-->

الفصل التاسع والثلاثون - شهاب قاتم

 


- الفصل التاسع والثلاثون -


~ حين يغمرك الحزن تأمل قلبك من جديد، فسترى أنك في الحقيقة تبكي مما كان يوماً مصدر بهجتك.

( جبران خليل جبران)

     

قدمت يداها لتتناول منه تلك الصينية التي حملت كوبان من الشاي الساخن بإبتسامة تلقائية ثم أشارت له ليجلس بجانبها على الأريكة وأخبرته بود:

- تسلم ايدك يا هشومتي يا قمر انت..

ابتسم لها "هاشم" وهو يومأ لها بإمتنان ثم قال:

- يا ستي تعالي بس انتي كل يوم وأنا اعمل شاي وقهوة واشتغل قهوجي كمان

تنهدت "فيروز" وهي تنظر له بقليل من الندم ثم همست:

- أنا مشغولة اوي اليومين دول، فترة وهتعدي وهارجع اجيلكو، وبعدين قال يعني عايز تشوفني انا لواحدي.. مش عشان ديدا يعني!!

توسعت ابتسامته عندما غمزت له بمزاح لتختلف ملامح "هاشم" بقليل من اللوم ليقول:

- انتي اتغيرتي اوي يا فيروز، بقينا بنشوفك كل فين وفين، حتى مبقيتيش بتكلمينا زي الأول، مش هاخبي عيكي، سواء فريدة ولا هبة ولا حتى أنا.. كلنا زعلانين.. وحشتينا وعمرنا ما بطلنا نكلمك بالطريقة دي.. حتى لما ماهر الله يرحمه اتوفى بس..

قاطعته كي لا يطنبا بالحديث في هذا الأمر أكثر من ذلك ولكن نبرتها آتت هادئة:

- هاشم، أنا صدفة عرفت أخوك.. وانت عارف طنط آمال من زمان كان نفسها تقرب من شهاب.. ما بين الشغل وما بين اننا اصحاب وعلى ما اقنعته.. أنا بجد يا هاشم مش مصدقة إني قاعدة دلوقتي معاك وهو بيتكلم جوا مع طنط.. حاسة إني بحلم.. إنه يبقى مجرد مديري في الشغل وبعدين يجي قراية فاتحتك إنت وفريدة وكان مقفل اوي.. شوية راح العزومة في بيت هبة.. والنهاردة اهو هو قاعد جوا.. بيكلمها وبيعاملها كأمه بعد سبعة وعشرين سنة.. انت متخيل وصلت معاه لفين؟!

أومأ لها في تفهم بإبتسامة وتخلت تمامًا عن ذكر "ماهر" زوجها كأنها تتناساه بتعمد وذكريات أصداقائها واستطردت بالحديث عن شهاب مجددًا لتقول:

- هبة مش مساعداني وبتتصرف معاه بقسوة اوي، انت الوحيد اللي بتعامله كويس يا هاشم.. انت شايف إيه من ناحيته؟!

همهم وهو يُفكر بسؤالها ليجيبها قائلًا:

- مش عارف.. محتكتش بيه اوي، بس انتي عرفة اسلوبي.. بفضل كويس مع أي حد لغاية ما يثبتلي العكس.. بس نظرًا لأنك عرفتيه، انتي اللي شايفة ايه؟

تنحنحت لبرهة وشردت لوهلة بتفكير ثم بعد تمعن وعدة محاولات بالتنفس للبدء بحديثها وتصنع انها لا تريد أكثر من تناول ذلك الشاي أعادت عسليتيها إليه ثم اخبرته:

- هو شهاب، يعني.. تقدر تقول غيرنا، مش زينا، غيري وغيرك وغير هبة وفريدة، حياته فاضية اوي مفيهاش غير الشغل، وبُعد مامتك عنه زمان، وسفره ودراسته برا.. تقدر تقول عاش حياة غيرنا خالص.. مر بحاجات صعبة.. بس خلاص، احنا ولاد النهاردة.. وبعد ما عملت ربط للأحداث كده، قراية الفاتحة، جه يبارك لهبة، العزومة، وكونه جه وكلم طنط آمال النهاردة دي خطوات منه كويسة.. اظنه عايز يقرب منكم كلكم.. بيحاول يخلي ما بينه وبينكم علاقة كويسة، وتقدر تقول إنه بيفتح صفحة جديدة..

أومأ لها "هاشم" في تفهم وملامحه صرخت بالتفكير واندفع في الحديث بسؤال مباشر ليقول:

- هو إيه اللي حصل؟ يعني عمر ما ماما حكت، ولا هبة، وأكيد أنا وشهاب مفيش بينا العلاقة اللي تخليه يحكيلي، انتي أكيد عارفة.. إيه اللي حصل زمان؟

ابتسمت له ثم هزت رأسها ورمقته في جدية ثم تناولت نفسًا مطولًا وزفرته ليتضح على ملامحها التصميم واجابته في النهاية:

- أنا آسفة يا هاشم بس مش هاقدر اجاوبك على السؤال ده.. يا شهاب يا مامتك بس أنا مش هـ..

رفع كلتا يداه في إشارة لها ليوقفها عن الحديث وقال مقاطعًا اياها بإبتسامة ودودة:

- خلاص خلاص، مش لازم أعرف.. همّ حُرين..

بادلته الإبتسامة بينما حاول هو تغيير مجرى الحديث ليتحدث من جديد في تساؤل:

- العزا بكرة صحيح بعد المغرب، جدة أسما، انتي اكيد عرفتي، أنا طبعًا هاروح اوصل فريدة واعزي إياد، هتيجي معانا؟

حمحمت قبل أن تجيبه وشعرت بأنها لا تدري، هل سيحتاج "شهاب" وجودها بجانبه في مثل هذا الموقف أم تستطيع الذهاب بصحبة اختها و "هاشم" ثم اعادت شعرها للخلف بحركة سريعة دلت على تشتتها لتجيبه:

- ربنا يسهل، أنا اكيد هاروح طبعًا لأن ده واجب.. بس مش عارفة بكرة فيه ورايا كذا حاجة، وأنا قاعدة في شقة التجمع اليومين دول، وعندي شغل.. يعني.. سيبها بظروفها واكيد لو محتجاكوا توصلوني هاقلكوا، بس اكيد هنتقابل هناك

أومأ لها في قبول بينما نظرت إليه لتلاحظ تغير ملامحه وجلسته التي تُظهر همومة وشروده بعيدًا عن عينيها لتدرك أنها لم تتحدث له منذ وقت كبير، هي حتى لم تعد تعلم ماذا يحدث بعمله، أو بينه وبين "فريدة"، لم تسمع عن شجاراته مع "هبة" منذ وقت ليس بقريب فاستطردت الحديث لتهمس سائلة:

- يا ترى هشومتي عامل إيه؟ شغل، فريدة، البيت؟ إيه الدنيا؟

زفر بعمق ونظر إليها ليجيبها:

- مش عارف، الشغل بقى اكتر، مشاكله بتكتر، فريدة ساعات بتحسسني إنها فجأة بتقلب بنت دماغها محدودة اوي، هبة هتتجنن من طريقتك معاها وكل شوية تكلمني كأني أعرف عنك كل حاجة .. حتى ماما كل شوية تسألني عن شهاب وعن هبة وعن كل حاجة وكأني قريب للكل.. أنا حاسس إني مخنوق من كل حاجة!!

تلاقت أهدابها لأكثر من مرة وهي لا تصدق أن كل هذا يمر عليه وهي لا تعلم عنه شيئًا ثم ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر له في تعاطف من أجل صديقها واستمعت لتنهيدته التي تدل على حُزنه لتحدثه في محاولة لدعمه فقالت:

- هاشم.. مامتك شايفاك سندها، وإنك أنت الراجل اللي جانبها، طبيعي تعمل معاك كده .. عارفة إنه حِمل تقيل بس حاول معاها .. أنا عارفة طنط آمال أكيد بعد موضوع شهاب ده هترتاح شوية .. وبالنسبة لهبة فأنا هاكلمها .. أمّا بقى ديدا، هي لسه برضو صُغيرة، آه ذكية ومش بتفكر زي باقي البنات بس طبيعي يبقى عندها شوية اندفاعية ولخبطة، احنا كنا اتكلمنا في المواضيع دي زمان، هي بتحبك اوي يا هاشم!! حاول تحتويها، أنت أكتر واحد في الدنيا شوفته بيعرف يحتوي اللي قدامه.. والشغل ده الطبيعي، أنت بتكبر ولسه مترقي، مسئولياتك زادت، والناس مش كلهم نفوسهم واحدة.. بس أنا متأكدة إنك بتعرف تتعامل كويس وتكسب الناس.. كل ده ضغط طبيعي وعلامة إننا بنكبر ومسئولياتنا بتزيد.. فترة أكيد وهتعدي وهتكون احسن صدقني

بادلها ابتسامتها التي اختتمت حوارها بها ولكنه عاد للشعور بالإرهاق ليخبرها:

- هي الفكرة إن أنا فين من كل ده، حاسس إني كل يوم داير في ساقية مش بتخلص!! كله بيضغط عليا..

قدمت يدها في ود وربتت على ساعده في أُخوة وكادت أن تتحدث بينما استمع كلاهما لصوت باب الغرفة التي خرج منها "شهاب" للتو الذي لم يُعجبه ما رآه بين "فيروز" وأخيه  وكأن هذا اليوم يُصمم على دفعه لقتل أحد ما، وللحظة لم ير أمامه سوى يديها المبتورتان وتمثيله بجثة ذلك الفتى!! 

لكن بالطبع هذا الأمر لن يُعجب تلك المرأة ذات الحدقتان مجهولتان الهوية!! لن يكون البطل المغوار أمامها، لذا، عليه أن يُبعد هذا الفتي عنها بأي طريقة قبل أن يرتكب جريمة بحق واحد منهما! فتصرف بسرعة بديهة هائلة..

توجه "هاشم" نحوه بإبتسامة ليحدثه وقال:

- أنا بعمل قهوة حلوة اوي، وأنت مردتش تشرب حاجة اول ما جيت، مغيرتش رأيك؟

بادله الإبتسامة وحاولت "فيروز" قراءة أي مشاعر على وجهه، سعادة، حُزن، غضب.. صدمة!! أي مشاعر، ولكنها لم تجد.. ولكن من خلال رؤية أعين والدته التي لمعت بآثار البُكاء علمت أن كلاهما خاضا حديثًا مُرهقا فتريثت قبل أن تدع تحرقها شوقًا لمعرفة ما حدث ليتحدث "شهاب" مُجيبًا اخيه بلباقة:

- خليها مرة تانية، مبشربش قهوة بليل.. صحيح، أنت قولتلي إنك شغال إيه؟!

تعجب "هاشم" مُضيقًا حاجباه ثم عادت ملامحه لتصبح تلقائية في ثواني واجابه متعجبًا:

- محاسب، اشمعنى؟

ابتسم له بدبلوماسية شديدة ليتنهد مجيبًا:

- هكلمك..

التفت وهو ينظر نحو والدته التي لاحظت "فيروز" نظرتها له وكأنها تنتظر شيئًا منه ثم أعاد نظره نحوه "هاشم" ليودعه بمزيدًا من اللباقة:

- أنا يادوب امشي علشان عندي شغل كتير، واكيد هنشرب قهوة سوا قريب اوي.. سلام!

مزيدًا من الإبتسامات الدبلوماسية والوداع الوقور وبالطبع صمم على أن يظهر رجلًا نبيلًا أمام الجميع وتحجج بتأخر الوقت وأن عليه أن يقوم بتوصليها لمنزلها وعدا ذلك لم ينبس ببنت شفة إليها!!

نظرت إليه كثيرًا بتساؤل عله يتكلم ويجيب نظراتها وملامحها المستفسرة التي تتحرق شوقًا لمعرفة نتيجة ما دار بينه وبين والدته ولكنه بادلها النظرات بإقتضاب شديد وتركها عالقة في تخميناتها التي لا تنفك تطرق على عقلها بأفكار شتى دون هوادة!!

تريثت كثيرًا، انتظرت من أن يقوم بإخبارها عما حدث مع والدته، أن يُفصح عن أي شيء ولكن هذا لم يحدث.. ربما بعض مشاعر قد تظهر على ملامحه، غضب، ندم، آسف، سعادة، تأثُر بحقيقة أن والدته لم يكن لها يدًا فيما حدث منذ سنوات ولكنه لم يفعل شيئًا سوى السكوت، صمت غريب يبدو أنه لا نهاية له، تركيز عجيب تجاه الطريق وكأنه لتوه تعلم كيفية القيادة، وسوى ذلك لم يُعطها أمل بأي شيء آخر!! 

قررت بعد انتظار طال عن المعتاد دون حديث بينهما أن تبدأ هي بالحديث فقالت في تساؤل:

- إيه؟ اتكلمت مع مامتك؟ كل حاجة بقت كويسة ولا لأ؟ حاسس إنك احسن لما اتكلمت معاها؟!

همهم إليها ولكن تلك الهمهمة لم تكن ما تبحث هي عنه فضيقت ما بين حاجبيها وهي تتفقده وشعرت بالمزيد من الإستغراب فسألته مرة ثانية:

- شهاب أنت كويس؟

همهم من جديد واجابها بإقتضاب:

- أنا تمام!

رفعت حاجبيها في إندهاش، هذا ليست ما تعودت عليه منه في الأيام السابقة، ولكنها فكرت أنه ربما يحتاج بعض الوقت للتفكير، فصدمة أن والدته بريئة من كل تلك الإتهامات الباطلة التي وجهها لها والده لن تكون سهلة أبدًا على رجل صدق أن أمه لم تتركه بمحض إرادتها وأن أبيه كان كاذبًا..

زفرت بعد أن أدركت شدة صعوبة ذلك الأمر عليه وقررت أن تترك له مساحة ليلم شتات نفسه، بالطبع سيكون مشتتًا.. سبعة وعشرون عامًا من العيش في كذبة خالصة لن يكون أمرًا هينًا، وبالرغم من ذلك الهدوء الشديد الذي يدعيه إلا أن الحقيقة قد تكون مؤلمة للغاية حتى تجعله يتصرف بطريقة جديدة عليه لم يعهدها أحدًا منه أبدًا ولم يعهدها هو نفسه من قبل!

فكرت أن تحاول إلهاءه قليلًا عن الأمر فسألته قائلة:

- احنا بكرة هنتقابل امتى؟

اجابها بثبات مدهش ليقول:

- لا مش هنتقابل!

ابتسمت وهي تحاول استيعاب ذلك الهدوء الغريب الذي يصدر منه فقالت في استفسار:

- مش هتيجي العزا؟

مزيدًا من تركيزه في الطريق واجابة أخرى مقتضبة كانت بمثابة الإشارة لها لتتوقف عن الحديث له عندما تكلم قائلًا:

- هاجي!

أومأت في تفهم ونظرت هي الأخرى أمامها ولم تجد سوى صوت عقلها وهو يخبرها بأنه ربما في حاجة للإنعزال ليس إلا، وتمسكت بالصمت وبالرغم من الكثير والكثير من التخمينات التي تجوب بعقلها إلا أنها حاولت أن تتفهم تصرفه وأعطت له كامل العُذر ولم يتحدث أيًا منهما إلي الآخر حتى وصلا أمام منزلها..

نظرت له قبل أن تغادر وحدثته في امتنان لتقول:

- شكرًا إنك وصلتني.. تصبح على خير!

همهم لها وأومأ برأسه ولكنه حتى لم ينظر نحوها لتبدو أنها على شفا حفرةٍ من إنفجار ولكنها سيطرت على أعصابها وغادرت السيارة وبمجرد أن أغلقت الباب ذهب مسرعًا وكأنه كان ينتظر ذهابها بفارغ الصبر..

مشت بخطوات بطيئة وهي تُفكر مليًا وعج رأسها بالتساؤلات، هل هذا لمجرد إرادته في الحصول على بعض الوقت بمفرده؟ هل أخبرته والدته أنها قد أخبرتها عن حقيقة الأمر بأكمله بالسابق؟ هل يعتقدها كاذبة الآن؟ هل يرتاب بأمرها؟! 

صعدت وأوصدت باب شقتها وهي غارقة في المزيد من الأفكار والتساؤلات، تفقدت الوقت لتجد أن الساعة قاربت من الثانية عشر صباحًا ولكنها لم تستطع الإنتظار فهاتفت والدته من هاتف منزلها ولم تلبس منتظرة سوى لثوانٍ حتى آتاها صوت آمال المجيب فحدثتها فيروز في لهفة لتقول:

- معلش يا طنط بكلم حضرتك متأخر..

ابتسمت آمال بإقتضاب وردت لتقول:

- لا يا حبيبتي ولا يهمك، وصلتي بالسلامة؟

اجابتها فيروز ثم كلمتها في استفسار لم تستطع أن تُخفيه:

- آه وصلت.. هو إيه اللي حصل مع شهاب يا طنط؟

استمعت لتنهيدتها الطويلة على الطرف الآخر ولم تُنكر أنها قلقت كثيرًا من طريقتها فأجابتها "آمال" بنبرة متعجبة:

- مش عارفة والله يا بنتي، هو سمعني، بص في تقارير المستشفى اللي معايا وصمم ياخدها، سمع كل حاجة مني وبعدين مشي.. مقالش أي حاجة!

ابتلعت "فيروز" وهي لم تعد تدري ما الذي يفعله، ولماذا تصرف حتى مع والدته نفسها هكذا! هذا يعني أن ردة فعله تجاه الأمر واحدة، لم يختلف شيئًا، ولكنها لا تزال ترتاب ما إن اخبرته والدته أنها قد قصت عليها كل ما حدث منذ زمن، فقد يتعامل مع والدته بهذا الجفاء لعدم معرفته حقيقة الأمر، أمّا هي فهو لم يعاملها بالسابق هكذا، أو على الأقل منذ أن بدأ حقًا في التغير، بعد لحظات من السكوت سألتها مرة ثانية بقليل من التوتر:

- هو حضرتك قولتيله إني كنت أعرف حاجة؟ أو إنك حكيتيلي حاجة من اللي حصل؟

اجابتها بتلقائية ولكن نبرتها حملت الحزن الصريح:

- لا والله يا بنتي، أنا فضلت مخبية على الكل سنين، تفتكري هاجي يوم ما أخيرًا رضي يسمعني وجالي لغاية عندي هاروح اقوله إني حكيتلك.. استحالة طبعًا اقوله حاجة زي دي

تنفست الصعداء بمجرد استماعها لتلك الكلمات، هي الآن اقتربت من التأكد أنه لا يرتاب بأمرها فحمحمت وحاولت أن تخفف قليلًا عنها فتكلمت لتقول:

- معلش يا طنط، أكيد الموضوع مش سهل عليه وهياخد وقت شوية.. متنسيش إن هو كان فاكر كل ده إن باباه كويس ومكنش بيكدب عليه وفجأة بعد سنين كتير اكتشف حقيقة اللي حصل

تنهدت "آمال" وحاولت منع إندفاع تلك الغصة بحلقها التي قاربت على جعلها تبكي فهمست بحزن:

- ربنا يقدم اللي فيه الخير، شكرًا إنك خليتيه يجي، أنا عارفة كويس إنه مكنش هيجي أبدًا من نفسه

ابتسمت "فيروز" بإقتضاب بالرغم من عدم رؤيتها لأحد ولكن تلقائيتها تحكمت بها فقالت:

- متقلقيش إن شاء الله كل حاجة هتكون احسن وهيجيلك تاني.. هو بس اكيد محتاج وقت وبعدها كل حاجة هتكون تمام

أومأت في تفهم وتحدثت لها بنبرة ممتنة:

- يارب يا بنتي.. ربنا يهديهولي 

     

جلس "زياد" على احدى المقاعد خارج المنزل وقد اكتفى بكاءًا اليوم، بكاءه، بكاء اخواته "هديل" و "شاهندة"، حتى "بدر الدين" يبدو انهياره غريب، ذلك الوحيد الذي كان يظن أنه أكثر من يتحمل بين الجميع ولكنه بدا كالطفل الذي فقد والدته لتوه، وليس ذلك الرجل البالغ الذي ينتظر حفيده.. 

لماذا فارق الجميع؟ لماذا اليوم يجد كل شيء بات مختلف؟ لقد تغير الجميع، وكأنهم تبدلوا، لأول مرة منذ صغره تغيب صوت الضحكات، صوت المرح وإجتماعهم، لماذا حرم نفسه من تلك الأوقات بسفره؟ لماذا تركهم وترك احلى لحظات تُسرق من حياته؟

لن يستطيع ولو عاش فوق عُمره عُمرًا أن يعوض كل ما فاته، لن يستطيع أن يستمع من جديد لصوت والدته وهي تنصحه، وهي تزجره، وهي تضحك وتقهقه مع الجميع، لن يراها من جديد وهي تنظر له بلوم على سفره الذي لا ينتهي وتنشده بأن يعود أو يتزوج كي ترى أولاده قبل أن تغادر هذه الدنيا..

ها هي قد غادرت، لقد رآها الجميع وجلسوا بالقرب منها وهم ينتحبون، نظروا لها للمرة الأخيرة، ودعوها وذرفت أعينهم الدموع لليلة كاملة، وأين كان هو!! نعم، لقد كان بالخارج مثل ما كان دائمًا..

لم يستطع رؤيتها، لم يستطع قول تلك الكلمات التي تخرج من القلب المجروح بفراق الأحباب، والآن عليه تحمل مفارقته اياها وعدم استطاعته التفوه بكل ما أراد لتظل تلك الكلمات تجرح قلبه كل يوم إلي أن يفارق الحياة.. 

آتى "سليم" ليقترب منه وهو يُربت على ذراعه ليتحدث له هامسًا:

- كفاية يا عمي، ربنا يرحمها.. 

نبهه صوته ليُدرك أنه كان ينتحب بشدة فجفف عيناه بصعوبة وهمس بقهر:

- تخيل، كلهم شافوها، كلهم كانوا معاها، وأنا.. أنا ملحقتش!! ملحقتش أشوفها يا سليم!

انتحب من جديد ليعانقه ابن أخيه فانفجر بكاءه بهيستيرية وعاد ليتحدث بكلمات لم يفهمها "سليم" بوضوح من شدة بكاءه:

- أنا اللي مكنتش باجي، ياما قالتلي تعالى.. مكنتش بسمع الكلام! يا ريتني كنت جيت، يا ريتني كنت معاها..

ربت على ظهره في حنان بينما كلمه بنبرة امتلئت بالتعاطف وحاول أن يتماسك هو الآخر:

- خلاص يا عمي الله يخليك، كلنا عارفين وفاهمين إنك انت اللي شايل فرع الشركة برا.. ادعيلها.. اكيد هي مش زعلانة منك 

فرق العناق لينظر بعينيه وقد توقف بأعجوبة عن البُكاء ليهمس بحرقة متسائلًا في استنكار:

- تسوى إيه الشركة والفلوس وحياتي اللي ضاعت كلها وأنا مش معاها؟!

نظر له "سليم" بقلة حيلة ولوهلة وجد نفسه لا يستطيع التحدث له ولا يجد الكلمات ليُرثيه في والدته ودته هو نفسه ليتم مقاطعتهما من قِبل "منة" التي أوشكت على المغادرة فحمحمت لتلفت انتباههما فنظر "سليم" نحوها بينما حاول "زياد" أن يجفف وجهه فهو لا يعلم من هذه الفتاة لتتحدث هي برسمية واحترام:

- معلش أنا هستأذن بس النهاردة علشان بنتي بس هتحتاجني في مدرستها بكرة الصبح، أنا ملقتش مدام هديل وأروى نامت من شوية.. فحبيت يعني اعرف حد إني ماشية

أومأ كلاهما إليها وكاد "سليم" أن يتحدث بينما استمع لصوت "زينة" تناديه في لهفة لينظر نحوها وأشار إليها بسبابته ليقول على عجالة:

- ثواني بس هاشوف زينة وعايزك دقيقتين..

أومأت له بتفهم بينما غادر هو لتجلس على احدى المقاعد القريبة من "زياد" وشعرت بالإستغراب قليلًا كلما مر الوقت في هذا الصمت كما أنها لاحظت ملامحه الحزينة بشدة فهمست إليه:

- البقية في حياتك.. ربنا يرحمها

أومأ لها في شجن ثم زفرزفرة مطولة ليتحدث شاردًا:

- شكرًا.. حياتك الباقية

حمحمت وهي تحاول التصرف بلباقة فقالت:

- حضرتك أنا منة، أنا ممرضة، وبساعد أروى الفترة دي، لو في أي حاجة ممكن اعملها قبل ما امشي أو..

لم تُكمل حديثها بينما نهض كلاهما فجأة عند استماعهما لصوت "سليم" المنادي على "منة" بنبرة غاضبة وحادة لتتوجه بسرعة عائدة للمنزل وتبعها "زياد" ليتحدث الأول بلهوجة:

- بابا.. فجأة داخ ومش عايز يفوق!! أنا كلمت الدكتور بس اطلعي شوفيه بسرعة!

     

نظرت نحوه بإمتعاض وهي حقًا لا تدري متى سيتوقف عن فعل ما يفعله لتزجره بحدة:

- يا عمرو مبقاش ينفع اللي انت بتعمله ده.. كل يوم سهر وسُكر وستات لغاية امتى!! شروق لسه قافلة معايا واضطريت اكدب واقولها معرفش انت فين.. إنما انت برضو مصمم على اللي بتعمله ده.. حرام عليك والله!

تحولت ملامحه للتقزز من مجرد سماعه لإسم زوجته ليقول بعدم إكتراث بعد أن تجرع ما بكأسه دُفعة واحدة:

- افتكريلنا بقى حاجة عدلة بدل السيرة دي

رفعت حاجبيها في إندهاش وغضبت من كلماته بينما أشار لعامل البار أن يُحضر له كأسًا آخر فنهضت "لميس" في تأهب واستعداد للمغادرة ثم حدثته بلهجة لا تحتمل النقاش:

- طيب عمرو أنت عارف إننا اصحاب ومش معرفة يوم ولا اتنين وبعيد عن الشغل انت عارف إني بعتبرك اخويا، بس اللي انت بتعمله ده مبقاش ينفع، أنت مبقاش فارق معاك لا الشغل ولا مراتك وبيتك، بس أنا مش هافضل مضيعة كل ليلة جانبك وأنا بحاول اعرفك الصح من الغلط!! أنا من هنا ورايح مبقاش يناسبني السهر في بارات واسيب ماما وخطيبي وحياتي علشان انت تشرب وتسكر وأنا اسمعلك واقولك معلش..

صاح صوت نسائي ليقاطع حديثها وكانت صاحبته هي "شروق" زوجته لتقول بغضب:

- بقى هو ده اللي متعرفيش فين!! ماشي يا لميس هانم، وأنت بقى.. أظن حسابنا تِقل اوي مع بعض

ابتسمت "لميس" في تهكم ثم نظرت نحو "عمرو" بلوم لتقول بخيبة أمل:

- شوفت الموضوع وصل لإيه؟! حقيقي حرام عليك.. أنا ماشية، ماشية ومتكلمنيش غير في الشغل أرجوك!

غادرت كلاهما ولم تكترث لما قد يفعلاه، فلقد سأمت من محاولات الدفاع العديدة عنه، بالرغم من كل ذلك التاريخ الذي يجمعهما كصديقين ولكنها لم تعد تحتمل تمثيل ذلك الدور، لقد سأمت واكتفت ولم تعد تملك لا كلمات ولا أفعال لتنهاه عما يفعله!!

قادت سيارتها للعودة لمنزلها وهي تُفكر وقد ملئها الإنزعاج، بدلًا من أن تكون بجانب "عاصم" طوال اليوم بعد فقدانه جدته ولكنها تحججت من جديد بأن هناك عشاء عمل ويجب عليها أن تحضره، أو هذا هو ما أخبرها به "عمرو" على كل حال.. هي لم تكذب.. ولا تريد الكذب أبدًا.. هي تكره تلك العلاقات التي لطالما امتلئت بالكذب والخداع!! 

فقط ستعطي فرصة أخيرة له، إن لم يتغير فستترك العمل لديه ووقتها تستطيع العمل بخبرتها الطويلة في العديد من الأماكن المرموقة، بعيدًا عن كل تلك المشاكل التي لا تنتهي..

صفت سيارتها أسفل شقتها هي ووالدتها لتنتظر لبرهة داخل السيارة وهي تشعر بقليل من تأنيب الضمير نحو والدتها، فهي منذ أن خُطبت إلي "عاصم" قد كفت والدتها عن التحدث عن الزواج، يبدو أن هذه هي كانت مشكلتهما الوحيدة.. وها هي قد انتهت، لماذا لا تُعطيها القليل من وقتها إذن؟! 

تنهدت بحزن وهي تعاهد نفسها أن تحاول التقرب من والدتها قدر الإمكان فهي بالنهاية لا تستحق ذلك، بالرغم من اختلافهما في السابق ولكنها لا تزال والدتها في النهاية ولا تملك سواها بحياتها بأكملها..

توجهت نحو البوابة وانتظرت المصعد وهي تشعر بالإرهاق الشديد نتيجة ذلك اليوم الطويل التي ظنت أنه لن ينتهي أبدًا وما إن آتى المصعد حتى وجدت من يدفع بابه وخرج منه على استعجال لترمق ذلك الرجل الذي تأكدت أنها رآته بيومًا ما.. من كان يا تُرى!!

أخذت تحاول التذكر حتى استجمعت الأحداث جيدًا وعرفت من هو، "شهاب الدمنهوري" هي تعرفه جيدًا، ابن عم خطيبها!.. ولكن ماذا كان يفعل رجل أعمال مثله في عقارهما المتواضع؟! 

ظلت تُفكر وفي النهاية قررت أن تترك ذلك التفكير بعيدًا وما إن دلفت على والدتها حتى هرولت نحوها لتنادي:

- لميس.. الحمد لله يا بنتي .. أنا.. 

توقفت والدتها عن الكلام وحاولت أن تبدو تلقائية ولكنها فشلت تمامًا ولكنها تحدثت من جديد:

- انتي كويسة؟ أنا قلقت عليكي اوي علشان اتأخرتي!

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر لها بإستغراب وسألتها:

- فيه إيه يا ماما؟ ما أنا طول عمري بتأخر، إيه الجديد يعني؟

ابتلعت والدتها وحاولت تصنع أن كل شيء على ما يُرام لتقول:

- معرفش يا بنتي قلبي كالني عليكي شوية النهاردة.. يالا حمد الله على سلامتك.. اتعشيتي ولا احضرلك العشا؟

لم تتقبل "لميس" تلك الكلمات ولهفة والدتها وملامحها التي دفعتها للإرتياب حتمت عليها أن تسألها من جديد: 

- ماما!! انتي مكلمتنيش ولا مكالمة على الموبايل، وشكلك زي ما يكون فيه حاجة حصلت! إيه اللي حصل بالظبط؟

ضيقت عينيها وهي تتفحصها لتتذكر رؤية "شهاب الدمنهوري" من جديد ثم ملامح والدتها، كما أنه هو ابن عم "عاصم" خطيبها لتسألها مباشرة:

- شهاب الدمنهوري كان هنا بيعمل إيه؟!

      

جلست في انتظار زوجها وهي تتفقد الساعة كلما مر الوقت وفي النهاية دلف المنزل في تمام الواحدة والنصف صباحًا لتنظر نحوه بأعين تتحدث وحدها وتصرخ بالعديد من الكلمات التي لا يستطيع آلف لسان النطق بها في نفس الوقت لتهمس له:

- حمد الله على سلامتك

استغرب قليلًا من معاملتها وانتظارها ولكنه أومأ بإقتضاب وأخبرها بتهكم:

- الله يسلمك يا لبنى.. خير يعني.. إيه اللي مصحيكي لغاية دلوقتي؟ إيه!! مفيش مدارس بكرة ولا الماميز مش متجمعين في النادي!!

زفرت في إنزعاج وهي تتوجه نحوه بملامح غاضبة ثم حاولت التحكم في نبرة صوتها لتقول:

- عرفت إنك انت السبب في كل مشاكلنا، اديني اهو قاعدة ومستنياك علشان نتكلم ونتناقش بهدوء بعد ما الولاد ناموا وانت برضو مصمم وبتصدني وكمان بتكلمني بتريقة وسخرية

ابتسم في مزيدًا من التهكم وأردف:

- معلش بقى حكم العادة..

رفعت حاجبيها في اندهاش لتستطرد قائلة:

- اهو احنا دايمًا بنتخانق بسبب كده.. كل ما اجي احاول معاك بتسدلي نفسي، بتحسسني إن كل اللي بعمله من ناحيتك ملهوش لازمة!! والله حرام عليك اللي انت بتعمله ده! 

أنا فعلًا غلطانة إني فضلت سهرانة ومستنياك علشان بس نتكلم، شكرًا يا معاذ باشا.. تصبح على خير..

تركته خلفها وتوجهت لغرفة نومهما ليزفر هي في ضيق بينما فكر بداخله بقليل من اللوم لنفسه، ربما يم يجب عليه أن يتحدث معها هكذا، ولكنه قد سأم تلك المحاولات معها من حديث ونقاش لا يُسفِران عن أية نتائج.. ماذا سيحدث حتى إن تحدثا؟ سيعود كل شيء إلي سابق عهده ولن يتغير أيًا منهما في شيء!!

     

تفقدت الوقت بجانبها لتجد الساعة قد عبرت الثانية صباحًا بقليل، منعت نفسها كثيرًا عن جذبها للهاتف لتحدثه، عقلها لا يتوقف عن إصدار التخمينات تجاه طريقته الغريبة!! تتحرق شوقًا لسماعها اياه وهو يتحدث عن الأمر بغضب أو حزن أو حتى تهكم وسخرية بينما قررت ألا تهاتفه إلا صباحًا..

تنهدت وهي تُفكر بكل شيء، منذ أن بدأ في تغيره، كان لابد من شيء ما يفعله حتى تتأكد أنه يتغير بمنطقية، وحدته واكتفاءه بعدم وجود أي أحد قريب منه لسنوات تدفعاه للإبتعاد الآن..

هذا منطقي للغاية، منطقي أن يبتعد عن معاجته النفسية، منطقي أن يبتعد عن صديقة له، ومنطقي أن يتصرف بهذه الطريقة!! ولكنها تشعر بالإنزعاج! ربما بالحزن.. تشعر بالقليل منه، لقد توقعت أنه بمجرد مغادرته لوالدته سيخبرها بكل شيء ولن يخفي عليها أية تفاصيل.. 

ربما لأنهما بالأيام الماضية كانت بينهما ثقة، صراحة، احاديث طويلة، مرح ومشاركة بالعديد من المواقف، لذلك شعرت أنهما شخص مهم بالنسبة له.. وبالرغم من أنها تتفهم أنه ربما يريد الإختلاء بنفسه قليلًا كي يُفكر في كل ما عرفه من حقائق فاجعة عن والده ولكنها تشعر كذلك بالخوف ما إن دخل في حالة من العزلة وطالت هذه المدة فقد يعود أسوأ من السابق..

تقلبت بسريرها ربما للمرة المائة وهي تُفكر، تعاطفها الشديد معه وتلك الشفقة في قلبها تجاهه لا تبشر بالخير أبدًا، أحقًا حاولت العودة لحياتها العملية لتقع في شفقة تجاه احدى الحالات لتنحدر بعنف هكذا تجاه كل ما يقصه عليها من ماضٍ مؤلم.. أو ربما لأنها اعتبرته صديق لها!!

لقد أُرهقت من كثرة التفكير في كل ما حدث اليوم، اعترافته التي لا ينفك يُمطرها على مسامعها كل يوم جديد يمر عليهما، هل هي أصبحت بخير؟ أم متأثرة بحالته؟ ولكن سيكوباتي مثله!! وحتى لو حارب الشيطان نفسه، ليس عليها أن تتعاطف بهذه الطريقة، عليها أن تكون أكثر حزمًا، نعم.. عليها أن تتقبله وألا تُشعره بأنه لا يستحق وتستمع له ولكن مشاعرها باتت حساسة للغاية.. حساسة بدرجة هائلة حتى أنها باتت تتعاطف بطريقة تخيفها..

طريقة تخبرها أنها هي الأخرى لا تزال تعاني من أثار مرضها هي الأخرى!!

أغلقت عينيها في محاولة جديدة منها للنوم، تحاول أن تُخبر نفسها ألا تخاف من تغيره، تصرخ بنفسها أن تعود لحزمها ولعملها ولحياتها، تحاول أن تتغافل عن مشاعر الشفقة والتعاطف التي تظن أنها تحملها إليه، ولكن ربما إذا انتظرت قليلًا ليومان ربما ستبدأ في رؤية الحقيقة التي قد تتجلى لها!! 

     

صباح اليوم التالي.. السابع والعشرون من أكتوبر 2019

لم يقاوم ذلك السعال الذي اندفع من حلقه رغمًا عنه وهو يضغط بعنف على بقايا السيجارة بيده في المنفضة التي عجت بالكثير من بقايا السجائر التي لم يكترث إلي عددها ولا دخانها الذي ملئ مكتبه وأصبح يُكون سحب كثيفة تحول الرؤية خلالها وشرد أمامه من جديد وهو يُفكر في الأمر، يُفكر في كل ما عرفه، يُفكر في تلك الكذبة التي عاش بها لسبعة وعشرون عام!

لماذا لا يستطيع الآن التمثيل بجثة والده؟ لماذا لا ينتقم منه على كل ما عاناه بتلك السنوات؟ كل ذلك الخداع والتمثيل وتظاهره بأنه ترك والدته تحيا حياة سعيدة، كل تلك الكذبات التي افترى عليها بها وهو يبكي فقط لعدم وجودها بالقرب منه لليالٍ كثيرة..

ماذا عن هؤلاء الذين انتهكوه بسببه؟ لماذا فعل كل ذلك؟ من أجل ماذا؟ الأموال.. الأموال وحدها.. بخله الشديد الآن بدا منطقيًا.. حتى مسئوليته كطفل كانت عبء عليه وفي لحظة من غضب دمره هو ووالدته ودمر حياته بأكملها!

من شابه أباه فما ظلم!! هذه هي الحقيقة، هو اختار الأموال بالسابق والآن كل حياته بأكملها تتمحور حول الأموال.. شتان بينهما ولكنه مثله، يشابهه في كل شيء!

لقد كانت والدته صادقة، لقد ذهب لمنزل تلك الممرضة وهددها حتى أخبرته بعد أن ذكرها بحالة والدته وبيده تقرير المشفى الذي أخذه منها، مرض لازمها لأربعة أشهر بسبب والده، منعها من مدرسته، مغادرتهما لذلك الحي الفقير.. كل شيء الآن يبدو جليًا!

لا يكره في حياته أكثر من أن يقوم أحد بخداعه.. وقد فعلها والده الذي لطالما ظن أنه كان يريد أن يراه رجلًا ناجحا ليس إلا، فسر قسوته لسنوات بأنه يُعلمه أن يعتمد على نفسه، ولكن كيف؟! كيف وهو من كان يتوسله بآخر أيامه أن يتواصل مع والدته ويُحدثها؟! ألهذه الدرجة قام بخداعه وجعله يكره أمه حتى بات لا يود أن يستمع لصوتها؟! 

منذ أن غادر ليلة أمس منزل والدته وهو يتقصى الحقائق التي وجدها بالكامل تؤيد قصتها وكلماتها، يشعر بأنه ارتكب خطأ ولا يجد من يلقي بإنتقامه عليه.. ولن يجده.. لأنه ببساطة توارى أسفل التراب.. 

ولكن هذا لا يعني أن الأمر انتهى هنا، أليس لديه زوجة طامعة وطفل صغير!! ليجعله مثله إذن.. ليعلمه كيف يعني فقد الوالدة بفضيحة هائلة!! سيجعله يعيش مجددًا نفس الآلم حتى عندما يلاقي والده في الجحيم يومًا ما يفتخر بصنعه.. بإبنه الذي بات يشابهه كثيرًا..

جذب هاتفه الذي اصدر اهتزازًا ليطالع مواعيد يومه، يمكث بشركته منذ ليلة أمس ولا يدري لماذا آتت به قدماه إلي هنا، وتذكر أن "هاشم" اخيه سيأتي بعد قليل، ابنها، وصديق "فيروز" كما يبدو مما رآه ليلة أمس.. سيعلم جيدًا كيف يتصرف معه!! 

بالطبع إن علمت "فيروز" حقيقة ما يُفكر به، وما يريد فعله، ستهرب وتفر بعيدًا.. لذا سيصمت لفترة.. فترة ليستعد بها لكل ما يريد فعله، لن يستطيع البوح لها بكل ما يريده.. أو على الأقل الآن.. 

كره كثيرًا ضرورة ابتعاده عنها، ولكنه سيراها اليوم بذلك العزاء اللعين، كم يكره تلك الأُسرة بأكملها، وكم يكره أن عليه الإعتراف لها بما فعله بإبنة عمه.. ببساطة إن لم يعترف لها، قد تكتشف هي وحدها.. وخصوصًا إن تلاقت الوجوه سيكون الأمر أصعب!! عليه أن يسبق الجميع.. عليه أن يستغل الأمور لصالحه.. لن يخسر هذه المرأة أبدًا أمام أي موقف، لن يسمح لهذا بالحدوث.. عشقه الملعون وإرادته في تملكها لن توقفه أبدًا عن هدفه الذي حلم أن يحققه يومًا ما.. لن يترك ولو هفوة قد تُفسد رغبته بها وبتملكها، سيسد كل تلك الهفوات حتى ولو عليه فعل أكثر من ذلك..

     

#يُتبع...


ملحوظة: الفصل الأربعون سيتم نشره يوم 29 نوفمبر مساءًا..