-->

الفصل الأول - جسارة الإنتقام

 


- الفصل الأول -

بغرفة من غرف المستشفيات التي لا يستطيع التواجد بها سوى قِلة قليلة من الأثرياء للمبالغة في تكاليفها تحدث رجلٌ طيب الملامح في إرهاق من شدة مرضه وتوسل في تضرع:

- أنا عارف ان اللي هويدا عملته مكنش ينفع يتعمل وبالذات معاك، حبي ليها عماني، مكنتش شايف قدامي غيرها وحتى أنت يا صاحبي فرطت فيك، كنت غبي.. ساذج.. سامحني واترجاك قبل ما أموت ليا طلب ومش هاكون مرتاح غير لما تنفذه..

نظر نحوه صديقه مبتسمًا بقليل من الحزن ثم حدثه في محاولة للتخفيف عنه قائلًا:

- اللي فات مات يا شرف، خلاص، مبقاش ليه لازمه الكلام ده دلوقتي، وزي ما قلت اني صاحبك، يبقى أزاي ماسمحش وأنسى.. وبعدين موت ايه يا راجل اللي بتتكلم فيه، بكرة تقوم وتبقى زي الوحش وتفرح بجاسر وتربي عياله على ايدك..

بادله الإبتسامة وهو يحاول التغلب على آلام جسده ثم همس في مزيد من التوسل:

- صدقني حاسس إنها قربت علشان كده كلمتك تجيلي وهوصيك يا هشام تجوز بنتك لإبني، يوم ما يكون عندهم طفل هو ده اللي هيشيل كل حاجة، هيكون حفيدك، يمكن يمحي كل اللي عملته هويدا في يوم..

اندهش هشام وصُعق مما سمعه لتوه، من يتزوج؟ جاسر شرف الدين يتزوج إبنته؟ ابن صديقه الوحيد؟! لن يستطيع! هل سيفرض عليها؟ هي أبنته، كيف له أن يظلمها؟ ابتلع بمرارة وظل يفكر كيف يرفض عرضه بينما آتاه صوته المتوسل الذي ينقل كل آلامه بنبرة اقشعر لها جسد "هشام" ليهمس "شرف الدين" من جديد:

- اوعدني.. اوعدني يا هشام اني هشوفهم متجوزين قبل ما أموت، مش هرتاح في تربتي غير لما أحس إني عوضتك عن الظلم اللي أتظلمته، لازم أرجعلك حقك، حاولت كتير وأنت مش قابل ماديات لكن.. عمري ما هرتاح غير لمااا.. 

سعل بشدة وبدأت الدماء في التساقط على مريول المشفى الباهت مما أدى لتوقفه عن الحديث ليسعفه "هشام" مُسرعًا بوضع المتنفس على وجهه ويصيح كي يأتي أي من الأطباء ليلاحظ أن "شرف الدين" صديقه يشير له ولا يزال يتكلم بعد وضع جهاز التنفس.

ذهب للخارج بعد تعليمات الأطباء وجلس مطأطأ الرأس ليفكر في ما أخبره به صديق عمره وفيما سيعرضه على ابنته، ولكن هل سيستطع أن يزوج ابنته من "جاسر"؟ هل ستدع "هويدا" ذلك يمر مرور الكرام؟ أخذ يُفكر بكل تلك التساؤلات التي يطرحها على نفسه ثم تمتم"

- أكيد عقلت واتهدت بعد السنين دي كلها

  ذهب بذاكرته ليُفكر فيما حدث منذ سنواتٍ عدة، كيف ظُلم؟ كيف بدأ كل شيء من الصفر بعد أن ضاع كل ما يملكه في لمح البصر.. يكفي فقط أن "سلوى" زوجته ماتت بسبب ما فعلته معه..

     

 صاح صوت أنثوي يبدو وكأنه يُسابق الزمن ليلحق شيء ما: 

-راحت فين دي دلوقتي..

أخذت "سيرين" بضيق وهرجلة شديدة تبحث عن حذائها الرياضي وأفسدت الغرفة بأكملها بينما صدح هاتفها بالرنين فردت مجيبة: 

- آلو.. يا رامز جاية بقا متزنش.. خلاص اهو بلبس الـ Shoes ومسافة السكة.. حتى لو جيت متأخرة شوية ثبتهم بكلمتين على ما أوصل

أنهت المكالمة بسرعة وهي تضع هاتفها بالجيب الخلفي لبنطالها الـ "جينز" ثم صرخت بأعلى صوتها بعد أن توجهت خارج باب غرفتها
- يا دادة .. دادة منى .. يا دادة أتأخرت 

 آتت إمرأة بمنتصف الخمسينات من عمرها تهرول على تلك الصرخات لتتحدث في ارتباك بتساؤل:

- إيه يا بنتي خير فيه ايه اللي حصل؟

 تحدثت بعصبية بينما عكصت شعرها بفوضوية للخلف فأجابتها على عجل سائلة:

- امبارح أنا قلعت الـ Shoes بتاعي قدام السرير .. راح فين بقا؟

تنهدت "منى" في آسى ثم اجابتها:

يا بنتي اعتقيه.. أنتي بنت هشام منصور، ازاي يعني تفضلي تلبسي نفس الحاجة لغاية ما تتبهدل، البنات في سنك بيـ..

قاطعتها بضيق وهي تغلق حزام بنطالها الواسع ثم أرتدت جاكيت جلدي أسود لتردف:

- دادة الله يكرمك أنا متأخرة مش وقت مواعظ وحكم 

زفرت "منى" ونظرت لها بجدية وحزم ثم اخبرتها:

- رميته يا سيرين! ارتحتي.. ألبسي بقا حاجة كويسة ده أنتي أوضة لبسك مليانة حاجات حلوة وممـ.. 

غاب صوت "منى" عن مسامعها وهي تختفي بداخل غرفتها لتخرج حذاء رياضي جديد من غلافه وأخذت ترتديه بسرعة حتى أنها تركت اربطته دون أن تعقدها وتوجهت لها ثم أنحنت تُقبل رأسها وحدثتها قائلة:

- بصي يا دادة بطلي أرجوكي تعملي الحركات ديه.. أنا حرة ألبس اللي ألبسه، محدش ليه دعوة بيا

للحظة شعرت بأنها تبالغ معها فزفرت لتخبرها بعجل ولكن بنبرة تحمل الندم على صراخها وطريقتها معها منذ الصباح فقالت: 

- سيبيني براحتي وادعيلي.. ادعيلي كتير اوي عندي اجتماع مهم  

هرولت للخارج أسفل أنظار "منى" لتتمتم خلفها بصدق:

- ربنا يجعلك يا بنتي في كل خطوة سلامة ويهديكي زي باقي البنات..

التفتت ثم القت نظرة على غرفة سيرين التي أمتلئت بالفوضى مجدداً مثل كل يوم فتوجهت للمطبخ وهي تتحدث بحزم: 

يالا يا نهلة أنتي وأميرة.. قدامنا شغل كتير..

تفقدتها كلًا من الفتاتان ثم صاحت "أميرة" احدى مسئولات النظافة بضيق: 

- أوعي تقوليلنا أوضة سيرين.. والله حرام بنضفها يجي تلت مرات في اليوم

نظرت لهما في زجر ثم تابعت الحديث بمزيدًا من الحزم:

- هنقول للشغل لأ.. يالا قدامي.. 

ما إن صاحت بهما حتى توجهتا بحنق ولكن دون أن تُظهرا ذلك احتراماً لـ "منى" الذي يُعاملها الجميع على أنها أم لهم جميعًا وبالرغم من ذلك الإمتعاض الذي ظهر على وجه الفتاتان فعلتا ما آمرت به..

     

 

تحدثت سيرين متنهدة براحة:

- أوف.. أخيرًا.. بس صفقة ايه، لوز العنب!

توسعت عينا "رامز" صديقها من طريقتها في التحدث ثم صاح بها:

-ايه يا بنتي ده، ما تبطلي بقى، إيه!! بكلم صاحبي على ناصية..

رمقها زافرًا وهو قد سأم من طريقتها ليردف:

- وبعدين ايه اللي انتي لابساه ده؟ ده منظر صاحبة شركة في اجتماع مهم زي ده عاملالي كحكة وكوتشي وبنطلون جينز! ناقصلك دقن وتبقي راجل

زفرت في ملل من تعليق الجميع حولها عن مظهرها الذي لا ينفكوا يذكروها بضرورته وقالت:

- يوه بقى يا رامز هلاقيها منك ولا من دادة منى

حاول أن يوضح لها ما يقصده بملامح تلقائية علها تستجيب يومًا ما:

- يا حبيبتي أنتي بنت.. بنوته.. زي القمر بعنيكي العسلي ديه وشعرك الطويل الأسود وأحلى من مليون واحدة، ياما نفسي كده أشوفك داخلة عليا بطقم Formal جامد كده وكعب عالي بقا ويا سلام الشرابات السودا الـ sexy دول بحبـ..

 قاطعته رافعة احدى حاجبيها بملامح نافرة لمجرى ذلك الحديث وصاحت به:

- حيلك حيلك.. جي تحقق أحلامك هنا!!

زجرته بلهجة شديدة لا تتحدث فتاة بها سواها هي فحسب ثم تابعت:

- ده مكان شغل، وبعدين هما ليهم الأكل ولا البحلقة، صحيح اتاخدوا من منظري في الأول بس ايه.. ثبتلهملك.. دول مضوا عقد سبع سنين معانا، متخيل.. ده احنا كده بالصفقة ديه بقا معانا أكبر شركات البلد..

ابتسم في النهاية وهو يهز رأسه في عدم تصديق لتصرفاتها ولكنه تحدث في ود أخوي وهمس إليها مبتسمًا:

- عفريته أنتي يا سوسو

تأففت وامتعضت ملامحها لتنهاه عن قوله بنبرة تمتلئ بالإعتراض وقالت:

- يوه بقا قولتلك بلاش سوسو ديه، بحس كده إني فتاة ليل لما بتقولها 

انفجر رامز ضاحكًا ثم تكلم أثناء ضحكه:

- ألفاظك.. ارحمي نفسك أنتي بنت..

عقدت حاجبيها في انزعاج لتزجره ثم بعدها تحولت نبرتها وتحدثت له في اهتمام أخوي:

- ملكش دعوة بألفاظي.. أحكيلي بقا أخبار ست نيرة ايه؟

تنهد بحزن ثم اجابها في همس:

- مطلعة عين أمي يا ستي

زفرت هي الأخرى ثم سألته مرة ثانية:

- ليه بس، حاجة حصلت تاني؟!

أومأ لها بالموافقة ثم اجاب ليقول:

- هحكيلك..

     


ظل جالساً وهويُفكر بكل شيء، أليس هذا حقه؟ أليس هذا ما ورثه عن أبيه؟ لو كان بدأ وحده لكان يملك أضعاف ما يملكه الآن.. كان سيستثمر بالعديد من المشروعات الأخرى، لقد سُرقت أحلامه وأمواله بسببها هي وحدها، هذا حقه، شركات العقارات واستثمارات شرف الدين، خططه وطموحاته، سرقتها بمنتهى الحقد وسلبت كل شيء منه بمنتهى الجشاعة..

ولكن أيساوم بإبنته؟ لا يملك غيرها بجانبه، منذ أن ماتت سلوى وهو يراها ساعده الأيمن، فتاة بمائة رجل مثل ما يُقال، ولكن أيزوجها لجاسر شرف الدين؟ فارق السن، سمعته، ما يزاع عنه بأنه رجل مُخيف كالوحش ولا يستطيع أحد الوقوف أمامه..

لحظة تمتم لنفسه مُفكرًا بإبتسامة مقتضبة:

- ده البنات كلها تتمنى يبصلهم بصة

تابع من جديد حديثه داخل نفسه في تفكير:

- سيرين برضو ذكية وهتقدر.. يمكن الفكرة متعجبهاش في الأول بس بعد الجواز كل حاجة بتتغير..

حسم أمره ثم قرر أن يفاتحها بالأمر فأتصل بها ليأتيها صوته المجيب:

- بابا حبيبي.. عامل ايه؟

تعجب قليلًا من نبرة صوتها فتحدث لها سائلًا:

- الحمد لله يا حبيبتي.. بتنهجي كده ليه؟

اجابته بأنفاس لاهثة:

- أصل أنا في الـ Gym قربت أخلص أصلاً.. فينك كده ومجيتش الشركة ليه النهاردة؟

أجاب سؤالها بنبرة حملت القليل من التردد:

- ما أنا كنت مكلمك عشان كدة، ممكن تجيلي مستشفى الحياة أول ما تخلصـ.."

قاطعته بلهفة صارخة:

- إيه ده بابا أنت كويس؟ أنت مخبي حاجة عليا مش كده؟

حاول أن يطمئنها متحدثًا بنبرة تلقائية وشرح لها ما حدث: 

- يا حبيبتي متخافيش، أنا كنت بزور واحد صاحبي ومعاه من الصبح.. كنت بفكر تيجي تسلمي عليه، نفسه يشوفك اوي، ها بقا قدامك قد ايه؟

زفرت في راحة شديدة ثم اجابت سؤاله:

- خضتني يا بابا حرام عليك.. نصاية بالكتير وأكون عندك

ابتسم لتسرعها الدائم وخوفها الشديد عليه وحدثها بإهتمام ثم حذرها:

- مستنيكي يا روح بابا، متقلقيش عليا، وأرجوكي يا سيرين سوقي على مهلك الدنيا مش هطير أنا عارف سواقتك..

أومأت في عدم إكتراث ثم أنهت المكالمة وهي تقول:

- حاضر متخافش عليا.. سلام عشان ألحق استحمى وأغير هدومي وآجي أحسن كلي عرق!

أنهى المكالمة بإبتسامة لتصرفاتها الصيبيانية التي لا تنتهي وهو يتنهد متوجها لصديقه مرة أخرى، دخل الغرفة ليجده أفضل قليلاً فجلس على الكرسي بجانبه ثم حاول أن يرفع من روحه المعنوية قليلًا ويغير من ذلك الحزن الطاغي على وجه صديقه حتى ولو ببضع كلمات فقال: 

- لاا، ده احنا بقينا عال اوي بقا وهنخرج كمان يومين ولا ايه؟ 

ابتلع بصعوبة ثم تحدث له بحزن وشعر "هشام" بالمجهود الذي يبذله بالحديث وهو يقول:

- ما خلاص يا صاحبي.. أنا حاسس إني مش هاخرج من هنا على رجلي

بالرغم من علم الجميع بأن مرضه لا شفاء له ولكنه حاول من جديد فقال: 

- أنت بس متتعبش نفسك وهسيبك ترتاح شوية وهتقوم بالسلامة إن شاء الله

بالكاد أستطاع أن يومأ له ثم همس:

- معادش فيه وقت، أنا حاسس إني خلاص مش هاكمل أيام في الدنيا دي.. بص يا هشام، الموبيل بتاعي على الترابيزة اللي هناك، كلملي جاسر، أنا عاوزه يجي حالاً وهابلغه بقراري انه لازم يتجوز بنتك!

امتعضت ملامح "هشام" وهو يحدثه قائلًا:

- برضو يا شرف الدين! أنت مصمم!

واجه صعوبة من جديد لذلك المجهود الذي بذله للتحدث وهمس:

- ريحني قبل ما أموت.. كمان حاسس إن بنتك هي اللي هطمن لواحدة زيها وهآمن على ابني معاها.. علشان خاطري اسمع كلامي

     

تحدث إلي صديقه وابن خالته في حماس شديد ثم قال:

- بس معلم يا جوجو.. لهفت المناقصة منهم..

نظر له بغطرسة رافعاً احدي حاجبيه لينهره بصوته العميق:

- جوجو! ما تسترجل يا معتز! 

ابتسم ثم صاح "معتز" ممازحًا اياه مرة أخرى

- ياغتي.. أحب أناغشك 

لم يكترث لملامح "جاسر" المشمئزة منه وتابع:

- بس أسد.. لعبتها صح، تعرف؟! أنا صاحبك آه وابن خالتك بس عمري ما اتعلمت حاجة من جاسر شرف الدين

لوى شفتاه في تهكم ثم حدثه ببرود:

- عشان دماغ بهيمة.. منظر على الفاضي

عقد حاجباه في إنزعاج طفيف ثم سأله:

- شوف بقا الغلط.. ماشي يا ابن خالتي، مش ناوي تعلمني شطرنج زيك؟

صاح بجمود متأففًا من مزاح "معتز" الذي لا ينتهي:

- بص أنا في ايه وأنت بتكلمني في الشطرنج

شعر بالندم ليعتذر له ثم تسائل بإهتمام:

- حقك عليا يا جوجتي.. أخبار شرف بيه ايه صحيح؟ متحسنش؟

 مقته بنظرة متقززًا من مناداته إياه بتلك الأسماء التي لا يتوقف عن خلقها له ثم زفر دخان سجائره ببرود واجاب بهمس:

- الدكاترة بيقوله في آخر أيامه، هاروحله لما أخلص..

انفعل "معتز" من طريقته الجامدة ثم زجره:

- يا ابني أنت ازاي كده، ايه، بارد، القارة الجنوبية المتجمدة، ده أبوك يا بني آدم، ده أنت فرخة بكشك طول عمرك بالنسباله وأنت الوحيـ..

قاطع حديثه هاتف جاسر الذي تعجب لإتصال والده الذي لم يخرج من شفتاه كلمات تعبر عن أي شيء سوى قوله ببرود متمتمًا:

- حاضر 

أوصد هاتفه ونهض مرتديًا سترة بزته الفخمة ووضع هاتفه بجيبه، ليتحدث معتز بغرابة من نهوضه المفاجئ في تساؤل مزاح مجددًا وغمز له:

- على فين العزم.. مزة من اياهم، يا جامد اجسور

أخبره ببرود من جديد في طريقه للخارج: 

- ده أبويا، صوته ميطمنش!

هرول خلفه "معتز" وهو يُصيح ليلحق بخطواته:

- أستنى يا طوبة أنا جاي معاك..

     

ترجلت من سيارتها اللافتة للأنظار، فليس هناك فتاة تقود سيارة بوجاتي فيرون سوداء اللون بكل شارع من شوارع الدولة التي لا يتوقف الجميع على النظر إليها كلما أدركوا أن من يقودها هي فتاة وليست برجل..

هرولت مسرعة لتلحق بالمصعد بعد أن عرفت أن والدها يتواجد بالدور الثاني عشر فبالكاد وضعت يدها لتمنع إغلاقه وما إن ولجت يدها لتمنعه نظر جاسر بتقزز وغرور لتلك اليد التي أوقفت المصعد عنوة ثم تفرس "جاسر" ملامحها وملابسها بتعجب وعدم إعجاب، قصيرة بالكاد تصل رأسها لصدره، ترتدي ملابس صبي بالمرحلة الثانوية، شعرها أسود فاحم اللون ولكنها أفتقرت لأي مظهر من مظاهر الأنوثة سوى عسليتاها البارقتان وأهدابها الكثيفة.. وكأنهما أنهار من العسل الصافي.. لولا نظرته الثاقبة لم يكن ليلاحظ أنها فتاة..

دلفت بطريقة فوضوية وهي تحمل حقيبة ظهر جلدية سوداء على ظهرها بإهمال وأخذت تتحدث أمام هاتفها ليدرك أنها تُرسل رسائل صوتية لأحد ما وافتقرت تمامًا لأي من مظاهر الأنوثة حتى بحديثها:

- لا بقولك أيه هتعملي توتو من دلوقتي ونيرة وأصل وفصل امال لما تتجوز هتعمل عليك حصار .. سيبك منها يا اسطى وتعالى و عدي هات الواد مراد معاك والسهرة هتبقى في بيتي النهاردة.. هجيب بس بابا وهستناكم!!

اتسعت عينا "معتز" من طريقتها التي تحدثت بها ونظر لجاسر الذي سيطر على وجهه البرود التام فليس من السهل أن تنعكس مشاعره على وجهه وخاصة عيناه، ليجده لم يكترث من الأساس وكالعادة بارد!..

وضعت الهاتف لتسمع شيئاً به ثم أرسلت رسالة صوتية من جديد:

- لا متقفلنيش ده برشلونة هتلعب الليلادي.. لو مجيتش وسهرت معايا أنا ومراد هاجبلك السنيورة بنفسها تقعد معانا

لوى "معتز" شفتاه متعجباً ثم وضعت الهاتف مرة أخرى على أذنيها لتبدو غاضبة وعادت لتتحدث في إنزعاج صارخة:

- أبو أشكالكو أصحاب عرر ومش عايزة أعرف ولا واحد فيكو تاني.. وكل اللي بنا شغل وبس، كان يوم أسود يوم ما عرفتكم 

نظرت للأعلى بحنق لتتلاقى عسليتاها بتلك الفيروزيتان الباردتان كالثلج، تفحصته لتجده من هؤلاء المتأنقين الذين تنبعث منهم رائحة المال الممزوج بالعطر..

مطت شفتاها ثم توجهت خارجاً ودلفت الغرفة كما أخبرها والدها ليتعجب "معتز" ثم حدثه في إندهاش ليقول: 

- الحق!! الواد يا بت اللي كانت معانا في الاسانسير داخلة عند باباك

لم يعيره جاسر اهتمام يُذكر وتجاهل كلماته تمامًا فاستطرد من جديد في تساؤل متعجبًا: 

- أنت تعرفها؟

مقته بمزيدًا من نظراته المشمئزة وأجابه بنفور وعجرفه:

- معرفش أنا المناظر ديه

صاح "معتز" متهكمًا ردًا على طريقته المستفزة:

- متأسفين يا جوجو بيه

نهره جاسر بنظره تحولت فيها فيروزيتاه لزرقة قاتمة وهما في طريقهما ليدخلا الغرفة خلفها ووقف جاسر واضعا يداه بجيبيه بمنتهى الغطرسة لتفوح رائحة عطره وتعبأ الغرفة فلم تكترث "سيرين" للنظر له وأقتربت من شرف الدين وهي تخبره بإبتسامة عذبة: 

- عمو ألف سلامة على حضرتك، معلش جيت مستعجلة، ملحقتش أجيب حاجة معايا.. تقوم بألف سلامة 

رد عليها بمجهود يتضح أنه يتكبده بصعوبة شاقة وقال:

- الله يسلمك يا سيرين يا بنتي.. ما شاء الله، نسخة من والدتك طبق الأصل..

نظرت له بعسليتان متوسعتان ثم تسائلت بلهفة:

هو.. هو حضرتك شوفت ماما؟ كنت تعرفها؟

أومأ لها وهو يبتلع أثناء محاولته في التقاط أنفاسه واجابها:

- طبعاً الله يرحمها، كانت أطيب خلق الله وست مفيش في جدعنتها

أومأت له بإقتضاب ثم همست ببصيص من الحزن:

- ربنا يرحمها..

امتثلت هي الصمت بينما لاحظ "معتز" هدوء الأجواء فتحدث إلي "شرف الدين" بنبرته الطيبة:

- ألف سلامة على حضرتك يا جوز خالتي.. ايه يا شرف بيه موحشكش البيت ولا أيه؟

تريث قليلا قب أن يجيبه كأنما يستريح من بذله للمجهود سابقا ولكنه في النهاية همس:

- معتز.. فيك الخير إنك بتسأل عليا.. مش زي جاسر اللي بيجي بس لما بطلبه.. عموماً كويس إنك جيت..

نظر نحو ابنه ثم وجه الحديث له وقال:

- تعالى سلم على سيرين 

عقدت سيرين حاجباها في استغراب مما تفوه به "شرف الدين" بينما تسائل "جاسر" متجاهلًا تماما ما أخبره به والده:

- عامل ايه يا بابا؟ وايه الضروري اللي محتاجني فيه؟

مقتت فعلته و كأنما لم يتحدث عنها والده وكأنها شفافة.. بغضت تلك الطريقة التي امتلئت بالجمود كثيرًا وشعرت وكأنها غير مُرحب بها وشعرت بالإحراج فقالت:

- طيب استئذن أنا يا عمو.. هاجي ازور حضرتك مرة تانية.. سلام

  صدح صوت والدها من خلفها ويبدو وكأنه قد آتى لتوه من الخارج:

- اديك يا سيدي شوفت سيرين.. 

التفت "جاسر" لذلك الصوت الذي يمقت صاحبه ونظر لوالدها نظرة هي الوحيدة التي لاحظتها، امتلئت بالكره الشديد وإرادة خفية في الإنتقام!! 

تحدث من جديد بتلقائية وهو يبتسم له في ود وسأله:

- ازيك يا جاسر يا ابني، عامل ايه؟

اجابه بمنتهى الجمود لتتعجب "سيرين" من طريقته:

- كويس يا هشام بيه

لم تحتمل ذلك الشخص المتغطرس البارد بنظرة الكراهية تلك فتحدثت إلي والدها وهي تقول:

- بابا.. هستناك تحت

تابعت وهي تنظر نحو "شرف الدين" وقالت بلباقة:

- ألف سلامة على حضرتك يا عمو.. بعد إذنك 

استئذنت بعد أن بغضت جو الغرفة الغريب الذي شعرت بالاختناق منه فجأة، فتحدث "هشام" ليلحق بها ويوقفها

- لا خلاص أنا نازل معاكي.. سلام يا شرف وهعدي عليك بكرة.. 

ودع صديقه ثم توجه مع ابنته للخارج بينما سألته في تعجب:

- ايه يا بابا مين الناس ديه؟ عمرك ما حكيتلي أنك تعرف شرف الدين وابنه جاسر..

اجابها والدها وهما يدخلا المصعد ولا تزال تنظر له بأعينٍ متسائلة: 

- لا ده بقا موضوع يطول شرحه وعاوزله قاعدة

     

صرخ "جاسر" غاضبا وكان قلما يراه أحد بذلك الغضب فهو لطالما اتصف بالبرود:

- يعني ايه تحرمني أنا وأمي من الميراث علشان بنت هشام منصور

بالكاد أستطاع والده التحدث ليقول بتلعثم:

- اسمعنـي أنا مبقـ ـا ش فيـ ـا حيل للمناهــ

دخل بنوبة من السعال الشديد ليوقفه "معتز" عما يفعله وزجره بهدوء:

- جاسر مش كده.. أبوك تعبان، بهدوء وبشويش عليه.. 

دفعه "معتز" للخارج بصعوبة، فليس من السهل أن يدفع بكتلة العضلات هذه دون عناء ومشقة بينما صاح بالخارج: 

دكتور يا جماعة الحقونا

انتفض على صياحه ممرضتان ناهضتان من مقاعدهما لتذهب لهما على الفور وأخذا يضعان الأكسجين ليتمكن "شرف الدين" من التنفس وأعطته أحداهما منومًا سريع المفعول وتحدثت في جدية شديدة:

- لو سمحت يا فندم بعد إذنك.. ممنوع الإجهاد عليه تماما

 ابتسم لها "معتز" بإقتضاب وتحدث بقليل من الإعتذار ليقول:

- معلش.. متآسفين.. شوية مشاكل أُسرية

هزت الممرضة رأسها بإنكار وغادرت الغرفة ليطفئ الأنوار ويتوجه إلي "جاسر" الذي صاح ما إن رأى ابن خالته:

- أنا أتجوز بنت الراجل الوسخ ده!!

تعجب مما استمع له ورأى غضبه الشديد فأخبره في هوادة:

- اهدى بس وفهمني.. ماله أبوها، مش ده هشام منصور صاحب شركات الدعايا والإعلان

اجابه بإمتعاض وقال:

- أيوة هو

همهم في تفهم ثم تابع حديثه إليه:

- طيب وبنته ديه تقصد اللي كانت من شوية جـ.. نهاار أسود! عايزك تتجوز يا واد يا بت اللي كانت معانا في الاسانسير!! 

أومأ له "جاسر" غاضبا لينفجر "معتز" ضاحكًا بشدة وتحدث بنبرة لا تزال تحمل رنات ضحكته:

- ده أنت هتبقى نكته يا معلم، هترسى على ديه في الآخر وأنت الوحش الكاسر وبتتمرمغ تحت رجلك مزز، ده ممكن تنتحر يا عيني لو شافت ضفر واحدة من اللي بتقضي معاهم ساعتين وأقلب، ده والله تموت بساكتة قلبية

كاد "جاسر" أن يلكمه من مزاحة وضحكه ولكن نوعًا ما كلماته أوحت له بفكرة ليشرد في تفكير وتحدث بصوت خافت ليقول:

- تصدق يا دماغ البهيمة أنت أول مرة تقول حاجة عدلة

 نهض جاسر بعنجهية وضيق عينيه بخبث بينما تعجب الآخر متسائلًا:

- لا لأ.. تهدى كده وتفهمني فيه ايه، وكمان ايه حوار أن أبوها وسخ، هو عمل ايه؟

لم ينظر إليه بتاتًا واكتفى برده البارد المقتضب:

- بكرة تعرف..

ظل يُفكر في شرود تعجب له ابن خالته الذي لا يعلم بما يتمتم به "جاسر" داخل نفسه:

- إن ما كسرتك يا سيرين يا بنت هشام الكلب وجيبت حق أمي هويدا الأنصاري مبقاش أنا جاسر شرف الدين

ابتسم بشر ثم نفث دخانه ببرود مستعدا لإبلاغ والدته هذا الخبر السعيد فتوجه للخارج ليلحق به "معتز" وصاح:

- استنى بس يا جوجتي هتسبني ورايح على فين!

     

 صاحت "سيرين" وهي تحدث ابيها في استنكار:

- أنا أتجوز جاسر شرف الدين! استحالة!!

تنهد والدها وبداخله لا يود أن يُفرض هذا الأمر عليها فحدثها بهدوء:

- بصي.. مش هاقولك إن كل اللي عندهم ده من حقنا، ولا هاقولك كلام كتير.. بس عاوز أقولك أن بسبب هويدا مرات شرف الدين سرقتني مالقيتش فلوس أعمل عملية لمامتك وماتت بعد ما ولدتك على طول!

رمقته في ذهول ثم سألته بصدمة:

- بابا أنت بتقول ايه؟ الكلام ده حصل بجد؟!

أومأ والدها في حزن وهو يجيبها:

- ايوة يا سيرين دي الحقيقة.. شرف الدين ناوي يتبرع بكل الفلوس ديه وكل شركاته وإلا تتجوزوا أنتو الأتنين، شوفي بقا أما تبقي مرات واحد زي جاسر الناس هتعاملك ازاي وهيخليـ..

قاطعته في نفور قبل أن يُكمل جملته الأخيرة:

- بابا، من امتى بتفكر بالطريقة دي؟ احنا معانا اللي يكفينا ويفيض، احنا عندنا شركات دعاية وإعلان تقريباً أكبر شركات بالشرق الأوسط كله، من امتى بتفكـ..

هز والدها رأسه وقاطعها كذلك وهو يهمس إليها بحرقة:

- جاسر شرف الدين أول ما أبوه يموت هيبقى عنده أكبر شركات في العالم كله.. إللي هي أصلًا بفلوسي.. وفكرتي وتعبي.. وعلى فكرة، أبوه هو اللي موصيني.. وقالي انه مش هيرتاح غير كده، وبرضو يا سيرين يا بنتي هطمن عليكي مع واحد زي جاسر، استحالة يحصلك حاجة وحشة، هاكون مطمن عليكي معاه، في الأول والآخر الست لازم تتسند على راجل، وأنتي يا بنتي وحيدة، واديكي شوفتي شرف الدين اللي من دوري بيطلع في الروح، والواحد مش ضامن عمره

همست بلهفة لتنهاه عن ما يقوله:

- يا بابا بعد الشر عليك، ربنا يديك الصحة، وبعدين رامز ومراد جنبي وزي اخواتي وعمرهـ..

قاطعها من جديد بقلة حيلة:

- يا بنتي ربنا ما يحرمكم من بعض، بس بكرة كل واحد يكون عنده بيته وولاده ومحدش بيفضى لحد 

حاوط كلتا وجنتاها بيداه في حنان ثم همس إليها: 

- وافقي يا حبيبتي.. خليني أطمن عليكي.. خليني احس إن تعبي في يوم مراحش على الأرض.. أنا عمري ما فكرت اخد حقي بس لو ترضي انتي هيجيلي لغاية عندي.. طلبي ده كتير عليا وعليكي؟!

نظرت له بتعاطف وتأثر وبعد قليل من التفكير أومأت له بإقتضاب لتقول بهمس واهن:

- اللي تشوفه..

بالرغم من عدم تفكيرها لكثير ولكنها كالعادة متسرعة، بعد ما قصه لها والدها لا تتقبل سوى أنها عليها أن تعيد كل شيء لأبيها مرة أخرى وحتى تشعر أن موت والدتها لن يضيع سدى بعد كل ما أخبرها به "هشام"..

     

#يُتبع . . .