-->

جسارة الإنتقام - الفصل الرابع

   



 - الفصل الرابع - 


     

دون إرادة أو إدراك لما يفعله تفحصها، تبدو صغيرة ويافعة للغاية وملامحها مستسلمة تماما عكس تلك الطريقة الفظة المفتقرة للأناقة والأنوثة التي تتعامل وتتحدث بها، شعرها الطويل الذي لا زال مموجا بفعل المياة مبعثرا حولها بعفوية، شفتاها الورديتان تبدو كشفاة طفلة صغيرة، لا تبدو الآن الفتاة المتمردة التي تتحول لها شخصيتها فجأة لصبي متهور.. 

وجود جسدها برداءه ملتفا حول جسدها ومحتويها في ملامسة لصيقة بهذه الطريقة جعله يشعر بأنها تخصه، له وحده، جلس على السرير مستندا بساعديه على ركبتاه شاردا بتفاصيلها ثم تذكر كيف بدت بذلك الفستان واللون الأبيض ليتملك عقله الإستغراب التام ليدوي سؤال بعقله بينما نظر لبرائتها البادية على ملامحها وصاح متسائلًا بداخله:

- هي مسترجلة أوي ومستأسدة كده ليه مع إن شكلها ميديش كده؟

تعجب لمكوثه الطويل بالشرود بها ليُنهى نفسه زاجرا وذكر نفسه لماذا تزوجها بالأساس وتقبل هذا التظاهر بأنه زوجها، يريد أن ينتقم مما فعله أبيها بأمه منذ سنوات، أن يثأر لكل دمعة ذرفتها أمه بسبب والدها، سيفرغ تلك المرارة التي طالما حملها لسنوات وحده والآلام التي هشمته وجراحه عليها هي وحدها، مهما بدت في عينيه ومهما فعلت يستحيل أن يتنازل عن حق والدته التي أفنت نفسها من أجل العائلة وتحملت وحدها لسنوات تلك الآلام!

لطالما هاب الجميع مجرد اسمه، شعر الجميع بالخوف ما إن عبثوا معه، أتظن تلك الفتاة المتصابية ووالدها أنه سيتناسى تلك الإهانة التي تجرعتها والدته في سنوات لصمت! هذا محال!! 

- كنت مستني أبويا يموت عشان أنتقم من هشام بس خلاص، أنتي هتتحملي كل حاجة، زي ما أنا عانيت واستحملت أنتي كمان هتعاني وتستحملي، ذنب أبوكي هتكفري عنه زي ما جرح أمي وجعني سنين.. مفيش حاجة هتمنعني عنك، مفيش أي حد ولا أي سبب هيخليني أغير فكرتي

 زفر ما برئتيه وانتبه لتلك الذبذبات بجيب بنطاله التي انتشلته من أفكاره وصوت عقله الذي صدح بداخله وتوجه للخارج مجيبا المُتصل ليقل لا شيء بينما آتاه صوت "معتز" المازح دائما:

- صباحية مباركة يا جوجو

 زجره بنبرة جامدة ببروده الدائم:

- جوجو! شايفني عيل قدامك، اتلم يا معتز

قهقه من إنزعاجه ثم أكمل حديثه له:

- أحب أنا أدلعك دايما يا بطتي.. إلا قولي، الواد يا بت عامله معاك ايه؟ وعملت أصلاً معاها ايه؟

امتعض عندما تذكر مكوثه ناظرًا لها ثم رمى الكلمات من شفتاه في اشمئزاز:

- هاعملها ايه، اهي مخموده..

ضحك ثم تحدث بخبث هامسًا:

- طبعاً بقا جوجو وراها خبرته الجبارة

تأفف ثم حاول أن يعود لبروده ليُكمل بسخرية:

- بلا خبرة بلا هباب، ده منظر بذمتك؟ بقى ده ذوقي؟

رفع حاجباه ثم  تسائل بدهشة:

- عايز تقولي انك ملمستهاش؟

ابتسامة جانبية علت شفتاه في غرور ثم قال:

- ديه مفيهاش ريحة الأنوثة وأنت عارف ذوقي..

تنهد وهز رأسه في قلة حيلة من تصرفات "جاسر" ثم تمتم:

- أنت هتقولي! بس دي مراتك برضو يا جاسر!

قرر أن يُغير مجرى الحديث قبل أن يستمع لنصائح واهية وسأله:

- أخبار مامتك ايه؟

اجابه بتلقائية وبطيبته المعهودة استجاب لتغير مجرى الحديث:

- يووه.. هي ورزان استغربوا موضوع جوازك المفاجئ ده وهريني مليون سؤال زي ما أكون اسمي جاسر، وعديت على طنط امبارح لقيتها مضايقة اوي زي ما تكون كمان معيطة، بس احلى حاجة في اختك انها مكبرة دماغها وفضلت تقول سيبوه هو عارف هو بيعمل ايه

غلف صوته البرود الهائل وكأنه لا يحزن لمرض أبيه وهو يسأل "معتز":

- بابا عامل ايه دلوقتي؟؟

اجابه مسرعًا ولكن بنبرة تدل على الآسى الهائل:

- عديت عليه النهاردة الصبح، لقيت صاحبه هشام عنده، وبصراحة حالته مطمنش..

 تريث "معتز" للحظة ثم تابع عندما تذكر ما قرره "شرف الدين" مُسبقًا:

- وأنت فعلاً ناوي تخلف منها يا معتز عشان الميراث ولا لغاية ما باباك يـ..

توقف عن الكلام بعدما أدرك ما كاد لسانه أن ينطق به ولكن تكلم "جاسر" بنبرة مستهزءة:

- لا خلفة ايه، وأنا أجيب عيال يطلعوا بالمنظر المقرف ده.. استحالة

زفر في تعجب شديد من أمر هذا الزواج برمته وحدثه بإستغراب:

- أنا مستغربها أوي، شكلها بنت ناس يعني و..

قاطعه ببرود ولكن هناك شيء غريب بصوته جعل "معتز" يرتاب للغاية وهو يقول:

- ديه بنت كلب 

سيطر على غضبه من مجرد تذكر والدها بينما أردف: 

- بقولك ايه، عايزك تيجي وتجبلي كده اي حد يتصرف في منظرها العكر ده ومصور كده عشان كان أبويا وأبوها اتفقوا على كده

همهم له بالموافقة ثم رد قائلًا:

- بسيطة.. بس بقولك ايه، أنت لازم تيجي عشان فيه حاجات في الشغل واقفة على موافقتك

عقد حاجباه وهو يتريث في تفكيره بما عليه فعله ثم أكمل حديثهما:

- ماشي.. هجيلك!! بس انجز في الموضوع اللي قولتلك عليه!

     

صاح "رامز" بهاتفه وقد نفذ صبره :

- هو احنا هنعيده تاني يا نيرة.. قولتلك عندي شغل..

تأفف حانقًا ولم يعد يتحمل كم هي صعبة المراس ليهتف في غضب:

- يا حبيبتي افهميني، سيرين أتجوزت جاسر فعلاً بين يوم وليلة، يعني مفيش غيري أنا ومراد شايلين الشغل وحتى بابا سيرين مع أبو جاسر.. هما اساساً أصحاب.. يا روح قلبي هفهمك كل حاجة بليل.. حقك عليا بقا متزعليش.. طب بوسة عشان خاطري..

رمقه "مراد" بإستخفاف وهو يستمع إلي حديث "رامز" ثم تمتم وهو يجلس على كرسي المكتب ولقد دخل لتوه:

- بتحبلي في التليفون ولا على بالك حاجة..

بادله النظرة في إنزعاج ثم انهى مكالمته:

- طب نيرة عندي شغل.. هكلمك تاني، سلام

وضع هاتفه بعيدًا ثم وجه حديثه إلي "مراد" وقال في تبرير:

- ولا على بالي ايه، لسه مخلصين خناق وحياتك

تنهد وهو يُريح جسده في كرسيه بينما تكلم في قلق:

- أنا قلقت على سيرين أوي، من امبارح لا حس ولا خبر

 صاح رامز متعجباً مما يقول:

- جرا ايه يا مراد، مش عروسة؟ عاوزها تكلمك يوم الصباحية؟ ده أنت إنسان غريب اوي!

تناول نفسًا مطولًا ثم همس في جدية:

- أنا مش مطمن لجاسر ده، شكله امبارح عامل زي ما يكون ناوي على حاجة، مش عارف ايه هي! مش سهل أبداً، مش مريحني

ابتسم بسخرية هاززًا رأسه ثم قال:

- يا ابني جاسر شرف الدين عمره ما كان سهل، ده وحش محدش يقدر يقف قدامه، وأكيد يعني واحد زيه مكنش يتخيل أنه يتجوز سيرين ولا يبصلها حتى!

رمقه "مراد" بنظرة صدمة صريحة فأسرع مكملا في شرح لكلماته اللاذعة التي تفوه بها: 

- مقصدش حاجة وحشة طبعاً، اللي أقصده أنها مش ستايله خالص.. بس أموت وأعرف ليه أبوه صمم يعمل كده؟!

قلب شفتاه في تعجب وشرد في تفكير:

- أياً كان أنا مش مطمنله.. أنا خايف عليها

زفر "رامز" ثم استطرد بهمس:

- يخربيت الحاسة السادسة اللي عندك ديه، أنا بقيت أخاف منك، كل ما تقول حاجة ألاقيها بتحصل..

 ازدرد "رامز" ثم هز رأسه وقرر ألا يثير قلقه ويُنحي تفكيره وإلا سيتشتت تمامًا وهو ليس في حاجة أن يطنب بالتفكير وهو بالكاد يمنع نفسه عن البحث بكثرة خلف أمر زواجهما بتلك السرعة فلقد قلق مسبقًا منذ أن عرف بهذا الخبر:

- يالا ورانا شغل، ركز فيه احسن، ومتقلقش.. سيرين أكيد هتكلمنا


     

دخلت "نور" غرفة والدتها عندما استمعت إلي بكاءها فسألتها في تأفف وهي تدرك أنها منذ علمها بزواج "جاسر" وهي جالسة لا يلازمها سوى البكاء:

- جرا أيه يا ماما قلباها مناحة ليه؟ ايه يعني بنت هشام منصور، مالها؟

صاحت "هويدا" بنحيب مجيبة في غل:

- هشام ده كلب، هو السبب في كل حاجة..

تلاقت عينان نور بفيروزيات أمها الناريتان ثم كلمتها في تعجب شديد:

- بصي بقا، أنا مش فاهمه الراجل ده عمل ايه، بس ليه بتحكمي على بنته، مش يمكن تطلع أحسن منه وتكون بنت كويسة؟ وبعدين أنتي لا تعرفيها ولا أتعاملتي معاها، يبقى ليه حارقة دمك على الفاضي ومقضياها عياط!

صرخب بها بغضب بالغ:

- أنتي ايه؟ مش حاسه بيا؟ شقيت وتعبت ووقفت جنب أبوكي لغاية ما بقاله كيان وفي الآخر يحرمني أنا وأبني من الميراث لو متجوزهاش وخلف منها، عارفة يعني ايه يضيع تعبك كله كده فجأة؟ لما تستحملي سنين وتنحتي في الصخر وتكبري وتبني وفجأة يجي اللي يقولك أن ده مش من حقك؟

تفرستها ابنتها بنفس الأعين التي ورثتها منها التي تميزها هي وأخيها عن الجميع ثم أقتربت لتجلس بالقرب منها وارتسمت ابتسامة على شفتاها وحدثتها في هدوء بنبرة متريثة: 

- أنا بنتك وبحبك ومش عايزة أشوفك زعلانة، عارفة أن احنا مش قريبين وسرك كله مع جاسر، أنا لغاية دلوقتي مش لاقية مبرر أو سبب لزعلك ده كله فمش هاقدر أحكم على البنت أو باباها بحاجة وحشة، كل اللي أفهمه أن حصل مشاكل بين باباها وبابا زمان وفضوا الشراكة ما بينهم وفي الآخر بابا عاوز يرجع لصاحبه حقه وفلوسه اللي سابهاله وبسببها كبرت شركاته، وبعدين أنا آسفة في اللي هقولهولك وعارفة إنك هتضايقي من كلامي بس تقدري تقوليلي من يوم ما بابا ما تعب ووقع ورقد في المستشفى أنتي كنتي فين؟ متحاوليش تقنعيني أنك كنتي متابعة الشغل لأن جاسر مش محتاج حد مننا ويقوم بألف شركة وذكي ومحدش يقدر يوقف في وشه، ومعتز كمان جنبه، بس أنتي فين؟ فين الست اللي المفروض تكون جنب جوزها؟ طول عمرك واخدة بالك من الشغل وبتحافظي على جمالك وصحتك وجاسر وبتهتمي بالمظاهر ومكانتك الإجتماعية وبس..


أنا مش هطول في كلام أنا وأنتي في غنى عنه ولا عاوزة أعرف ايه حكاية هشام وبنته، لكن أرجوكي حاولي تبطلي عياط ومتحرقيش دمك.. مفيش حاجة مستاهلة كل ده خالـ..

قاطعتها "هويدا" بحدة ليتطاير الشرار من فيروزيتيها: 

- قال حقه قال.. وأنتي جاية تلوميني، وحتى مش مصدقة أمك ولا واقفة جنبها، ما أنتي طول عمرك بنت أبوكي، مفيش أبداً مرة تحسي بيا، وقال أيه بنتي الوحيدة، ده جاسر برقبتك!

ابتسمت ابنتها لها بوهن وحدثتها في قلة حيلة:

- زي ما جاسر ابن أمه.. بس صدقيني أنتي وبابا وجاسر أهلي وعيلتي اللي أستحالة أبداً أكره حد فيكوا أو اخد جنب حد على حساب حد، الفكرة انك عمرك ما كنتي واضحة وصريحة معايا وعمرك ما صاحبتيني زي ما عملتي مع جاسر، بس عموماً هفضل بنتك ويوم ما تحبي تحكيلي كل حاجة هسمعلك..

 نظرت لها وكادت والدتها أن تتحدث فأوقفتها بإجابتها على هاتفها:

- ازيك يا رزان عاملة ايه.. لا في البيت وكنت هاروح اطمن على بابا.. ماشي.. لا ماما في البيت، طيب.. هعدي عليكي في الطريق

 غادرت "نور" والدتها دون أن يتابعا بمزيدًا من حديث لن يُسفر عن أية تغيرات بينهما وتوجهت للخارج في ضيق، فهي مهما حاولت لطالما قابلتها "هويدا" بتفسيرات لا تُفيد وستبقى علاقتهما مثل ما هي وسيبقى "جاسر" هو المُفضل لها دائمًا! 

تابعتها والدتها بفيروزيتان انهمر منهما الحقد الذي لازمها لسنوات وآلم لم يغادر حواسها بأكملها منذ سنوات ثم تحدثت لنفسها ليسيطر الحقد عليها وظلت تسترجع أحداث ومواقف مر عليها زمن..

- احكيلك ايه! عمرك ما هتحسي بيا زي ماحدش حس بيا زمان، أنا أتجرحت، أتكويت لوحدي، اتقهرت وأنا شايفاه بيضيع من ايدي، لو مكنتش عملت اللي عملته زمان كان زماني لوحدي، كفاية السنين ديه كلها جنب راجل مبحبوش، لو مكنتش أنا كده مكانش هيفضلي حد.. لا هشام ولا حتى كان شرف صدقني ولا حتى جاسر كان هحيبني اوي كده، بس مش هعديها بالساهل، كل اللي عمله هشام هيتردله في بنته، جاسر ابني مش هايسبني، هيجبلي حقي وأكتر!


     


 شهقت بعنف عندما شعرت بالمياة على جسدها واستيقظت بصدمة تلهث بعنف فتحدث لها بصوته العميق ساخراً وأخترقتها زرقة عيناه الحادتان:

- فاكرة نفسك في اوتيل.. نايمة في اوضتي ولابسه حاجتي، مستنية الفطار يا ست هانم؟!

صرخت به في غضب ثم نهضت أمامه وقد نفذ صبرها: 

- ما تتلم بقا.. أنت ايه يا بني آدم أنت؟ من امبارح وأنت زي ما تكون مستقصدني، ما تغور تشوفلك واحدة صايعة من اللي بيعرفوا يظبطوا مزاجك، قاعدلي ولازق ليه؟ ما تغور في داهية تاخدك!

حدقته في احتقار ولم يكترث هو ثم حدثها بإستهزاء:

- ده بيتي يا حيلة أبوكي، واللي بيظبطوا مزاجي بيجولي برجيلهم مش جاسر شرف الدين اللي يروحلهم، أظنك شفتي بعينك

رفعت حاجباها في تعجب ونظرت له بإشمئزاز وحدثته في خشونة:

- خلاص ماشية وسيبهالك واشبع ببيتك

 لم تدع له الفرصة ليُعقب على كلماتها وتوجهت على الفور لتغادر خارج غرفته فأوقفها ممسكا بشعرها مرغما جسدها على الإلتفات وحدثها بهدوء مُريب:

- فاكراها تكية! انتي مرات جاسر شرف الدين، يعني مفيش خطوة تتاخد غير بأذني

 تصنعت الدهشة في سُخرية لتتهكم منه بعسليتاها الجريئتان:

- لا والله!

رفع احدى حاجباه لعدم خنوعها ولو للحظة أمامه فتابع وبصعوبة حافظ على هدوءه الذي نافى تلك الطريقة التي يجذب بها شعرها:

- آه والله.. ويكون في علمك، كل حاجة هنا بآمري ومزاجي وبس!

صرخت فجأة عندما شعرت بإقتلاع شعر رأسها بين يداه ولكنها لم تتوقف عن الكلام وصاحت به:

- ده أنت مجنون بقا! متخلف ولا ايه .. آه سيبني يا حيوان

توسعت عيناه في غيظ، هذه الفتاة تتعامل بصلابة لم يتلمسها حتى في الرجال ويبدو أنها لن تشعر بالخوف منه إلا لو ارتكب بها احدى الجرائم: 

- تاني، تاني نقص الرباية ده، محرمتيش من امبارح؟

حدق بذلك الجبروت والجرأة التي بعيناها، وكأن كل ما حدث أمس لم يهز شعرة برأسها بينما صاحت به:

- اللي ناقص رباية هو أنت، وبعدين بص يا جاسر بيه، لا أنا واحدة بتجري وراك ولا اتحايلت عليك عشان تتجوزني، ده حق أبويا، حق أمي اللي ماتت وهي بتولدني وملقاش يعملها عملية بعد ما أمك الحرامية سرقت كل فلوسـ... آآآه.. 

وكأنما سيطر عليه الشيطان عندما تفوهت بتلك الكلمات، انهال عليها بصفعات متتالية حتى ارتمت أرضا، لم يدرك ماذا يفعل بها، تلك الدماء التي كست وجهها لم تمنعه حتى من ركلها بقدمه بمنتهي القسوة، لن يقبل أبدًا ولو تعرض للموت أن تأتي عاهرة مثلها لتقف أمامه لتنطق اسم والدته او حتى تذكرها بمثل هذا الإستخفاف والتبلي عليها بأنها سارقة..

أحقًا لا تعلم أن الوغد الذي انجبها هو من فعل فعلته القذرة بمنتهى الحقارة ثم ترك والدته؟ أتظن أنه لا يعلم ما حدث لوالدته وتأتي هي الآن لتتحدث نها هكذا؟! سيُريها.. سيعذبها أو يقتلها أو يفعل أي شيء ولكن لن يسمح لها أن تذكر والدته التي تحملت الكثير والكثير لسنوات.. 

لهث بعنف وهو يتمنى لو أزهق روحها بين يداه بسبب فعلتها ثم صرخ بها بصوت جهوري وحدة :

سيرة أمي متجيبهاش على لسانك القذر يا واطية، أمي اللي ضافرها برقبتك أنتي وأبوكي وأمك..

غمقت فيروزيتاه لتصبح أقرب للسواد، تخلل بياض عيناه حمرة الغضب، فقد السيطرة بسبب تلك النظرة بعينيها، لماذا كل هذا الجبروت؟ ألا تشعر بفداحة ما ارتكبه والدها بل وتجابهه بجسارة غريبة لم يرها بأعين إمرأة من قبل!! 

لكمها بقسوة، صفعها مرات ومرات، ركلها كالمجنون الكفيف الذي لا يرى ما يفعله، قبض على شعرها ليرغمها على النهوض وأخذ يصفع رأسها بالجدار ثم نظر بوجهها مرة أخرى وهو يلهث من شدة غضبه: 

- لو جبتي سيرة أمي تاني هقتلك أبوكي قصاد عينك وهدبحك بعد ما أخلص عليه

 ترك شعرها لتسقط كالجثة الهامدة ولم يكترث لها وتركها وأوصد الباب بالمفتاح ليخرج هاتفه ثم تحدث إلي "معتز" بنبرة تسودها الغضب:

- متجيش ومتجبش حد 

أنهى المكالمة دون إكتراث لإستماع حرف منه ثم ألقى هاتفه ليجلس بغرفة مكتبه محاولا أن يهدأ ولكنه لا يستطيع ثم صرخ غاضبا بغيظ وحرقة:

- يا بنت الكلب يا وسخة!!

سحق أسنانه كلما تذكر طريقتها في التحدث عن أمه وبنفس الوقت رآى كل مرة تألمت فيها والدته وهي تبكي بحرقة كلما ذُكر الأمر!

تمتم بجسد متشنج متوعدًا: 

- وحياة أمي لا اخليكي خدامة تحت رجلي ورجليها!

 نهض وهو يحاول السيطرة على أنفاسه المتلاحقة ثم توجه خارجا لصالته الرياضية حتى ينفث عن غضبه ماشيًا بخطوات سريعة وكأنه يزلزل الأرض أسفل منه وبعقله لا يتذكر سوى اتهامها اياها بالسرقة بمصاحبة دموع أمه التي ظُلمت وانتُهك شرفها من هذا الوغد الذي يقسم بأنه لن يهدأ أبدًا حتى يأخذ حق والدته منه!

لم يُفكر بها ولو لثانية، لم ير فداحة ما فعله وارتكبه بها بمنتهى الهمجية والعنفوان الضار الذي ليس له أي أساس من الصحة، ليس من حقه ما فعله بها.. وحتى لو اغتصب والدها والدته لا يُطي له الحق أن يفعل بها هذا..

سالت الدماء الدافئة على عينيها لتزحف مستندة على كفيها الصغيران حتى وصلت قرب السرير، لأول مرة بحياتها تختبر تلك الإهانة بمثل هذه القسوة، لم يسبق وأن تعرضت لذلك الضرب المبرح، شعرت بأوجاع بجسدها بأكمله تسير بها تؤلمها آلم شديد، لم تستطع حتى النهوض، حاولت كثيرا لمرات ومرات ولكن جسدها الضئيل لم يتحمل، لم تستطع ذراعاها حملها، أخذت تتنفس بعمق وفجأة أظلمت الرؤية بعسليتاها واختل توازنها وتهاوت بآلم على الأرض ثم فقدت وعيها..

     

جلست "نور" وهي تنظر إلي والدها في حُزن ثم قبلت يداه وأمسكتهم ثم همست له:

- وحشتني اوي يا بابا..

بالكاد استطاع رسم ابتسامة على شفتاه ثم جاهد ليُحدثها:

- وانتي.. انتي.. كما.. كمان يا نور..

 تحدثت له بلهفة بينما دمعت عيناها على حاله من هذا الإرهاق البادي عليه:

- ريح نفسك يا بابا بلاش مجهود أرجوك..

أخبرته "رزان" ابنة خالتها التي آتت بصحبتها ثم جلست بهدوء:

- ألف سلامة على حضرتك يا أنكل..

تحدث "شرف الدين" بصعوبة ملتقطاً أنفاسه المتلاحقة بمجهود كبير

- نو.. نـ ـور..

 اجابته بلهفة وهي تشعر بالرعب فهي لم تره بمثل تلك الملامح من قبل ولم يتضح عليه الآلام مثل ما تظهر الآن:

- أيوة يا حبيبي.. قولي محتاج ايه؟

 بينما نظر نحو "رزان" ففهمته فالتفتت نحوها لتقول مسرعة:  

- معلش يا رزان، لو سمحتي استنيني برا

 تعجبت "رزان" ثم فعلت على الفور في حرج وهتف "شرف الدين" بهمس لا يبشر بالخير أبدًا وصعوبة في النطق هائلة تخللها لهاث عنيف:

- سيرين.. بنت هشام، خدي ببالك، ملهاش ذنبـ .. أنا مش.. هاكمل، أنا..

تلعثم بصعوبة بالغة لتخرج الكلمات متقطعة من شفاهه: 

- هويدا لـللأ.. ابعديــها عنـ ـها، ظلمته، وصيتي، أنتي يا نور، هتاخدي بالك منها.. جاسر صعــب.. مش هتستحملــ..

 دمعت عيناها أكثر لرؤيته يلفظ أنفاسه الأخيرة ويده ممسكة بيديها وبدأت تشعر به يفقد الحياة لتصيح في صدمة: 

- مالها سيرين يا بابا، بابا.. عرفني، احكيلي..

تحول حديثها الملهوف إلي صرخات هيستيرية:

- لا يا بابا، متسبنيش، حرام تسيبني لوحدي كده، قوم يا بابا وأنا هاعملك كل اللي أنت عاوزه، رد عليا، متسكتش يا بابا.. بابا بابااا 

صرخت ببكاء حتى سمع كل من بالطابق صوتها لتدخل "رزان" على الفور وجذبتها بعناق وقالت:

- اهدي يا نور، ربنا ريحه، ادعيله..

اجهشت بالبكاء وتحدثت في هيسترية من صدمة فراق والدها وتلعثمت والدموع تجري على وجنتاها:

- بابا سابني يا رزان، بابا.. بابا مـ ـات 

 ألتفت الممرضات حولهما بالغرفة بملامح متأسفة ثم فجأة دلف "هشام" بالغرفة في نفس الوقت وتباعدت شفتاه في صدمة وترورقت عينيه بالدموع وهو ينظر إلي جسده المُغطي أسفل تلك الشراشف البيضاء ليتمتم في صدمة:

- ازاي، ده كان كويس امبارح؟

تساقطت احدى دموعه وهو للتو قد فارقه أقرب أصدقاءه ثم همس في آسى:

- الله يرحمك يا شرف

توجه نحو "نور" التي تبكي في هيستيرية ثم رت على كتفها في حنان:

- تعالي يا بنتي، مينفعش اللي بتعمليه ده

صرخت وهي لا تدري أين هي ولا إلي من تتحدث ولا تشعر بأي شيء حولها لتصيح بحرقة:

- خلاص شرف الدين مات، بابا مات خلاص..

بالرغم من ذلك الحزن الذي هشمه ولكنه همس لها ثم احتضنها بحنان أبوي:

- الله يرحمه يا بنتي.. ادعيله

اجهشت بالمزيد من بالبكاء في صدره فتذكر "هشام" أن عليه إبلاغ "جاسر" بسرعة فهو ابنه الوحيد وتذكر أنه حتى لم حصل على رقمه بعد فهاتفه من هاتف "شرف الدين" وهو لا يزال يحتضن ابنته وآتاه صوته مُجيبًا:

- نعم يا بابا

حاول اخباره برفق بدلا من أن يخبره الخبر بمجرد مكالمة صوتية فتحدث بإهتمام ونبرة حزينة: 

- أنا هشام يا جاسر، هات سيرين وتعالى..

بالهاتف بينما أغتاظ الآخر وسحق أسنانه بمجرد سماع صوته وسأله ببرود ودون إكتراث:

- ليه؟ 

لم يأتيه الرد مباشرةً وتريث "هشام" لبرهة وهو يحاول صوغ الكلمات وانتقاءها بينما الآخر ُفكر  محاولا أن يتعرف على سبب اتصاله فاستمع لصوت بكاء بجانبه ليدرك أنها "نور" اخته من تبكي فهتف بنبرة لا تدل على التأثر متسائلًا بنبرة اخبارية وبالرغم من بروده إلا انه عقد قبضة يده ولم يتقابلا جفناه: 

- أبويا مات مش كده؟ 

تنهد "هشام" في حزن ثم اجابه هامسًا بنبرة مختنقة بالدموع:

- البقاء لله يا ابني

لم يتحدث له ولم تتفوه شفتاه بأي كلمة وأنهى المكالمة دون مقدمات ودون حتى أن ترك أي خبر بقدومه من عدمه ثم توجه لغرفته ففتح الباب الموصد وكاد أن يذهب لغرفة ملابسه ليجد تلك الملقاه على الأرض والدماء والكدمات قد كست وجهها بالكامل.. 

أيذهب لأبيه أم يحدث الطبيب؟ بالطبع سيسأل الجميع عنه، هو ابنه الرجل الوحيد، ماذا سيقول الناس عنه؟ كيف لتلك الشرذمة التي تهاوى جسدها أرضًا أن تأتي بمظهرها هكذا؟

زفر في حنق وهو كز أسنانه في غيظ تام من تلك اللعنة التي لولا ما حدث لوالدته لما كان وافق أن ينظر حتى بوجهها ثم هاتف "معتز" وحدثه بنبرة باردة لا يتسللها أي تأثر آمرًا ولم يعط له حتى الفرصة كلما أراد الرد عليه بأن تحدث:

- محدش يدفن أبويا، أنا اللي هدفنه بإيدي..  فهمهم إننا سافرنا من امبارح وهنيجي على أول طيارة.. نفذ اللي بقول عليه يا معتز من سكات..

ألقى هاتفه على الأريكة بعد أن انهى المكالمة ثم حمل "سيرين" بين يداه ووضعها على السرير لينظر لها بغضب واشمئزاز متمتمًا:

- حتى أبويا مش هاعرف أكون جنبه بسببك..

رمقها بكراهية شديدة ثم همس بحرقة من بين أسنانه المطبقة بعنف متوعدًا اياها: 

هيطلع عليكي كل ده.. واللي كان حايشني عنكم مات خلاص، مبقاش فيه داعي اصبر، حتى لو الدنيا كلها شافتك وأنا بموتك بإيدي معدتش فارقة معايا!! جاسر شرف الدين هياخد حق أمه تالت متلت حتى لو بطلوع روحك

رماها بمزيد من نظرات المقت والغضب ثم توجه لهاتفه مرة أخرى ليتحدث به آمرًا من جديد:

- تعالالي يا حسام بسرعة..  لأ في الشقة.. 

أنهى مكالمته مسرعاً ليسيطر على غضبه الهائل الذي شعر به منذ قليل.. ثم تفقدها بنظراته مرة ثانية وكلما يلمحها كلما تذكر تلك المعاناة التي مرت على والدته لسنوات بسبب من انجبها اللعين الذي ضرب بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ للشرف عرض الحائط وتعدى على زوجة من يدعوه صديقه بكل خسة بل ومن طيبة والده يظن أنه ملاك من السماء السابعة، ويأتي بالنهاية ليُذكره بإرتكابه جرمه بإلقاء كتلة كريهة من لحمه ودمه أمام عيناه لتذكره بذلك مرارًا فتحدث إلي نفسه بغيظ وهو يرمقها متوعدًا:

- بتمنعيني كمان عن دفنة أبويا.. مش كفايا السنين اللي شوفته فيها بيتخانق مع أمي نهار وليل بسبب أبوكي.. مش كفاية اللي استحملته أنا وهي من تحت راس الحيوان ده، حافظت على مشاعر ابويا لغاية اخر لحظة ومرضيتش تقوله على اللي ابوكي القذر عمله فيها، كفاية إنها بعدت هشام الكلب عن حياتهم واستحملت هي.. كفاية انها هتشوفك قصاد عينها بتاخدي تعبها وشقاها، بس على مين.. 


أنا هموتك بالبطيء، هطلع روحك في سنين، لو كان الزبالة اللي مخلفك للدنيا أغتصب أمي فأنا هدفعك تمن ده غالي..  هموتهولك قصاد عنيكي وأنا باخد حق سنين عذاب منه، هخليكي يتيمة الأم والأب.. محدش هيقدر يوقفني ولا يمنعني.. بس هاخد حقي وحق السنين اللي خبيت فيها عن أبويا كل ده، هاخد حق السنين اللي كنت عيل مش فاهم أهلي بيتخانقوا ليه.. هعذبك بإيدي لغاية ما اموتك يا بنت هشام..

     

#يُتبع . . .