-->

الفصل السابع والعشرون - شهاب قاتم

 







الفصل السابع والعشرون


تنويه : الفصل القادم يوم 4 أكتوبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام التاسعة مساءا...

ملحوظة هامة : الحوار بين فيروز وشهاب عن الدين والرد والتفكير من وجهة نظر الشخصيات ليس أكثر ولا أقل!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


 
إن اتفه المقدمات ممكن ان تؤدي الى اخطر النتائج ... واخطر المقدمات ممكن ان تنتهي الى لا شيء .. وعالم الغيب وحده هو الذي يعلم قيمة كل شيء..

( د. مصطفى محمود - حوار مع صديقي الملحد)


⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"آه.. ليو ما الذي تفعله بحق الجحيم؟! تترك كل شيء وتجلس لدراسة هذا الأمر السخيف بين يديك.. حقا أنا لا أصدقك!" حدثته كلوديا بسأم ثم ألقت بجسدها على السرير ولكن لم يكترث لها شهاب 

"حقا ماذا تريد من دراستك تلك.. أنت الآن أهم شخص بالنسبة لكارلو، لقد أصبحت أنت الوحيد الذي يعتمد عليه، حتى أكثر مني.. منذ أن ذهب إل تشينو لم يعد هناك من ينافسك في هذا! لا أستطيع التعرف عليك حقا حتى بعد كل ذلك الوقت.. فقط أخبرني ما الذي ستحصل عليه من تلك الدراسات التي تقوم بها؟ لم أرى من قبل رجل مافيا لديه شغف بالدراسة مثلك!" همست إليه وتململت في السرير وهي تحرك جسدها بإغراء ولكنه لم يلتفت إليها وسلط تركيزه على ما أمامه 

"لديك الأموال، الجاذبية، آلاف النساء تتمنى ليلة جامحة معك، وحتى أنت عزيزي قد حصلت على داهية العصابات ذات الجسد المثير.. اترك ما تفعله وانضم إلي" حدثته بنبرة امتلئت بالدلال والأنوثة الطاغية ليرمقها بطرف عينيه 

"ماذا؟! ألم تعد تريد كلوديا في فراشك؟ بعد أن أصبحت ماستر بينسوليو ولديك تلك الفتيات الساذجة بشغفهن للسادية فقدت شغفك بي؟ يا للسخرية.. كنت أنا من اقترحت الأمر عليك لتذهب أنت وتنشأ كيانا بأكمله لساديتك دون مساعدتي.. هذا ليس بنبل على الإطلاق عزيزي بعد أن اقترحت عليك الأمر!" ألقت بقميصها المثير بأنامل قدمها في إثارة وأخذت أناملها تداعب جسدها العاري في إغراء شديد يعصف برجولة أي رجل كان

"ليو، أرجوك.. أشتقت لك.." نهضت وهي تتوجه نحوه ثم جلست بين قدماه أرضا ونظرت له بعينتيها الزرقاء القاتلتان بهذا السواد الحالك حولهما في إغراء "لقد سمعت الكثير على مغامراتك مع تلك الفتيات.. أستقوم بإخفاء الأمر عني؟ ألا تريد أن تجرب ذلك معي؟ أود رؤية ذلك الرجل بك.. أم يجب على أن أذهب لرجل آخر يستطيع ممارسة هيمنته علي؟" لثمت قدماه ببطء شديد ليزفر شهاب ثم جذب شعرها ليجعلها ترفع رأسها إليه 

"وماذا عن ساديتك مع الفتيان بالماضي.. الآن تريدين أن تصبحي خاضعة.. يا للسخرية" ابتسم لها نصف إبتسامة وهو يتفحص عينتيها بنظرة مخيفة 

"لا.. لا أريد أن أصبح خاضعة.. ولكن أريد أن أصبح خاضعتك" نظرت له بتوسل بينما أضافت بنبرة مثيرة "سيدي!" 

رفع حاجباه واخفضهما سريعا في إعجاب وابتسم إليها وقرب وجهها أكثر بين قدماه وتلك الحدقتان شبيهتي حدقتي الصقر بحثت بوجهها عن المزيد من الخضوع له وأزاد من قوة اجتذابه لشعر رأسها 

"لن يكون الأمر عنيفا كلوديا فحسب، السيد بينسوليو السادي ليس كعشيقك العنيف الذي يروي أنوثتك.. أنا احذرك.. هل أنتِ مستعدة لذلك؟!" سألها لتومأ له بالموافقة 

"نعم سيدي.. أوافق" 

"لن يكون الأمر كتلك الغرف.. ليس هناك عقد ولا مناقشات بما نتفق عليه مثل ما أفعل مع تلك الفتيات.. لن يكون هناك سوى الجنون المحض.. عزيزتي أنتِ لا تريدين رؤية ذلك الوجه بي.. نصيحة.. يكفيكِ فقط الحصول على ليوناردو اللطيف والممارسات العنيفة.. الأمر إذا تحول سيتخذ شكلا مرعبا.." ابتسم بشر لتتلمس يده وقبلتها في شغف 

"أريده معك.. معك أنت فقط.. أعرف أنك تعلم جيدا أنني لم أعد أعاشر سواك.. ربما بالماضي كنت أفعل.. إنما الآن أنت تعرف ما تعنيه لي ليوناردو!" نظرت له بصدق وحدثته بتوسل ليستشعره من ملامحها فهو يعلم أن كلوديا باتت تعشقه الآن! 

"حسنا إذن" زفر بعمق ثم نهض جاذبا إياها لتحبو هي خلفه، عارية، تحاول أن تلحق بخطواته السريعة 

"إلي أين نذهب؟" همست سائلة ليرمقها أسفل قدماه بعد أن توقف

"لا أأمن مكرك عزيزتي.. أعلم كيف تفكرين.. لو كنتِ كاذبة سأعلم.. ولو كنتِ صادقة سأدعك تستمتعين.. متعتك لن يضاهيها متعة عندما أنتهي من أمرك.. ولكن ليس بهذا المنزل، ربما أنتِ تقومين بتلفيق شيئا لي.. لا أستبعد هذا.. ولكن لنعود لإتفاقنا! ألا تريدين رؤية الكيان السادي بعينيكِ الرائعة؟" نبرته الهادئة وملامحه التي تحولت وهو يجذب شعرها بمزيدا من العنف جعلتها تبتلع بقليل من الخوف ولكنه أدرك خوفها 

"ماذا! أتشعرين بالخوف؟ أتريدين أن أتوقف؟" سألها بنبرة أقشعر لها جسدها والمكر يلمع بعينيه لتومأ بالإنكار 

"لا لست خائفة.. أكمل.. سأذهب معك أينما تريد" ابتسم لها ثم أكمل طريقه وهو يجذبها ليسير نحو المرأب ليتمتم بزهو 

"عاهرة جيدة!"

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

ألم يجد سوى هذا السبب الواهي ليُفسر لها وجوده بغرفتها في هذا الوقت! اللعنة على عقله المختل.. من أين آتى بما قاله وكيف نطق لسانه به.. حسنا تلك المرأة تكشفه بسهولة، لا ينسى إعترافها إليه بأنه مخادع ويراوغها ويرتاب بأمرها.. عليه أن يُتقن الدور، ولا ضير مع بعض الصراحة غير المؤذية، فهو لن يخاطر الآن بإفساد ما أصبحت عليه معه!

"طيب يا شهاب.. اتكلم" همست وهي تحاول النهوض لتستند بجذعها على الوسائد خلفها، وحاولت تجاوز حالة الإضطراب والمفاجأة التي هي بها من رؤيته في غرفتها، فلولا أنها أخيرا حصلت منه على إقرار برغبة تحدثه لكانت أخرجته خارج الغرفة بعد أن تلكمه إلي أن ترى الدماء بوجهه 

"أنا كنت عايز اتكلم فـ.." همس وادعى صعوبة الأمر بينما جلس بنهاية السرير ونظر إليها وهي تحاول طرد النعاس من على وجهها الذي فركته وكذلك شعرها الذي خللته للخلف لتصعب عليه الأمر أكثر ليلعن لسانه آلاف المرات بداخله على اعترافه ولكنه من وضع نفسه بهذا الموقف! فليتحمل إذن! ولكن قد يصله هذا لشيء أراده..

"كنت عايز أكلمك عن والدي.. وأنا صغير.." همهمت إليه في تفهم بينما تثاءبت لتضع يدها على فمها ليتابع هو تلك الشفتان بعد أن اخفضت يدها لتتفاقم صعوبة الأمر وزجر نفسه، لن يكون بجيد أبدا أن ينقض في افتراس على تلك الشفتان.. لن يكون التصرف الأكثر حكمة مع إمرأة مثلها يريد منها العشق الذي تاق له لسنوات!

"كلمني" أخبرته هامسة وبدأت في الإستيقاظ لتنظر إليه في هدوء وترقب وانتظار لتجده يزفر عاقدا حاجباه بينماعقدت ذراعيها وأعطته كامل اهتمامها

"أول مرة من ساعة ما.. من ساعة ما مات.. يعني.. حسيت إن الموضوع صعب من غيره" أخبرها متلعثما وقلب شفتيه كمن يستنكر ما يقوله "مع اني كنت كويس" تحولت ملامحه ليسيطر مجددا على نفسه وأصبح وجهه مبهما فارغا من المشاعر "أنا مستغرب إن ده بيحصل دلوقتي" همهمت فيروز في تفهم بينما طال الصمت بينهما وهما يتبادلا النظرات لتتنهد فيروز 

"يعني حاسس إن ده شعور غريب إنه وحشك، أول مرة الموضوع يحصلك؟" سألته ليرمقها بنظرة حائرة 

"مش عارف" أخبرها بإقتضاب 

"تمام" همهمت إليه وهزت رأسها في تفهم "بس أنت قولتلي إنك عايز تكلمني عنه أيام ما كنت صغير، مش كده؟" هي لا تخبره بذلك ولا تسأله، هي فقط تريد أن تستدعي انتباهه لمحاولته المراوغة في تغيير صلب الموضوع

"آه.. فعلا" لاحظت القليل من الإرتباك ظهر بلغة جسده كمن لا يعرف ماذا يريد 

"احكيلي.. من ساعة ما حصل الإنفصال بين مامتك وباباك.. باباك كان بيتعامل معاك ازاي؟" سألته في هدوء عله يخبرها بأي شيء

"كان كويس أكيد" اجابها في لمح البصر بمنتهى السرعة "يعني لو مكنش جانبي يمكن مكنتش وصلت للي أنا فيه، علمني يعني إيه كفاح ويعني إيه الواحد يحقق احلامه، يبقى عنده هدف، وازاي الراجل يبني نفسه" أضاف ثم تنحنح ونظر إليها كمن يريد قراءة ملامحها ولكنها استطاعت ادراك ذلك 

"تمام.. بس كنتو بتخرجوا؟ بتتفسحوا؟ حسيت من ناحيته بالحب، عوضك عن تعلقك وحبك بمامتك؟ كنت قولتلي انك بتحبها ومتعلق بيها، عوضك عن ده؟" سألته بطريقة مباشرة لتختلف نظرة عيناه وازدادت قتامة بنيتيه كمن استيقظ في ماض بعيد لتترقب هي في هدوء 

"أكيد" رفع حاجباه لتتأثر جبينه ببعض التجعيدات وتلامست جفونه أكثر من مرة في ارتباك واضح لتعلم أنه كاذب حتى الثُمالة "الحب والتعلق والمشاعر كلها كانت موجودة معاه، بس والدي كان ليه أهداف تانية وأنا شايف إنها منطقية أكتر من اللي والدتي كانت بتعمله، يعني الحب والتعلق مش هو اللي هيعمل رجل أعمال ناجح ولا يبني كيان بني آدم" أستطاع أن يعاود سيطرته على ملامحه ببراعة لتباغته فيروز 

"يعني الحب والتعلق بالنسبالك حاجة مش مهمة؟" زفر ناظرا إليها وتريث لهنيهة بينما لمست هي منه التخبط وانعدام الثقة بالنفس 

"أكيد مهمين بس مش زي الطموح والأهداف" أخبرها بإقتضاب وزم فمه متفحصا اياها 

"لو واحد كل هدفه حب واحدة مثلا.. أو الحب عموما إنه يحب ويتحب ويبقى في علاقة ناجحة.. دي حاجة تافهة من وجهة نظرك ومش مهمة؟" سألته لتصيبه في مقتل! ود لو اجابها صارخا بأن هذا واحدا أحلامه التي لم يستطع تحقيقها وفشل تماما في لمس ذلك الحلم

"شهاب، عمرك حبيت قبل كده؟" سألته ليرمقها ببنيتين قاتمتين كادتا أن تقتلها واختلفت ملامحه، كره ذلك الفشل بأن يستطيع التحكم بنفسه وتعبيراته لتجده يحك عنقه ولم تحصل منه سوى على صمت تام.. فقررت أن تنهي تلك الجلسة القصيرة، هي ليست في كامل استيقاظها بعد واستعدادها لمراوغته!

لم ير أنه كان يستطيع الكذب عليها بمنتهى السهولة.. لم يلحظ توتره وارتباكه.. وفوق كل ذلك فشل فشلا ذريعا في التحدث كمن انعقد لسانه.. 

"استغفر الله العظيم يارب" تمتمت في همس لم يستمع إليه شهاب ثم فركت وجهها بكلتا كفيها "قوم يا شهاب قوم" أخبرته بينما نهضت لينظر لها بإستغراب بينما تركته وتوجهت لتصنع القهوة فيبدو أن اليوم سيبدأ مبكرا للغاية! فنهض ليتبعها..

"أعملك قهوة ولا هتنام؟" سألته وهي تشعر بتواجده خلفها 

"لا اعملي" اجابها بإقتضاب لتومأ هي في تفهم ثم عقدت شعرها ليجد نفسه يتابعها بعينتيه في إنزعاج تام.. لماذا تعقد شعرها الرائع هكذا؟ علها تتركه بكامل انسيابيته حتى يستمتع برؤيته أكثر!

دام الصمت وهو لا يفعل سوى مراقبته لها، لجسدها، يداها وساقيها وتحركاتها وتفاصيلها، كمن يريد أن يتذكر دائما كيف هي.. كيف تفعل كل شيء.. حتى ولو كان أمر بسيط كصنع القهوة..

لا يعرف بعد لعنة ملاحظة التفاصيل، تختزن بداخله بعد تلك الملاحظات، تتملك من العقل لتصيبه بالنهاية بشلل من الذكريات، ليظل الإنسان يعاني منها بمنتهى العنف غير الهين تماما إلي أن تتركه بالنهاية خالي من كل شيء سوى العشق لتلك التفاصيل بأكملها! وربما لصاحبة هذه التفاصيل! 

عشق التفاصيل لعنة لا يستطيع محاربتها سوى عاشق.. عاشق لا يستطيع أن يُصبح عليه يوما ما..

"اتفضل" ناولته القهوة ليومأ لها بإمتنان بينما توجهت للخارج وشعرت به يتبعها ووقفت في ذلك الضوء الذي انبثق لتوه وهي تقرب القهوة منها لتستنشق رائحتها في استمتاع ثم نظرت لمياة البحر أمامها في ذلك السكون.. ليتابعها بداكنتيه اللامعتين في استمتاع أيضا ولكن الأمر اختلف كثيرا بين كلا منهما! 

المتعة بالنسبة لها تكمن في الهدوء، وتواجده ليشاركها اياه، بينما هو متعته في رؤيتها أمامه وبالقرب منه !! ويا للسخرية، لم يشعر أيا منهما! 

"الحب قوة يا شهاب مش ضعف!" همست هي أخيرا ليلعن داخله أنها لا تزال تتذكر حديثهما "على فكرة" تحدثت بإبتسامة وهي تلتفت إليه لينظر لها في تساؤل وهو يرتشف من قهوته "لما بتكدب أنا باخد بالي! بطل تكدب!" أخبرته في هدوء ليتصنع هو تناول قهوته في محاولة لإخفاء ملامح وجهه 

"بكدب! أنا مكدبتش.." همس في سخرية وإنكار 

"يا راجل!" رفعت حاجبيها مما جعل جبينها يتقطب وتوسعت ابتسامتها في غير تصديق لتحمحم هي وقررت أنها ستحاول محاولة أخرى

"لا فعلا أنت مكدبتش من شوية.. أنت مجاوبتش بس وده من حقك على فكرة.. وعموما بعرف اقفش الناس اللي بتكدب، فخد بالك وأنت بتحكيلي على حاجة!" حدثته ثم ذهبت عينتيها لتنظر نحو مياة البحر "حاول تبص للصورة الأكبر يا شهاب، أنت ممكن تكون حبيت ومن الواضح إن اللي حبيتها مش معاك دلوقتي! علاقة ومكملتش.. وارد جدا يحصل في حياة أي إنسان.. بس الصورة الأكبر إنك ناجح، ذكي، صحتك كويسة.. ده نصيبك من الدنيا.. دي الصورة الأكبر! مفيش حد أبدا بيقدر يحقق كل حاجة ويبقى معاه كل حاجة"

"لا مش هاتفق معاكي في الكلام ده، أنا الحب بالنسبالي حاجة مش مهمة" حدثها سريعا ما إن آتت اللحظة لتتناول هي أنفاسها بين الحديث لتنظر له بعينتين ضيقتهما وهي تتفحصه لينظر لها هو بمنتهى الثقة وعمل جيدا على أن يبدو مقنعا 

"ما هو ده من ضمن أفكارك الغلط.. هو بالنسبالك حاجة مش مهمة! بس أنت متعرفش لو موجود في حياتك كان ممكن يفرق معاك في إيه! وعموما أنا مش بحاول اقنعك.. أنا بدردش معاك مش أكتر كصاحبتك بعيد خالص عن الدكتورة فيروز" تناولت المزيد من قهوتها ليتألم عقله من التفكير فيما تريد أن تصل إليه من كلماتها تلك 

"محدش بياخد كل حاجة، خليك فاكر ده كويس، نجاح مبهر، قصة حب سعيدة، عيلة وأصحاب وراحة نفسية!! صحة وشكل حلو.. حياة مثالية! دي مش موجودة أبدا يا شهاب! عادي جدا إننا ناخد نصيبنا من الحياة في واحد بيحبنا وبنحبه، أو ناخد نصيبنا صحة، أو نجاح.. وعادي برضو اننا نقول أنا ناقصني كذا.. والطبيعي اننا نسعى للي ناقصنا ونحاول نسد حاجتنا البشرية الطبيعية! ربنا بيقسم الأرزاق ما بين الناس!"

رمقها بداكنتيه في ارهاق من كثرة التفكير بما تريد تلك المرأة الوصول إليه وشعر بتمدد ثنايا عقله من امتلائها بالتخمينات وإدراك ما قد تحمله كلماتها من معان

"أنا مثال.. الحمد لله عندي الأهل اللي مفيش ما بيننا مشاكل، عندي الأصحاب، ناجحة في مجالي الحمد لله، ومستوايا الإجتماعي كويس، صحتي كويسة مش بعاني من أمراض صعبة، وكان عندي علاقة في منتهى المثالية.. بس نصيبي إني أكمل حياتي من غير العلاقة دي ويجيلي حالة اكتئاب وأنا اللي كنت بعالج الناس في يوم منها!.. بس ده بيخليني أفكر يمكن غيري عندها علاقة بتجمعها براجل بتحبه وبيحبها وحياتهم سعيدة بس حد فيهم تعبان، بس الماديات عندهم فيها تعثر، أو فيه مشاكل مع أهلها أو أهله، وفيه اللي زيك ناجح وحقق طموحاته، بس معندهوش اللي يحبها وتحبه.. محدش بياخد كل حاجة، لازم يبقى فيه جزء مش كامل!" أنهت حديثها ليبتسم هو في إنكار ودلت ملامحه على عدم موافقتها 

"كلامك في منتهى السلبية.. وغلط.. اللي عايز فعلا حاجة بيحققها بمنتهى السهولة" أخبرها لتتوسع ابتسامتها ونظرت إليه بعسليتيها لتتفحصه لبرهة 

"تقدر تقولي لو جالك بعد الشر مرض مفيش ليه علاج هتعمل إيه؟ أو مثلا لو خسرت كل فلوسك هتعمل إيه؟ ولو حبيت واحدة مش بتبادلك الحب ده ومش حاسة بيه من ناحيتك هتعمل إيه؟" أخبرته لتجد ملامح الإنزعاج تسيطر عليه لمجرد طرح الفكرة عليه "مش هاقولك أمثلة أكتر من كده.. ارضى باللي ربنا ادهولك وبنصيبك.. واقبل إن الحياة عمرها ما بتكون مثالية" 

"ربنا آه.." أشار بوجهه بعيدا في استنكار وشرد بعيدا عنها وها هو يُغير صلب حديثهما ولكنه لن تتركه لأفكاره أبدا ولعلها فرصة لتبدأ في تكوين الوازع الديني لديه

"تعرف إن العلاج النفسي مالهوش أي علاقة بالدين؟" ابتسمت إليه بينما لم يلتفت هو نحوها "بس أنا على فكرة لسه فاكرة كلامك يوم ما شوفت التصميمات في بيتك.. أنا عارفة إنك مش مؤمن بفكرة ربنا ومفيش دين بتتبعه.. بس هقولك إنك فايتك كتير اوي! وأنا نظرتي ليك كحد أنا بهتم بيه ويفرق معايا إنك في يوم لما تكبر هتيجي تندم! هتندم أوي!" أخبرته ليقهقه في خفوت بمزيدا من الإستهزاء ولكن راقته كلماتها بأنها تكترث إليه فقرر أن يناقشها بالأمر

"هندم.. ليه أندم وأنا مش في حاجة لحد يقولي أعمل إيه ومتعملش إيه.. يحطلي شوية قوانين وعادات وأسس أنا مش محتاجها ومش هاتفرق معايا في حاجة.." التفت إليها ونبرته الساخرة لم تكن توافق أبدا ملامحه التي رآت عليها الغضب "بإفتراض إن فيه دين وربنا.. عايزة تقوليلي ربنا هو اللي مديني ده؟ هو اللي اداني النجاح؟ ولا أنا علشان تعبت وكونت نفسي بنفسي؟" سألها بمنتهى الثقة لينتظر اجابتها

"ربنا هداك لده يا شهاب واداك حظك ونصيبك من الدنيا" اجابته بمنتهى الثقة بنبرة جدية للغاية ليبتسم في سخرية 

"بإعتبار إن ربنا موجود، ليه فيه أمراض، جوع وفقر، خيانة وحزن وتحرش، قتل وسرقة، عنصرية، غباء وتخلف وتضاد بين المجتمعات والسياسات؟ وبإعتبار إن البشر هو اللي خالقهم ليه بيعمل فيهم كده؟ فيه إله بيظلم مخلوقاته؟" سألها بمنتهى الإقتناع الداخلي أنها لن تستطيع الإجابة عليه 

"زي ما ربنا موجود وزي ما خلق البشر اداهم منهج يمشوا عليه علشان الظلم اللي بتتكلم عنه.. الدين.. الدين اللي من أول رسول لغاية آخر رسول متوالي وبيكمل بعضه ومفيهوش حاجة بتعارض وبتخالف بعضها إلا اللي حرفوا في الشرائع السماوية.. الشرائع السماوية ونهاية بدين الإسلام كلها بتكمل بعض.. ربنا عرفنا ازاي الست والراجل يعيشوا مع بعض، وازاي يربوا ولادهم ويكونوا مجتمع، وازاي المجتمع ده بينشأ عنه قرايب وجيران وسلطات وأمة وشعب، ادانا منهج ازاي كل مجتمع يتعامل مع بعضه، والمجتمعات بتعمل حياة.. الإسلام اللي ربنا بيقولنا اتبعوه على لسان رسوله لامم كل حاجة، لو الناس اتبعته هتلاقي إن المجتمع مش بيعاني من الفقر والجوع والسرقة والزنا والربا، هتلاقي إن الإسلام اللي فرض علينا نتبعه ونؤمن بيه بيسد كل كبيرة وصغيرة في الحياة، اتكلم عن مكانة العلماء بدون تحديد مجال معين، والعالم ممكن يكون دكتور علشان يعالج الأمراض اللي بتتكلم عنها.. ودي من ضمن الإبتلاءات علشان يمتحن إيمان البشر.. تخيل لو مفيش أمراض كان بقى فيه دكاترة؟ كل كبيرة وصغيرة وكل حاجة بتحصل ربنا ليه حكمة فيها وبيعملها علشان سبب! مفيش حاجة بتحصل كده وخلاص، ربنا بيسبب الأسباب علشان الحياة تكمل!" تريثت لبرهة لتجد عدم الإقتناع على ملامحه تزداد

"كل حاجة بتحصل بسبب.. يعني الظلم بيحصل علشان أسباب، الخيانة ليها سبب!! الحروب والقتل سبب؟" ضحك بخفوت ثم تابع "مش مصدق حقيقي إنك بتكلميني على العلماء!" تمتم في استنكار "العلماء علشان بتفهم بجد همّ أكتر ناس هتلاقيهم مش مؤمنين بوجود إله!" أضاف بمزيدا من الرفض وكأن كل ما حدثته كان مجرد سراب لتزفر هي وقررت أن تكمل حديثها إليه علّ كلماتها تحدث فرقا بداخله وتدفعه على التفكير بالأمر فإن هذا هو كل ما تريده حقا تريد أن تُشغل عقله.. ولعله يستجيب!!

"أظن إنسان زيك مثقف يعرف دكتور مصطفى محمود اللي ألحد ورجع تاني آمن بربنا.. خدها نصيحة من صاحبتك، وانسى فيروز الدكتورة خالص!! اقرا رحلتي من الشك إلى الإيمان، وحوار مع صديقي الملحد.. هيجاوبوك على أسألة كتير! ومليانة اثباتات وأدلة عقلية على وجود ربنا.. مش مجرد فرضيات حول الإيمان والإسلام والدين!" توسعت ابتسامته التي وجدتها جذابة للغاية بذلك القناع السيكوباتي الذي يبرع في استخدامه بمنتهى السهولة 

"عارف" شردت بعينتيها بعيدا عن ملامحه الزائفة "إذا في يوم آمنت بربنا وعلاقتك بقت قوية بيه، بغض النظر ده هيحصل امتى وازاي بس بإعتبار إنك هتوصل في يوم من الأيام للمرحلة دي، هتلاقي إنك ضيعت كتير اوي، ضيعت وقت كبير، زي مثلا ما أنت بتحاول تتكلم مع دكتورة مش عارفة تقنعك بمرضك، واحدة انت مش واثق فيها، خايف تحكيلها حاجات كتيرة، خايف يكون ليك حد يعرفك وتفضفضله بكل حاجة في حياتك.. ربنا الوحيد اللي تقدر تقوله كل حاجة، بتصارحه وأنت على ثقة إنه عمره ما هيروح يقول لحد ولا هيبصلك بصة زي بقيت البشر.. ساعتها هتندم إنك ضيعت وقت كبير اوي وأنت مش على علاقة بيه.. وأنت رافضه من حياتك.. ممكن ساعتها تكون كبرت اوي، ممكن ده يحصل كمان سنة أو اتنين أو شهر أو أسبوع.. بس أتأكد يا شهاب إن ساعة ما ده هيحصل هتحس إن الحياة من غيره كانت وحشة اوي، ضلمة، غريبة، دايرة مبتنتهيش، هتحس إن كان ناقصك كتير" 

همست إليه وتحدثت بثقة شديدة وكأنه أمر مفروغ منه وأطلقت زفيرا مطولا من رئتها كانت تحبسه ليحمحم وشعرت به يبتسم دون أن تنظر إليه ولكنها ليست في حاجة لرؤية المزيد من الإستهزاء والإستنكار بملامحه 

"وبإعتبار إن حياتي خلصت من غير ما أوصل للنقطة دي؟!" أخبرها بجزع ورفض في تصميم هائل لتختلف ملامحها ونظرت إليه بمنتهى الصدق والحزن في آن واحد 

"ساعتها هزعل على صاحبي" رفعت كتفيها وخفضتهما بعفوية "على حد شايفة إنه لو آمن بوجود ربنا كان هيفرق معاه كتير، في حياته، ومرضه، وراحته.. بس هارجع وأقولك ده اختيارك في النهاية.. لسه قدامك الفرصة تدور في الموضوع، ويا تقتنع يا متقتنعش، اختيارك وحياتك في النهاية!"  ابتسمت إليه بإقتضاب

"على فكرة دي كانت دردشة، أنا مش مؤهلة نهائي إني اتكلم في الدين.. وحقيقي كنت مبسوطة بكلامنا، حسيت إني بعرفك أكتر" تنهدت ثم رمقته بإبتسامة هادئة ثم تناولت كوبه الذي فرغ من القهوة منذ مدة ليست بالقليلة "هات.." جذبته من يده لتتوجه للعودة للداخل "غير هدومك علشان نروح نجري شوية على ما أصلي وأغير أنا كمان، أنا بقالي كتير مش بروح النادي! وابقى خبط على الباب متفتحوش زي كل مرة" 

صاحت من على مسافة وأكملت طريقها حتى اختفت عن داكنتيه التي كان ينظر إليها بها ووجه يعتليه العديد من علامات الإستفهام التي لم ترها هي، أستحزن من أجله إمرأة يوما ما؟ لماذا كلماتها صحيحة بأنه لا يثق بها ولا يقتنع بمرضه؟ أتكشفه تلك المرأة للغاية بمنتهى السهولة وتفهم ما يريده منها؟ وماذا يعني سيحدث بالإيمان والتصديق بوجود إله؟ 

وبإعتبار أنه كان موجود، أين كان عندما كان وحده؟ لماذا جعل والدته تخون والده؟ لماذا كان نصيبه (مشتقا من كلماتها التي تحدثت بها بمنتهى الثقة والتصديق) الفقر والجوع والحياة الصعبة؟ لماذا فعل به كل ذلك؟! أهذا إله؟! إله ظالم! يا لها من ساذجة غبية!

ولكن ما الذي تريده حقا وكيف وصل معها لتلك النقطة وذلك الحديث؟! كان يريد أن يتحدث عن والده، أو هذا ما وجده وقتها من مبرر لتواجده بغرفتها.. وفي غضون ساعتان تحول الأمر من حديث عن والده إلي سؤال ما كان وقع بالعشق من قبل وفجأة عن الحياة والإله والدين! كيف جذبته لذلك الحديث؟! كيف تفعل هذا ببعضا من الكلمات لتجعل عقله يتشتت هكذا؟!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

ما الذي عليها فعله حقا؟ أسيدفعه هذا للتفكير بالأمر؟ بإيقاظ مجرد الفكرة بداخله؟ لم تتطرق من قبل لإقناع شخص بالدين ودعوته إليه! 

قرأت القليل من علم التوحيد، لديها فكرة عن التفرقة بين الملحد واللاديني واللاأدري، ولكن أن تتطرق إلي أمر إقناعه بأن هناك إله ودين يجب أن يُتبع هذا لا تدري هل ستستطيع أن تقدر عليه أم لا!

ربما إيقاظ الوازع الديني وما يؤمن به الإنسان ومحاولة إفاقته على ما يرفضه الدين والشرع من الجرائم اللاإنسانية تعتبر احدى أسباب طرق العلاج ولو فقط بدور ثانوي، وضرورة إدراك الإنسان لما يقع تحت بند الإنحرافات وافاقته على تلك الحقيقة هو دور آخر ولكن مع شخص مثله لا يعتقد بأن هناك إله من الأساس أمرا في غاية التعقيد!

كان عليها الإنسحاب بعيدا، علمت أن هذا هو التصرف المثالي في مأزق معه،  شهاب ليس بغبي، يملك قدرا لا نهائيا على الإقناع والذكاء ولن ينتهي معه النقاش سوى بأحدى الحجج المبينة على ما يقتنع به وقد لمست هذا في الكثير من الأوقات، سواء تلك الجلستان في منزله أو غيرها من المواقف كيوم خطبة اخيه واختها وأمام والديها، وكذلك أمام الصحافة بالمؤتمرين السابقين!

يؤلم عقلها بشدة كثرة التفكير بأمره وعدم إيجاد الطريقة المثلى لإقناعه، حواراته التي تعج بالخداع والمراوغة اللانهائية وبراعته الجيدة في انسيابية تلقائية من تغير صلب الموضوع، لن يتركها كل ما يفعله سوى في دوامة هي الأخرى وهذا بعيد كل البعد عن علاجه.. لا بل هي ينشغل عقلها أكثر من اللازم بكلماته الواهية ذات اللاهدف!

فقط ما يجعلها تشعر أنها لا تزال على الطريق هو كسبها لثقته، ولن تنكر باليومين المنصرمين بدأ في معاملتها بحدود، ترى وجه آخر منه.. تدفعه كذلك على التفكير الشديد وقد لمست هذا من خلال أكثر من أمر وموقف معه.. هناك تقدم ولو ضئيل معه.. ولكنها ستعود مجددا لتحاول اقناعه بمرضه وضرورة ثقته بها حتى يشرعا في العلاج.. 

هي ليست بغبية أو ساذجة كي لا تفهم ما حملته كلماته التي تفوه بها منذ قليل.. تحدثه عن الخيانة والجوع والفقر والظلم والحزن، ربما يرى نفسه من خلال انعكاس تلك الكلمات منه ويُقر بطريقة غير مباشرة عن مشاعره واعتقداته القديمة التي يبدو أنها دفنها بداخله منذ زمن بعيد..

تنهدت وهي قد فرغت من وضوءها وتوجهت لترتدي أي شيء يصلح للصلاة، ستدعو ربها أن يوفقها.. سيستجيب إليها هي على ثقة بذلك.. أمّ عن شهاب فهي تتمنى أن كلماتها دفعته للتفكير في الأمر ولو بمقدار ضئيل، عله يفكر فقط في الأمر ولو لعشر دقائق!! ويا حبذا لو استخدم ذكاءه، ستكون محظوظة للغاية معه..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"صاحي بدري يعني.. تتحسد!" تحدث بدر الدين بصوته العميق عندما لاحظ سليم بغرفة مكتبه 

"مش عارف كده ليه مع إني مش نايم من بدري" حدثه بصوت غاب في تفكير جلي

"بتفكر في ايه يا حيلتها؟" سأله مقتربا منه ووكزه بخفة في ذراعه 

"مش عارف يا بدر مقلق من أروى" 

"ليه مش روحتلها امبارح بعد ما أنا خرجت من عندها؟ حاجة حصلت ولا إيه؟!" تسائل في استفسار شديد وثاقبتيه تتفحص سليم 

"لا مفيش، فضلت تهري في شوية حوارات قديمة بس عدت يعني اشطة" 

"امال مقلق منها ليه؟" 

"مش عارف.. قلقان على زينة منها!" زفر بعمق وشردتا عسليتيه في تفكير 

"لا مفيش حاجة هتحصل.. مراتك اتغيرت مش زي الأول!" التفت سليم إليه بنصف ابتسامة دلت على حيرته

"اتغيرت اه.. بقت لذيذة وطيبة اكتر من الأول، وده اللي مش مطمني من مرواحها كل شوية وقعداتها مع أروى.. ودي متضمنش.. ممكن كده أروى تلعب في دماغها بأي طريقة.. ولا نسيت زي ما لعبت في دماغها زمان؟!" 

"خلاص اشغلها.. خرجها.. خدها معاك الشغل.. تروح تتابع مع دكتور وغيروه مرة واتنين.. وابقى روح معاها لأروى"

"مش عارف هلاقيها منين ولا منين يا بدر، شهاب الزفت ده اللي مش عارفين ناوي على إيه ولا أروى، ولا زينة اللي اتحولت فجأة وعايزة تساعد اختها وتقولي خليك حلو معاها.. والشغل!! مش عارف اعمل إيه!" حدثه في شرود ولكنه شعر بالراحة بتعبيره عما يُشغله

"ولسه يا حيلتها لما يبقى عندك دوشة العيال وجواز أختك وعيلتك تكبر وأبوك وأمك يعجزوا وبلاوي.. مش سهل تبقى بدر الدين الخولي يا سليم"

"أنا أطول برضو.. ده أنت المعلم الكبير" أخبره بإبتسامة ليبتسم إليه بدر الدين 

"روح يا اخويا البس علشان شغلك وشوف نورسين خلصت الفطار ولا لأ"

"حاضر" أومأ إليه سليم بينما تركه وغادره ليستغرق هو في التفكير، قليل أن يخوضا مثل هذا الحديث، يبدو أن السنوات تمر كلمح البصر بحق! ولكن هل قلقه من أروى في محله؟ هل يُمكن أن تفعل أي شيء لزينة؟ 

تنهد في إرهاق وذهب تفكيره في أمر شهاب، هو يعرف أن فيروز معه بعد أن هاتفته هبة صديقتها، هل يُمكن أن هناك إنجاز بالأمر؟ هل أستجاب لفكرة المرض والعلاج؟ لماذا لم يكن الأمر صعبا هكذا معه؟ 

تشتت عقله بالمزيد من الأفكار وغرق تماما فيما يُفكر به حتى أنه لم يستمع لصوت سليم الذي يناديه منذ فترة!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

تذكرت أروى أن بنهاية هذا الأسبوع سيصبح هناك ارتباط رسمي بين عاصم ولميس.. قد تستفيد منهما بعدها.. ولكن هل سيكون الوقت مناسب لتعلن أنها تستطيع الوقوف على قدميها مرة أخرى؟! لا تعرف.. ربما ستنتظر للمزيد من الوقت! كما أن حديثها منذ قليل مع سارة لم يُسفر عن شيء! تجهمت ملامحها وغرقت بالمزيد من التفكير، إمّا تلك المرأة لا فائدة منها وإما هي على علم بشيء ولا تريد الإفصاح عنه!

"أنا رايحاله تاني النهاردة، وفرصة إنه مش هايكون موجود، أنا عرفت إنه مسافر" تحدثت سارة إلي أروى

"تمام اوي.. حاولي بقى تلاقي حاجة، بالذات لو ورق نقدر نساومه عليه" 

"هلاقي هلاقي متقلقيش.. أنا بس بحاول أكسب ثقة اللي اسمها عنايات دي.. مش هاينفع من أول مرتين.. لازم تطمنلي الأول!"  أخبرتها سارة بينما شعرت أروى بالإرتياب نحوها

"وهو الأمن وحرس البيت موقفوكيش ولا قالولك رايحة فين؟" 

"لأ ما هي عنايات كانت معايا وهي اللي مدخلاني وقالت إني من الناس اللي جايين يساعدوها.." أجابتها ولا تدري لماذا أروى شعرت بالشك تجاهها

"تمام" زفرت في عدم اريحية "ابقي خدي بالك علشان تقريبا بيراقب بكاميرات مراقبة.." 

"لا متقلقيش.. أنا لابسة نقاب وأغلب الوقت مع حازم في اوضته ولسه متحركتش في البيت اوي" 

"أوك.. هستناكي النهاردة وابقي قوليلي عملتي إيه!" 

"أكيد.. باي"

"باي" 

ولكنها لم تكن تعلم عندما أنهت المكالمة ما كان يدور برأس سارة.. هي لا تجد بعد ما الطريقة التي تستطيع أن تساوم بها تلك العائلة على كريم نفسه كي تحصل على إرثها.. ولكن ماذا لو عملت على إخراج كريم من المنزل؟! هنا سيبحث عنه شهاب.. تستطيع أن تساومه على ذلك، أو لربما أروى أو والدتها أو أبناءها جميعهم.. ولكن كيف وذلك المنزل يبدو كحصن منيع؟! عليها أن تجد حل لكل ذلك دون أن تصاب بأي من الأخطار.. وإذا علم شهاب وقتها لا تعرف كيف ستكون ردة فعله.. ربما أخطأت أيضا بفضح أمره أمام تلك العائلة ولكن على كل حال كان يستحق ذلك!! ولابد من أنه يكترث لبقاء عمه في ذلك المنزل! هناك حلقة مفقودة بالأمر ولكنها ستجدها عاجلا أم آجلا..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"مش عارفة.. خايفة لا نكون اتسرعنا" تحدثت لميس بإبتسامة مقتضبة 

"متسرعناش ولا حاجة، لسه قدامنا وقت على ما نعمل خطوبة، على ما نعمل كتب كتاب.. لسه بدري" 

"أنا خايفة بس يبقى قدام ميكونش فيه ما بيننا تفاهم" تنهدت في قلق وحيرة ثم نظرت له بصدق "أنا يا عاصم على قد ما أنا ما معجبة بيك بس، أنا أصلا!" تلعثمت وهي تحاول ألا تتفوه بشيء يُفسد الأمر "أنا مكونتش بفكر في الجواز، تقد تقول كده فوبيا.. أغلب العلاقات اللي حواليا مش ناجحة وكل اللي كنت بهتم بيه هو شغلي مش أكتر من كده!" زفر عاصم ثم لمس يدها في دعم 

"ادينا فرصة.. واحدة واحدة هنقرب من بعض أكتر" زفرت مجددا في ارتباك ثم رتبت شعرها خلف اذنها 

"جوازات ماما الاتنين ومثلا جواز حد زي عمرو ومشاكله مع مراته.. الستات المتجوزة اللي بشوفها حواليا زي ما يكونوا متجوزين لأي هدف تاني غير الحب والتفاهم والإحترام ده بيرعبني.."

"ملناش دعوة بيهم.. كل واحد وليه ظروفه.. أنا عمري ما هاعمل زي باباكي ولا بابا ولا حتى زي عمرو.. أنا بجد معجب بيكي يا لميس وأول مرة في حياتي أكون متأكد من البنت اللي عايز أكمل حياتي معاها" أخبرها في محاولة لإقناعها وازالة ذلك الخوف الذي ظهر على ملامحها 

"أنا عارفة.. أنا كمان يا عاصم حاسة من ناحيتك بمشاعر، ودي أول مرة تحصلي.. بس أرجوك تـ.." أوقفها عن الحديث اهتزاز هاتفها لترمق المتصل لتجد أنها زوجة عمرو لتزفر حانقة 

"إيه فيه إيه؟" سألها عاصم عندما رآى تحول ملامحها 

"دي شروق مرات عمرو"

"طيب ما تردي.." أومأت له بينما تناولت شهقيا مطولا ثم زفرته للإستعداد لسماع صوت صراخها 

"آلو.."

"البيه فين؟ مبيردش عليا ليه؟" صاحت شروق بلميس 

"معرفش.. هو مش موجود معايا"

"وداير على حل شعره بقى مع مين المرادي.. بقا عايزة تقوليلي إنك متعرفيش هو فين؟" صرخت بها لتباعد لميس بالهاتف ثم أعادته على اذنها عندما انتهت الأولى من صراخها

"والله ما أعرف!" 

 "ماشي.. أنا هوريكي أنتي والحيوان اللي ماشية تلمي وراه ده.. متبقيش تزعلي من اللي هيحصلك" امتعضت ملامح لميس من كلماتها ولم تعطها الأخرى فرصة للتفوه بشيء ثم أنهت المكالمة لتلقي لميس بالهاتف أمامها على المنضدة 

"فيه إيه؟" نظر إليها بتساؤل بينما تابع تلك المكالمة التي استمع لكل شيء بها بعد صراخ تلك المرأة 

"لا ده العادي.. شروق دي كل يوم والتاني لما عمرو يختفي يومين تتصل بيا وكأنه معايا"

"طيب وانتي اصلا بتردي عليها ليه؟" 

"دي فظيعة كل شوية من رقم شكل لغاية مبقاش فارق معايا عارفة رقمها ولا لأ.. ومن ساعة ما اتجوزوا وهي في خناقات معاه وعارفة اننا اصحاب ومتخيلة اني هقولها كل حاجة عنه.. بس معلش في الأول وفي الآخر بعيد عن الصحوبية عمرو أنا عرفته بسبب الشغل وأنا مش هاخسر شغلي بسببها يعني.. وهو كمان نصحته كذا مرة يبطل اللي بيعمله ده مفيش فايدة فيه" مط شفتاه في استنكار 

"طيب واتجوزوا ليه أصلا؟"

"بص من الآخر عمرو كان بيحب بنت خالته، اسمها فيروز، أو مش بيحبها، كان عايز يتجوز واحدة غير اللي يعرفهم ومتعود عليهم وكل اللي أعرفه عنها من كلامه إنها كانت محترمة اوي.. واتقدملها ورفضته واتجوزت واحد تاني.. مامته ساعتها صممت تجوزه واحدة تانية.. واحدة من بنات اصحابها.. دي كانت شروق.. ويادوب مفيش مش تاني شهر جواز عمرو بقى فظيع، بنات وشرب وسهر ويختفيله يومين وأسبوع وهي ماشية تدور عليه" 

"وإيه اللي مخليها تُسكت على كل ده.. ليه مطلبتش الطلاق؟" تسائل بعفوية لتبتسم لميس نصف ابتسامة وتنهدت وهي تنظر إليه نظرة ذات معنى

"علشان الفلوس والمكانة الإجتماعية.. شروق مش سهلة.. مش هاتسيب عمرو كده بالساهل.. عرفت ليه بقولك عندي فوبيا من الجواز؟" أومأ لها في تفهم 

"أوعدك عمر ما هيكون بينا أبدا الحاجات دي"

"إن شاء الله" ابتسمت إليه ثم غيرت موضوع الحديث تماما حتى تبعد مثل تلك الأفكار عن عقلها وكي تستمتع بوجوده معها..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

عصرا في نفس اليوم..

"ماشي.. هحاول اقتنع إنك مش فاكر" تحدثت إليه فيروز في خضم تلك المناقشة التي تحاول التغلب عليه بها منذ أكثر من ساعة "بس ازاي إنسان زيك في منتهى الذكاء وتقريبا عقله مبيفوتش هفوة مش قادر يفتكر اللي حصله وهو صغير؟"

"مش عارف!" أخبرها بإقتضاب لتزفر هي في ضيق ورفعت شعرها لتعكصه لأعلى ليتابعها بداكنتيه وكم كره ما تفعله بشعرها وهي تهز رأسها في إنكار

"مش عارف.. مش فاكر.. احتمال.. يمكن.. ساعات! كفاية بقى حرام عليك! أنت عارف إني عارفة ومتأكدة إنك بتكدب" أطلق زفيرا مصاحبا إياه بأحدى ابتساماته التي لن تخيل عليها

"أنا مش فاهم إنتِ مصممة إني بكـ.."

"لا لأ.. أنت مش منطقي بصراحة.." قاطعته قبل أن يستخدم معها قدرته الفائقة في تغير مجرى الحديث وإجاباته التي يفلت بها من كل سؤال توجهه إليه "أنا فاهمة، فاهمة كويس وجهة نظرك إنك تحكي لحد على أسرارك، وفاهمة إن اللي بطلبه منك صعب.. مش سهل الإنسان يتكلم عن ماضيه.. وبرضو فهمتك إني عمري ما هاقول لحد حاجة.. وأنت فاهم كويس إن أيا كان اللي هتقولهولي أنا معنديش مثلا دليل عليه ولا بسجلك ولا فيه حاجة في ايدي أقدر امسك عليك حاجة بيها.. أنا مش غبية يا شهاب علشان أأذيك بأي شكل وأنت ممكن بمنتهى السهولة تجبني لغاية عندك.. احنا ده رابع يوم لينا سوا من ساعة ما كنا في القاهرة.. ولسه ناقص عشر أيام.. لو معرفتش تحكيلي بصفتي مختصة أنا مش هاقدر أساعدك! أنا عايزة فعلا أساعدك بس أنت مش مديني الفرصة! فخلاص، لو مش مطمنلي روح لحد تاني.. وهنفضل اصحاب والدنيا ما بيننا كويسة بس أنا بجد تعبت من الموضوع ده" أنهت حديثها إليه وملامحها تفيض بالإستسلام والإنزعاج!

"فيروز.. أنتي لغاية دلوقتي مديتينيش سبب مقنع على المرض والعلاج والـ.." علمت إلي أين سيتجه هذا الحديث لتبادر بمقاطعته 

"ولو اديتك إثبات على إنك مريض؟" نظرت إليه بجدية بعينتين عسليتين غاضبتين ليتفحصها في شرود وتجاهل كلماتها تماما "النهاردة يوم اتنين.. يوم ستة هيبقى فيه جلسة، جلسة بمنتهى الصراحة وبعيد عن اللف والدوران! اتفقنا؟" نظرت إليه في انتظار إجابته ليومأ لها في تفهم 

"تمام.. هسألك سؤال.. من مواقف مرت علينا مع بعض وأنا مش بلومك ولا بعاتبك واللي فات مات خلاص، أنا كل اللي هحتاجة إجابة بصراحة.. ولو كدبت أنا مش هابقى أكتر من صاحبة فكرة المستشفى.. ويمكن معرفة من معارفك.. لأني استحالة أصاحب واحد كداب واقربه مني.. اتفقنا؟" زفر وكاد أن يتحدث لتبادر هي "يا آه يا لأ.. مفيش تحوير!" توسعت عينتيها ليتنهد هو وأومأ لها بالموافقة

"آه.. اتفقنا!" 

"يوم ما حطتلي الخمرة في الأكل، حسيت بندم بعد اللي أنت عملته معايا؟!" سألته ليعقد حاجباه وتريث وهو يحاول التحكم في ملامحه 

"أكيد" حمحم مجيبا لتنظر إليه بإبتسامة لم تلامس عينتيها 

"كداب.. حاول تاني.. لما جبتني عندك تحت التهديد، حسيت بالندم بعدها وبالذات بعد ما اتعاملت معاك كويس؟" سؤال مرة أخرى ليبتسم وهز رأسه ليومأ لها بالموافقة وحاول إدعاء التأثر على ملامحه ببراعة بينما زفرت هي وهزت رأسها في عدم تصديق

"كداب.. طيب سؤال تالت.. النهاردة الصبح لما دخلت اوضتي من غير ما تخبط عليا، حسيت إنك عملت حاجة غلط؟" امتعضت ملامحه وأطلق صوتا خافتا من بين أسنانه استمعت إليه جيدا 

"يمكن بالغت شوية بس أنا كنت محتاج اتكلم معاكي بجد" رفعت حاجبيها في مزيدا من استنكار أفعاله

"أنت كداب.. كداب ومصمم على الكدب.." أخبرته في نفاذ صبر بالرغم من محاولاتها في الهدوء والسيطرة على غضبها من استفزازه اللانهائي

"أنا مكدبتش" ارتفع حاجباه وهو يحاول أن يؤكد لها صدقه الزائف 

"أول مرة جاوبت سؤالي اتنحنحت وضحكت وملامحك اتشنجت، تاني سؤال هزيت راسك وحطيت ايدك في جيبك ومكنش عندك جرأة ترد أصلا، وتالت سؤال أنت حورت في اجابته مع إن الإجابة سهلة يا آه يا لأ!! وفي الآخر مصمم إنك مبتكدبش!" ابتسمت إليه بخيبة أمل وإرهاق شديد شعرت به من أسلوب مراوغته اللانهائي الذي لا يكف عنه

"كل دي علامات كدب.. أنا قعدت مع مساجين كتير أساتذة في الكدب.. الموضوع سهل جدا إني أكشفه!! عارف!! الكدب ده أهم صفة في السيكوباتي، ومن أهم الصفات برضو إن السيكوباتي مبيحسش بالندم، لما بيعمل حاجة غلط مبيحسش بالذنب، مبيحسش بالغلط! مبيفرقش معاه أصلا! مفيش ضمير جواه، ضميره ميت! ده أبسط مثال على إنك سيكوباتي يا شهاب!" 

نظرت إليه بغضب وعينتيها تبحث في ملامحه بينما هو تناول شهيقا مطولا وداكنتيه تتفحصها في انزعاج طفيف للغاية أدركت خلاله أنه يخفي أضعافه حول هذا الهدوء الزائف الذي يُظهره 

"انتِ بتتوهمي.. أنا مكدبتش عليكي" حدثها لتتوسع ابتسامتها ولكنها قررت أن تتبع الهدوء معه في الحديث

"تمام، ما دام ده اختيارك!" هزت كتفيها في عفوية "أنا معاك لغاية يوم ستة الجاي.. هنفضل اصحاب والدنيا جميلة وحلوة وفكر كده مع نفسك.. أنا فاهمة إن صعب واحد زيك يعترف بأنه بيعاني من مشكلة ويقتنع بأنه مريض.. بس فكر كويس في كل كلامنا من ساعة ما واجهتك بتشخيصك، هتلاقي إنك فعلا عندك مشكلة.. ولو مصمم إن مفيش مشكلة بتعاني منها يبقى خلاص.. خرجني من حياتك كلها!" 

رفع احدى حاجباه في تحدٍ شديد واختلفت ملامحه لتصبح مُخيفة بشراسة بالرغم من أنها تعلم أنها حدثته بمنتهى الهدوء والصبر ولكنه تماسكت وحاولت ألا تُظهر خوفها منه وقررت أن تغير الحديث 

"أنا اليومين اللي فاتوا اتبسطت، حسيت إني رجعت طبيعية بسببك، وافتكرت إن هارجع كويسة تاني وهارجع اركز في الحاجة اللي فاكرة إني كويسة فيها وإني لسه زي ما أنا فيروز عبد الحي الشاطرة في مجالها، اوعى تفتكر إنك لما تفضل مش مقتنع أنا هاتبسط، أو لما يحصل ما بيننا أي مشكلة أنا هبقى سعيدة.. أنا مش عايزة أخسرك، مش هتبسط بده على فكرة" ابتسمت له وعينتيها توسلته بأمر لم يعي هو ماهيته وكأنه رآى عينتيها تدمع ولكن دون أن تنهمرا بالبكاء لتتنهد في استسلام وحاولت التحكم في مشاعرها لتنظف حلقها وابتلعت وقررت أن تغير مجرى ذلك الحديث 

"سيبك من كل الكلام ده وفكر براحتك وابقى رد عليا قبل المؤتمر اللي في شرم الشيخ!" تفحصت ملامحه التي قرأت عليها التذبذب الذي يكاد يكون منعدما لبراعته في إخفاءه خاصة بعد أن تغيرت ملامحه من ملامح مخيفة إلي أخرى هادئة "لو ينفع يعني.. ممكن أنزل اشتري هدوم من أي مكان؟!" رمقها في استفسار لتبتسم إليه وكأنهما لم يتعاركا كلاميا منذ قليل لتتحول كل أفكاره من أفكار إنتقامية لرغبة مُلحة في الحصول على المزيد من تلك الإبتسامات التي تجعله يشعر بسعادة وراحة تلقائية 

"أنا مش هفوت البحر و الـ pools collection الفظيع اللي عندك في كل بيت ده من غير ما أنزل المياة.. محتاجة أشتري حاجة أنزل بيها، هينفع نخرج نجيب اللي أنا عايزاه؟" سألته ليبتسم إليها وأومأ في تفهم بينما قررت هي أن تنسحب لتتركه يصارع أفكار التي تعلم أنها عبثت بها 

"طيب هاروح أغير ولما أخلص هقولك" أخبرته ثم تركته وذهبت ليشعر بشلل عقله يتفاقم من تلك المرأة!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

في غضون أربعة أيام..

لم تحنث بوعدها إليه، ولكنها لم تغفل عن هدوءه الملحوظ معها، لم تستخدم أسلوب الضغط ولم تتحدث معه بأمر اقتناعه بضرورة علاجه أم لا، ولكنها أيضا راقبته عن كثب وتركت له مساحة للتفكير!

شعرت بعودة الأخصائية النفسية للسيطرة والهدوء والتحكم مرة أخرى، ولن تنكر إحساس الراحة الذي تعايشه منذ أيام بعودتها لقراءة ملامحه وملاحظة كذبه وفهم المزيد من شخصيته!! هذا الشخص لم يُصبح هكذا بين يوم وليلة، وتلك الشخصية المعقدة التي يحملها بداخله لم تكن سوى انعكاس لتراكمات شتى يبدو وأن السنوات رسختها بداخله لتمزقه بإضطرابات لا نهائية.. 

كما أن هناك جزء بداخلها سعيد بقص العديد من الأشياء من حياتها وماضيها وما يؤلمها عليه، بالرغم من أنها لا تصدق أنها تتحسن بصحبة هذا الوغد السيكوباتي ولكن الأمر ليس بيدها.. عليها أن تستفيد من ذلك الموقف، لراحتها هي، لكسب المزيد من ثقته، أو ربما حقا رغبةً في مصادقته.. أي شيء أفضل مما كانت تعانيه من قبل!! 

ربما بالغت مرة عندما انهارت أمامه وصارحته بالعديد مما تشعر به ولكن يبدو أن ذلك كان في صالح توطيد علاقتهما وتوطيد ثقتهما المتبادلة..

هي لا تتوقف عن التفكير، وتتمنى أنه يفعل المثل.. لا تتوقف عن ملاحظة الثغرات بهذا الرجل.. ولكنها كذلك تشعر بالإستغراب من تصرفاته، لقد أعاد إليها هاتفها، وتلاشى تماما ذلك الرجل الذي أجبرها على القدوم معه!! هل هذه حيلة أخرى من حيله أم ما الذي يريد أن يصل له؟! 

لقد لمست بداخله كذلك أنه يستمتع بصحبتها، ولن تُنكر أنها رآت العديد من الإبتسامات الحقيقية على شفتاه.. لقد أصبح يتبع تلك الحدود التي وضعتها.. هي تربح المزيد من الإقتراب منه وتعلم بداخلها أنه رويدا رويدا بدأت ثقته بها تتزايد.. ولكنها كذلك لن تتركه ليتحكم بالأمر أكثر من ذلك عليه أن يُقر بكل ما بجعبته يوما ما.. على الأقل لابد له من التحدث بالأمر، بصراحة، دون كذب أو مراوغة..

⬢ ⬢ ⬢

لم يتوقف عقله عن التفكير بكل ما جمعه بها تلك الأيام المنصرمة، كل لحظة عايشها معها، كل كلمة تفوهت بها، يتذكر ولكن عقله قد قارب على التوقف من كثرة الإطناب بالتفكير..

ولكنها رائعة، عشقها ذلك لو فقط يحصل عليه ليُصبح ملكه سيشعر بالإكتفاء، ببلوغ قمة كل ما أراد يومًا ما، تلك الإبتسامة والضحكة الرنانة والملامح التي تتميز بها عن سائر نساء الكون.. اعترفاتها الصادقة التي أصبح متقينا منها بأنها تكترث إليه وتريد مساعدته، دون أموال، دون استغلال، دون خيانة، دون غاية خفية خبيثة تريد الوصول إليها.. يريد الحصول على المزيد منها! يريد أن يرى مثل تلك الأعين التي تعج بالدموع من أجله هو فقط! 

ليس بخوف ولا إجبار.. بل بعشق صادق!

لقد تمزق عقله، تمزقت أفكاره، يشعر بهدوء غريب بصحبتها لن يُنكر هذا، سكينة لم يشعر بها في حياته من قبل، حتى بصحبة غادة لم يشعر بذلك.. لقد أُرهق من كثرة البحث.. وحتى اعترافها له بأمر بدر الدين وزينة لم يجد أنها مثلا أو أسرتها على علاقة بهؤلاء العائلة الملعونة سوى عن طريق اختها وبالفعل هي وأسما أصدقاء منذ سنوات.. 

بحث عنها، تتبع مكالماتها، حتى مع أخته وأخيه لا يوجد ما يثير ريبته! إلي متى سيستمر كل ذلك؟ أهو حقا مريض؟ يقتنع بإثباتاتها له كل يوم أكثر، كل ما تبرهنه له يجده منطقيا ولكن.. هل هو حقا مريض؟! كلماتها مقنعة وكذلك تشخيص الطبيب الذي ذهب إليه ولكنه فقط.. حسنًا كيف يكون مريض بعد كل ما حققه في تلك الحياة؟! 

ذكية وليست بساذجة، لن ينكر ذلك.. واللعنة على طريقتها التي تستطيع قراءة كذبه بمنتهى السهولة.. لو فقط كانت مكان كلوديا يوما ما لكانت فتكت بأعتى عائلات المافيا في لمح البصر!!

هو ليس بغبي، هي لا تتحرق شوقا لمعرفة المزيد عنه، تحدثه دائما بهدوء، لا يرى اللهفة بعينتيها، لمس إرادتها في مصادقته بالفعل، هي ليست بكاذبة.. هي ليست كأي إمرأة تعامل معها في حياته.. لقد سأم! سأم ووصل لحد الكفاية من التفكير!! وكلماتها كانت حقيقية! إذا فقط فكرت بأن تفعل أي شيء أو حتى تجرأت على خداعه لن يتوانى عن قتل كل من عرفتهم يوما ما.. 

سيتحدث، سيقتنع بفكرة مرضه اللعينة، ولو شعر بوجود علاقة بهذا الأمر سواء ببدر الدين أو عائلته أو والدته أو أكتشف أي حيلة خلفها سينتقم منها كما لم ينتقم من أي إمرأة على وجه الأرض!

هو لا يدري كيف سيتحدث معها بكل ما مر به، ولكنها لطالما أكدت له أنه يستطيع ألا يتحدث ببعض الأمور إذا كان غير مستعدا.. ولكن هي محاولة، محاولة حتى يستطيع الحصول على ثقتها، صداقتها التي ستتحول في النهاية لعشق جارف.. عشق مثل ذلك الذي يراه يصرخ بعينتيها اللعينتان كلما تحدثت عن زوجها! 

نهض تاركا سريره وبالرغم من عدم تصديقه لما أوشك على فعله ولكنه استسلم بالنهاية.. سيخبرها بكل شيء.. ولكن على مراحل!! لن يعطيها كل شيء في غضون يومان، فقط عندما يتأكد أنه باتت تعشقه أكثر من ذلك العاهر ربما سيعترف لها بكل شيء..

استسلم مرات من قبل كي يصل لأغراض معينة، واستسلم هذه المرة اليوم، ولكنه لم يلاحظ أن في النهاية يكون منصاعا إلي كل ما تريده هي .. 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"ادخل" آتى صوتها بعد أن طرق الباب لتسمح له بالدخول ليحمحم وهو ينظر لها جالسة على الأريكة بغرفتها وتابعته بعينتيها التي اتضح بها اللون الرمادي ليلعن تلك الحدقتان ألف مرة داخل رأسه

"ممكن نبدأ الجلسة دلوقتي؟" سألها بملامح مشدودة بدا عليها عدم تقبله الكامل للأمر لتومأ هي له بالموافقة 

"ممكن طبعا.." ابتسمت إليه بإقتضاب لتراه يجلس في مقابلتها على نهاية السرير 

"أنا مش عارف أبدأ منين.. ممم.. ممكن من وأنا صغير" رآت أنه لا يكذب خاصة بتلك الإنحناءة غير المعهودة التي لاحظتها بكتفيه، لم تتلاقى أهدابه، ولم يكن هناك أي ما يثير ارتيابها بأمره

"طيب إيه رأيك كده تبص لحياتك كلها زي فيلم مثلا.. وكأنك بتحكيهولي.. يعني من أكتر حاجة فاكرها وأنت صغير لغاية شهاب رجل الأعمال اللي قاعد معايا دلوقتي" حدثته بهدوء تجهمت ملامحه ولكنه رمقها بملامح غريبة قليلا عليها، أهذا خوف وتردد تراه بعينيه؟!

"ماشي.." حمحم مجددا وتشنجت ملامحه وتريث للحظات ثم رمقها بنظرة لن تُنكر أنها ارعبتها "حاجة هنتفق عليها، لو اكتشفت عنك اي حاجة غير اللي انتي قولتهولي أنا فعلا هموتك انتي واهلك وكل اللي عرفتيهم في يوم!" نبرته كذلك مخيفة، همسه بتلك الطريقة دفع خفقات قلبها للتسارع في وجل 

"متقلقش يا شهاب.." فقط بدر الدين يريد مساعدتك.. وكذلك أنا!! ودت لو أضافت هذا ولكنها لا تستطيع وتملك قولها لذلك كل ذرة تحكم في النفس ولوهلة أصبحت أبرع كاذبة تعرفت عليها يوما ما..

حمحم وهو يتفحصها جيدا لينفخ ما برئتيه من هواء وبحثت عيناه بوجهها لثوان بينما زم شفتاه وحمحم ثم حك عنقه في تردد لتلاحظ إطباقه لأسنانه وابتلاعه الذي آدى لتحرك ذلك النتوء بعنقه لتعطيه هي كامل انتباهها وتحكمت في ملامحها لتبدو هادئة للغاية

"كنا عايشين.. أنا وهمّ.. والدي ووالدتي يعني.. في مكان شعبي وكانوا" حمحم مجددا لتلاحظ صعوبة الأمر عليه ولكن اتساع عينتيه وتلقائيته دفعا الطمأنينة إليها "كانوا دايما بيتخاقوا، طول الوقت، نفس الخناقة، نفس المواضيع ومفيش حاجة بتتغير.." 

أعطت له تلك الملامح التآزرية وتعبيرات التواجد والإهتمام التي لطالما أعطتها لكل مرضاها وأومأت في تفهم وأعطته المزيد من الوقت حتى شعرت بصمته التام

"والخناقة كانت عن إيه؟" سألته في هدوء ليجيبها سريعا دون تفكير ودون مراوغة وبمنتهى الصدق شاردا بأرضية الغرفة 

"الفلوس، وإنه طول الوقت مش معانا!" 

تنفست الصعداء وهي لا تصدق أنه أخيرا قد أقتنع بالأمر والآن يحدثها بمنتهى الصدق الذي لمسته من نبرته وهيئته وملامحه وكذلك نظرات عينيه!

"وبعدين؟!" سألته بهدوء ليبتسم نصف ابتسامة لم تتأثر بها عينيه ثم تابع حديثه!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

تنويه : الفصل القادم يوم 4 أكتوبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام التاسعة مساءا..