-->

الفصل الثاني والثلاثون - شهاب قاتم

  


الفصل الثاني والثلاثون


تنويه : موعد الفصل القادم 20 أكتوبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على موقع واتباد..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

  لو سألني أحدكم .. ما هي علامات الحب ؟؟ و ما شواهده؟؟

لقلت بلا تردد

أن يكون القرب من المحبوبة أشبه بالجلوس في التكييف في يوم شديد الحرارة، و أشبه باستشعار الدفء في يوم بارد..

لقلت هي الألفة و رفع الكلفة و أن تجد نفسك في غير حاجة إلى الكذب.. و أن يرفع الحرج بينكما، فترى نفسك تتصرف على طبيعتك دون أن تحاول أن تكون شيئا آخر لتعجبها..

و أن تصمتا أنتما الإثنان فيحلو الصمت، و أن يتكلم أحدكما فيحلو الإصغاء..وأن تكون الحياة معا هي مطلب كل منكما قبل النوم معا..

(مصطفى محمود - أناشيد الإثم والبراءة)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

نبرته الصارخة بحرقة شديدة، عدوانيته التي ظهرت ببريق تلك القاتمتان في سواد الليل، غضبه الذي لمحته بعينيه، أيملك مشاعر؟ كيف كل تلك الكراهية والغضب لكل ما فعله التي تظهر عليه بمنتهى الوضوح قد تقع ببؤرة سيكوباتي؟ كيف؟ لو طفل صغير سيرى وسيدرك أن هذا الرجل بذلك اللهاث المتألم الغاضب الممزوج بالخوف وبنظرته المحتقرة والمشمئزة من تلك الأفعال، يشعر بمشاعر.. ولكن كيف؟!

سيكوباتي ويشعر؟! بتلك المشاعر خاصة؟ كيف هي لا تفهم؟ تحاول التأكد مما تراه أمامها، تحاول التمسك بألا تنخدع، قد تكون تلك كذبة جديدة، لا تريد الإنسياق الآن وراء الشفقة والعاطفة التي لطالما انساقت لهما بالفترة الأخيرة بحياتها، رماديتاها الملتمعتان ببريق شغف البحث بداخل طيات تلك الشخصية الصعبة تحاول السيطرة ولكنها شعرت أنها تنظر له أكثر من اللازم دون التفوه بكلمات، لا تريد خذلانه أبدا، لا تريد خسارته..

قلبها المنجرف إليه لا يريد أن يؤذيه، بل العكس تماما، يريدها أن تعانقه، أن تخبره أنها تقبل كل ما به، تود أن تصرخ به لتصيح بعقله أنه سيكون أفضل، أن التوبة موجودة، أن كل شيء على ما يرام.. ولكنها لم تفسر إلي الآن تلك المشاعر والدماء المنفجرة بعروقها تحثها على الإقتراب منه لتضمه إليها لتهدأ من روعه.. اللعنة على عقلها النائم الذي لم يتيقظ بعد!

"طب خد نفس" أخبرته وهي تتحكم في ملامحها ليعقد حاجباه في استغراب مما قالته.. وتحولت ملامحه المتشنجة المشمئزة للتعجب "حط ايدك هنا" رفعت يدها التي احتواها هو بكل يداه لتُمسك بواحدة منهما ووضعتها فوق صدره ويدها الأخرى لا زالت ممسكه بذراعه "اعمل زيي"

وضعت يدها بمنتصف صدرها لتجد شفتاه تلتوي في سخرية فهذا لم يكن يوقعه أبدا، قد فكر في مغادرتها إياه، فكر في أنها ستصرخ به، ستهرب بعيدا وتنظر له بإحتقار ولكن أن تخبره بأن يتنفس!! حسنا، لم يطرق هذا الموقف باب عقله أبدا..

أخذت تتناول الهواء بعمق لتمرره إلي رئيتيها وحثته بنظرة من عينتيها المتوسعة وإماءة من وجهها وهي ترفع حاجبيها إليه، ثم زفرت النفس بمنتهى البطء الشديد ليتحول لزفير مطول ممل لتتوسع ابتسامته الساخرة

"اسمع الكلام واعمل زيي" كررت تلك التجربة مرة أخرى ليهز رأسه وفعل على مضض ما تخبره به لينظر إليها، كلاهما واضعان يدهما بمنتصف صدرهما وهي إلي الآن لم تترك ذراعه وبدأ في الشعور بقليل من الهدوء

"بص لصدرك، شوف لما بتاخد نفس طويل بيعمل ازاي، ركز فيه"

تلقائيا انصاع لنبرتها المتحدثة وأخذ يراقب تلك الأنفاس التي تتغلغل بداخله ثم تغادره ليتفاقم الشعور بالهدوء بسائر حواسه لتراقبه فيروز وهو يهدأ أمامها وملامحه ثابتة، هادئة تلقائية، وكادت أن تخفض يدها من على ذراعه ليُمسك هو بها مسرعا في خوف شديد من ردة فعلها فهو لا يريد أن تبتعد عنه أبدا ولو حتى بتلك اللمسة ورفع نظره إليها بعد أن أدرك ما تحاول فعله ليخبرها بنبرة مرتجفة متألمة في حسرة على مظهره أمامها

"انتي بتلهيني يا فيروز!" نظر متفحصا اياها وقبض على يدها في خوف استطاعت الشعور به من قراءة ملامحه وأثر تلك اللمسة على يدها

"لا مش بلهيك.. بهديك علشان نعرف نتكلم أكتر" ابتسمت إليه لينظر لها كالضائع بين قتامة كل ما مر عليه "أنا هنا، ممشتش ولا هربت، أنا قدامك اهو.. مبعدتش ولا قولتلك حاجة" ابتسمت له مجددا في محاولة لدعمه وتشجيعه ثم جذبت يدها بهدوء من قبضته التي لانت خلال نطقها بتلك الكلمات التي غادرت شفتيها للتو..

"ممكن نقعد بس وناكل قبل ما الأكل يبرد ونكمل كلامنا واحنا قاعدين؟" طلبت منه بلطف ولباقة ليومأ لها زافرا بقليل من الراحة التي لم يتقاسمها أبدا مع إمرأة سواها

"شهاب أنت إيه رأيك في اللي أنت قولتهولي؟" حدثته سائلة بعد فترة طويلة من الصمت تناولا بها الطعام ولكن خلالها حاول شهاب أن يواري قاتمتاه عنها بينما هي لم تترك ولو قيد أنملة بكل تحركاته وملامحه وتفاصيله لتغفل عنها، بل سلطت كل تركيزها عليه

"زفت" التوت شفتاه في حسرة لتومأ في تفهم وأكملت تناول طعامها بينما لم يفعل هو وطأطأ رأسه للأسفل

"لأ كمل أكلك.. اتعامل مع الموضوع عادي.. احنا بنتكلم على حاجات حصلت وإن شاء الله مش هاتحصل تاني" أخبرته بهدوء ليرفع نظره إليها لتبتلع هي في شعور غريب من تلك العينين أمامها ولكنها حاولت السيطرة على نفسها لينصاع هو من جديد لما تخبره به 

"نرجع لموضوعنا، أنت بجد شايف إن اللي عملته ده حاجة مش كويسة وندمان عليها؟" سألته ليبتلع طعامه وامتعضت ملامحه من جديد 

"أي حد ولو عيل صغير عارف إنها حاجات مش كويسة، بس مش ندمان عليها، أو تقدري تقولي مش ندمان على أغلب اللي عملته" أخبرها ثم تناول كأس المياة وارتشف منه البعض لتومأ هي له في تفهم بينما عقلها لم يعد استيعاب تلك الكلمات، مصداقيته الشديدة التي تنافي حقيقة السيكوباتية بشدة!

"طيب، أنت قابل حقيقة إن عندك مشكلة فعلا؟ ولا علشان بس اللي حصل ما بيننا واحـ.."

"فيروز" قاطعها بنبرة جامدة لم يظهر بنطقه لحروف اسمها سوى الآلم والغضب وتوارت بقية مشاعره خلف جمود نبرته الرجولية التي باتت توترها بمصاحبة نظراته الغريبة عليها كليا منذ أن رآته اليوم 

"أنا اقتنعت بعد ما فكرت كتير في كل حاجة، وصلت الأحداث ببعض.. أنا مش طبيعي أبدا" أومأت في تفهم وهي تتناول شهيقا مطولا ثم زفرته وتوقفت عن تناول الطعام بعد أن شعرت بالشبع الهائل، لا تدري اكتفاءا وراحة من اعترافه أم من الطعام.. هي فقط لم تعد تريد تناول المزيد من الطعام، كل ما تريده هو المزيد من تلك القتامة التي تنفجر بعينيه كلما تحدث!

"وعايز تغير ده؟" سألته ليومأ لها بالموافقة في منتهى الإقتضاب ثم نظر بعينيه بعيدا عن عينيها، لم يعد يتحمل ذلك الشعور الذي يلح عليه بمعانقتها والوقوع في النوم بين ذراعيها "ليه يا شهاب؟" 

"علشانك" صرخ عقله بينما استطاع التحكم في ألا تندفع تلك الإجابة بينما تنهد رافعا حاجباه في توسل بملامح مرهقة اتضح عليها التعب "بصي.. انتي لما قربتي مني، بالرغم اننا مش في علاقة شبه علاقاتي زمان، وبقينا اصحاب وعرفتيني حاجات جديدة أنا حبيت اكون احسن، الشخص اللي أنا عليه مش كويس.. مش كويس خالص" 

"يعني عايز تتغير علشان نفسك قبل أي حد؟" كادت أن تصرخ من تلك الصدمات المتوالية التي يعطيها إليها وتقسم للمرة الآلف أنه اليوم صادق وتشعر بمصداقية كل ما يقول ولكن كيف، كيف لرجل سيكوباتي أن يُفكر بتلك الطريقة؟ .. وبالرغم من كل ذلك آتى صوتها هادئا واستطاعت التحكم بتلك الحيرة التي عصفت بعقلها كالإعصار

"أيوة" أومأ لها في هدوء لتحاول هي تقبل الفكرة التي بدت غريبة للغاية 

"طيب، عندك استعداد افهمك كام حاجة عن اللي بتعاني منه ولا مش قادر دلوقتي؟" استأذنت في لباقة ليومأ هو لها بالموافقة ثم تثاءب في شعور بالنعاس

"بص، الإضطراب اللي عندك ده بيخليك شخصية معادية للمجتمع بكل الناس اللي فيه، بيخليك عدواني طول الوقت، ولما بتتعصب من اي حاجة بتحصل بيخليك عايز تنتقم، او تستغل اللي قدامك.. بطريقة automatic من غير ما يكون ليك تحكم فيها.. فدلوقتي انا هاديك دوا هنحاول نقلل بيه عدوانية المزاج دي، وهنحاول نفكر بهدوء في ردود افعالك لما أي حاجة تحصل وبلاش اندفاعية.. هنحاول واحدة واحدة نتعامل مع الناس القريبة مننا بطريقة كويسة بعيدة عن الإستغلال.. ونبني كل علاقاتك من أول وجديد.. أنا عارفة إن كل ده هيحتاج مجهود رهيب وصراحة ما بيننا وإنك تحكيلي على كل حاجة واحدة واحدة سواء حصلت زمان أو بتحصل دلوقتي.. موافق على كل ده يا شهاب؟" حدثته وانتظرت لترى ردة فعله 

"موافق" اخبرها بنبرة هادئة صرخت بها مصداقيته ليجعلها تجن 

"بجد.. من غير كذب وتحوير! هتقدر؟!" ترقبته في انتباه تام ومن جديد بحثت بملامحه وبعينيه عن الصدق لتراه ينزعج بشدة ورآت الغضب يسيطر على تقاسيم وجهه الجذاب

"أنتي ليه مش مصدقاني.. أعمل إيه يعني علشان تصدقي.. والله موافق" لا.. هذا ليس بشهاب الجالس أمامها!

"أنت بتحلف؟" سألته في تعجب وهي ترفع كلتا حاجبيها مما أدى لتقطب جبينها ليزفر في حنق 

"هو أنا مش قولتلك على فكرتي في ربنا اللي اتغيرت، انتي مش مصدقاني ليه؟" ضيق عينيه في تفحص شديد 

"بصراحة، مفيش حاجة في الدنيا أظن انها ممكن تغير فكرة حد في وقت قصير كده.. وبالذات حد زيك" حدثته بجدية ليبتسم في غيظ مطأطأ رأسه للأسفل وهو يرطب شفته السفلى ثم رفع عينيه القاتمتان فقط دون أن يرفع بكامل رأسه 

"ولو ثبتلك إني اتغيرت؟!" شكله مخيف هكذا بتلك النظرة المصحوبة بهذه الإبتسامة الغريبة لتحاول هي تحاشي النظر إليه ولكنها لم تستطع لا تدري لماذا! 

"أكيد هكون أسعد واحدة في الدنيا.. مش هاكره ابدا إنك تكون كويس" استمع لتلك الكلمات منها لتتحول نظرته مجددا لخوف غير مفهوم بالنسبة لها ولكن مجرد ذلك الوعد جعله يشعر بالخوف من المقبل مع تلك المرأة التي آتت في غضون شهران لتأسر قلبه

"ماشي، خليكي فاكرة الكلام ده" أخبرها بإقتضاب ليزفر ثم رفع رأسه ليشرد بعينيها بطريقة جعلتها تتعجب، فهمت هي أنه ربما يرتاب بأمرها من جديد، أو ربما أنه يحاول تفسير ما تُفكر به، فكرت في العديد من الأسباب وما قد تفهمه من تلك النظرة الغريبة ولكن حقيقة أنه يعشقها لذلك ينظر لها مثل تلك النظرة لم يطرأ ذلك بعقلها أبدا!

"طيب، هنعتبر إن كل حاجة اتغيرت.. جربت تصلي؟ جربت تفهم أي حاجة في الدين عموما؟" أخرجته من شروده بعينيها وكم كره ما تفعله به هكذا فجأة واحدة تشتت تركيزه عن أكثر ما بات يعشق النظر إليه لتضطرب ملامحه ثم زفر في صعوبة بما قارب على قوله 

"أنا معرفش أي حاجة، ومش فاكر آمال كانت بتعمل إيه بالظبط.." تنحنح في محاولة لطرد تلك الصعوبة بنطقه تلك الكلمات "وده من ضمن الأسباب اللي خلتني أشوفك النهاردة" أومأت له في تفهم ثم جذبت هاتفها لتبحث عن فيديوهات تعليمية ومواقع هامة قد يستفيد منها بينما هو كل ما يكترث إليه هو حفظ المزيد من تفاصيلها ليتابعها بقاتمتاه الصارختان للإحتياج بالنوم وتمعن في تلك الملامح الرائعة..

كيف تتحرك أهدابها، كيف تنظر إلي شاشة هاتفها اللعين الذي يحصل على كامل تركيزها بدلا منه، تلك النسائم التي تُحرك احدى خصلاتها في هدوء تجعله يشعر بالعذاب فلماذا لا تمر أصابعه هو في تلك الخصل بدلا من ذلك الهواء اللعين؟! شفتيها، لا يجب عليها أن تزمهما بتلك الطريقة وإلا لن يضمن بقائه معها دون تعدي تلك الحدود والقيم التي تصمم على وضعها بمنتهى الحزم!! لماذا لا يعطي وجنتيها حقها؟! بالرغم من نحافتها ولكن وجنتيها المستديرتان سلبا عقله تماما.. وتلك العنق، تلك العنق لو يستطيع أن يمرر أنامله عليها ثم يقترب ليقبلها لـ..

"بص، أنا بعتلك كذا حاجة علـ.." قاطعت تفكيره ثم توقفت من تلقاء نفسها لتشعر بالغرابة أثر ملامحه ونظراته التي تمتزج بالغضب وهل هذا طيف من خوف أم رغبة أم ماذا؟! متى سيكف عن تلك النظرات التي باتت أكبر همها وكل ما تحاول فهمه.. بالأمس كانت لا تستطيع تفسير كلماته والآن نظراته باتت أصعب!! متى ستنتهي من تلك دائرة محاولة فهمه التي لا تستطيع الخروج منها؟

"شهاب، في حاجة مضايقاك؟" سألته وهي تسند يدها على عنقها بتلقائية ليبتلع هو وكأنما تقصد وتبيت النية على أن تزيد من ذلك الإضطرام المستعر الذي يلم بسائر حواسه 

"لا خالص" أخبرها ثم ابتلع لتومأ هي له 

"انا بعتلك كام فيديو تقدر تفهم منهم بسهولة، وبرضو ويب سايت فيه أسألة وحاجات كتيرة، الموضوع سهل، ولو احتاجت حاجة ممكن تكلمني في اي وقت وأنا أقولك عليها" أومأ لها في تفهم ثم لاحظت عدم إصدار هاتفه لأي صوت "ممكن تشوف لو وصلوا؟" 

"أنا نسيت الموبايل في البيت" أخبرها لتُصدم، أحقا شهاب الدمنهوري رجل الأعمال المشغول لا يحمل هاتفه!! يا لها من سابقة ومفاجأة لتضيفها لباقي مفاجآت اليوم.. ستعود إذن لموضوعهما حيث أنها ودت أن تطنب له بالحديث في هذا الأمر أكثر فلو حقا استيقظ إيمانه بداخله سيساعدها كثيرا على المُقبل 

"تخيل لو بمجرد ما اتوضيت، وقفت بين ايد ربنا، كلمته وأنت ساجد.. قولتله على كل حاجة أنت مش قادر تحكيها لحد.. زي ما جيتلي النهاردة في المكتب.. لو طلبت منه يساعدك على اللي جاي، وتقوله إنك مش عايز لا تقتل ولا تغتصب ولا تعمل الحاجات دي تاني.. تفتكر هيرفض طلبك؟" نظرت له في توسل ليرمقها في حسرة 

"تفتكري الموضوع بالبساطة دي؟" ابتسامة جانبية ارتسمت على شفتاه لتبتسم له هي في هدوء 

"زي ما جيتلي تقدر تروحله، وإذا كان مجرد إنسانة هو اللي خلقها قبلتك وقالتلك إنها هتساعدك يبقى هو اللي خلقني وخلقك مش هيساعدك ولا هيتوب عليك؟ صدقني يا شهاب عمره ما هيرفضك.." أخبرته ليتنهد وأومأ بالموافقة "لما تروح ابقى شوف الموبايل والفيديوهات وأنا موجودة لو احتاجت حاجة" ابتسمت إليه ثم رمقت هي ساعتها لتجد الساعة عبرت التاسعة ليلا

"تحب بكرة نتقابل امتى؟" استندت باحدى جوانب وجهها على يدها المقبوضة التي اتصلت بالمائدة ليزفر في ضيق مما تفعله به

"زي ما تحبي.. انتي هتخلصي المصحة بكرة الساعة كام؟" 

"لا بكرة مفيش مصحة.. أنا عندي مصحة حد واتنين واربع.. بكرة هخلص المدرسة على الساعة واحدة وبعدين كنت هروح لهبة" 

"طيب خلاص.. نتقابل عند هبة!" رفعت حاجبيها في غرابة لما استمعته منه "بقالي كتير مشوفتهومش، وكمان زمان جميلة كبرت شوية وأنا مشوفتهاش غير مرة تقريبا" 

استعاد هو تلك الذكرى التي تشاركاها بالمشفى بينما احتلت الصدمة ملامحها لتدفن وجهها بين كفيها لثوان ثم رفعتهما تلقائيا لتزيح شعرها للخلف ليشعر هو بإنفجار يسري في عروقه ليكز على أسنانه في غيظ.. عليها التوقف عن فعل هذا! 

"ارجوكي بطلي تلعبي في شعرك!" همس بين أسنانه بنبرة جعلتها تشعر بالإرتباك لترمقه مضيقة ما بين حاجبيها واعتدل جسدها للخلف بكرسيها لتتنهد في إرهاق، عقلها لم يعد يستطيع مواكبة أفعاله وكذلك أقواله! ولماذا كذلك صمم على إكمال هذا اليوم معها وهو يبدو مُرهقا للغاية هكذا؟!

"طيب يالا علشان أنا يادوب أروح، شكلك محتاج تنام، وأنا لسه هاخد أوبر و.."

"هاوصلك" قاطعها عاقدا حاجباه 

"بس مش لازم تـ.."

"أنتي مصممة تضايقيني.. مش كده؟" قاطعها من جديد لتستسلم له في النهاية 

"خلاص وصلني.. بس يادوب نلحق علشان أنت بيتك بعيد عن التجمع ولسه هانجيب الدوا في طريقنا" أومأ لها ليشير للنادل الواقف على مسافة فآتى ليُعطي له بطاقته الإئتمانية ثم رمقها في تفحص 

"انتي خلاص بقيتي قاعدة هناك على طول؟" سألها لتومأ هي له 

"آه.."

"تمام.. أنا عندي فيلا قريبة منك" لم تجد المزيد من ملامح الإندهاش والتعجب، فشهاب بكل ما يملكه سيبقى ذلك الرجل الذي كلما عرفت عنه شيئا كلما شده وحير عقلها ولم تعد تستطيع مواكبة ذلك 

"والمدرسة فين اللي بتشتغلي فيها؟" أخبرها بعد أن تثاءب وهو ينظر إليها مُدعيا الصعوبة بعد أن ظهر الإرهاق على ملامحه وقلة النوم 

"في التجمع الخامس!" رمقته في استغراب لتمتعض ملامحه 

"ايوة فين يعني بالظبط؟" لماذا يريد فجأة معرفة كل شيء هكذا؟!

"شارع اخناتون" زفرت وهي تجيبه بينما لو كانا في وقت آخر لكانت صرخت به أن يكف ولكنها لا تريد إفساد تغيره الشديد اليوم 

"تمام.. هاعدي عليكي بكرة علشان نروح لهبة.." رفعت حاجبيها وهي تهز رأسها في إنكار بينما آتى النادل ليُعيد له بطاقته وأخرج حفنة من أموال زائدة ليتركها كإكرامية ثم نهض لتفعل هي الأخرى مثله وتوجها للخارج..

سارا في صمت تام لم يتخلله سوى تثاؤبه لأكثر من مرة بينما هي غرقت في تفكير واحد.. كيف لسيكوباتي أن يكون صادقا هكذا؟! أيخدعها؟ تقسم لو أنه يفعل لن تعرفه بحياتها مرة أخرى أبدا!! 

"ممكن تسوقي انتي؟" قاطع صمتهما لتومأ بالموافقة بعدما شعرت بمدى إرهاقه من تلك النبرة التي حدثها بها فناولها مفتاح السيارة لتأخذه منه بعفوية ولكنه أمسك بيدها "شكرا" همس بإمتنان وهو يتفحص عينيها لتبتسم له 

"بطل هبل.. وبعدين لازم تنام يا شهاب، الفترة الجاية جلساتنا هتطول ولازم تبقى مركز في كل حاجة" بحثت بعينيه عن المصداقية ولم تجد سواها وودت لو أنها لم تعرف لعلم النفس وقراءة الملامح وتلك التشخيصات والأمراض في يوم ما حتى يتوقف عقلها عن العمل لتتنهد وهي تقع بمزيد من الحيرة 

"فيروز هو انتي لون عينيكي إيه؟!" همس سائلا لتبتسم في تعجب وهزت كتفيها بعفوية 

"عسلي" اجابته في استغراب ولا تزال الإبتسامة تحتل شفتيها، أتلاحظ يده على يدها؟ أتلاحظ أنها لا توقفه؟! ألاحظت سرقة وجدانها لتلك المشاعر التي لا تحتل كيانها سوى بوجوده؟! المزيد من الإنجراف دون أن تشعر!! ليس بجيدا أبدا!

"متأكدة؟" ابتسم إليها ولكن تفاقمت عقدة حاجباه 

"اه والله عسلي" تعجبت من نظراته إليها ثم تركته لتتجه حيث كرسي السائق ليدلف هو بالكرسي جانبها ثم شرعت في القيادة ليريح هو رأسه بالكرسي وأخذ ينظر إليها في هدوء لتتعجب هي من نظراته الغريبة عليها لتتنهد هي وسلطت تركيزها على أقرب صيدلية لتبتاع له الدواء..

فقط وجودها بجانبه لم يعد يستطيع غيره، على استعداد تام أن تظل هي تقود ويذهبا إلي اللامكان حتى يشعر بمثل تلك الراحة والهدوء دائما، لو التفتت له الآن لتخبره أنها تعشقها مثل ما يفعل هو سيشعر بأنه قد وصل لكل غاياته التي حلم بها يوما ما ولن يريد سوى تلك اللحظات لتستمر إلي ذلك اليوم الذي سيلفظ به أنفاسه الأخيرة..

"رايحة فين؟" سألها بنبرة هادئة تجلى بها الإرهاق  

"هاجيبلك الدوا" أومأ إليها في تفهم بينما تركت السيارة وتوجهت للخارج ليتابعها بعينيه المرهقتان وهو لا يُصدق أن هناك من يكترث إليه، لا بل لا يُصدق أن إمرأة مثلها تهتم به، تقبله، لم تفر هاربة وتتركه..

بالرغم من تصريحه لها بالكثير الذي لم يُخبر به أحد يوما ما ولا حتى غادة ولا كلوديا، ربما القليل تفلت منه عندما عاشر النساء ولكن أغلبهن كن متألمات أسفله لا يشعرن سوى بالآلم.. أمّا تلك الرائعة استمعت، تقبلته، لمست به أنه إنسان، مثله مثل بقية البشر.. لم تحكم عليه بنظرة منها خائفة، لم تشعر بالخوف ولم يره بعينيها، هو لا يدري كيف تلك المرأة موجودة حقا بين سائر البشر ولم يجدها من قبل!! 

كيف له أن يستمر الآن دون وجودها بجانبه لطوال حياته؟ وكيف له أن يُخبرها بكل شيء؟ لقد تعود لسنوات ألا ينطق لسانه، ألا يقص على أحد حياته البائسة! لقد حمل كل ما مر به وكل ما شعر به وحده وتعود على الأمر.. كيف سيجلس بصحبتها وهو يتألم من عدم لمسها ومعانقتها ويتعذب بعينيها وكل تفاصيلها وسيستطيع النطق والإقرار بكل ما فعله؟! 

زفر في إرهاق وبداخله سأم محاولات صد عقله له، لأول مرة لم يعد يستطيع التشاجر مع عقله، لن يُعرض نفسه لخوض تلك المعارك مع أفكار شتى لا تتركه إلا وهو كالميت المختنق بزحام تلك الذكريات المؤلمة بمصاحبة الإحتياج الشديد للتواجد معها.. 

إذا كان عليه أن يختار بين الثقة والتعري أمامها والإدلاء بكل ما مر عليه وبما حدث بحياته وبين عدم التواجد معها والإقتراب منها سيختار الإختيار الأول بلا شك.. فهو للتو وجدها، ولن يستطيع الإستمرار بهذه الحياة دونها، لن يخاطر بذهابها من حياته.. خاصة بعد ظنه وإذعانه بأن النساء جميعهن يتشابهن بشدة.. فقط هي المميزة الوحيدة بهذه الدنيا استطاعت أن توقظ العشق بقلبه القاتم الذي لم يتخلله شعاع نور منذ نعومة أظافره..

"يالا.." أمسكت بيدها زجاجة من المياة وكذلك عُلبة الدواء ليحمحم وهو يتفحص وجهها لوهلة وعينيه الداكنتين تبحث بوجهها على المزيد من الثقة "إيه رجعت في كـ.." أوقفها عن الحديث مشيرا بيده أن تنتهي ليأخذ منها الدواء وزجاجة المياة وتناول الدواء دون نقاش لتتابعه هي بعينيها دون تصديق لكل ما يحدث ولكنها شرعت مرة أخرى في القيادة ليتابعا طريقهما 

"فيروز" همس مناديا إياها وآتت نبرته في نطق حروف اسمها غريبة للغاية عليها لتشعر بأن طريقته الجديدة تلك تربكها قليلا ولكنها التفتت له في تشجيع على أن يُكمل ما ود قوله "ممكن توصليني الأول وبعدين تاخدي العربية تروحي بيها؟"

"لا يا شهاب أنا هاوصلك علشان شكلك تعبان وهـ.." 

"أرجوكي بلاش نتخانق على كل حاجة واسمعي الكلام.. أنا لو كنت كويس كنت وصلتك بس فعلا حاسس إني تعبان ومحتاج أنام" همس مقاطعا إياها بإرهاق لتنظر هي له في ضيق "بكرة هاخدها منك" أخبرها لتومأ هي له في تفهم وقررت بداخلها ألا تتشاجر معه.. علها تكون بداية جديدة له معها، فهي اليوم بعد كل ما مر بينهما تشعر بالجنون من مدى مصداقيته ولا تريد خسارة ذلك ولو للمرة الأخيرة.. 

لن تفشل معه هذه المرة، لن يعرف الفشل سبيلا إليها، خاصة بعد أن أخبرها بالكثير عليه وبالقليل للغاية لتستطيع مساعدته.. لن تنكر تعاطفها معه، لن تنكر أنها شعرت بالحزن لأجله.. ما هو إلا ضحية مجتمع متنمر وأب ظالم وأم سلبية.. لطالما اقتنعت أن أغلب الإضطرابات النفسية والأمراض تقع أغلبها بسبب طفولة صعبة أو بسبب أوبئة المجتمع الجاهل لكيفية تنشئة طفل سليم! لو فقط كان لديه الفرصة وهو طفل صغير لما كان ذلك القاتل المغتصب السادي بجانبها.. 

تاه عقلها أكثر وشرد أكثر بينما استطاعت القيادة بأعجوبة وهي تستمع لهمساته التي بدت وكأنها تأتي من على مسافة ليصف لها طريق منزله، لن تتركه أبدا حتى يُصبح شخص أفضل، ولكن هي لا تنسى أنه سيكوباتي، ربما أنه يستطيع الخداع بمثل تلك البراعة.. لقد سأمت كثرة التفكير وتشتت عقلها!! لا تدري ما الذي عليها فعله! حقا لا تدري!

"تصبح على خير" همست إليه بإبتسامة مقتضبة وهي لا تدري أتشعر تجاهه بالشفقة أم بالإهتمام أم ما الذي يحدث لها مع هذا الرجل!

"وانتي من أهله" أخبرها وابتلع ولم يغادر السيارة ثم التفت إليها لتتعجب قليلا وبدا كمن يود قول شيئا لأكثر من مرة ولكنه كان يواجه صعوبة شديدة فتريثت حتى تعطيه الفرصة "فيروز أنا.. أنا عمري ما قضيت يوم حلو زي ده قبل كده مع إن يعني كان صعب عليا أقولك الكلام ده بس اتبسطت.." همس ثم حمحم وابتعد بعينيه عنها 

"أنا ابتديت معاكي بداية غلط.. بس من الآخر كده تقدري تقولي إني عمري ما قابلت حد سالك أبدا في حياتي" زفر زفرة مطولة ثم تابع "أوعدك إن شهاب اللي عرفتيه الكام يوم اللي فاتوا مش هايبقى موجود" أخبرها ثم غادر مسرعا وكأنما يهرب لتترجل هي من السيارة بينما أوقفته 

"شهاب.. استنى.." صاحت به ليلتفت إليها بملامح مضطربة بينما أخذت تقترب منه بخطوات بطيئة أثناء سيرها اتجاهه "أولا.. دواك يتاخد في معاده وهبعتلك مواعيده على الواتساب.. ثانيا.. أنا مش هامشي من غير رخصة زي ما واحد صاحبي ما بيعمل!" ادعت المزاح على وجهها وهي تعقد ذراعيها في تحفز  ليبتسم إليها وأومأ في تفهم ثم أخرج حافظته من جيبه وأعطى لها رخصة السيارة لتودهع في النهاية وبالرغم من أن كل ما به يصرخ ليأخذها رغما عنها إلي داخل منزله ولكنه تركها تذهب لأنه بقاع عقله أدرك أنها ليست المرأة التي تُجبر على فعل شيء!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

دلف منزله وهو لا يدري، لأول مرة منذ زمن، لا بل أول مرة على الإطلاق يشعر بمثل هذه الراحة، يشعر بأنه قارب على تحقيق كل ما حلم به يوما ما.. ارتسمت إبتسامة على وجهه وهو لا يود أن يُركز بذلك الصراع الذي احتل عقله من آلف كيف، ومائة آلاف من لماذا، ليس مستعد أبدا لخوض تلك المعركة.. هو ليس مستعد سوى لشيء واحد فقط.. المزيد منها!!

أخذ يسترجع لحظاتهما معا اليوم، دون تلك الطرق التي يحاول يتغلب عليها بها، دون مراوغة وكذب.. دون أي شيء مما يفعله مع بقية النساء.. منذ كثير من الوقت لم يشعر أنه على طبيعته مثل ما شعر اليوم.. ولكنه تذكر أمرا!! ذلك المسمى بوائل!! 

توجه ليتناول هاتفا احتياطيا وهو يُفكر مليا بينما أستعاد الأرقام بالولوج لأحدى حساباته بسهولة .. كان قد أهدى احدى الوزراء منزلا شاسعا بأحدى القرى السياحية الشهيرة التي قامت شركته بإنشاءها.. بالطبع سيستطيع مساعدته في هذا الأمر!

مثل ما فعل صباحا، نحى كل ما وصله من إشعارات جانبا واتصل بذلك الوزير حتى يُسهل له الأمر في نقل هذا المقزز المسمى بوائل من تلك المصحة حتى لا يراها أبدا أمام عينيه الذي شعر بالغيظ منهما لمجرد فكرة أنه يراها بهما.. قد يقتلع مقلتيه من مكانهما، ولكنه ليس في بال رائق لفعل هذا بيديه الآن!

عليه أولا أن يتخلص من ذلك الوائل، ثم سيعد لها شيئا مميزا غدا كتجربة وصفة طعام جديدة سيحتاج للعديد من مكوناتها وهذا المنزل لم يأتي إليه منذ الكثير من الوقت وليس هناك ما يتناوله بمبرد الطعام.. وأما عن يوم ميلادها الذي سيكون بعد تسعة أيام فعليه الإعداد له من الآن حتى لا يُفسد أي شيء.. 

انظر عزيزي إلي سذاجة العُشاق في بداية الوقوع في العشق، ولو بلغ الرجل مائة عام لا يتصرف بحمكة أبدا، بل يتحول لطفل صغير مجنون وكأنه لم يتعلم شيئا بحياته أبدا.. وتصبح كل غاياته في الحياة أن يُسخر كل ما يملكه للحصول على المرأة وكأنها لُعبته المُفضلة ويصاب بهوس شديد تعدى كل مراحل التعلق فقط ليصبح مع من يُحب! 

أمّا المرأة فنوعا ما تتحول لكائن درامي ولكن بملامح متهللة، تُفكر كثيرا، تبتسم آلاف المرات، تشرد بخيالها في تفاصيل الرجل الذي وقعت له، خوف يتملك مشاعرها، ولكن تتخلى عن المنطق وتنجرف إلي اللامنطق وتتناسى خوفها! نفس السذاجة.. اللعنة على العشق وعلى ما يفعل بالبشر، ولكنه سيبقى الغاية الأبدية التي لا مفر منها! 

جلست على احدى الارائك بمنزلها بعد أن أرسلت إليه بموعد دوائه وهي تضم ساقيها واستندت عليها بكلتا ذراعيها وهي تُفكر منذ أن دلف مكتبها إلي تركها إياه منذ قليل!! 

سؤال وحيد يُسيطر على تفكيرها! كيف لسيكوباتي مثله أن يكون صادقا هكذا؟! أو لتصيغ السؤال بطريقة أخرى، كيف لها أن تنخدع بكل ما يتحدث به وتصدقه بتلك السهولة الشديدة؟! ولكن ما يجعل عقلها ينفجر هو أن كل شيء به كان صادقا، عيناه وتحركاته وملامحه.. السيكوباتيين يعبرون أجهزة كشف الكذب بسهولة .. لتحكمهم في مشاعرهم .. لعدم وجود تلك المشاعر من الخوف والمفاجأة عندما يكذبون .. ولكن كل ما ظهر عليه كان الخوف والآلم!

استندت بجبينها على كلتا ذراعيها وهي تُفكر من جديد، هو سيكوباتي لا محالة، هي متأكدة، لم تفن تلك السنوات من دراسة وحالات وعلم النفس الجنائي اللعين لتأتي وتفشل في تشخيص حالة.. حسنا.. أيمكن أن هناك احتمال لما ينادي بالسوسيوباتية بدلا من السيكوباتية؟! هذا المصطلح لم يُقبل حتى ولم يعترف به في الجمعية الأمريكية للطب النفسي، هذا المصطلح لم يُوثق.. والسوسيوباتية والسيكوباتية هي نفس الشيء!

أعليها الآن الرمي بكل ما عرفته ودرسته والتوجه لإحتمالات غير موثقة؟! شهاب الدمنهوري مما تركب هذا الرجل؟! الآن عليها القول مثل الآخرون أن السوسيوباتي تم صنعه بينما السيكوباتي تمت ولادته! اعتدلت في جلستها وهي ترفع شعرها وتزيحه للخلف وعقلها تشعر بآلمه من كثرة التفكير بكل شيء يخص هذا الرجل!

خوفه، آلمه، إنكساره، قاتل ومغتصب ومخدرات، وبكاء، ووعود جديدة، ثم الغوص بماضٍ سحيق والعودة منه، وقاحة ثم حدود والتزام، وهل حقا آمن بوجود إله في غضون أيام.. لقد أقسم بشفتاه.. لا، يستحيل أن يحدث هذا.. حتى أنفاسها لا تستطيع مواكبة سرعة تغيره، ولماذا يريد خداعها؟ اليوم كان رجلا مهذبا ولبقا، لم يكن رجل بل كان طفل صغير.. طفل خائف نادم! هل يستطيع السيكوباتي أن يشعر بالندم؟! 

"يارب حاسة عقلي هيتشل" تمتمت ثم نهضت وتناولت هاتفها وهي تحاول أن تترك كل ما حدث اليوم بعيدا كي تذهب للنوم الذي تأكدت أنها لن تحصل عليه سوى بعد ساعات من تفكير في الأمر من جديد!

"آلو" اجابت هاتفها الذي أصدر اهتزازا في طريقها لغرفتها وتعجبت أنه شهاب، فهما للتو كانا معا، وكان يبدو مرهقا يفتقر للنوم، لماذا يهاتفها الآن؟!

"روحتي؟"

"آه من حوالي ربع ساعة كده"

"تمام.." حمحم لتتعجب من صمته وتناولت احدى الأنفاس ليشعر هو بها على الطرف الآخر من الهاتف ولكنه تحدث بسرعة "ممكن بكرة تعدي عليا بعد شغلك، يعني، علشان بدل ما يبقى مع كل واحد عربية"

"ما تاخد اوبر وتيجي يعني.. وبعدين المسافة مش بعيدة اوي" استمعت لضحكته الخافتة لترفع حاجبيها، أهو يستهزأ بها؟

"مش هاركب أوبر أنا"

"يا سلام! ليه يعني؟" حدثته وهي تجلس على سريرها

"هي مرة واحدة ومش هاكررها تاني.."

"ليه إيه اللي حصل؟"

"أبدا، واحدة مجنونة سابتني على طريق مصر إسكندرية بليل! ومكنش قدامي حل غيره" ابتسم وهو يتذكر تلك الليلة اللعينة، ربما بالسابق كان ليغضب، أما الآن فالأمر بدا مضحكا

"وهو كان مين المجنون اللي سابني على الطريق؟"

"ده ابن مجانين ده سيبك منه ومتجبيش سيرته تاني خالص!" ضحكت على نعته لنفسه بذلك

"بس عيب عليك، الحركة دي جننتك" عفوية وتلقائية في حديثها.. لاحظي شيئا أيتها المعتوهة رجاءا!!

"بصراحة آه، اتجننت يومها.. وكنت أول مرة أستخدم أوبر ده.. ومقولكيش على الشبكة بقى ساعتها"

"احسن"

"ده انتي فرحانة فيا بقى؟!"

"اللي يعمل حاجة يبقى قدها" أخبرته وهي تهز كتفيها في عفوية لم يرها هو

"لا متقلقيش أنا قدها وقدود"

"يا سلام.."

"طب جربي كده؟!"

"ما جربت وشوفت اهو لسه متجنن من يومها"

"أنا مش عارف أصلا ليه مكلمتش حد من الشركة يبعتلي سواق وسمعت كلامك وجربت أوبر ده.."

"ممم.. ده تأثير الدكتورة فيروز عليك" أخبرته مازحة بغرور مصطنع

"الدكتورة فيروز، أنا أطول برضو؟" همس إليها بنبرة لو استمعت إليها أي فتاة سترتسم تلك الإبتسامة الخجولة التي تظهر على شفتيها الآن تلقائيا دون أي مجهود يُذكر

"أنت بتعاكسني مثلا؟! ما تتلم يا شهاب وتخلي عندك دم"

"لا يا حبيبتي أنا مش بعاكس، أنا مش بتاع الكلام ده، أنا لما بعوز واحدة انتي عارفة كويس بتصرف ازاي، نسيتي ليلة الأوتيل؟" حبيبتي!! عفوا.. إلي أين تذهب تلك المكالمة؟!

"تصدق أنا غلطانة إني رديت عليك وسايباك تـ.."

"فيروز! انتي لسه مسامحتنيش؟" قاطع نبرتها الجادة بأخرى صرخ بها الإعتذار والندم مما مزق عقلها لأشلاء من جديد، كيف سيكوباتي ونادم؟ كيف يجتمعان بجملة واحدة؟!

"لا سامحتك بس" توقفت عن الكلام من تلقاء نفسها 

"أنا لعين أنا عارف، وقليل الأدب، وصدقيني بعد كل اللي شوفتيه ده انتي الوحيدة اللي شافت مني أكتر إنسان محترم! أنا over شوية في موضوع الستات.. بس يمكن الموضوع على ايديكي يتغير" أخبرها وهو يُفكر بأنها هي التي ستمنعه عن معرفة بقية النساء طوال حياته بينما فكرت هي بأنها ستعالجه.. وكم كان الاثنان غارقان بأعمق محيطات السذاجة التي لم تطرأ على بال احد بالحياة سواهما!

"كل حاجة هتتغير يا شهاب! الستات، أنت، علاقاتك، تفكيرك.. كله هيتغير.." حدثته بجدية بينما تنهد هو 

"أنا واثق جدا في الموضوع ده" 

"هيبان" زفرت وهي تشعر ببعض الإرهاق بعظام ظهرها لتتمدد على السرير ثم جذبت الغطاء عليها "هو أنت منمتش ليه؟ أنت الدوا اللي أنت واخده ده يهد جبل.." 

"ما أنا جامد اوي ومبتهدش بسهولة!" همس بنبرة صرخت بالمكر 

"شهاب!" زجرته بتحذير وعادت تلك الأم التي تصيح بطفلها في تأديب ليحمحم هو 

"خلاص خلاص.." تنهد ثم تابع "بصراحة حاسس إني عايز أتكلم معاكي.. علشان كده معرفتش أنام" في بداية جملته بدا كمن يعاني من أمر ولكن تتابعت الكلمات بعدها بسهولة

"عايز تتكلم في إيه طيب؟" 

"أنا فكرت، لقيتك تعرفي عني حاجات كتيرة وأنا تقريبا معرفش عنك حاجة.." أهناك سيكوباتي مثله يهتم؟! 

"عايز تعرف إيه مثلا؟" 

"مثلا اكتر لون بتحبيه واكتر لون مش بتحبيه، اصحابك غير هبة وهاشم ومعاذ.. قرايبك، الأفلام اللي بتحبيها.. المفروض احنا اصحاب، أنا عمري ما جربت اصاحب حد أصلا.." 

"ممم، الحاجات دي بتعرفها مع الوقت، مش بتكلم صاحبتك اللي عايزة تنام وعندها شغل الصبح علشان تعرفها.. بس هقولك.. أنا بحب اللون الأبيض، ممكن شوية التركواز، مبحبش الأورانج بحسه فاقع أوي كده وبينرفزني، نيجي بقى لأصحابي، ليا شوية اصحاب من الكلية بس فين وفين بقى على ما بنتجمع، سمر وهند وبسمة وأية، وفيه نادر ورامي وطارق.. دول شلة الجامعة وهبة طبعا كانت معانا.. بس كل حد بقى اتشغل في الدراسة والبيت والولاد والشغل.. وطبعا لبنى مرات معاذ صاحبتي.. وفيه في الشغل نرمين صاحبتي دي حد لذيذ جدا، بس في المدرسة مش المصحة.. والأفلام اللي بحبها بحب عموما الأفلام اللي بتضحك، أو الرعب.. كمان أحيانا لو فيه فيلم متصور حلو وقصته حلوة أيا كان إيه ممكن اتفرج عليه.. بس كده.. عايز تعرف إيه تاني؟" 

تنهدت في النهاية ولم تستمع منه سوى لهمهمات في بداية حديثها وأخذت تختفي تدريجيا والآن ساد هدوء غريب ولم تستمع سوى لأنفاسه فترقبت قليلا ولكنه لم يتحدث 

"شهاب!!" همست منادية بينما حاولت الإصغاء أكثر لتجد أنفاسه منتظمة لتدرك أنه سقط في النوم بعد استغراب شديد منها ليعود عقلها ليتذكر كيف غفا اليوم على مكتبها فيبدو أنه معتاد أن يسقط في النوم دون ملاحظة لتزم شفتيها ورفعت حاجبيها ثم اخفضتهما في مزيد من الإستغراب "تصبح على خير" همست ثم أنهت المكالمة لتفعل هي الأخرى مثله لتنهي هذا اليوم الطويل..

غفى وهو يحدثها، نائما على ذلك الصوت الذي بدأ يتسلل كالمهدئ بعروقه، وها هي انتقل إليها نفس المُهدئ وكأنهما تشاركاه سويا لتغفى بعد سماع تلك النبرة الرجولية ببحته تلك التي لا يملكها غيره، على نفس الفراش الذي تقاسمته مع زوجها لسنوات.. ما يفرق في تلك العلاقة بينهما أنه مدرك أنه يعشقها، وهي إلي الآن لا ترى مشاعرها كيف تنحرف بها إلي مسار آخر غير الذي أرادته معه منذ البداية.. وبالرغم من إدراكه وغفلتها.. بدأ كلاهما تقاسم تلك اللحظات الرائعة الهادئة الأولى في أي علاقة حب طبيعية.. أو تلك العلاقة التي تبدو طبيعية، حتى الآن! 

نفس الإبتسامات التي تجبر الشفتان على رسم ملامح سعيدة، ذلك البريق الذي يجعل الحدقتان ملتمعتان بفرحة غريبة، حالة من التيه واللاوعي والإنسياق خلف تصرفات طفولية غير معهودة.. تشاركا كلاهما اليوم ذلك.. وغدا.. سيتشاركا المزيد من روعة بداية الوقوع في العشق التي يتحدث الناس عنها!

إن لوعة العشق بين الرجل والمرأة كالعناق، بالبداية تمتد الذراعان كما تمتد تلك النظرات التي يتعارف بها الرجل والمرأة، يقترب كلاهما من بعضهما البعض كما تتقارب شخصياتهما وافكارهما سويا، يحاوط كل من الآخر ذراعاه وهو يجذب جسد عاشقه كما يحاوط كلاهما في البداية تلك المشاعر في خوف أن تتفلت منهما.. وما إن امتزجا جسديهما في تلاصق حميمي حتى تنهار اللحظات الأولى ويتم تحويل البدايات والإبتسامات والأفكار إلي حالة من السكون والتفاهم التام وعدم رغبة أيا من الطرفين للإبتعاد.. تتآلف الأجساد كما تتآلف الأرواح في استسلام تام بالرضوخ لمشاعرهما.. ومن يفرق العناق أولا.. دائما ما يكون هو الذي تندثر لوعة العشق وذروته بقلبه أولا..

العناق الذي لا تريد أن تنهيه؛ ذلك الذي يسكن من الآلام، يجعلك تطمئن أن كل شيء سيكون بخير؛ أن لا داعي ولا مكان للخوف.. هذا تماما ما وجدته بين ذراعاه.. الملاذ من كل ما تعانيه.. عندما تستنشق رائحته التي تسكن من روعها ويجعل عقلها يتوقف عن التفكير في كل شيء سوى أن تكون معه وبصحبته.. ولكن لماذا تعانقه الآن؟! تلك الرائحة التي تتذكرها منذ أن اقتربت من سريره عند سفرهما لم تغب عن عقلها ابدا.. قوية؛ رجولية.. تعبر عن وجوده وتصفه تماما.. جامحة، موترة، ومربكه مثله تماما.. لماذا كان هذا الحلم؟؟!

مسحت على وجهها وابتلعت وهي تنهض لتبحث عن بعض المياة ومنعت نفسها بأعجوبة أن تُفكر في هذا الحلم! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

ظهرا اليوم التالي..

"حبيبة خالو القمر عاملة إيه؟" تحدث بدر الدين وها هو قد حضر لتوه 

"الحمد لله، ازي حضرتك عامل إيه؟" ادعت أروى الإبتسامة وهي تتحدث إليه بينما دلفت هديل خلفه 

"تمام.. أنا بقى عاملك مفاجأة حلوة النهاردة" ادعت الإستغراب قليلا 

"بصراحة اقتراح بدر عجبني جدا ومش هابقى قلقانة عليكي طول الوقت" تحدثت هديل لتبتسم هي لهما 

"خير يا مامي فيه إيه؟" 

"أنا جيبتلك بنوتة هايلة، هتقدر تساعدك في أي حاجة تحتاجيها، تتابع معاكي عند الدكتور وعلشان مواعيد الدوا، تاخد بالها منك أكتر علشان متحتاجيش لأي حاجة" ابتسم إليها وهو يتفحص وجهها ليستشعر القليل من رفضها ولكنها يبدو أنها كانت تحاول أن تُخفيه

"خالو بجد شكرا مش عارفة أقول لحضرتك إيه.. بس بجد أنا مش محتاجة حاجة، مامي وأخواتي وطنط شاهي والناس هنا في البيت كلهم بيساعدوني وعاصم مبيسبنيش" حاولت الرفض بطريقة لبقة 

"حبيبتي يا أروى أنا من ساعة يوم زينة ده وأنا قلقانة عليكي، أنا عارفة إني ساعات بتشغل مع اخواتك وساعات بتشغل مع ماما وواخدة كل وقتي وأنا مش عايزة أأقصر معاكي" حدثتها هديل بإهتمام حقيقي

"وهي قمر ولذيذة وصغنونة وهتبقى صاحبتك كمان.." ابتسم لها بدر الدين ونبرته تخلو من تقبل رفضها وكذلك لا تحتمل النقاش "ادخلي يا منة اتفضلي" صاح بدر الدين لتدلف تلك الفتاة بإبتسامة لتنظر لها أروى وحاولت السيطرة على ملامحها، فلو تواجدت معها تلك الفتاة دائما لن تستطيع فعل الكثير!! عليها أن تجد حلا بسرعة لتلك الورطة التي وقعت بها وبسرعة!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"ازيك يا مدادم عنايات؟ وازي حازم عامل إيه؟!" تحدثت سارة بهاتفها مدعية نبرة الحزن ببراعة

"أنا بخير وحازم كويس.." 

"لسه مقدرتوش تعرفوا مين اللي عمل كده في كريم يومها؟ شهاب معرفش حاجة؟" ادعت الإكتراث الذي لم يكن سوى طريقة ملتوية لتعرف أخبار شهاب وما إن علم بإختطاف عمه 

"مش عارفة، شهاب بيه مش بيرد خالص بقاله فترة، وهو عمره ما بيقول هو بيروح فين أو بيجي منين، وكمان حازم كلمه أكتر من مرة مش بيرد خالص.. مفيش غير المكالمة اللي جت على موبيل حازم وحد بيقول إنه عايز يكلم شهاب بيه علشان يوصله لعمه.. غير كده مفيش جديد خالص!" أخبرتها لتتنهد سارة وهي تتصنع قلة الحيلة 

"ربنا يسترها، إن شاء الله لما يعرف الموضوع هيقدر يوصل لعمه واللي عمل كده.. مش هاوصيكي يا مدام عنايات، خدي بالك من حازم، أنا مش هاستحمل لو جراله حاجة و.."

"لا متقلقيش حازم في عينيا وإن شاء الله ربنا يرجعهولك بالسلامة والخلاف اللي بينك وبين شهاب بيه يتحل" قاطعتها مسرعة وهي لا تريد المزيد من المشكلات فيكفي عندما يعلم شهاب بما حدث وهو غير متواجد 

"امين يارب.. متشكرة أوي يا مدام عنايات ولما توصلوا لحاجة ابقي طمنيني.. أنا من يومها وأنا خايفة على حازم اوي وخايفة لا يحصله زي ما حصل لكريم"

"لا متقلقيش.. مفيش حاجة هتحصل وأنا كل يوم ببعت معاه السواق وحد من احرس ويادوب على المدرسة وبيرجع على طول" 

"متشكرة اوي، وأنا إن شاء الله هحاول اعدي عليكو بكرة علشان اطمن على حازم"

"ماشي.. بس ابقي كلميني قبلها علشان لو شهاب بيه موجود انتي عارفة إني مش هـ.."

"فهماكي من غير ما تكملي" قاطعتها وادعت الإهتمام بينما بداخلها بركان قارب على الإنفجار "بجد مش عارفة اشكرك ازاي.."

"لا متقوليش كده كلنا أمهات وأنا فهماكي"

"ربنا يخليكي.. وابقي طمنيني" 

"أكيد.. مع السلامة"

أنهت المكالمة لعنايات وهي تترقب مرور الأيام المُقبلة بقفارغ الصبر، متى سيأتي وأين هو كل تلك المدة، فبالكاد استطاعت مراقبة المنزل من بعيد، أين هو إلي الآن؟ 

إن لم ينتهي هذا الأسبوع دون لفت انتباهه للأمر ومساومته على مبلغ مالي هائل، لن يكون لديها حل سوى إخبار أبناء كريم بوجوده.. ووقتها لن يسلم شهاب الدمنهوري من مواجهة أبناء عمه.. أليس هذا ما أغضبه كثيرا.. فليتحمل إذن ما فعله بها!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"جاية امتى بقى علشان تشيلي عني الزنانة دي شوية؟" 

"بقا جميلة القمر زنانة.. حرام عليكي والله"

"ماشي يا اختي.. جاية امتى برضو وخلصتي ولا مطولة؟" حدثتها هبة لتحمحم فيروز بقليل من الإرتباك وتناولت شهقيا في استعداد لخوض المعركة مع هبة 

"ما هو أنا كنت مكلماكي علشان كده.. بصي.. من غير عصبية أرجوكي.. شهاب هيجي معايا"

"نعم!! وده ليه إن شاء الله؟"

"أرجوكي يا هبة، أنا ما صدقت.. شهاب بياخد أدوية، وواحدة واحدة بيستجيب وماشي في العلاج، وأنتي فاهمة زيك زي قد إيه موضوع إنكو تكونوا كويسين معاه ده هيسهل عليا حاجات كتيرة.. أرجوكي بلاش تبوظيلي كل حاجة! حاولي تعامليه كويس شوية.. شهاب مش وحش اوي زي ما انتي فاكرة" 

أخبرتها لتندهش هبة من مدى تعاطفها معه وتريثت لبرهة وهي تحاول السيطرة على غضبها ولكنها صممت بقرارة نفسها أنها تُثبت لها كم أن شهاب مجرد مريض يحتال على مشاعر الجميع 

"ماشي.. تنوروا يا فيروز! هتيجوا امتى؟"

"هاكلمك واحنا جايين في الطريق.. "

"أوك تمام.. خدي بالك من نفسك" 

تعجبت فيروز لهدوء هبة وتقبلها للأمر بعد أن أنهت المكالمة معها بينما ترجلت من السيارة أمام منزله بعد أن حدثته بالهاتف صباح اليوم وأخبرها بضرورة حديثه معها وهي مترددة من إعاقة تلك الحدود التي وضعتها نفسها هي بالأمس..

"وحشتيني" تمنى لو نطق بتلك الكلمات ولكنه سيطر على اندفاع لسانه ليبتسم إليها "عاملة إيه؟" سألها وهو يتفقد عينيها التي اشتاق لهما منذ أمس 

"الحمد لله، أنت عامل إيه النهاردة؟" سألته من باب اللباقة بينما دلفت وأوصد هو الباب خلفها وبالرغم من حديثهما صباحا بالهاتف إلا أنها تُكرر الكلمات في حالة غريبة لم تطرأ عليها من قبل 

"احسن من امبارح كتير، نمت كويس على فكرة.." أخبرها لتقف هي بردهة تلك الفيلا التي كالعادة يصرخ كل ركن بها بالثراء الموحش 

"طيب الحمد لله.." أخبرته بينما انتقلت لأنفها تلك الرائحة الشهية، فهي حتى لم تتناول الطعام منذ استيقاظها "إيه الريحة دي.. أنت بتعمل إيه بالظبط؟" التفتت وهي تنظر إليه لتتوسع ابتسامته 

"بصراحة كنت ناوي نتغدا سوا النهاردة وعملت الأكل، لسه بيستوي يعني.. بس من غير red wine المرادي" أخبرها بإبتسامة جذابة جعلتها تشرد لثوان بملامحه لتضيق هي عينيها وهي تتفحصه 

"يعني أمان مش هلاقي نفسي مدروخة؟" 

"لا متقلقيش، المرادي غير كل مرة صدقيني.." همس إليها بصدق تام استشعرته هي 

"طيب قولي كنت عايز تكلمني في إيه قبل ما نروح لهبة؟" سألته لتختلف ملامحه بينما أشار لها ليتمشيا سويا في اتجاه المطبخ 

"نتكلم جوا طيب" أومأت له وهي تتبعه ليعود هو لحركاته الكثيرة التي تشتت انتباهها بينما بدأت في إدراك أنه مجرد طريقة لتعبيره عن التوتر وليس بفرط حركة من أي نوع، ففرط الحركة يتضح في الأطفال أكثر من البالغيين على كل حال

"بصي يا فيروز.. أنا من ساعة ما آمال ما سابتني مع والدي ومشيت وأنا حصلي حاجات كتيرة.. أنا مش هاقدر أقبل الست دي في حياتي مرة تانية بعد ما مشيت واتخلت عني بمنتهى السهولة وراحت عاشت حياة تانية وبتعامل ولادها عادي جدا وكأني أنا ماليش لازمة في حياتها.. متستنيش مني إني اعاملها زي ما بعاملك أو زي ما بعامل هاشم أو حتى زي ما هحاول اتعامل مع هبة" 

اتضحت على ملامحه الآلم وهو يخبرها بذلك وكذلك الإنزعاج وتريثه الشديد في نطق تلك الكلمات استطاعت من خلاله الشعور بمدى صعوبة الأمر عليه لتومأ له في تفهم بينما استعادت كلمات والدته التي اخبرتها بها يوما ما واتجهت لمبرد الطعام لتتناول زجاجة مياة ثم ارتشفت منها ليتابعها شهاب بداكنتيه 

"طيب، أنا معاك في قرارك ومعاك حق في كل اللي أنت بتقوله.. بس لو تقدر تحكيلي اللي حصل علشان أفهم أكتر وأقدر أساعدك شوية؟!" حدثته بهدوء ليزفر هو في انفعال ثم خلل شعره وامتعضت ملامحه 

"انا حكيتلك اللي حصل، بعد طلاقهم اللي حصل وأنا مش موجود والدي بالعافية اتحكم في نفسه ومرضاش يقتلها مع إن ده حق أي راجل لما يعرف إن مراته حامل من واحد تاني" حمحم وملامحه صرخت بالتقزز من مجرد التحدث بالأمر 

"ولما مشيت.. مفيش يومين.. كل الناس كانوا بيعايروني بكلام في منتهى البشاعة.. أنا حرفيا مكنتش كملت تمن سنين، وبعدها بيومين تقريبا كان يوم زلزال 92، اللي حصلي يومها قبل الزلزال بثواني أنا.." استند بيداه ماددا ذراعاه على تلك المائدة الرخامية بالمطبخ وطأطأ رأسه للأسفل ليعود بملامحه الغضب والآلم مثل ذلك اليوم الذي كانت معه عند سفرهما ولكن الآن الآلم بدا أكبر والغضب أقل وتابعت تلك الصعوبة التي يحاول التغلب عليها لتنتظره وأعطته كامل وقته دون أن تحفزه للحديث

"أنا لسه مش قادر أتكلم.. بس اللي عايزك تعرفيه إن اللي حصلي يومها كان بسببها.. آمال أنا عمري ما هاقدر أسامحها ولا اضحك في وشها ولا اعاملها عادي.. من يومها وهي ماتت بالنسبالي.." همس بصوت خافت ونبرة اتضح بها الدموع المكتومة ولا يزال مطأطأ رأسه لتقترب منه فيروز 

"شهاب.. محدش قال إنك لازم تسامحها.. ولا مطلوب منك تعامل حد أذاك في يوم من الأيام و.." أشار بيده ليوقف همسها دون أن ينظر لها

"بيتنا وقع في الزلزال، الشقة اللي كنت عايش فيها أنا ووالدي، وكان فيه بيت كبير الحارة أبو يوسف.. كانوا لسه مرممينه ومجددينه من كام شهر علشان كده ده البيت الوحيد اللي استحمل أكتر من أي بيت تاني.. الراجل ده دايما كان كويس مع والدي وساعتها قِبل يدينا أوضة على السطح.. عشت فيها أسوأ سنتين في حياتي لغاية ما مشينا من المنطقة وأنا رايح ساعتها أولى إعدادي.. بس أبو يوسف ده عنده بنته أسمها سارة وواحدة تانية مش فاكر اسمها كانت في حالها اوي، وابنه يوسف ده مات ومن ساعتها الكل بيقوله أبو يوسف.. سارة دي كانت شيطان، كانت في الرايحة وفي الجاية بتحاول تضايقني بالكلام واحيانا بالأفعال!" زفر بحرقة وشردت عينيه عندما تذكر ما كانت تفعله به 

"كانت أكبر مني بتمن سنين أو سبع سنين، مش فاكر أوي.. كانت أحلى بنت تقريبا في الحارة كلها.. ومكونتش عارف هي بتعمل فيا كده ليه، سواء هي ولا كل الناس هناك، زي ما أكون أنا اللي خاين.. ليه يا فيروز الناس ممكن تعمل كده في حد؟" تفحصها بملامح حزينة، يبدو أن تلك الوصمة قد دمرته، نظر لها كالطفل الصغير الخائف لتتفحصه هي وهي تبتلع ولم تعد تستطيع تحمل تلك الملامح ولا تلك النظرات لتتنهد في حزن عليه 

"الأكل هيتحرق" ابتسمت بإقتضاب ليتوجه هو للموقد سريعا 

"أنا نسيت، مخدتش بالي" حدثها بإقتضاب بينما أطفأ النار وأخذ يعد باقي الطعام بوضعه في الأطباق وأكمل الحديث من تلقاء نفسه 

"لما مشينا كانت الصدمة إني بقيت راجل ولازم أنزل أشتغل علشان أصرف على نفسي لأن الشقة اللي روحنا عيشنا فيها كان إيجارها أغلى من الشقة القديمة.." زفر وهو يحاول صوغ الكلمات الآتية 

"أنا مفيش حاجة معملتهاش، اشتغلت مع ميكانيكي، بتاع فراخ، فرن عيش.. اللي كنت بلاقيه قدامي مكنتش بقول لأ.. كان لازم اروح المدرسة واذاكر وابقى شاطر واشتغل طول الصيف وانزل اشتغل باليومية يوم الجمعة أيام المدارس وايام الأجازات.. أحوش فلوسي علشان محدش هينفعني غير نفسي.. لما بفكر في الأيام دي، لولا شغلي وأنا صغير مكنتش عرفت ابقى رجل الأعمال اللي بيعرف يتصرف في كل حاجة لوحده.. القسوة اللي شوفتها في وشوش كل اللي بيشغلني وضربهم وشتميتهم ليا كانت" حمحم في صعوبة وتركته هي ليُكمل بينما تمزقت بداخلها على طفولته وتابعته وعينيها تمتلئ بذلك الآلم الذي تسرب إليها من كلماته 

"لولا القسوة دي كنت هافضل خايف وجبان، اتعلمت ابقى قاسي، طول فترة إعدادي وثانوي كنت بلطجي المدرسة، مكنش يقدر حد يقرب مني.. كان لازم أكون كده وإلا كان هيحصلي نفس اللي حصلي وأنا صغير.." تصلب جسده وهو يشرد أمامه لتقترب فيروز وقد قررت أن تنهيه فملامحه لا تبشر بالخير أبدا 

"أنا جعانة على فكرة" أخبرته رافعة حاجبيها وأجبرت إبتسامة لم تكن كافية لتساعده 

"أنا محكتلكيش كل حاجة، أنا بس بديكي ملامح من بعيد.. أنا متعلمتش احكي لحد ولا عمري فكرت إني احكي" همس وهو ينظر إليها لتتوسع إبتسامتها له 

"كفاية أوي عليا الكلمتين دول، وأنا واثقة إنك هتقولي على كل حاجة واحدة واحدة" أمسكت بالأطباق واتجهت لتضعها حيث سيتناولا الطعام "أصعب حاجة يا شهاب في العلاج إن المريض يواجه صدماته ويعترف بيها ويحكيها.. وأنت ابتديت.. مع إني كنت فقدت الأمل بس أنت استحملت كتير، وإنك تنطق بالصدمات دي بصوت مسموع لأول مرة في حياتك هتحس إن الموضوع صعب اوي، وواحدة واحدة هتبدأ ترتاح.. أنت علشان مكنش فيه حد جنبك أتكون عندك حالة إكتفاء، يعني.. إكتفاء من حاجتك للناس.. خلاص اتعودت إنك تكون لواحدك.." التفتت إليه لتجده ممسك بأحدى الأطباق ويتابعها بعينيه ووقفته تلك بجسده الذي ارتخى في هم هائل اتضح على وجهه 

"بس أنا جانبك وصاحبتك قبل ما أكون بساعدك على العلاج، أنا مش هابعد، ومهتمة أسمع كل كلمة أنت قادر تحكيها.. ومتضغطش على نفسك أرجوك" ابتسمت إليه ليحاول إجبار ابتسامة بسيطة على شفتاه وهو ينظر لها مليا وداكنتيه لا تستطيع تصديق أنها تهتم به لهذه الدرجة وتكترث لما مر به "يالا ناكل؟" 

أخبرته ليومأ لها وأقترب ليجلس بجانبها على مسافة معقولة وشرعا في تناول الطعام في صمت في البداية ولكن فيروز كسرت ذلك الصمت بهمهمات مستمتعة في البداية وما إن ابتلعت الطعام حتى تحدثت

"مش ممكن، أنت بتعمل أكل فظيع.. أنت مصمم تخليني أكره أي أكل تاني ولا إيه؟" نظرت إليه لتتوسع ابتسامته 

"أنا معنديش مانع اعملك كل يوم أكل وانتي بتسمعيني، وكمان بحاول أكفر عن غلطتي من اليوم اللـ.."

"بس، انت اللي حكمت على نفسك" قاطعته وهي تبتلع المزيد من الطعام "تعملنا الغدا كل يوم بقى" أخبرته ليومأ لها "اتفرجت صحيح على حاجة من اللي بعتهولك امبارح؟" حدثته بإستفسار وهي تنظر إليه بينما كان يتناول طعامه ليومأ لها 

"آه.. لما صحيت عملت كام حاجة كده، حفظت سورتين صُغيرين وصليت" رفعت حاجبيها بإبتسامة 

"لا لأ، أنا مش مصدقة.. أنت حد مثالي والله.. أنا خلاص حبيتك.. أنا هاجل شغلي في المصحة والمدرسة لو ناوي تسمع الكلام وتستجيب بالسهولة دي" توقف عن تناول الطعام في صدمة وهو ينظر إليها لمجرد تأثير تلك الكلمة عليه وشرد بها لثوان وما إن رمق ملامحها التي سيطر عليها الإستغراب حتى ابتلع ما بفمه دفعة واحدة 

"شوفي.. هاستجيب في ثواني.. هافجئك" أخبرها بإبتسامة لتتوسع ابتسامتها هي الأخرى ولم تفهم ولم تلحظ أن ما نطقت به بمنتهى العفوية قد أثر به كثيرا

"موبايلك على فكرة عمال يرن بقاله فترة" نظرت لهاتفه الموضوع بالقرب منهما الذي أضاء لأكثر من مرة دون أن يُصدر صوتا ليزفر شهاب بحنق 

"الشغل، البيت، وحازم أخويا الصغير.. وأنا مش قادر أرد على حد" همس بتأفف كالطفل الغاضب لتنظر هي له بحيوية عينيها التي لم يعد يريد إلا أن ينظر إليها 

"هتنعزل يعني عن البشر"

"لأ أكيد لأ بس.."

"رد على موبايلك يا شهاب، الله أعلم فيه إيه! يمكن يكون فيه حاجة مهمة" زفر في إرهاق وقدم يده لها لتناوله الهاتف بينما أجاب 

"أيوة يا حازم.. لا يا حبيبي كنت مشغول.." عقد حاجباه بينما هي تراقبه في صمت بعينيها وهي تُكمل تناول طعامها لتجده ينهض فجأة وملامحه تتحول للغضب "طب أقفل وأنا جاي حالا.."

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع. . .

تنويه : موعد الفصل القادم 20 أكتوبر 2020 على مدونة رواية وحكاية في تمام الساعة التاسعة مساءا وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على موقع واتباد..

تنويه آخر.. سيتم البدء في المسابقة لمعرفة بعض أحداث الفصل التالي على مجموعة الفيسبوك في تمام العاشرة مساءا..

ملحوظة : الفصل أكثر من 7500 كلمة.. شكرا للمتابعة!!!!!!!