-->

الفصل الحادي والثلاثون - شهاب قاتم

 


الفصل الحادي والثلاثون

تنويه : الفصل القادم سيتم نشره بتاريخ 16 أكتوبر 2020 وسيتم نشر نفس الفصل على الواتباد بعدها بأربعة وعشرين ساعة في تمام الساعة التاسعة مساءا!

إذا تم الإنتهاء من كتابة الفصل الثاني والثلاثون سيتم نشره قبل ذلك..

شكرا للمتابعة..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

وَقادَنِيَ الهَوى فَاِنقَدتُ طَوعاً

                         وَما مَكَّنتُ غَيرَكَ مِن قِيادي

رَضيتَ لِيَ السَقامَ لِباسَ جِسمٍ

                          كَحَلتُ الطَرفَ مِنهُ بِالسُهادِ

أَجِل عَينَيكَ في أَسطارِ كُتبي

                         تَجِد دَمعي مِزاجاًّ لِلمِدادِ

- (ابن زيدون) - 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

لحية كثيفة كثة لم ترها على وجهه بيوم، شعر مشعث غير منمق، هالات سوداء، داكنتيه أختفى بريقها، عينين منهكتين، ملابس بسيطة للغاية لا تمتاز بتلك الفخامة وحب الظهور الذي لطالما كان عليه، منكبان منحنيان، تخبط شديد ظهر عليه وملامحه بأكملها وكذلك هيئته توحي بأنه ليس بخير.. ببساطة .. حالته يُرثى لها

بينما نظرته رآت بها الآلم، الندم، الشرود، الآسف والتخبط الشديد!!

ها هي تجلس أمام عينيه، لقد أشتاق لتلك الملامح، تلك الهيئة البسيطة العفوية التي تمتزج بحُسن رباني لم يره على وجه إمرأة سواها، لماذا لا تبتسم؟ ألا تراه قد عذبه الإشتياق لتلك الإبتسامة؟ ألا تشعر بأنه أفتقد كل أنملة بها؟ أليس هذا جليا عليه؟! 

بالطبع لم ستشعر بهذا وكل ما فعله معها منذ أن عرفها لن يدفعها سوى للغضب والإنزعاج بل ولكراهيته، كل ما انصرم من تصرفات صادرة منه تدفعها على احتقاره الشديد، لها كل الحق في أن تنظر له مثل تلك النظرات الغاضبة المُحتقرة، لا يلومها أبدا.. ولكنه لن يغادر قبل أن يحصل على ما يريد!!

"أنت كويس؟" سألته بإقتضاب بالرغم من ملامحها المشدودة بإنفعال وآتت نبرتها فارغة من المشاعر وحمحم هو بنفس الوقت وكلاهما يتبادلان النظرات ولم تترك عيني أيا منهما عيني الآخر

"هيفرق معاكي؟" اجابها سائلا بإقتضاب بنبرة مستهزئة ثم ابتلع بصعوبة وهو لا يستطيع الإكتفاء من تلك النظرات التي يُمتع عينيه بها إليها علّ رؤيتها تُسكن ولو بعضا من تلك الآلام التي مزقته دون رحمة بالأيام السابقة 

"ملهاش علاقة يا شهاب" تنهدت هامسة وهي تجيبه "مش معنى إني إنسانة بيفرق معايا أيا كان اللي قدامي وشكله ومنظره اللي بيقول إنه مش طبيعي يبقى هيفرق معايا الشخص نفسه!" تحولت نظراتها المشتاقة التي تفلتت منها دون دراية ولا حتى إدراك إلي نظرات واثقة جريئة من كل ما تقوله حتى برهنت عسليتيها بمنتهى الصدق كل ما نطقت به

زم شفتاه ليُجبر إبتسامة جانبية مقتضبة، حزينة، امتلئت بالكراهية الشديدة لنفسه، ولما هو عليه، ولكل ما حدث له حتى جعله يُصبح هكذا، ابتسامة مزقته هو بينما جعلتها هي ترى المعاناة الصادقة التي يشعر بها..

"أنا.." همس ثم توقف عن الكلام لترفع هي حاجبيها في انتظار لما سيقول بينما عقدت ذراعيها وهي تتفقد المزيد من تلك الملامح أمامها التي بالحقيقة لم تُعجب بأي منها، لم تجعلها تشعر بالراحة ولو لثوان، بل تجعلها تشعر وكأنها، لا تدري، كيف عليها صياغة تلك المشاعر.. لا بل شعور واحد يُلح عليها.. شعور الإنزعاج، هذا هو ما تشعر به عندما رآته بتلك الهيئة!

"أنا عايز أسألك سؤال واحد بس" تفاقمت صعوبة نطق تلك الكلمات على لسانه لينعقد أكثر في نفس الوقت الذي اندفع بدمائه وعقله وكل حواسه تلك الذكرى الشنيعة وهو يسأل غادة ليتيقن من حقيقة مشاعرها له..

منذ سنوات سألها سؤال واحد، واجابته هي وقتها، وظل لسنوات، لا بل إلي الآن؛ يعاني من تلك الإجابة الصادمة، يعاني من ذلك الرجل الذي أصبح عليه بسببها، ومن جديد، ها هو أمام أخرى يعشقها، يشعر بالرعب من الإجابة، اللعنة على قلبه الذي يورطه بتلك المصائب التي يتأكد أنها ستعصف به لاحقا لتزلزل كيانه وستنهش بقلبه وعقله على حد سواء بمنتهى الإفتراس ولا حتى يريد أن يتخيل كيف سيكون وقتها!

"جاوبيني بصراحة يا فيروز لأني هاعرف إذا كنتي بتكدبي ولا لأ!" همس في توسل وكأنها لمحت طيف من دموع على حدقتيه الداكنتين ولكن في لمح البصر سيطر على ملامحه التشنج والغضب، وشيئا آخر، لقد لمسته به قبلا.. الخوف المحض!! 

"أنا عمري ما كدبت عليك" تحدثت بثقة وهي تحافظ على ألا تصدر حركة بجسدها توتره أو تدفعه للإرتياب أو حتى تفاقم من خوفه الذي ازداد على ملامحه الغريبة للغاية عنها اليوم لتشعر هي بالتشتت والخوف المماثل لخوفه ما إن علم عن حقيقة علاقتها ببدر الدين، ولكنها تريد مساعدته ليس إلا!! تقسم أنها فقط تريد علاجه!!

"قبل آخر ليلة في الأوتيل" همس في صعوبة وابتلع طعم تلك الدموع المرة المالحة بحلقه لتتحرك على اثرها عنقه بتشنج واضح واختلفت ملامحه للتوسل الشديد "كل اللي فات ده ما بيننا، كنت مجرد حالة بالنسبالك؟!" نبرته دفعتها للبكاء، تلك الآلام البادية على وجهه والحزن والتوسل والإحتياج الشديد للعواطف والإهتمام الذي تتوسله عينيه دفعها للشعور بمشاعر مخيفة للغاية ولكنها سارعت بالإجابة ومنعت نفسها عن البكاء بأعجوبة! 

"عمرك ما كنت مجرد حالة يا شهاب بالنسبالي" اتسعت حدقتيها بمنتهى الصدق لينظر لها في غير تصديق ولأول مرة شهاب الذي تعرفه بكل تلك تحركات جسده التي لا تنتهي كان واقفا أمامها مثل التمثال الحجري لا يتحرك به سوى حدقتيه الباحثتان في عسليتيها عن صدق كلماتها 

"كنت صاحبي.. الإنسان اللي حسيت إني ممكن أكون احسن معاه وأطلع من الحالة اللي أنا فيها وأنا جانبه، الوحيد اللي حسيت إني ممكن أتكلم معاه من غير قيود، من غير ما أشوف الشفقة في عينيه وهو بيقارن بين فيروز القديمة وفيروز اللي جوزها وحملها راحوا!! بس أنت محترمتش الصحوبية دي ولا حافظت عليها!" 

همست بآلم وهي تنهض عن كرسيها وما إن أنتهت مما أرادت قوله ولته ظهرها لتسمح لأحدى دموعها بالإنهيار بعدما كانت تقاومها ببسالة ولكن خارت قواها في النهاية واستسلمت أمام عدو الحزن الذي لم بسائر مشاعرها لتنهي تلك الحرب بالهزيمة التامة التي لم تستطع الفرار منها! 

استمعت لزفرته المطولة التي من على مسافة شعرت بكل آلامه خلالها كما أحست بتحرك جسده في الغرفة وكذلك ارتطام شيئا بتلك المنضدة الصغيرة أمام مكتبها لتجفف تلك الدمعة الخائنة المنهزمة وهي تحاول ألا تُظهر له تحركات احدى يداها التي لا تزال معقودة أمام صدرها وتناولت شهقيا مطولا ثم زفرته والتفتت لترى ما الذي يفعله لتجده جالسا على احدى الكراسي المتواجدة أمام مكتبها البسيط محدقا في سقف غرفة مكتبها، تبدو عليه مشاعر مختلطة، الراحة والآلم بآن واحد..

"أنا يوم اتناشر عشرة كل سنة ببقى.." همس بنبرة ترك بها الآلام لتتضح بمنتهى الصدق ولم يعد يريد الإحتفاظ بهذا الآلم وحده، خاصة بعد صدقها الشديد الذي أستطاع رؤيته على ملامحها "ببقى أسوأ واحد ممكن تقابليه في حياتك.." 

أكمل همسه لتقترب هي منه ثم جلست أمامه وهي تتفقده وقد انجرفت كل عواطفها إليه، ووقعت من جديد دون شعور في كل تفاصيله وانغمست بكل تركيزها ومشاعرها به هو وحده وكأن الدنيا بأكملها لم يعد يتبقى بها سوى ذلك الرجل القابع أمامها كالميت الذي في انتظار إهدار تراب قبره عليه!

"أنا مش قادر أتكلم عن اليوم ده يا فيروز، كل ما بفتكره بتعب، مش قادر، عمري ما اتكلمت عنه مع حد، ولا حد غيرك يعرف حاجة عنه" تحشرجت الكلمات في حلقه، تكومت الدموع على مقلتيه وهو جالس بجسده الذي لم يعد يتحمل كل ما بداخله، انهيار تام اندفع إليه وهو جالس أمامها ووجد نفسه ينظر إليها وقد ودعت مقلتيه الدامعتان هذا السقف وتأهب بجسده في كرسيه

"أنا آسف.. أنا زودتها معاكي.. اللي قولتهولك كان غلط.. أنتي بالذات مكنش ينفع أتكلم معاكي كده" 

حرب خاسرة لكل منهما، لقد لاقت احدى دموعها الهزيمة منذ قليل وها هو قد رفع راية الإستسلام وسمح لأحدى دموعه بالتقهقر على وجهه، أمامها!!

هناك مثل إسباني يقول أن دموع المرأة تساوي كثيرا و تكلفها قليلا، وآخر روسي يقول في دموع المرأة لا يرى الحكيم سوى الماء.. صدق القولان.. دموعها كانت تساوي الكثير، ولم يكن هو بحكيم أبدا.. ومع إحترامي لسائر بقاع الكرة الأرضية من جنسيات شتى، ولكن دموع الرجال، دموع رجل مثله، كل من يراه الآن لا يستطيع تشبيه دموعه سوى بالموت.. 

موت الثقة التي لم يتبادلها مع سواها، موت الإهتمام واليد الحانية التي لم تربت على جسده منذ سبعة وعشرون عاما من الوحدة القاتلة، موتًا وزوالا لخوف دفين ورعب مهلك لم يفارقه طوال حياته.. 

أرأيت يوما كيف يمر الشهاب بلمح البصر؟ هكذا مرت دمعته، أرأيت وقتها كم كان متوهجا؟ هكذا كانت عينيه المتوهجتان بالآلم.. أتعلم أن الشهاب الثاقب هو من يترصد الشياطين المتلصصين على أخبار السماء؟! أعلم إذن أن دموعه التي أخذت في الإزدياد كالشلالات باتت كالشهب تحارب تلك الشياطين التي تلصصت حتى سرقت منه كل ذرة إنسانية.. ولكنها ربما بداية!! بداية الرحلة في البحث عن إنسانيته التي فقدها للكثير من الوقت وطاحت في طيات الزمن الأغبر القاتم الذي لا ضي فيه!

"شهاب، مش لـ.."

"فيروز أنا بثق فيكي" قاطع همسها الباكي بهمس لم يحمل سوى الرعب التام ثم شرد بنظره للأرض والخجل والإرتعاد انفجر بملامحه ونبرته الباكية وجفف تلك الدماء التي نزفت على وجهه، فهي لم تكن تشابه الدموع أبدا!

"أنا هاحكيلك على كل حاجة بس لسه مش قادر، أنا محتاجك تصبري على شوية، ومتزعليش مني" وقفت مجددا الكلمات بحلقه لتصارع دموعه التي يحاول الفرار منها بينما نظر لها ولم يُعطيها الفرصة للفرار من دموعها ولا من مشاعرها التي ارتطمت بعنف لتشاركه آلامه "أنا آسف، آسف بجد مش هاكررها تاني، أنا كنت غبي أوي معاكي.. و.." تلعثم من جديد ونظراته لم تعد ترأف بها

"أنا محتاجك، محتاج تساعديني في كل ده.. مش قادر عليه لوحدي.. لما كنتي معايا الكام يوم اللي فاتوا حاجات كتيرة كانت أسهل.. أنا مش عايز أخسرك يا فيروز" 

نظر لها بتوسل واحتياج لتوقف هي نفسها عن البكاء بصعوبة بالغة بعد استماعها لتلك البحة الجديدة بنبرته التي مزقتها وأراحت جسدها وهي تعقد ذراعيها من جديد وبحثت في وجهه عن الصدق الذي وجدته لتتناول نفس يلي الآخر وتزفره في محاولة للكف عن التأثر وتبادلا النظرات في صمت وكم كان الإحتياج باديا على وجهه وتمنت لو أنه الآن طفلا صغيرا لتذهب نحوه وتعانقه إلي أن تتحول نظرات الآلم والحزن لأخرى هادئة ولكنها ابتلعت تلك المرارة التي تشعر بها وتحولت ملامحها للحزم 

"شهر واحد، مش هاروحلك البيت تاني، هتاخد الأدوية اللي هاقول عليها، sheets، اختبارات، هاسجل ملاحظاتي في كل الجلسات، احترام وثقة ما بيننا، فيه حدود وأدب، هتصارحني بكل حاجة.. وساعتها هنشوف آسفك وكلامك صح ولا لأ! اتفقنا؟!" زفرت بعدها ليومأ لها بالموافقة 

"شكرا" همس بإمتنان وتناول نفسا مطولا ثم عاد ليريح جسده بكرسيه وأوصد عينيه في راحة لم ينعم بها أبدا من قبل..

تفقدت المزيد من تفاصيله، جلسته، هدوء جسده التام الذي لم تره أبدا من قبل، وكأنه ملقي بجسده بين شتات الآلم والإرهاق، ذراعاه المرتميتان على مسندان الكرسي، ساقاه المتباعدتان واحدة منحنية والأخرى استندت على المكتب المجاور وكأنه يتخذ عكازا كي يستطيع الجلوس.. لم تعرفه يوما هكذا! 

"شهاب" همست منادية ليهمهم لها مجيبا دون أن يتحرك "أنت آخر مرة نمت كانت امتى؟!" سألته بإهتمام حقيقي ليخفض رأسه ناظرا إليها بإرهاق 

"مش عارف" أجابها ولكنها لم تصدقه لتطأطأ برأسها لأحدى الجوانب بنظرة زاجرة من عسليتيها "صدقيني مش عارف أو مش فاكر" أخبرها بصدق لتومأ له متنهدة 

"طيب روح بيتك ونام كويس وبعدين نبقى نتكلم في كل حاجة"  أخبرته لينظر لها في احتياج شديد واشتياق شعر هو به ولم ترى أيا منهما على ملامحه، ولكنه رآت ملامح جديدة لم ترها عليه من قبل ولم تستطع قرآتها

"أنا جعان وعايز أشرب قهوة وهابقى كويس.." أخبرها ثم نهض من على الكرسي وأخذ يتحرك أمامها "قومي نتغدا في أي حتة" ضيقت ما بين حاجبيها وظهر الرفض على ملامحها ولكنه بادر بالحديث قبل أن تنهاه "نصيحة، الحقي استغيليني النهاردة.. ممكن احكيلك على أي حاجة عايزة تعرفيها" حدثها بصدق لتزم شفتيها وامعنت التفكير 

"بس أنا لسه عندي شغل"

"خدي اجازة" اخبرها مسرعا ليغيب خلفها وهو يتجول في ذلك المكتب الخاص بها هي واحدى الأطباء وظهر التقزز والامتعاض على ملامحه "المكتب ده صغير جدا" تمتم لتلتفت هي له وعاد شهاب من جديد لتحركاته المتوالية المتسارعة التي تشتتها 

"مش هاينفع" حدثته وهي تنهض 

"خلاص، نجيب أكل delivery وهاشرب قهوة على ما تخلصي وهستناكي" عقد حاجباه في انزعاج وهو ينظر إليها ثم توجه ليعبث بمحتويات مكتبها وجلس على كرسيها لترفع حاجبيها في تعجب وتوسعت عينيها ليراها قاربت من اللون الرمادي ليبتسم كما الأطفال وأخذ يلهو بأوراقها 

"شهاب أنا عندي حالات هاروح أشوفها وبعدين قوم من مكاني وسيب اللي في ايدك" القى ما بيديه ثم حك عنقه وعاد من جديد لينظر إليها بإبتسامة 

"مش عايزة صراحة وثقة واصحاب.. أنا مش عايز اقعد لوحدي النهاردة وعايز أكون معاكي.. هاشرب قهوة على ما تخلصي وبعدين نروح ناكل" أخبرها وملامحه عابثة في ابتسامة لم ترها على وجهه من قبل لتتنهد هي 

"ماشي.. خليك قاعد هنا ومتروحش في حتة.. وهاروح اخلي حد يعملك قهوة.. بس معلش يا بشمهندس معندناش هنا أمريكان كوفي" أخبرته بسخرية وهي لا تصدق تصرفه الطفولي 

"مين قالك إني مبحبش التركي.. دي جميلة" رفع حاجباه إليها بإبتسامة رائعة وتقطب جبينه وكذلك جوانب عينيه لتحاول هي زم شفتيها كي لا تترك للإبتسامة الإرتسام عليهما ثم هزن رأسها في إنكار وهي تُمسك بأحدى الملفات من أمامه ليضع يده عليها كي يعيقها عن جذبها 

"سيب يا شهاب" زجرته لتتوسع ابتسامته في استمتاع "بقولك سيب متهزرش والله أتأخرت" أزاد من قوة يده على تلك الأوراق لتزفر هي في ضيق "أنت عايز تضرب هنا كمان؟" نظرت إليه بجدية ليرفع في النهاية يداه مستسلما 

"لا كفاية ضرب كده.. بالذات آخر مرة دي.. بلاش منها تاني" أخبرها لترفع احدى حاجباها في انتصار وهي ترمقه بملامح تحاول أن تتصنع بها الجدية والتحكم التام بعد أن جذبت الملف من أمامه والتفتت لتتركه 

"ساعتين وهاجيلك ومتلعبش في حاجة!" تحدثت في طريقها للباب بنبرة جادة

"ساعتين!" زم شفتاه في ضيق "طيب دوبل ومن غير سكر عشان افوق" أخبرها قبل أن تغادره وهي توصد الباب ليزفر هو في راحة شديدة ومن ثم تنقلت عيناه بمحتويات المكتب من جديد وهو لا يصدق أنه قريبا للغاية هكذا من أشياء تخصها هي وحدها تتلمسها بأناملها كل يوم ليبدأ بالعبث بها!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"حيلة امه خلاص بقى من منازلهم وأنا اتمرمط في الشغل.. مش كده؟!" تحدث بدر الدين الذي آتى للتو 

"اتريق يا عم براحتك، في مقام والدي برضو ومش هاعتب عليك" نظر له نظرة سريعة ثم اعاد نظره لحاسوبه بينما جلس بدر الدين على مقربة منه "وبعدين لو انطبقت سما على أرض مش هاسيب زينة غير لما تكون كويسة.."

"يا حنين يا ابو قلب خصاية.. تقعد أنت معاها وأنا اروح احلق على عاصم شوية وإياد شوية.. ظاطت بقى.. ما أنا اللي مدلعك!! وهي مراتك عاملة إيه النهاردة يا حيلتها؟ مش كفاية كده اجازة واطمنت عليها خلاص؟" 

 "كويسة، قاعدة مع نوري جوا، وبعدين ما أنا قاعد بشتغل اهو في إيه يا بدر؟" ادعى الإنشغال والتركيز ولكنه شعر بملامح بدر الدين تمتعض ليخفي ضحكته بأعجوبة 

"برضو نوري!! ما تتلم ياض ولا عايز مراتك تترمل ولا ناوي على إيه؟" 

"متبقاش غيور كده، دي الست الوالدة وبدلعها.. عادي يعني" رمقه بخبث مازح 

"ماشي يا ابن ليلي، أنا هاعلمك الأدب حاضر.. صبرك عليا" نظر له غاضبا بثاقبتيه وتجلت عقدة حاجباه لتتوسع ابتسامة سليم 

"أموت أنا في الحمشنة أبدور" أخبره غامزا ليزداد انزعاجه ثم تنهد وهو ينظر لسليم بجدية 

"عملت إيه في حوار أروى؟"

"يووه!! ده أنا ما صدقت خلصت من زن زينة وزن دماغي هتطلعلي أنت!" سرعان ما تحولت ملامح سليم للضيق وتخلى عن ذلك الوجه المازح 

"مش قولت إنك شاكك فيها؟" سأله بجدية ليومأ له سليم بإقتضاب ثم ابعد حاسوبه "خلاص، زقلها حد"

"يعني؟!"

"يعني جيبلها ممرضة، خليك كريم معاها زيادة عن اللزوم، هتقولك دبة النملة" تفحصه سليم بإهتمام في ترقب 

"فكرة والله.. وكمان بدل ما توقع زيت وعصير وتأذي خلق الله" 

"لا ناصح يا حيلتها" 

"مش طايقها يا بدر، مش طايقها" زفر في ضيق ثم القى برأسه للخلف في إرهاق

"ادينا هنعرف اهو.. بص، سيب الحوار ده عليا، أنا هاروح اجيب حد ثقة وهاقنع هديل بالموضوع ونشوف بقى ساعتها أنت ظالمها ولا عندك حق" أخبره ليمرر سليم يده على جبينه 

"أحسن برضو، أنا حاسس إني لو شوفتها هاطلع عليها القديم والجديد" حدثه ليسود الصمت لفترة ليعود بدر الدين ليُحدثه 

"هو الواد شهاب مبعتلكش حاجة كده ولا كده الأيام اللي فاتت دي؟!" 

"ده انت مصمم تعكنن عليا يا أخي" زفر مجددا بضيق وهو يعتدل بجلسته ونظر إليه "لا مبعتش" 

"غريبة" قلب شفتاه في استغراب "يبقى الظاهر كلام فيروز صح.."

"كلام إيه ده؟!" ضيق ما بين حاجباه في استفسار 

"الكام يوم اللي فاتوا كانوا مع بعض في كذا حتة بيروجوا للمستشفى، صور واخبار واعلانات.. ولما كلمتها بعد ما رجعت بتقول إنه بقى احسن وبيستجيب" 

"بص.. بلا يستجيب بلا بطيخ.. أمثال شهاب دول عايزين الحرق" أخبره ليأسرها بدر الدين في نفسه وأومأ له بإقتضاب امتزجت به ملامح الحزن ثم أشاح بنظره بعيدا ليضرب سليم بخفة على جبينة لإدراكه فداحة ما خرج من بين شفتاه ليحمحم وحك لحيته في خجل مما قال وهو يبحث عن الكلمات المناسبة 

"بابا.. شهاب مش زيك.. ولا عمره هايكون.. شهاب ده واحد واطي وجبان بيروح يهدد بنات الناس باللي ماسكه عليهم، فلوسه دي كلها مصدرها هباب وشغل عصابات ومافيا!! لا أنت كنت زيه ومظنش إنه في يوم هايكون زيك!" 

"عارف يا سليم" أخبره متنهدا وهو حتى لا ينظر إليه ولا يزال شاردا وتعمقت سوداويتاه الثاقبتان في تلك النظرة "محدش بيعرف الإنسان وبيعذره غير لما يعاشره ويقرب منه.. أمك لما قربت مني حبتني، ونورسين نفس الكلام.. بالرغم من إني كنت سيء اوي بس اللي عرفوني على حقيقتي مبعدوش!!" تنهد مجددا ثم تابع حديثه 

"لا أنا ولا أنت ولا حتى زينة عرفنا شهاب.. متعرفش إيه اللي حصله علشان يوصله لده.. أنا مش هاخبي عليك.. أنا بجد هاموت وأعرف إيه اللي خلاه كده وبحاول أعرف من فيروز لكن هي عمرها ما قالتلي وأنا بحترم ده ومش من حقي فعلا أعرف.. بس اللي عايزك تعرفه إننا مبنتولدش وحشين.. احنا بنقابل في طريقنا الأسباب.. ويا بنختار نكون كويسين وده بيبقى الطريق الأصعب، يا إما بنختار السهل وإن الواحد يبقى وحش.. الوساخة مفيش اسهل منها أبدا" 

"طيب سيبك من شهاب، عندك واحدة زي أروى اهي.. تقدر تقولي بعد كل اللي حصلها إيه اللي يخليها لما جوز اختها وابن عمتها يروحلها تلومه وتعاتبه وفاكرة نفسها ليها حق فيا؟! ده غير إني متأكد انها ورا الحوار اللي حصل بتاع زينة!" حدثه بسخرية ليلتفت له بدر الدين رافعا حاجباه ثم ابتسم له بسخرية فاقت سخريته

"وهو هديل دي مطلعتش كل ولادها بعقد وكلاكيع؟ كويس إنها جات على قد كده" 

"ما هي عمتي اتصلح حالها اهى وبقت كويسة.. أروى مستنية إيه؟ مستنية اغتصاب وحادثة تموتها علشان تفوق؟!"

"هديل فاقت بعد سنين، بعد أقلام تقطم الضهر!! بنت عمتك لسه صغيرة ومش دريانة بنفسها.. يا خوفي لو فاقت متأخر دي كمان!! دماغها مش سهلة أبدا وممكن تأذي نفسها وتأذي الكل معاها" زفر في إرهاق ثم اختلفت ملامحه 

"قوم يا حيلتها، حسستني إني عجوز جتك القرف.. قوم احلق دقنك دي؟" 

"ليه يا بدر؟ هي وحشة ولا إيه؟ دي جامدة أوي في البوس وعاجبة زينة!" أخبره بغمزة مازحا

"قوم يا صايع يا ابن الكلب.. بتقولها في وش أبوك.." أمسك بزجاجة المياة ليلقيها عليه لينهض سليم 

"ايدك طارشة يخربيت كده.. إيه معندكش اخوات بنات؟" 

"بنات!!" تمتم في تهكم مقتبسا من كلماته "ياما جاب الغراب يا حيلتها.. امشي ياض ادخل جوا يلعن أبو اللي رباك"

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"شهاب.. شهاب اصحى" نادته مجددا لا تعلم كيف لم يشعر بها وهي هنا منذ دقائق لتتذكر سريعا ذلك اليوم الذي استيقظ به متأخرا لتحاول منع ابتسامتها، يبدو أنه من هؤلاء الناس الذين لا يستقيظوا إلا بأعجوبة.. أمسكت بالقلم من جانب كوب القهوة التي احتساها منذ قليل ثم أخذت في لكزه بذراعه عله يستيقظ من نومه "يا شهاب فوق بقى" صاحت به ليفتح أخيرا عينيه ثم ابتسم إليها بإقتضاب وشعر بالراحة الشديدة لرؤية ملامحها أمامه 

"حد ينام على المكتب كده.. قولتلك لو تعبان روح ونتقابل بكرة" أخبرته وهو يحاول فرك وجهه في محاولة لطرد النعاس والإفاقة 

"مكنتش بنام غيرها النومة دي سنين" ابتسم نصف ابتسامة ساخرة عندما تذكر عمله في ذلك المخزن بأولى سنواته في ايطاليا لتمتعض ملامحه لثوان وهو يتمطى بذراعاه للخلف بينما نظرت له فيروز بإستغراب مضيقة ما بين حاجبيها ووجهها يحمل ملامح مستفسرة "هابقى احكيلك متقلقيش" أخبرها وهو يخلل أصابعه في شعره ثم مرر يده على لحيته واتسعت عيناه وأهدابه تتلاقى في محاولة جديدة للإستيقاظ وبنفس الوقت استمعا لطرقات على باب مكتبها وتم فتح الباب لتلتفت فيروز فوجدت الأخصائي المناوب بدلا منها.. 

"ازيك يا دكتور عاملة إيه؟" حدثها لتتحول ملامحها للرسمية الشديدة 

"أهلا يا دكتور وائل.. تمام، أنت عامل إيه؟" سألته من باب اللباقة ليس إلا بينما بداخلها لا تود الحديث معه بالأساس وتوجه هو للمكتب المقابل 

"أهو كويس.. العادي يعني.." اجابها بإقتضاب وهو يجلس على كرسيه المقابل تماما لذلك الكرسي الذي يجلس عليه شهاب، فهو لم يترك كرسيها إلي الآن "معرفتيناش يعني" تحدث وهو ينظر إلي شهاب الذي نهض وقبل أن تتحدث فيروز بادر هو 

"شهاب الدمنهوري" نظر له نظرة يملؤها الإنزعاج "رجل أعمال" تابع بينما لم يقدم له يده ليصافحه وعبث الآخر بمحتويات حقيبته وهو يُخرج حقيبة بلاستيكية غريبة الشكل يبدو أنها تحتوي على طعام ما 

"ده قريبك يا دكتور ولا حالة؟ أصلي عمري ما شوفته معاكي" حسنا لقد طرد ذلك النعاس وتلك الراحة التي كان يعاني منها شهاب منذ لحظات وأيقظ بداخله عدوانية هائلة ولكنه تريث وود فيروز أن تجيب ذلك السؤال مرة أخرى 

"لا، بشمهندس شهاب قريبي.. أخو خطيب أختي، مش حالة ولا حاجة" نظرت نحوه بإشمئزاز وهي تجمع أشياءها بينما أخذ وائل يتابعها بعينيه متفحصا وفمه يعج بالطعام بطريقة مقززة 

"أول مرة يجي يعني.." قلب شفتاه وأكمل مضغه للطعام "بس فرصة سعيدة" نظر إلي شهاب الذي شعر بالغضب من هذا الكائن اللزج وكلا منهما تبادلا نظرات الإشمئزاز الهائلة 

"ما يجيلي اللي يجيلي.. خير يا دكتور وائل، هو حد بيمنع حضرتك يجيلك زيارات ولا حاجة؟" حدثته بحزم شديد ليتصنع وائل ابتسامة أدرك شهاب منها أنه يستهزأ به 

"لا طبعا.. مكتبك في أي وقت ينور فيه كل حبايبك في الوقت اللي أنتِ عايزاه" ألقاها بتلك الكلمات ثم رفع سماعة الهاتف "هاتلي شاي ومياة يا ابني خلينا نحبس علشان نشوف الشغل اللي ورانا" وضع مجددا سماعة الهاتف وهو يبتسم ابتسامة جانبية "زيارات قال" تمتم بخفوت شديد هامسا

"يالا يا شهاب.. أنا خلصت" تحدثت وهي تتجه نحو شهاب بعد أن جمعت أشياءها 

"فيه حاجة جديدة يا دكتور النهاردة؟" 

"الحالات تقريرها موجود على المكتب، بعد إذنك" حدثته برسمية وهي تتجه لتغادر بينما رمقه شهاب بكراهية بنظرة عميقة ولم يغادر خلفها 

"يالا" التفتت لشهاب الذي أومأ في تفهم 

"فرصة سعيدة" ابتسم له ابتسامة مقتضبة رافعا احدى حاجباه وهو يهز رأسه ناظرا له بتوعد 

"أنا أسعد.. خلينا نشوفك بقى" ابتسم له وائل بسماجة ليرمقه شهاب بتقزز ولكنه تابع فيروز ليغادرا خاصة بعد أن استمع لزفرتها التي عجت بالضيق

"أكيد.." أخبره في طريقه نحو فيروز وخرج كليهما وأوصدا الباب ليحك شهاب لحيته النامية "مين وائل ده؟" 

"ده كان اخصائي زيي زيه، بس طبعا بعد الأجازة الطويلة اللي اخدتها بقى رئيس القسم هنا، عايز يتدخل في كل كبيرة وصغيرة وحشري اوي" زفرت حانقة وهي تتحدث عنه وعلا ملامحها الإنزعاج 

"بيضايقك؟" توقف وهو يسألها وملامحه انزعجت بشكل مخيف لتتوقف وهي تحدثه 

"ده عبيط أصلا سيبك منه" أخبرته دون إكتراث حقيقي

"بيضايقك ولا لأ؟" شدد على نطقه للكلمات لتومأ هي له 

"دي حركات تافهة منه علشان الشغل واديك شوفتني بكلمه ازاي.. فيه إيه يا شهاب؟" حدثته بتلقائية ليومأ هو لها في تفهم ولكنها رآت الغضب يندلع على وجهه 

"يالا علشان نمشي.." أخبرها بإقتضاب وعاد ليُكمل طريقه لترفع هي حاجبيها وسارت بجواره 

"شهاب.. أنت متضايق ليه؟" سألته بينما التفت إليها بنظرة سريعة 

"مش متضايق" قلب شفتاه مدعيا عدم الإكتراث 

"شهاب!!" نادته بنبرة مُحذرة ليزفر هو بخفوت 

"المقرف اللي جوا ده كان بيبصلك بطريقة معجبتنيش" توسعت ابتسامتها وهزت رأسها في إنكار 

"طيب وليه تضايق من حاجة زي دي؟" رفعت حاجبيها في غير تصديق بينما دلفا كليهما السيارة 

"يعني لو هبة ولا هاشم حد بيضايقهم في شغلهم هتكوني مبسوطة؟" حسنا، أقنعتها تلك الكلمات

"اكيد لأ، بس مش هاتعصب واتضايق اوي كده إلا لما يكون فيه مشكلة كبيرة" 

"ماشي ماشي.." أخبرها بإقتضاب بينما شرع في قيادة سيارته 

"عملت إيه اليومين اللي فاتوا؟" سألته وهي تنظر إليه لتمتعض ملامحه وقطب جبينه وهو لا يحبذ ابدا تذكر تلك الأيام 

"مفيش" حمحم وهز كتفاه بعفوية ثم نظر إليها "قريت الكتابين اللي قولتيلي عليهم" هزت رأسها بإعجاب 

"وحاسس إن وجهة نظرك اتغيرت شوية؟!" حاولت قراءة ملامحه ليومأ لها بالموافقة 

"شوية" اجابها بإقتضاب ولكنه كان صادقا

"ممم.. يعني فيه ربنا وفيه دين وكده؟!"

"تقريبا" اقتضاب مرة أخرى ولكن ملامحه لم تكن كاذبة مثل ما عهدته 

"وعملت إيه كمان؟" 

"قريت شوية عن موضوع السيكوباتية ده، والدنيا اسودت في وشي زيادة عن ما هي سودة" تنهدت فيروز وهي تنظر لملامحه التي بدأت في الخوف من مدى مصداقيته الشديدة 

"متقلقش يا شهاب، الموضوع يبان في تهويل اوي بس لو أنت عايز تكون أحسن وعندك إرادة فعلا هتتحسن مع الوقت" تنهد هو الآخر ثم نظر إليها منتهزا تلك الإشارة المرورية ثم ابتسم بإقتضاب وهو يُمتع نظره بملامحها وكأنه انعزل عن كل تلك الأصوات حولهما وتمنى لو توقف كل شيء عن الحياة بينما لعن عندما استمع لأبواق السيارات ليشرع في القيادة مرة أخرى

"وانتي عملتي إيه؟" 

"مفيش، شغل، مدرسة ومصحة.. فتحت الشقة بتاعتنا أنا وماهر تاني وروحت قعدت فيها" التفت لها بطيف انزعاج من مجرد ذكر اسمه 

"اشمعنى يعني؟" 

"يعني، حسيت إنه الوقت المناسب إني أرجع تاني" أخبرته وهي لا تنظر إليه وعقدت ذراعيها ليذهب عقلها بعيدا في شرود بتلك الأيام السابقة 

"يالا" همس مخبرا إياها لتنتبه من شرودها الذي لا تعلم لكم من الوقت استمر، وترجلت خارج السيارة لتجد نفسها أمام احدى الفنادق الشهيرة لتحمحم وترددت قليلا فهي لا ترتدي سوى قميص قطني يصرخ بمربعات شتى وبنطال جينز غير رسمي فملابسها لا تناسب المكان أبدا! 

"شهاب احنا هندخل هنا كده.. يعني.. لبسنا مش مناسب و.." رآى التردد على ملامحها ليبتسم إليها 

"إيه ده! فيروز بيفرق معاها الناس هتقول إيه؟ غريبة!!" رفع حاجباه ليتقطب جبينه "همّ عارفين مين شهاب كويس، وأكلهم هنا حلو اوي.. محدش ليه حاجة عندنا" لا تصدق حقا أن تلك الكلمات تغادر شفتاه وهو الذي يحاول اقناعها بشيء "ثانيا انتي دايما حلوة في اي حاجة وفي اي وقت" 

رفعت حاجبيها في اندهاش وحمحمت وهي تنظر له بإستغراب هل هو يتغزل بها؟ أهذه طريقته في الإعتذار عما بدر منه؟! عليه أن يتوقف على الحديث بتلك الطريقة فهي لم تعتاد منه ذلك! 

"طيب يالا ندخل.." أومأ لها ودلفا لتجد أن هناك من يعرفه وتبادل معه بعض الكلمات وساد الصمت بينما اتبعته عندما فرغ من التحدث لذلك النادل الذي قادهم إلي مائدة معزولة نوعا ما تقع بركن بعيد يطل مباشرة على مياة النيل والأضواء خافتة، هناك بعض الأضواء البسيطة وزهور على المائدة لتتوقف وهي تتفقد كل ذلك، يبدو موعدا غراميا وليس مجرد معالجة نفسية ومريض، وكذلك ليس بصديق وصديقته ذاهبان لتناول الطعام!!

ابتلعت وانعقد لسانها وتوقفت على اتباعه وهي تنظر حولها في توتر ليلتفت إليها شهاب الذي شعر بتوقفها المفاجئ واقترب منها عاقدا حاجباه في استفسار 

"وقفتي ليه؟" سألها وهو يتفحص حدقتيها الرماديتان وشعرت بصعوبة في النطق فهي لا تريد قول شيء يُفسد ذلك الرجل الجديد الذي آتى منذ ساعات لمكتبها وفي نفس الوقت تشعر بأن ذلك المكان لا يناسب سوى عاشقان ليتناولا عشاء رومانسي

"حاسة المكان غريب شوية و.." تنهد وهي تنطق تلك الكلمات ببطء لتنزعج ملامحه 

"فيروز" قاطعها بنظرة صارمة كمن يُجبرها على أمر ما "أنا عايز اتكلم معاكي في حاجات كتيرة، عايز ابتدي اقولك على كل حاجة، عندي صداع بشع، ملقتش مكان غير هنا الوحيد اللي قدرت افكر فيه بسرعة علشان يكون بعيد عن الناس وعن الدوشة بما إنك مش عايزة نقعد في البيت.. عندك مكان تاني؟" رفع حاجباه بنظرة مقترحة ونبرة تخللها السأم لتتنهد هي في استسلام ثم أومأت له بالإنكار 

"خلاص.." همست ثم تقدمته نحو المائدة لتجلس وفعل هو مثلها لتعبث أصابعه بلحيته وهو يتفقد قائمة الطعام لتفعل المثل ولم تر تلك النظرات التي سرقها بينما انشغلت هي تماما فيما تريد أن تتناوله ليجد نفسه يشرد بعينيها الظاهرة من خلف قائمة الطعام وارتسمت على وجهه ابتسامة وبمنتهى الهدوء ترك القائمة من يده ليسرق المزيد من تلك النظرات إليها ليتذكرها فيما بعد..

"أنت بتبصلي كده ليه؟" اندفعت ملامحها للإستغراب بإبتسامة مقتضبة في توتر من نظراته الغريبة عليها كليا اليوم ليستيقظ هو من غفلته التي يبدو وأنها كانت أطول من اللازم بينما لم يستقيظ لسانه بعد

"انتي جميلة اوي" حمحم ثم عقد حاجباه لترفع هي حاجبيها في اندهاش "إيه الموضوع صعب إن واحد صاحبك يقولك إنك جميلة؟" ابتسم إليها وهو يحاول أن يتدارك سريعا ما قاله بينما أشار للنادل الذي آتى ليتناول ما ودا أن يتناولان ليفاجئها شهاب للمرة المائة اليوم أنه يود أن يتناول ما ستتناول مثله لتحمحم في تعجب وطأطأت رأسها لتنظر بمحتويات المائدة في صمت..

حسنا كل ما يحدث غريب، مظهره، طريقته التي لم تعهدها، بكاءه أمامها، الإعتراف برغبته في التحدث، إعتذاره، ولكن أين هي من كل ذلك؟ هذا اللسان المنعقد عليه التوقف الآن!!

"قولي حابب تحكيلي إيه؟" رفعت رأسها إليه وسيطرت على ملامحها لتتحول للجدية ليبدأ هو في توتره المعهود، يداه أخذت تمر تارة على شعره وتارة على لحيته، ويده الأخرى عبثت في قميصه القطني ثم طأطأ رأسه للأسفل ناظرا في اللاشيء واستند بيده على المائدة أمامه لتتنهد هي في سأم من أفعاله 

"شهاب!" نادته وهي تؤكد على كل حرف من اسمه لتبدو نبرتها الزاجرة كأم تحذر طفلها من شيء ما ليزفر هو وأوصد عيناه للحظة ثم رفع نظره إليها لتبتلع من تلك النظرة المخيفة 

"عايزة تعرفي إيه؟" سألها بإقتضاب لتعود لتلك النقطة مرة أخرى وبتلقائية شديدة أعادت شعرها للخلف بأصابعها ليلعن بداخله ذلك اليوم الذي عرفها به 

"أنت اللي عايز تحكيلي.. مش أنا اللي عايزة أعرف!" رفعت احدى حاجبيها في حزم ليهز كتفاه في عدم معرفة وقد كان صادقا

"حقيقي مش عارف احكيلك قبل ما أسافر ايطاليا، ولا بعد ما سافرت.. ولا وأنا صغير" التوت شفتاه في حسرة وامتزجت ملامحه بالآلم وقلب شفتاه ونظر لها في توسل "أنا حياتي كلها زفت، لو عرفتي كل حاجة مش بعيد تقومي تجري من هنا ومتعرفنيش تاني" عقد حاجباه متأثرا لتلين هي ملامحها 

"طيب ما تجرب، وبعدين يعني بعد كل اللي عملته معايا مسبتكش وجريت مثلا.. أنا قاعدة اهو معاك بعد ما خطفتني وخدرتني وقلعتني و.."

"لا ثواني انتي رجعتي على هدومك" قاطعها رافعا حاجباه 

"ما بسبب الزفت اللي حطتهولي" حدثته بجدية وإنزعاج وهي تشير إليه ليتنهد كليهما في آن واحد "ليه عملت كده يا شهاب؟ مكنش ممكن أي طريقة تانية غير دي؟" توسلت ملامحها وكأنها تلومه ليوصد عيناه في كراهية لنفسه ثم نظر لها 

"علشان عرفت إنك مبتشربيش ومستحرماها، وعلشان مكنتش واثق فيكي، وأنا مبعملش حاجة تضايق حد غير لما بكون عارف إن الحاجة دي بتضايقه بجد واستحالة يقبل بيها! وانتي واحدة محترمة وبتحافظ على الحلال والحرام فببساطة عرفت ايه اللي ممكن يضايقك وعملته.. أنا بتبسط لما بأذي حد.." المزيد من الصدق الصادم لها اليوم بتلك النظرات القاتمة المهيبة في عينيه جعلتها تهز رأسها في انكار بينما آتى النادل ليضع الطعام أمامهما لتبتسم له فيروز في رسمية وامتنان 

"شكرا" أخبرت النادل الذي أومأ لها في احترام وقارب على وضع زجاجة نبيذ على المائدة ليصدمها شهاب مرة أخرى 

"لا شكرا مش عايز" حسنا هي باتت ترتعب من تغيره المفاجئ

"طيب احكيلي.." زفرت ليرطب هو شفته السفلى وتناول من الصحن أمامه ثم مضغ الطعام في تريث ثم القى بالشوكة على الطبق وملامحه تمتعض لتظهر الصعوبة عليه 

"أنا كنت بذاكر وشاطر، جاتلي منحة لدراسة في ايطاليا، الوحيدة اللي اتقبلت فيها مع اني كنت مقدم على كذا منحة.." تنهد بصعوبة من جديد وكأنما الكلمات وقفت بحنجرته ولا تريد الخروج لينهض موليا لها ظهره ثم خلل شعره المشعث لتنهض هي الأخرى وحاولت أن تتفقد ملامحه لكنه حاول التهرب منها لتجد نفسها تُمسك بذراعه بتلقائية 

"شهاب بصلي، شهاب" نادته ليلتفت لها بملامح غاضبة ممتزجة بالخوف "أنت قلقان تحكيلي.. لسه مش واثق فيا؟" همست له وهي تبحث عن الحقيقة بعينيه ولم ير سوى الإهتمام الشديد بعينيها وكلما تناول بعض الهواء حتى يحاول التحدث انعقد لسانه من جديد ليعقد حاجباه وتشنجت تقاسيم وجهه بأكملها 

"أنا خايف، خايف بعد ما أقولك كل حاجة أخسرك.. خايف بعد ما تعرفي كل حاجة عني اخسر الإنسانة الوحيدة اللي عرفتني صدفة" ابتلع وهو يحاول التنفس بصعوبة بينما أمسك يدها بينما لم تترك هي لمستها على ذراعه 

"أنا عمر ما حد عاملني زيك، عمر ما حد اهتم بيا، وعمري ما قولت كل حاجة لأي شخص، يمكن انتي الوحيدة اللي اتكلمت معاها وتعرف علاقتي زمان بوالدتي، تعرف قد إيه أنا ممكن يطلع مني مصايب وكل مرة بترجع وبتكلمني وبتعاملني إني إنسان بجد.. مبتستغلنيش ولا عرفاني علشان مصلحة ولا علشان ساعتين متعة وخلاص!!" 

لمحت طيف دموع طفيف بعينيه لتتحول ملامحها للتعاطف الشديد معه او هذا ما ظنته، لم تشعر أنها تتألم مثله، لم تشعر أنها تكترث لكل ما به، ولم تلاحظ كيف سمحت له بتلمس يديها هكذا وكيف هي لا تزال تتلمسه وكأن كل ما وضعته يوما من قواعد للتعامل بينها وبين رجل غريب عنها تلاشت في ثوانٍ من أجله هو فقط!

"أنا معنديش أصحاب، واديكي شوفتي والدتي واخواتي علاقتي معاهم عاملة ازاي، ولسه كتير متعرفيهوش، أنا مش عايز حياتي ترجع تاني فاضية من غيرك" توسل بنبرته هامسا وملامح الحزن والإحتياج الشديد طغت على كل ما كان عليه هذا المخادع يوما ما لتظهر بمنتهى الصدق

"عمري ما هابعد عنك ولا هاطلع من حياتك.. جربني.. عرفني كل حاجة وصدقني هنفضل زي ما احنا وممكن كمان نكون احسن" همست إليه بصدق لينظر إليها وهو يبتسم بحسرة وتوسعت عينيه وهو ينظر لها

"انتي مش فاهمة، أنا إنسان بشع" 

"وأنا إنسانة، وربنا اللي احسن مني ومنك بيسامح، ليه مقبلكش وأسامحك؟! ليه مساعدكش علشان تكون إنسان احسن؟ ليه شايفني وحشة يا شهاب أنا مش كده" توسعت ابتسامته 

"انتي وحشة!!" ابتسم أكثر إليها "انتي احسن واحدة أنا عرفتها.. لو انتي وحشة أنا ابقى إيه؟" نظر لها بصدق وعيناه لا تتوقف عن حفظ تلك الملامح، الملامح التي لأول مرة يراها على وجه إمرأة يثق بها، يعشقها، يريدها أكثر من أي شيء بالحياة 

"أنت إنسان، الله أعلم بماضيك وباللي حصلك، وأنا جانبك علشان أساعدك.. خلاص يا شهاب احنا عدينا المرحلة دي.. اتكلم، احكيلي" توسلته وهي تقترب منه لينظر لها في خوف شديد وأمسك نفس اليد بيده الأخرى في تضرع

"انتي مش فاهمة، الكلام بيوقف على لساني، أنا متعلمتش إني اكلم حد، أنا مبكلمش غير نفسي وبس.. محدش هيفهم كل اللي عملته زيي.." أخبرها بملامح متشنجة متأزمة واحتدمت آلامه لتخلف غصة بحلقه تمنعه عن الحديث ودفعت أنفاسه للتلاحق أكثر

"أنا يا شهاب هافهمك، أنا هاقبل كل اللي هتقوله، خلاص نصيبي ونصيبك إننا نتقابل ونكون اصحاب ونكون جنب بعض.. زي ما أنت ساعدتني الكام يوم اللي فاتوا إني أكون احسن، أنا كمان هساعدك.. زي ما أنت ما وقفت جنبي أنا هاكون جنبك، متخفش.. أتكلم وأنا هاسمعك" 

توسلته بإصرار شديد من عينيها ليزفر هو في غضب وعقله يصرخ به ألا يُفصح ولو حرف واحد بينما سائر مشاعره تعدو نحوها وتريد الإنهيار أمامها، لا بل الإنهيار بصحبتها هي فحسب!

"نصيبي الأسود اللي بيورطني" همس في وهن ليتبادلا النظرات ثم أومأ بإنكار على حاله ليتنهد في ضعف 

"صدقني عمري ما هابعد ولا هخاف.. اتكلم، قولي كل حاجة، جرب تقولي حاجة واحدة بس وشوف أنا هاعمل إيه؟!" حاولت إقناعه من جديد ليزفر في غضب وقد سأم ذلك الصراع بين ما يخبره به عقله وبين ما يشعر به معها ليترك يدها ويقف أمامها محنى المنكبين ونظر لها كالطفل التائه بإنكسار بينما هي مررت يدها على ذراعه في تشجيع وهو تومأ له بتأكيد

"عايزاني اتكلم اقولك إيه ولا إيه، السنتين اللي اتعذبت فيهم بعد طلاق اهلي؟ ولا السنين اللي بعدها وأنا بتمرمط من شغلانة لشغلانة وأنا عيل لسه في إعدادي؟ ولا حياتي اللي فاضية ومفيهاش حد؟ هتقبلي إيه ولا هتسمعي إيه؟ هتقبليني وأنا مهزوز ومكسور قدامك بسبب واحدة وهمتني بحبها سنين وفي الآخر اختارت غيري؟" نظر لها في غضب وهو يصارع أنفاسه المحمومة بسيل من ذكريات قاتمة كسواد ليلة قمرها محاق فنظرت هي له وازدادت لمستها على ذراعه في دعم 

"صدقني يا شهاب، أنا هافهم كل اللي مريت بيه و.."

"تفهمي اني سرقت، قتلت، اغتصبت، مرة واتنين وعشرة.. هتفهمي ده يا فيروز؟! هتفهمي تجارة في المخدرات والسلاح والتهريب؟ هتفهمي من غير ما تقولي ده شيطان وتمشي وتسبيني؟!" صرخ بها ليقاطعها وهو لم يعد يتحمل توسلها أمامه واقترابها منه الذي يحثه أن يفقد كل تلك القيود بين ذراعيها ويخبرها عن كل ما عاشه وحده ليتشارك ولو لمرة واحدة تفاصيل حياته مع إمرأة يعشقها..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع. . .

تنويه : الفصل القادم سيتم نشره بتاريخ 16 أكتوبر 2020 وسيتم نشر نفس الفصل على الواتباد بعدها بأربعة وعشرين ساعة في تمام الساعة التاسعة مساءا!

إذا تم الإنتهاء من كتابة الفصل الثاني والثلاثون سيتم نشره قبل ذلك..

شكرا للمتابعة..

شكر خاص لموني أحمد لتصميم الغلاف