا من روح أروى المعنوية وكذلك والدتها هديل وبالرغم من رفض سليم لإخبار الجميع الآن فهو لا يزال غير متقبلا لأمر اقتراب أروى من زينة ولكنه بالنهاية فعل ما يُرضيها ليتجنب أية مشكلات معها..

"إياد كلم آسر وخالو زياد فيديو كول معلش" همست إليه زينة لينظر لها بإستغراب 

"اشمعنى يعني؟"

"اسمع الكلام بس.. خلص بقى ما صدقت كله قاعد ومحدش معاه مكالمات.. بس من غير ما حد ياخد باله" توسلته ليمط شفتاه في تعجب ثم فعل ما أخبرته زينة به 

"يوم ما فكرت إن ليك أخ.. عامل إيه يا إياد وحشتني أوي" حدثه آسر الذي أجاب مكالمته فورا وأتضح أنه جالس بمقر الشركة

"قال يعني أنت اللي بتفتكرني.. وأنت كمان وحشتني.. خالك فين؟" حدثه إياد الذي قد استخدم سماعة هاتفه 

"آه متكلم علشان خالك.. عايزه يشوفلك خلعة من أسما ولا إيه؟" سأله مازحا "قولتلك يا ابني من بدري بلاش خطوبة مسمعتش كلامي.. ضيع كده أحلى سنين في حياتك مع واحدة بس، ده أنت فايتك عمرك كله"

"يا ابني اسمعني الله يكرمك.. أسما إيه اللي اخلع منها أنت فاكرني بتاع بنات زيك.. شوف بس خالك فين" رمقته أسما في تعجب مضيقة ما بين حاجبيها ليبتسم لها هامسا "ده آسر.. معلش ما انتي عارفاه" همس إليها لترفع احدى حاجبيها بإبتسامة هادئة وهزت رأسها بإنكار 

"في مكتبه تقريبا"

"طيب يالا قوم روحله بالموبايل" 

"طيب استنى" نهض آسر وهو ذاهبا في اتجاه مكتب زياد "أنا مش فاهم إيه الحوار ده بس، ما كنت تكلمه هو"

"زينة عايزاكو أنتو الاتنين سوا"

"اشمعنى يعني؟" تعجب آسر سائلا 

"ماعرفش أنا زيي زيك أهو"

"طيب ماشي" دلف وهو متجها نحو زياد "خد يا عم بيقولوا زينة عايزانا" ناوله هاتفه ليتناوله منه زياد 

"واد يا إياد.. وحشتني، عامل إيه؟"

"تمام يا خالو أنت اللي وحشتني اوي"

"مش ناوي كده تجيلنا في يوم، سفرياية كده اعتبرها اجازة يعني" 

"إن شاء الله، بس أنت عارف يادوب سليم لسه راجع من شهر العسل ولسه أروى تعبانة، الدنيا بس كده تهدى في الشغل وأجيلك"

"شوف هظبطك فسح وسهر ونسوان" أخبره ليحمحم إياد وكان ممتنا أنه استخدم سماعة هاتفه 

"ربنا يسهل.. بقولك أنا هاشيل السماعة علشان زينة عايزة تكلمكم.. احنا كلنا عند خالو وبنتعشى في البيت عنده" علّ ما أخبره به ينبهه ألا يتحدث بما لا يليق 

"ده إيه التجمع ده.. خير يعني" 

"مش عارف .. خد زينة اهي" قام بإزالة السماعات ثم ناول الهاتف لزينة 

"خالو وحشتني اوي أنت وآسر وكان نفسي تبقوا معانا جدا"

"ايوة بقى يا عروسة.. عاملة إيه يا حبيبتي وأخبار الجواز إيه؟" تحدث إليها زياد 

"يا زوزا .. وحشاني انتي كمان اوي" أخبرها آسر 

"أنا الحمد لله تمام.. ما أنا هقولوكوا أهو على خبر حلو" وضعت الهاتف على مقربة بينما أمسكت بيد سليم واستدعت انتباه الجميع 

"يا جماعة أنا مبسوطة اوي إن كلنا متجمعين.. وكمان لميس معانا.. وقررت أنا وسليم منتأخرش بقى أكتر من كده وأقولكوا إن كمان كام شهر كده عيلة الخولي هيجيلها بيبي جديد.." 

أخبرت الجميع بإبتسامة وادعى بدر الدين مفاجئته بينما تفاجئ الجميع بصدق وكان أكثر من شعر بالفرحة عن حق كانت هديل التي تساقطت دموعها وبين التهنئة والباركة وتلك الجلبة التي أحدثها الجميع أجبرت أروى إبتسامة على شفتيها بمنتهى الهدوء وأصبحت لا تُفكر سوى بصدمتها من ذلك الخبر، ولكنها ستتصرف.. لن يُصبح أبدا لزينة ابنا من سليم!! لن تدع ذلك ليحدث أبدا!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

لقد كان هادئا أكثر من اللازم! أهذا لخجله مما أخبرها به؟! منذ انتهاء المؤتمر وهو جالسا بغرفة مكتبه، لقد مر أكثر من خمس ساعات وهو على ذلك الحال.. لم تكن هذا ما توقعته بقضاء الوقت معه.. وبالطبع لم تكن في حاجة لمواجهة شهاب الدمنهوري رجل الأعمال اليوم بعد ما قارب على الإدلاء بالكثير عن ماضيه ..

قررت أن تذهب حتى تحاول معه مرة أخرى، علها تستخدم حيلة الأصدقاء تلك، ولكن لا، ليست حيلة، لن تنكر أنها أحيانا تستمتع بقضاء الوقت معه وكأنها تتحدث إلي احد أصدقائها.. 

كانت تتمنى لو أن يُكمل لها حديثهما عن طفولته ولكنها لن تخاطر بالضغط عليه اليوم، ربما غدا.. ولكنها سأمت غضبه وإنزعاجه ومراوغته وليست في مزاج لتُسيطر على مراوغاته معها الآن!

لم تكن تعلم أنه منذ صباح اليوم وهو يُعيد التفكير بكل حرف صدر منها منذ أول يوم رآها به.. منذ شهرين وستة أيام، شهاب الدمنهوري لا ينسى أبدا، ولكن أن تأتي بهذه الفترة القصيرة وتجعله يتحدث هكذا حتى وتقنعه بأنه مريض.. هذا لم يتصوره أبدا.. 

يشعر بالتخبط ما إن ذهب ليتحدث إليها، يدعي الإنشغال، لا بل هو لديه الكثير ليفعله في الحقيقة، ولكن التفكير بكل ما مر عليهما سويا ورؤيته إليها وهي تهتم به تحدثه بتلك الطريقة التي لم يقترب بها من أحد من قبل سواها هي تسيطر على عقله، بالرغم من أنه لا ينكر رغبته الشديدة التي تزداد بها يوما بعد يوم ولكنه أيضا قد أُرهق من كثرة تلك اللحظات التي لم يتشاركها من قبل مع أي أحد سوى هي..

ذكر نفسه بأن هذا كل ما يريده، هو الحصول على إهتمامها ورؤيتها تعشقه أكثر من ذلك العشق الذي تحمله لزوجها، هذا الشيء الوحيد الذي ينقصه، ربما هو ليس بمريض.. هي مخطئة.. أو هي على صواب، لا يدري، ولكنه يشعر بالتذبذب والتخبط بجانبها، وهذا أكثر ما لا يُعجبه بالأمر، وكأنها تنتزع ثقته بنفسه كما لم تفعل أي إمرأة من قبل!

أين شهاب؟ أين ذهب؟ يختفي حقا من إمرأة يريد إيقاعها واستمالتها إليه! يا للسخرية!! 

"شهاب" همست بعد أن طرقت الباب ليرفع نظراته الشاردة من حاسوبه ليتحول شروده من وجهها بمخيلته إلي رؤيتها أمامه بالواقع وهمهم إليها منتظرا إياها أن تتحدث 

"مزهقتش من الشغل؟ أو عاوز تاخد break مثلا؟" سألته بنبرة أتضح بها السأم  

"لسه ورايا حاجات كتير" حدثها بإقتضاب ثم تظاهر بالنظر إلي ما أمامه 

"ما تخليك كويس بقى وتيجي تتمشى معايا شوية.. أو لو ممكن تأجل الشغل النهاردة كفاية كده ونتفرج على فيلم بدل الزهق ده، أنا مش لاقية حاجة أعملها" أخبرته ليرفع إليها داكنتاه مرة أخرى وهي تتوسله بصوتها ذلك الذي بدأ في إزعاجه مثل ما تزعجه عينيها وشعرها وكل تفاصيلها "على فكرة بعرف أعمل فشار حلو.. ها فيلم ولا نتمشى؟" 

توسعت عيناها في حماس لينهض ثم نظر إليها عاقدا حاجباه متنهدا ومجرد فكرة بسيطة كمشاهدة فيلم بصحبتها كان أمرا جديدا عليه تماما.. لم يفعله من قبل.. وها هي تأتي لتقترح المزيد من أمور أول مرة خاصتها التي لا تتوقف هي عن إقحامها بحياته..

أومأ بإقتضاب لتبتسم هي بإنتصار وجزءا بعقله يصرخ به أن كل ما يفعله مع تلك المرأة بات جنونا محض ولكنه لا يريد الإستماع لعقله الآن، ليس في مزاج رائق له، ويكفي تلك الساعات المنصرمة دون البقاء بصحبتها..

"أختار أنت الفيلم على ما أعمل الفشار" أخبرته وهي تتركه وتوجهت للمطبخ ليذهب هو لغرفة الجلوس أمام تلك الشاشة الضخمة التي قلما يستخدمها بمنازله ثم شعر بجهله التام لتلك البرامج والأفلام وغيرها، فهو ليس ذلك الرجل الذي يشاهد تلك التراهات.. 

"أنا لقيت chips ومكسرات كمان.. ها اخترت فيلم إيه بقى؟" 

حدثته لينظر لها بملامح استطاعت قرآتها بسهولة، يبدو وكأنه بورطة ما فهز كتفاه وكذلك رأسه في إنكار وكأنه لا يدري ما الذي عليه فعله لتقترب هي بعد أن وضعت الأطباق بجانبه وأخذت جهاز التحكم عن بعد من يده 

"فيه نوع أفلام بتحبه؟ أكشن، رعب، كوميدي..؟" حدثته بتلقائية لتمتعض ملامحه 

"اختاري انتي أنا مش بتفرج على أفلام أصلا.." أخبرها وقد لمحت طيف إنزعاج بسيط بعينيه لتومأ في تفهم ثم اختارت احدى الأفلام وجلست على مسافة مقبولة ليشاهد كليهما ذلك الفيلم الكوميدي في صمت تام لم يتخلله سوى ضحكاتهما!

ولكن لا، لقد تخلله الكثير من النظرات التي لم يلحظها كليهما، ولكن كل واحد كان ينظر إلي مبتغاه وما يريده من الآخر..

تدرك هي أنها تنظر إليه كإنسان، غير عدواني.. يستمتع حقا بوقته في مشاهدة أيا كان ما يُعرض على تلك الشاشة وهو يتناول التسالي بعد يوم مرهق من العمل.. من يراه الآن لا يُصدق أنه هو نفسه ذلك الرجل الذي تحدث عنه بدر الدين منذ شهور، ويستحيل أن يخطر على بال أحد أنه نفس ذلك الرجل الذي يُعذب النساء ذو الغموض الذي يُصمم تلك المباني العملاقة بمنتهى الحرفية.. 

أكانت تُجالس زوجها هكذا لمشاهدة الأفلام؟ لو كانت زوجته لن يُشاهد تلك الأفلام السخيفة معها! حسنا الفيلم بحد ذاته ليس سخيفا.. لقد كان مُضحكا نوعا ما.. لن يُنكر أنه لأول مرة يُشاهد تلك الأفلام.. كما أن ضحكاتها رائعة.. ربما سيشاهد المزيد معها بالمستقبل عندما تأتي له ليستمع لتلك الضحكات مرة أخرى.. هل هذا معناه أنها بدأت تعشقه؟! لا يدري.. ربما يُمكن أن يكون هذا تفسيرا منطقيا لطريقتها وتصرفاتها معه اليوم.. الأيام القادمة ستبرهن له كل شيء! 

"شهاب.. شهاب" نادته ربما للمرة المائة ليفتح هو عيناه بينما نظرت هي إليه ضاحكة 

"قوم نام يالا في اوضتك بدل ما أنت نايم هنا" هل وقع بالنعاس؟ نظر بجانبه عاقدا حاجباه ليفرك وجهه بيداه وأومأ لها في تفهم "تصبح على خير.." أخبرته ثم حملت تلك الأطباق لتتركه خلفها ليشعر بالمزيد من التخبط والحيرة بكل ما يحدث له معها..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد مرور أربعة أيام .. 11 أكتوبر 2019

حدث تماما كل ما كانت تشعر بالخوف منه، عاد شهاب المراوغ مرة أخرى، عاد ذلك السيكوباتي البارع في الكذب، ذلك الغامض الذي رآته أول مرة بمقر احدى شركاته.. ذلك الرجل الواثق للغاية من نفسه، الذي لا يرتاب سوى بما دفعها على معرفته، وتلك النظرات التساؤلية التي لا تتوقف عن الإنهمار من عينيه القاتمة، ومن جديد شعرت أنها وصلت لنقطة البداية مرة أخرى!! 

ربما هبة كانت محقة بكل شيء، ربما طريقتها في محاولة عدم الضغط عليه لا تأتي بثمارها أبدا.. لماذا عليها طوال الوقت أن تجبره بأي طريقة ممكنة للحصول على بضع أحداث من ماضيه، لا بل هذان الأسبوعان كانا أكثر من كافيان لإقناعه، لوضع الحدود بينهما، لإعطاءه الفرصة في التحدث بدلا من المرة آلاف المرات ولكن هذه هي النهاية بينهما!! لقد سأمت ولم يبقى بها ذرة من مثابرة لإستكمال كل تلك اللعبة معه..

نظرت إليه بتلك الملامح المبهمة التي حاولت قرآتها أكثر من مرة في غضون تلك الأيام السابقة ولكنها لم تعد تحصل على إجابات، وكأنها لم تعد تفهمه.. لم تعد ترى سوى نفس الرجل المخادع مرة أخرى أمام عينيها، يبدو وأن كل محاولتها للحصول على ثقته ومصادقته باءت بالفشل الذريع ولماذا أيضا ينظر لها بتلك الطريقة؟! 

تناولت من طبقها القليل من الطعام لتمضغه ببطء وهي حقا لا تشعر بنفس تلك الشهية التي كانت تشعر بها بالأيام السابقة لتراه يبتسم إليها إبتسامة خبيثة لا تفهم من أين آتت!

شعرت بالإستغراب ثم نظرت إليه بتساؤل بينما لم يتجاوب معها أبدا ليزداد استغرابها والتفتت لتنظر خلفها فربما يشاهد أمرا يُضحكه لترى إمرأة تجلس بمفردها على أحدى الطاولات وبين كل المتواجدين كانت هي الأكثر عهر بين الجميع في ذلك المطعم المُلحق بالفندق!

"بقولك.. أنا شبعت، تصبحي على خير.. أنا هاقوم اليوم كان مُتعب النهاردة" حدثها بنبرة ضجت بالملل ثم أخرج احدى بطاقاته الإئتمانية وهو يُشير للنادل المتواجد بذلك المطعم ليأتي له على الفور ليقوم بطلب الحساب 

"وأنا كمان فعلا شبعت.." أخبرته هي الأخرى وتركت بقية ما تتناوله وكل خوفها الآن ذهب ليُفكر بأن تلك المرأة لو اجتمعت معه بغرفة واحدة ستفسد كل ما كانت تحاول بناءه بتلك الأيام من وضع حدود والتزام وإقلاعه عن الخمر، ويا للهول لو مارس معها الجنس.. مع شخص مثله ستبدأ الأمر معه من الصفر، ربما من سالب خمسمائة!! 

فرغ من دفع الأموال ثم أخرج حافظة نقوده ليترك المزيد من الأموال لذلك النادل ونهض لتنهض هي الأخرى وهي تسير بالقرب منه ولكن ما أدهشها هو ذهابه ليجالس تلك المرأة لتبتلع في ارتباك وقبل أن تتحدث بادرها هو 

"تصبحي على خير.. بكرة معاد الطيارة الساعة تلاتة.. ياريت تكوني جاهزة" أخبرها بمنتهى الرسمية ثم ابتسم لتلك المرأة ابتسامة رائعة لتومأ فيروز في إحراج وغادرت مسرعة حفاظا على ماء وجهها!

مشت لتغادر ذلك المطعم ولكنها توقفت لتتابعه بعينيها في توتر، أحقا سيصطحب تلك المرأة لغرفته؟! لا.. يستحيل.. رجل معروف بهذا الفندق لن يسمح بلفت الأنظار إليه.. ولكن فندقه الخاص به، هو يملكه، لن تستبعد أنه يفعلها!! ماذا لو فعلها؟ سيفسد كل ما عملت هي عليه تلك الأيام وبالرغم من عدم شروعها في معالجة تلك الأفكار الخاطئة التي حتى لا تعرف عنها سوى القليل ولكن تدرك جيدا أنه إذا قام بممارسة الجنس سيعود مرة أخرى لسلوكه العدواني!!

ابتعدت سريعا بمجرد رؤيته ينهض هو وتلك المرأة وتوجهت نحو المصعد وكأنها تأخرت لتجلب شيئا ما ولم تنظر خلفها بتاتا وتظاهرت بالتلقائية وهي تحاول أن تُخفي توترها الشديد وخوفها من أجله إن عاد مثل السابق مرة أخرى فهي بالكاد حصلت على إتزان ولو ضئيل بتصرفاته! 

استمعت لتلك الضحكة التي تمنت أنها لا تأتي من تلك المرأة التي يُصاحبها لتلتفت لتراهما وقابلها بنظرات غير مكترثة بينما لاحظ كم أن ملامحها مشدودة ومتجهمة ولكنه قد سأم! 

سأم تفكيره بها، سأم توقفه عن ممارسة الجنس مع النساء، سأم اتباع تلك الحدود والتظاهر بعكس كل ما هو عليه، سأم سيطرتها عليه، كره بشدة أنه قد تحدث إليها أكثر من مرة عن ماضيه.. لقد كان عليه أن يفعل شيئا يعيده للواقع مرة أخرى، شيئا ربما يبرهن له أنها تشعر بشيء نحوه.. ربما أن تذهب تلك المرأة لغرفته أمام عينيها سيجعلها تعترف بشيء له.. أو حتى يجعله يشعر بأن شهاب الدمنهوري لا تقدر أن تغيره إمرأة أبدا..

فُتحت أبواب المصعد لتدلف فيروز وهي تحاول ألا تدع غضبها يظهر عليها ثم دلف كلا منهما وقد وقفا كلا منهما أمامها ليقوم شهاب بضغط أحدى الأزرار التي تحمل رقم الطابق الذي يمكث كلا منهما به وقرر أن يعطيها شيئا لتُفكر به طوال الليل بينما يستمتع هو بأحدى ممارساته الجامحة مع تلك المرأة!!

وضع يده ليتحسس ظهر تلك المرأة العاري بأنامله بمنتهى البطء الشديد ورمقها بطرف عينيه لتنظر له المرأة بمكر وابتسامة لتبتلع فيروز وهي تنظر لأنامله التي تداعب ظهر تلك الحقيرة التي لا تملك ولو مثقال ذرة من احترام لنفسها وشعرت بالغضب يتآكلها وازدادت وتيرة أنفاسها بمنتهى الإنزعاج لتلعن ذلك اليوم وتلك الفكرة التي وافقت عليها في مقابل علاج هذا الرجل الوقح!!

أخذت خطوات سريعة وهي تشعر أنها تكاد تنفجر من ذلك الغضب الذي يسري بدمائها وتوجهت بسرعة لغرفتها لتصفع الباب خلفها وشعرت بصراخ أفكارها التي تُخبرها بأن تحاول إيقافه عما يفعله.. ولكنها كانت أوشكت على الإستسلام منذ قليل تجاه الأمر برمته!! ما الذي يحدث لعقلها المختل الآن؟! 

ماذا ستفعل.. ستطرق باب جناحه لتخبره بأن ممارسة الجنس ستؤثر على كل ما كنت أعمل على تشييده معك تلك الأيام.. أم تخبره بأنه استطاع التوقف لما يقارب شهران ويستطيع على أن يترك الأمر برمته؟! يا لها من ساذجة!! 

تناولت شهيقا عميقا ثم زفرته لتهدأ من غضبها وهي تفكر بسرعة لحل لذلك الموقف وأخذت تكرر الأمر مرة واثنان وثلاثة والأفكار تتصارع بداخل رأسها كي تحاول أن تنهيه عما سيفعله!

أخذت قرارها ثم حاولت الهدوء أكثر وأجبرت نفسها على ترك ذلك الغضب جانبا وتوجهت لتغادر الغرفة واتجهت نحو ذلك الجناح الذي يمكث به منذ أن أقاما بهذا الفندق وهي حتى لا تدري ما السبب فلطالما كانا يمكثا بمنزل من منازله ولكن آخر أربعة أيام تغير كل شيء.. 

"أفندم!" فتح الباب بملامح منزعجة بعد تلك الطرقات التي لم تتوقف هي عنها لتنظر إلي مظهره فهو بدأ في خلع ملابسه بالفعل ولم يعد يتبقى عليه سوى بنطاله ولا شيء سوى هذا!!

"ممم.. كنت.. معرفتش أنام.. تحب تتمشى؟" حاولت سريعا ألا تستمع لتخيلات عقلها بما كان يفعله منذ قليل وابتسمت إليه بعفوية 

"لا!" ابتسم إليها بإقتضاب ثم أوشك على إغلاق الباب بوجهها 

"متبقاش رخم و.."

"بقولك إيه، أنا مشغول ومش فاضيلك! لو فيه حاجة مهمة قوليها، لو مفيش روحي اعملي اللي انتي عايزاه بعيد عني" قاطعها بنبرة هادئة امتلئت بالجمود والتخلي التام عن المشاعر لتشعر هي بالإهانة الشديدة ورمقته في غير تصديق لينظر لها لبرهة وعندما لم يجد منها إجابة أغلق الباب بوجهها وتوجه للداخل مرة أخرى!

تلك اللعينة تتحلى بالكبرياء.. لتشعر بالغيرة إذن، أو حتى لتتمنى أنها معه بدلا من تلك المرأة التي أمامه.. لا يكترث.. وكل ما أراده حقا الآن أن يفرغ ذلك الكبت بداخله على تلك العارية بذلك الفراش في أقرب وقت ممكن.. 

أقترب ليجذبها من قدميها وهو يرفع ثوبها الذي كشف جسدها بأكمله منذ أن كانا بالمطعم فلا يشعر بالحاجة لرؤية المزيد ثم فتح سحاب بنطاله وأقترب من أن يشرع في مضاجعتها ولكن عادت تلك الطرقات من جديد على بابه جعلته يسُب بخفوت ولكنه لا لن يتوقف قبل حصوله على ما يريد..

"انزلي على ركبك" نظر لتلك المرأة بشراسة بينما فهمت هي ما يريده لتبتسم له في عهر وقد علمت ما يريده تماما وما إن بدأت فيما أراده حتى وجد نفسه يجذبها من رأسها نحوه أكثر وبنفس الوقت يسيطر على رأسها بكلتا يداه القويتان ليجبر رأسها على العودة للوراء حتى لامست الفراش ولم يتوقف عما يفعله سوى بعد أصعب خمس دقائق مروا عليه بحياته، فهو لطالما كان ينتهي بعد الكثير من الوقت، ولكن ما الذي جعل شهوته تأتي بهذا السرعة؟ 

أبسبب تلك الطرقات؟ أم لأنه لم يعاشر إمرأة من حوالي شهران بأكملهما؟ ربما لمعرفته بوجود فيروز خلف ذلك الباب؟! لا يدري ولكنه الآن يشعر أفضل بما كان عليه منذ أيام..

نظرت له تلك المرأة بعهر وهي تلعق شفتيها وأصابعها ليشعر بالتقزز وهو يلهث بأنفاس متثاقلة وابتعد عنها لتنهض هي وحاولت الإقتراب منه ليستمع شهاب لطرقات على الباب مرة أخرى ليعقد حاجباه في إنزعاج ثم بضربة يد سريعة على احدى جانبي عنق تلك العاهرة أفقدها وعيها لتسقط أرضا ومن ثم توجه نحو الباب وهو يلتقط أنفاسه ثم فتح الباب بمنتهى الغضب

"عايزة إيه؟" حدثها بأنفاس قاربت على الهدوء وهو ينظر لها بوقاحة وبنفس الوقت أغلق سحاب بنطاله 

"أنت.." حمحمت وهي تنظر له وعادت بتلقائية للخلف وهي لا تصدق أنها للتو تحاول أن تنهي رجل عن ممارسته للجنس "أنت كنت بتعمل إيه؟" حدثته بنبرة حاولت ألا تبدو متلعثمة وهي تنظر له في استفسار 

"تفتكري كنت بعمل إيه؟ ها؟! عرفتي ولا تحبي تتفرجي؟" حدثها بوقاحة ليأخذ خطوة نحوها "إيه مش قادرة تفهمي إني نايم مع واحدة مثلا؟ ولا ذكاءك موصلش للدرجة دي؟" أقترب أكثر منها وهو يبتسم لها بجرأة لتبتعد هي للخلف "عايزة إيه مني؟ هيفرق معاكي في إيه كنت بعمل إيه؟" توسعت إبتسامته لترمقه هي وحاولت التحدث لأكثر من مرة ولكن لسانها انعقد وهي تنظر إلي صدره العاري الذي قارب تعرقه الذي لاحظته منذ قليل على الإختفاء 

"عايزة مني إيه؟ لما أنا مش بتاع دين ولا إحترام ولا علاج.. عايزة إيه؟" سألها مرة أخرى وهو يقترب إليها 

"شهاب أرجوك بلاش اللي أنت بتعمله ده هيبوظ كل حاجة.. بلاش على الأقل دلوقتي" همست وهي تنظر إليه ولا تدري لماذا عاد الغضب إليها مرة أخرى، لا ليس الغضب فحسب، بل شعور غيرة لم تختبره من قبل ولم تُفسره على أنه غيرة أبدا!! 

"لا بجد" ضحك بخفوت ساخرا ورفع حاجباه في إندهاش "بقولك إيه، ما كفياكي لف ودوران.. مش انتي مبتحبيش اللف والدوران والكدب برضو!! تعاليلي دوغري" أخبرها وأقترب أكثر حتى شعرت أن جسدها قد تلاقى بالجدار خلفها وازدادت أنفاسها من ذلك الموقف الذي وقعت به ومن كلماته التي يتحدث بها وبنظراته تلك التي لا تبشر بالخير أبدا

"مضايقة.. أظن كنت قدامك.. إيه الجديد في إني أنام مع واحدة وقولتلك كذا مرة الكلام ده.." ضيق عيناه بخبث وأقترب إليها أكثر "غيرانة علشان هنام معاها هي وأنتي لأ مش كده؟ كان نفسك تكوني مكانها، عاملة فيها رابعة العدوية و.." أوقفته عن الحديث بصفعة في منتهى القوة ولم تكترث لملامحه التي تحولت مائة وثمانين درجة من تلك النظرات الماكرة الجريئة الوقحة لأخرى لا تدل سوى عن الغضب اللاذع الذي لا تكترث هي له..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

تنويه:

الفصل القادم سيتم نشره على مدونة رواية وحكاية يوم 12 أكتوبر 2020 في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل على الواتباد بتاريخ 13 أكتوبر 2020