-->

الفصل الثاني والأربعون - شهاب قاتم

  


- الفصل الثاني والأربعون -


     

~ عندما يصير الاحتفال بعيد الميلاد نوعا من الاحتفال بخطوة أخرى نحو القبر ..

(داء الأسد - سلسلة سافاري)

(د. أحمد خالد توفيق)

     

تقدم مُشجعًا اياها وهو يشير برأسه نحو الحصانان فتوسعت ابتسامتها وللحظة شعرت بأنها لا تستطيع كيف تشكره على ما فعله ورمقته بإمتنان شديد وسعادة طفلة صغيرة بلُعبة لم تعط لأحد سواها كجائزة ما ثم همست له:

- شهاب.. شكرًا.. أنا عمر ما حد فرحني كده..

همهم لها وأومأ ثم رفع احدى حاجباه بملامح ممازحة وقال:

- احنا هنضيع اليو في الكلام ولا إيه.. يالا علشان فيه مفاجآت تانية كتير 

توسعت عينيها في حماس وسألته بتلقائية: 

- مفاجآت إيه دي؟

أشار لها من جديد نحو الحصانان وبلهجة آمرة دون حدة:

- يالا.. الأبيض ولا الأسود؟!

تنهدت في قلة حيلة ولا تزال تحمل آثار الإبتسامة ثم امتطت الحصان الأبيض برشاقة وساعدها جسدها النحيف على فعلتها ليقلب شفتاه في إعجاب ثم اقترب منها وهو يتأكد من وضع كلتا قدميها داخل الركاب ثم سألها:

- عارفة بتعملي إيه بالظبط ولا معندكيش فكرة؟

ابتسمت في بلاهة وهزت كتفيها كإشارة على عدم المعرفة منها ثم اجابته:

- أنا مركبتش حصان غير مرتين في حياتي تقريبا

همهم في تفهم ثم أعطاها اللجام لتُمسك به ثم أملى بالتعلميات في جدية:

- متشديش اللجام جامد، متسنديش على رقبته، افردي ضهرك ومتتحركيش حركات مفاجأة، رجليكي متشيلهاش وتفضل زي ما عملتها كده.. ولما تحبي تعملي حاجة قوليلي وأنا اعرفك بتتعمل ازاي.. وشوفي هاعمل إيه واعملي زيه.. تمام؟

أومأت له بالموافقة ثم تابعته بعينيها ليتركها ثم ذهب وامتطى الحصان الآخر في ثوانٍ وكأنه فارس ما لتتعجب وسألته:

- أنت شكلك عارف انت بتعمل إيه كويس اوي.. أنت اتعلمت كل ده فين؟

تنهد ثم تفاقمت عقدة حاجباه ليضرب بكلتا قدماه جسد الحصان بخفة ففعلت مثله وانطلقا كلًا منهما فأجابها:

- كارلو.. كان مجنون بمواضيع الخيل!! كان لازم ابين قد ايه بحبها وبفهم فيها علشان ده كان المدخل إني أقرب منه بالذات ولازم اكون جانبه في مسابقات الرهان الغبية دي والاصطبلات بتاعته!

لاحظت اختلاف ملامحه فسألته:

- كارلو مين؟ أنت محكتليش عنه!

زفر بإمتعاض ثم اجابها دون أن ينظر لها:

- كارلو ده كبير العيلة.. او علشان متتعبيش من التفاصيل سميه زعيم العصابة! 

التفت ونظر لها بحدة مخبرًا اياها في تساؤل:

- وبعدين ما تفتكري حاجة عدلة.. مش عيد ميلاد ده ولا إيه؟

لاحظت رفضه وإنزعاجه الشديدان التي لم تكن تدري أنها ستتسبب بهما بمجرد سؤاله عن الخيل في العموم فغيرت الموضوع أولًا لتتوقف عن تذكيره بذلك "الكارلو" الذي لم يتحدث عنه من قبل سوى الآن وثانيًا لتحرقها أن تستمع لما حدث بينه وبين والدته فسألته وهي تلتفت لتنظر له بعد وهلة من التفكير:

- مامتك عاملة إيه؟ بقيتوا احسن؟

همهم لها بالموافقة لتردف:

- أنا اتبسطت لما عرفت من هاشم وهبة إنكوا بقيتوا كلكوا في بيت واحد! 

بالرغم من أنه يعرف بمكالمتها لـ "هاشم" التي يتلصص عليها ولكن مجرد نطقها بأسمه يزعجه للغاية بطريقة تدفعه لإرادة التمثيل بجثث الرجال جميعًا على حد سواء.. بداية بزوجها العاهر ونهاية بأخويه، دون فارقًا ودون هوادة.. 

حمحم ثم جذب السِرج يسارًا قليلًا حتى يلتف الحصان ففعلت مثله ليسير كلاهما بمحازاة البحر وبدأ ضوء الصباح في الإنبثاق في هذا الجو البارد والهواء الذي كان يهب بشدة ويبعثر شعرها الذي جاهدت أن تضعه خلف أذنها ولكن لم تنجح أمام هذا الهواء فشاهدها ليتعالى انزعاجه ثم تحدث وسألها:

- يوم العزا أنا فاكر حاجة انتي قولتيها.. قولتيلي اتابع مع حد تاني.. ليه قولتي كده؟ 

التفت إليها بكامل تركيزه بينما ابتلعت هي وبادلته نظرته لتتنهد ثم اجابته في همس: 

- أنا اليومين اللي فاتوا حسيت إني مش كويسة، مش  مؤهلة إني اتعامل مع حالة زي حالتك.. يمكن علشان فيه كتير ما بيننا ناس مشتركة و..

قاطع كلماتها وحيرتها التي اتضحت عليها بصدق وقال بتساؤل:

- يعني مش علشان اللي قولتهولك عن أروى؟

تحولت نظراتها للتردد ورطبت شفتاها بطريقة جعلت كل ذرة بدماءه تصرخ به ليوقفها ويُنزلها من على هذا الحصان المحظوظ بملامسة جسدها بتلك الطريقة له ويقبلها إلي نهاية هذه الحياة حتى يفنى جسدها بين يداه وتتلاشى قدرتها على التنفس ولكنه ادعى الإهتمام وهو ينظر إليها في انتظار سماع اجابتها لتقول:

- شهاب أنا.. أنا معرفش مين أروى دي ومكلمتهاش، بس يمكن كلمت زينة مرتين تلاتة مش اكتر وأعرف أسما علشان هي صاحبة فريدة من زمان.. و.. هي الفكرة في اني اعرف الناس دي.. أنت كده بتحملني مسئولية كبيرة! آه أعرفهم من بعيد بس.. بس لو حصل والوجوه اتلاقت هاحس بالذنب.. هاحس إني المفروض أنا.. بص شهاب.. أنا الفترة دي مش مركزة.. يمكن لسه بعاني من آثار الإكتئاب اللي عندي ومظنش إني هانجح معاك كمعالجة.. هنفضل أصحاب طبعًا، وأنت أخو هاشم اللي في يوم هيكون جوز اختي.. وأخو صاحبتي الانتيم! 

بس بقيت حاسة إني بقرب من الفشل، بنفعل زيادة عن اللزوم معاك و.. ويمكن علشان علاقتنا مش بس علاقة معالجة وحالة الدنيا هتتلخبط.. وده هيضرك قبل ما هيضرني! فالأحسن والأفضل تتابع مع حد تاني..

لاحظ تلعثمها وصعوبة نطقها للكلمات التي لم تبد له منطقية أبدًا ليطلق ضحكة خافتة في تهكم لتنظر هي له بإستغراب وهو يقول متنهدًا:

- انتي بعيدة كل البُعد عن الفشل معايا يا فيروز! وأظن لو انتي كنتي فاشلة مكنتش بعدت عنك اليومين اللي فاتوا دول!

ضيقت حاجبيها في مزيد من الإستغراب وسألته:

- تقصد إيه؟

ابتعد بوجهه عنها وكأنه لا يريد أن ترى الحقيقة التي لا يدري لماذا باتت سهلة للغاية معها وشعر وكأنه لا يود التظاهر بعكس ما يُبطنه وهمس في غضب لا يعرف من نفسه أم منها:

- أنا بعدت علشان كنت خايف منك!

التفت لها وهي ترفع حاجبيها في تعجب فأردف قبل أن تحاوطه بالمزيد من الأسئلة:

- كنت خايف منك ومن ردود أفعالك على اللي عملته الكام يوم اللي فاتوا!

أومأت له في تفهم وهي تبتلع  في ترقب وحاولت بداخلها التماسك استعدادا للمصيبة التالية التي ستصاحب إجابته على سؤالها الذي تفوهت به:

- عملت إيه يا شهاب؟

حمحم وحاول التهرب من سؤالها ولكنه تحدث في النهاية:

- خليها بعد النهاردة ما يخلص على الأقل! مش عايز أضايقك يوم عيد ميلادك!

ابتسمت بتهكم شديد ثم نظرت له بجدية وسألته من جديد بحدة وهي تشدد على نطقها للكلمات:

- عملت إيه؟!

نظر بقليل من التردد ثم اجاب:

- مفيش.. فضلت ورا كل اللي والدتي حكته، روحت أتأكدت من كلامها ووصلت للممرضة اللي كانت موجودة في المستشفى اللي راحتها.. وبعدين أقنعت هاشم ووالدتي لغاية ما قبلوا يجوا يعيشوا معايا.. وكمان موضوع شغله معايا.. يعني من الآخر مكنتش هاسيبهم غير لما يوافقوا وهمّ وافقوا في الآخر.. 

اعترى الإستغراب ملامحها وقالت:

- بس دي حاجة كويسة إنكم تقربوا من بعض.. ليه فكرت إني ممكن أضايق من ده؟

زفر زفرة مطولة وهو يلمح التصميم على وجهها ثم همس مجيبًا بقليل من القلق من ردة فعلها نحوه وبداخله شعورًا بأنه لا يستطيع الكذب عليها أو إخفاء الأمر عنها مهما حاول وأنها أصبحت هي الوحيدة التي يود أن يُملي عليها كل تفاصيل حياته:

- السبب في كل اللي حصل زمان كان واحد.. راجل اسمه أبو يوسف.. وده أبو سارة.. بس!! كان فيه واحد.. رجل أعمال منافس.. طلعت عليه هو وسارة فضيحة كده نزلت السوشيال ميديا إنهم كانوا على علاقة وسيرتهم بقت على كل لسان! 

ابتلع وهو يرتقب ردة فعلها لتتوسع عيناها في ذهول من مدى تلك الأريحية التي يتحدث لها بها ثم نظرت أمامها في شرود وتمتمت وبالكاد استمع لصوتها: 

- لا مش ممكن.. إيه الجبروت ده.. أنتَ.. أنت قولت إنك مش هاتعمل كده و..

حدثها مقاطعًا صدمتها بنبرة حادة: 

- فيروز!! متخلينيش أكدب عليكي.. أنا قولتلك الحقيقة علشان متأكد إنك هتقبلـ..

نظرت له في إندهاش من كلماته وأعين تمتلئ بالغضب ثم قاطعته:

- هقبل إيه يا شهاب.. إنك تفضح واحدة ست؟! إنك تغتصب وتقتل؟ أنا كنت بسمعك علشان أشوف إيه اللي خلاك تعمل اللي عملته ونلاقي الطريقة اللي تخليك تبطل الحاجات دي.. لكن أنت روحت تاني ورجعت بالظبط زي زمان.. يبقى كلامنا كله مفرقش ومفيش حاجة اتغيرت أبدًا!

التفتت لتنظر أمامها في صمت من كلاهما وهي تُفكر في بشاعة ما فعله، في إيذاءه لأخيه الصغير الذي ليس له ذنب في أي شيء، بداخلها لا تستطيع تصديق أنه فعل أمرًا وعدها من قبل أنه لن يفعله ثم شعرت وكأنها قاربت على الإنفجار مثل ذلك الليلة التي أعترف لها بها بما فعله مع "أروى" فتملكتها حالة من الإشمئزاز وشعور هائل بضرورة المغادرة بعيدًا عنه فالتفتت وهي تتحدث في إنفعال وارتباك جليان:

- أنا .. أنا لازم امشي.. شكرًا على الحصان والمفاجأة بس هامشي..

استندت على عنق الحصان ونست تماما ما أخبرها به وحاولت أن تنزل بهرجلة شديدة وهي لا تستطيع التركيز في أي شيء سوى كلماته فلم تستطيع النزول فاستندت بكف يدها على مؤخرة الحصان وحاولت تحميل ثقل جسدها على يدها مما أدى لغرس أصابعها بجسده، وهي لا تزال ممسكة باللجام الذي جذبته دون أن تقصد بشدة إلي اليسار وحركات ساقيها ارتطمت بالحصان مما أفزعه وجعله ينطلق في غير اتجاهه بسرعة شديدة وكل ذلك حدث في لمح البصر ليهز "شهاب" رأسه في إنكار من فعلتها وتبعها مسرعًا بينما اعترتها ملامح الفزع وأطلقت صرخة من انطلاق الحصان المفاجئ ثم صاحت في خوف وتساؤل:

- أنا مش عارفة أوقفه.. هو بيعمل كده ليه؟ 

اقترب منها بحصانه الآخر بينما أخبرها:

- اهدى براحة كده.. امسكي اللجام وشديه

أومأت له بالإنكار في خوف:

- أنا شديته غصب عني.. وجري وأنا مقصدتش و..

لم تستطع التحدث وشعرت بالخوف لينظر شهاب أمامهما ليلمح من على بُعد أرض خاوية تم حفرها لتأسيسها لأحدى المباني فسيطر على فزعه هو الآخر وأقترب أكثر بحصانه منها وحاول التصرف قبل أن تقع هي وحصانها وبالطبع من خبرتها المعدومة قد يُسفر هذا عن حادثة شنيعة.. 

حاول أن يُطمئنها من نبرته التي آتت تلقائية وقال:

- هاتي ايديكي اليمين وامسكي فيا لما أقرب منك.. وهو لما تسبيه هيوقف لوحده.. 

التفتت وهي تنظر له في توتر بينما قدم ذراعه نحوها ليقول في تحذير:

- فيروز! اسمعي الكلام.. هاتي ايدك..

اقترب أكثر منها بحصانه الذي قارب سرعة حصانها وهو في انتظار أن تقدم ذراعها كي ينتشلها من على الحصان بسرعة قبل أن تصل لحافة تلك الحفرة الكبيرة وتسقط فعاد من جديد ليصرخ بها:

- فيروز.. قولت هاتي ايدك! مدي دراعك اليمين وامسكي فيا..

نظرت أمامها ثم إليه لتهمس في فزع:

- هنوقع مش كده.. أنا خايفة.. أنا ..

زفر في غضب من تصرفها لتأتي نبرته المرعبة لتنتشلها من رعبها بالسقوط وهو يصرخ بها من جديد:

- قولت امسكي فيا ومدي دراعك وسيبي اللجام.. اسمعي الكلام حالًا!

أومأت في فزع وقدمت ذراعها مثلما أخبرها فجذبها بشدة من ذراعها ليختل توازن جسدها ثم تشبثت بأعلى ذراعه اليسرى فأحاط خصرها بيده اليُمنى بسرعة ليجذب جسدها بأكمله أمامه على السرج فأصبحت كلتا ساقيها محاوطتان لجسده وجذب اللجام إلى احدى الجوانب ليبتعدا عن حافة تلك الحٌفرة أمامهما قبل أن يسقط حصانه هو الآخر ولهثت في خوف ثم استمعت بعدها لصهيل الحصان الذي كانت تمتطيه منذ ثوان لتلتفت خلفها لترى إلي أين ذهب وما الذي حدث له ثم التفتت لتنظر إليه في خوف وهمست في ارتباك:

- هو كده وقع ولا جراله إيه و..

نظر لها ووجهها قريب منه للغاية وهي تُمسك به بقوة وفزع من أن تتركه فابتلع بصعوبة وهو يقاطعها:

- خلاص.. اللي حصل حصل.. فداكي!

نظرت خلفها مرة أخرى ثم نظرت إليه لتهمس في مزيد من حالة التوتر التي لم تتركها بعد بينما ذهب هو عقله في مكان آخر تمامًا بملامستها لجسده بهذه الطريقة واستمع لها وهي تهمس:

- بس.. بس يعني مين هيطلعه.. ولا هو كده خلاص مش هيـ..

زفر في حنق وقاطعها من جديد:

- خلاص بقى يتحرق ولا يولع هبقى ابعت حد يطلعه! 

شعرت بإرتطام أنفاسه على وجهها لتتنبه من اقترابه الشديد منها ومن نظرات داكنتيه التي تتمعن وجهها بطريقة غريبة ولاحظت أنها لا تزال ممسكة به فأخفضت يدها وابتلعت وهي تنظر لملامحه ثم همست بتلعثم:

- شكرًا إنك لحقتني.. أنا.. أنا لازم امشي.. أنا عندي شغل ومش هاينفع أتأخر وزمان الوقت أتأخر ولازم الحق! 

لم يكترث ولو لحرف من كلماتها وقرر أن يُبقيها بوضعها ذلك أمام أي ثمن فهمس لها بأنفاس دافئة:

- خدي اجازة!

امتعضت ملامحها وهي تنظر له بإنزعاج وقد ذهب توترها وارتباكها لتصيح به:

- مش هاينفع يا شهاب كل شوية اخد اجازة.. وبعدين اصلا المدرسة مظنش هاتستحمل اجازاتي تاني وجالي انذار اصلا بسبب الاجازات! اتفضل نزلني وسيبني امشي!

عقد حاجباه وهو يرمقها في إنزعاج شديد بينما لم تكترث هي وحاولت الإمساك خلفها بأي شيء ولم تجد سوى عنق الحصان من جديد فلاحظ "شهاب" ما تفعله ليحدثها في زجر:

- ناوية توقعينا المرادي ازاي؟! المرة اللي فاتت لحقتك.. المرادي برضو بتسندي على رقبته بوزنك كله مفيش فايدة! ابعدي ايدك عنه!

ابتلعت وتوسعت عينيها التي قد سأم من معرفة لون حدقتيها الحقيقيان فتنهدت وقالت:

- ماشي.. مش هاسند بس أنا عايزة امشي..

زفر حانقًا لينهاها وتحدث في رفض وإباء:

- مش هتمشي.. ولسه هتقضي باقي اليوم معايا.. ولو على شغلك أنا هتصرف..

تعجبت من كلماته وتفقدت تقاسيم وجهه وكلمته في سخرية مطلقة العديد من التساؤلات المتهكمة: 

- يعني ايه هتتصرف!! ده شغلي وأنا معنديش استعداد اخسره وبعدين أنت مالك ومال المدرسة! هتتصرف ازاي؟ ده شغلي مش هاشم اللي هتقنعه يروح يشتغل معاك!

تأفف من طريقتها المزعجة ثم تحدث بغضب بسخرية هو الآخر بعد أن كره أن تحط من شأنه بتلك الطريقة:

- الوزير مثلًا لو اتدخل مش هتعرفي تاخدي اجازة؟

توسعت عيناها وهي تنظر له في ترقب وقد أدركت أنه بالطبع له عدة علاقات تجعله يصل لنفوذ ما فتريثت قبل أن تتحدث بينما لم يفعل شيء سوى النظر لملامحها وهي قريبة منه للغاية وابتلع في محاولة ألا يستمع لذلك الصوت الذي يُخبره بأن يُقبلها وتنهدت في قلة حيلة لتقول بهمس:

- شهاب.. بغض النظر عن الاجازة أو لأ.. أنا قولتلك إني مش كويسة اليومين دول واديك شوفت لما قولتلي أنت عملت إيه أنا اتنرفزت واتعصبت ازاي.. مفيش اخصائي نفسي بيتصرف كده زيي.. وحالتي متسمحش إني اتعامل معاك في موضوع العلاج ده.. هنفضل اصحاب وكل حاجة بس أرجوك بلاش تضغط على اعصابي.. سيبني امشي أرجوك

اشتدت تقاسيم وجهه في غضب ثم سألها:

- إيه اللي مخليكي مش كويسة؟

هزت كتفيها بتلقائية واجابته:

- مش عارفة.. وده اللي مضايقني.. وقف الحصان ده وسيبني امشي بقى!

ساد الصمت للحظات لترى أنه لم يستجب لطلبها الذي حاولت أن تطلبه بلباقة لم تأت بثمارها معه ولاحظت أن الحصان الذي يمتطياه سرعته بطيئة فحاولت دفع جسده بكلتا يداها ليسطر هو سريعًا على حركة يداها وامسك بهما ليضهما خلف ظهرها وقبل أن تتحرك ساقيها دفع بعظمتي مرفقيه على أجزاء من فخذيها جعلها تصرخ في تألم وشعرت بعدم قدرتها على تحريك أيًا منهما وهمس سائلًا في غضب:

- انتي مبتسمعيش الكلام ليه؟ لازم اتصرف معاكي بالطريقة دي؟

نظرت له في تألم وهمست:

- شهاب ابعد عني و..

قاطعها مسرعًا:

- قولتلك متمشيش.. بتحايل عليكي بقالي قد كده.. ليه تضطريني اتصرف معاكي بالأسلوب ده

رفع كلتا مرفقيه ولكنه لا يزال ممسكا بيديها خلف ظهرها لتتأفف هي وقلبت عينيها في ضيق ثم صاحت به:

- ما قولتلك إني مش كويسة ومش هاعرف اتعامل مع كل المصايب دي و..

قاطعها من جديد في غضب مماثل لخاصتها وقال:

- خلاص.. يبقى لازم تكوني كويسة!! علشان.. 

شعر بصعوبة نطقه للكلمات بينما عينيها امتلئتا بإستفسارات عديدة فأردف:

- علشان زي ما بحاول أكون كويس معاكي انتي كمان لازم تحاولي علشاني.. مش هو ده اللي انتي خايفة منه؟ الفشل!! إنك متعرفيش تنجحي معايا؟

لم تجد الكلمات المناسبة التي عليها أن تقولها له بعد إجابته التي اندهشت منها فرمقها بإصرار غريب التمعت به داكنتيه وقال بنبرة متوسلة: 

- زي ما قولتيلي أجرب حاجات كتير، زي ما ساعدتيني أنا كمان هساعدك.. زي ما روحت العزا علشان قولتيلي اواجه أكتر ناس بمجرد ما بشوفهم بحس .. بحس بإني متعصب و.. معرفش بس مبطيقهمش وأنا عملت كل ده علشان انتي شايفة إنه صح.. أنا كمان شايف الصح إنك تحاولي معايا.. 

تنهدت وهي تبحث بملامحه عن الصدق وارتخاء قبضته على يداها ونظرت له في ارتقاب وتذكرت انفعالاتها معه كلما أخبرها بأمر ما وتعاطفاتها العديدة معه فهمست:

- معلش يا شهاب، أنا مش هاكون كويسة غير لما ابعد عن الموضوع  شوية، وبعدين، أنا مبكونش كويسة غير لما اخد وقتي واحاول مع نفسي في هدوء!

لم تُعجبه كلماتها واشتدت من جديد قبضته على يداها وصرخ بها ثم أخذ صراخه في النهاية مجرى آخر تماما لتتحول نبرته لتوسل وضعف شديدان:

- مش هتسبيني يا فيروز، لا هتسبيني كصاحبك، ولا كدكتورة بتعالجني.. وإن كنتي خايفة من الفشل فانتي نجحتي في اني تخليني مرعوب وخايف اكون جانبك وانا بنتقم من اللي ظلموا امي وظلموني سنين.. لو كنتي جانبي كنت هاسمع كلامك وهاعمل اللي انتي عايزاه.. زي ما حصل قبل كده كتير! انتي بتخليني ضعيف اوي بطريقة عمري ما جربتها ودايمًا بسمع كلامك!

همس أمام وجهها ليفاجئها بإحتباس دموعه بمقلتيه والتمعتا بطريقة لا تدري مخيفة أم طريقة تجعلها تود التعاطف لأجله وفاجئها بكلماته من جديد وهو يقول:

- يمكن أنا.. أنا ملعون وعامل زي الشيطان، وكل اللي بنتقم منه بموته أو بعمل فيه مصايب بس كونك بتبصيلي نظرة إني استحق فرصة تانية في الحياة دي.. دي الحاجة الوحيدة اللي بتخليني افرمل.. إنك قابلاني من غير ما يكون فيه ما بيننا فلوس أو جنس أو أي منفعة غير إنك عايزة تخليني احسن دي حاجة لأول مرة اجربها في حياتي، لو حرمتيني منها مش عارف ممكن أكون أسوأ من اللي أنا فيه ازاي..

وعلشان اثبتلك إنك نجحتي معايا أنا.. أنا مفضحتش سارة بس.. أنا حرقتهم.. أنا وأنا بحرقهم.. أنا شوفت حازم قدامي بضحكته وحياته.. صدقيني هو ميستاهلش أم قذرة زيها مش هاممها غير الفلوس، ولا راجل ظلمني وظلم أمي وطردها من بيته ولو كان بس سمعلها وحاول يصلح بينها وبين أبويا أنا كانت يمكن حياتي اختلفت!

أنا حسيت إنه صعبان عليا.. بس أنا اقدر اكون جنبه وأوفرله حياة تانية احسن مليون مرة.. هاحبه وهلعب معاه وههتم بيه وهربيه احسن من أم طماعة وأب كداب!! حوار سارة هيتنسي مع الوقت.. و.. وأنا هاكون جنبه ومش هاسيبه.. أنا مش مخليه ناقصه حاجة.. أنا مش عايز من البداية اسيبه ليها!

مكنش قدامي حل غير إني اعمل اللي اتعودت عليه سنين.. بس قوليلي ناس زي دي اعمل معاها ايه بعد سنين عذاب بسببهم؟! سبعة وعشرين سنة يا فيروز! سبعة وعشرين سنة كانوا ممكن يخلصوا بكلمتين من الراجل ده.. الراجل اللي صدق ابويا الكداب.. أمي مغلطتش.. هي ورتني كل حاجة.. وببجاحته كان في آخر أيامه بيقولي كلمها وهي اللي اختارت وربنا يوفقها في حياتها بس بعد إيه؟!

واحد زيي قتل كتير بدم بارد، عايزاني يوم ما اعرف إن امي راحت تترجى راجل واتحايلت عليه وهو ظلمها وطردها، أخلص حرقة قلبي منه ازاي غير إني احرقه زي ما حرقني سنين؟!

واحدة زي سارة بطمعها وجشعها اسيبلها حازم ازاي؟ علشان يطلع؟ يطلع مشوه زيي؟! يطلع قاتل زيي ومريض ولا يطلع مهزوز وجبان بسبب قلة اهتمام أمه بيه؟!

أنا مش ندمان على اللي عملته فيهم.. بس في نفس الوقت عارف إنه مش صح.. أنا ندمان بس على حاجة واحدة.. إنك بعدتي عني وسبتيني ابعد.. أيًا كان اللي هيحصل متخلنيش أعملها تاني..

نظرت له في صدمة مما عرفته ولكنه فاجئها بدموعه التي تواترت دون إنقطاع وملامحه التي لا تدل سوى على الجنون المحض ولكنه ابتلع بصعوبة في محاولة لمنع نفسه عن البُكاء ثم همس بحرقة وهو يهز برأسه:

- أنا متأكد إنك لو كنتي جنبي مكنتش هاعمل كل ده.. لو كنا اتكلمنا أو حكيتلك أنا بفكر في إيه مكنتيش هتخليني أعمل ده وكنت يمكن اتصرفت بأي طريقة تانية.. عرفتي ليه بقولك مش هاينفع تبعدي عني؟! 

وجد دموعه لا تتوقف ليطأطأ برأسه إلي الأسفل في كراهية شديدة لضعفه الذي تجلى أمامها وتوسله إياها فجفف دموعه بعد أن ترك يداها لتشعر هي بالشلل التام أتحاول التخفيف عنه، تقتله وتريح البشرية منه، تقوم بالإبلاغ عنه، أم تخبره بأنها لن تتركه أبدًا!!

هذا هو لُب الشخصيات المعادية للمجتمع، لطالما يلوموا الناس على أفعالهم، ولكن، سارة ووالدها أخطأوا في حقه، وبنفس الوقت ما فعله لا يتقبله بشر قط.. الحرق أحياء!! لا تصدق أن هذا الباكي أمامها هو نفسه الذي فعل ذلك بهما! يا له من انتقام مريض يجعلها تشعر وكأنها تريد أن تخلص هذه الحياة منه وبنفس الوقت لن تتوقف بكاءًا على كل ما حدث له!

حمحم في محاولة لإستعادة نبرة صوته الطبيعية بينما هي لا تزال تشعر بالمزيد من مشاعر التعاطف وكذلك الغضب من أفعاله بينما قال:

- أنا مقصدش.. أنا مكنتش عايز نتكلم كده يوم عيد ميلادك.. أنا آسف!

ترى الصدق يصرخ بكل ملامحه لتنظر له بخوف، غضب، وشُل لسانها وكلتا يداها على أن تصفعه وتصرخ به أن يبتعد، وبنفس الوقت تود أن تخبره أن كل شيء سوف يكون بخير.. ولا توال تود قتله بيديها على كل ما فعله وارتكبه من جرائم بشعة لا يتقبلها إنسان أبدًا! 

همست بهدوء في تلعثم لتقول:

- خلاص يا شهاب.. ربنا يسهل.. و.. وأكيد.. 

حمحمت في فشل من عدم إيجادها للكلمات الصحيحة ووجدت نفسها تبكي وتوقفت عن الكلام من تلقاء نفسها لينظر إليها في لهفة وسألها:

- طب بتعيطي ليه؟ أنا مقصدتش إني اضايقك أو..

زفرت بين بكاءها وهمست مقاطعة اياه في خيبة شعرت أنها تُسيطر على كل ذرة دماء تجري بعروقها:

- مش عارفة.. لأول مرة مبقاش عارفة الصح من الغلط.. أنا لو زي زمان كنت.. كنت المفروض ابلغ عنك.. وابعد عنك ومعرفكش تاني.. بس أنا عارفة عنك حاجات كتيرة و..

قرر أن يُنهي تلك الصعوبة التي باتت واضحة وضوح الشمس عليها ليتنهد وتلمس وجهها في جرأة وهو يجفف دموعها وتحدث في إصرار:

- الصح إنك تبلغي عني.. والصح إنك تبعدي عني.. أنا عارف كل ده! مش عايز أخوفك وأقولك إن عمر ما اتمسك عليا دليل غير من بدر الدين في حياتي كلها! ولو بلغتي محدش هيعرف يوصل لحاجة.. بس أوعدك إني عمري ما هاعملها تاني.. وأوعدك إنك هتكوني كويسة وهساعدك زي ما بتساعديني! آخر مرة صدقيني.. عمري ما هاكررها تاني.. وعمري ما هابعد واخبي عليكي حاجة تاني! 

أومأت بإقتضاب وحاولت أن تنظر في غير اتجاه عينيه وتوقفت عن البكاء بع أن أخفض أنامله عن وجهها وحاولت التفكير لتجد نفسها أمام قلاع محصنة من تشويش هائل وودت أن تصرخ بنفسها وتوقفها عن هذا الجنون المحض الذي تفعله لتجد نفسها بالنهاية تبوء بفشل جديد لتزيل قائمة الفشل اللانهائية التي تُلازمها في الأحيان الأخيرة ولم يخرجها من تفكيرها سوى صوته السائل:

- أنا هسألك سؤال وعايزك تجاوبيني عليه بجد.. ممكن؟

نظرت إليه وأومأت له بجدية فعاد من جديد ليسألها:

- انتي لون عينيكي إيه؟

ابتسمت بإقتضاب وهي لا تُصدق أنه يسألها هذا الآن فأردف هو من جديد بإبتسامة ماكرة:

- متقوليش عسلي لأن شوية بتبقى اخضر وشوية بتبقى رمادي.. وأحيانا بيبقى فيه لون أصفر غريب! 

هزت رأسها في انكاروتنهدت لتقول:

- شهاب أنا عايزة أنزل من على الحصان ده ووالله آخر مرة في حياتي هاركب حصان! نزلني!   

ابتسم إليها ثم تفقد جلستها التي تقنيًا تجلسها على ساقاه وليس على جسد الحصان فحسب: 

- أنا بقول برضو تنزلي بدل ما الموضوع يتطور مع إني مجربتش قبل كده وأنا على حصان!! ولا بالـ position ده! 

توسعت عيناها في خوف من إدراك كلماته وذلك المعنى الخفي خلفها لتبتلع في وجل بينما أوقف هو الحصان وقدم يده لها لتستند عليها وبسرعة ترجلت ليتبعها وترك اللجام تمامًا والحصان نفسه دون إكتراث ليعودا سيرًا نحو المنزل وغرقت هي في تفكير شديد بينما لم يترك لها الفرصة كالعادة لتُفكر وسألها:

- تفطري؟

التفتت لتنظر له وأومأت له بالموافقة وهما يسيرا نحو المنزل ومن جديد عادت لتُفكر بكل ما ترتكبه من جرائم بمجرد سماحه بأن يعترف بتلك الأفعال الشنيعة دون وجود رادع كي يوقفه عما يفعله بينما هو اكتفى بمراقبة ملامحها التي لم يعشق ملامح إمرأة بهذه الطريقة وبهذه القوة من قبلها قط..

     

وقفت تصنع الطعام الذي سيتناولاه في حين أنه اختفى بعد أن تحجج بضرورة اجراءه لبعض المكالمات لتعود من جديد وهي تواجه ذلك التشويش اللانهائي والإضطراب في المشاعر والأفكار الذي باتت لا ترفق بها في الأيام الأخيرة.. تذكرت كلماته، أفعاله، على ماذا تستدل من كل هذا؟

وجوب الهروب منه مثل ما أخبرتها "هبة" منذ البداية؟ إكمال الأمر معه؟ يفاجئها بأمر لطالما لحت عليه بأن يتقبله ألا وهو ذهابه لوالدته للتحدث وبين يوم وليلة أصبحا بخير.. وفي نفس الوقت يحرق إمرأة ووالدها فقط لإرادته في الإنتقام!! إلي أين سيأخذها بأفعاله وإرادته أن يُفاجئها اليوم؟

تذكرت كذلك ما حدث منذ قليل، تلامسهما وجرأته في تلمسها بل وحديثه أيضًا معها، كل شيء بات غريبًا معه، حتى أحاديثهما وغضبهما تجاه بعضهما البعض، إعترافاته التي لا تنتهي.. ما الذي يحدث مع هذا الرجل؟ ما الذي تفعله هي؟ ولماذا تفعل كل ذلك؟

هي تعلم أن رجل مثله مصاب بالسيكوباتية هو مجرد مريض نفسي وبحكم مرضه قد يرتكب أخطاء ويسلك سلوكيات خارجة عن المألوف ويترتب عليها أمور كثيرة قد لا تكون في مصلحته ولا مصلحة أحد وأساسها هو الإيذاء المحض بالرغم من تفسيره بأن هذا إنتقام. ويأتي في النهاية ليلوم المجتمع على ما فعله ويلوم الأشخاص الآخرين.. أليس عليها أن تقوم الآن بالإبلاغ عنه للسلطات المختصة؟ ولكن ماذا عن الأدلة؟ أسيجدوا شيئًا وقتها؟ لن تستقل بذكاءه أبدًا، ولربما تحولت إرادة الإنتقام إليها ووقتها تعلم أن شخص مثله لن يتهاون معها! 

زفرت وهي تتذكر أنه منذ البداية لم يكن هذا اختيارها، لقد حدثها وآراها "بدر الدين" كل ما يملكه، واتفق كلاهما على مساعدته، ما الذي طرأ إذن؟ بشاعة الفعل، أم عدم استقرارها هي الذهني؟ وكيف ستقنعه أنها تريد الإبتعاد لبعض الوقت حتى تسيطر على انفعالاتها؟ لقد قابلها للتو بالعديد من الأسباب الرافضة المُقنعة.. وهي لن تكذب الأمر.. هي تحمل له مشاعر.. لن تُنكر هذا..

لقد كان صادقًا عندما أخبرهما بكم أن علاقتهما مميزة.. ليس بها شيء سوى صداقة، ليس هناك جنس ولا منفعة مادية.. تنهدت وغرقت في الشرود الشديد وكلتا يداها تكتظ بالجبن وشُل جسدها عن الحركة وهي تحاول أن تجد مخرجًا من تلك الحالة الغريبة التي لا تدرك حتى أيهما أصعب، حالتها هي أم حالته هو!!

حمحم وه يتوجه نحوها ليفيقها من شرودها ثم تحدث قائلًا:

- أنا مشكش في إن اللي انتي بتعمليه ده أيًا كان هو إيه هيطلع طعمه حلو بس انتي واقفة بطريقة غلط خالص!

التفتت له بأعين مستفسرة ليذهب هو بخطوات متريثة وأمسك بيده أشياء ما مصنوعة من قماش لم تتعرف عليها بسبب أنها مطوية ثم وقف خلفها وبداخله شعر بالإمتنان لأنها لا ترى ملامحه الآن التي امتلئت بالرغبة الشديدة بأن يداعب شعرها هكذا.. 

ولكنه بادر مسرعًا بالحديث قبل أن تثرثر هي بعبارات المنع والإبتعاد فقال:

- أنا بحب الأكل معلش من غير شعر..

مرر أصابعه في شعرها الطويل وصنع جديلة بسرعة بالرغم من إرادته أن يتلمسه أكثر من ذلك وقبل أن تتحدث أحاط خصرها بمئزرة عازلة وأحكم ربطها حول خصرها وود أن يتلمس المزيد ولكنه ابتعد قائلًا:

- وبرضو متنسيش الـ apron أبدًا

ابتسمت بعد أن التفتت له وهي تتذكر أنهما في نفس المكان هذا اعرترف لها بسلسلة المطاعم التي يملكها فتحدثت سائلة:

- وده بقى حكم المهنة ولا إيه؟

ابتسم إليها وأومأ لها وهو يستند على المائدة الرخامية التي تتوسط المطبخ خلفه ثم غير مجرى الحديث:

- يالا علشان جعان، وآه على فكرة انتي اجازة النهاردة وبكرة من المدرسة.. والمصحة!

توسعت عيناها في دهشة ولم يترك لها الفرصة وفر مغادرًا للخارج فهو لا يود أن يفتعل معها المزيد من الجدالات التي لن تؤدي إلا لغضب واحدًا منهما!!

     

صرخت برعب ووجل وهما بتلك المروحية بعد أن اقنعها بضرورة ارتدائها لهذا الزي الغريب وسبت نفسها مرارا على غباءها وهي تظن أنهما سيعودا فقط ولكنه فاجئها بكل ذلك فنظرت له وهي تومأ بالإنكار وصاحت:

- لا يا شهاب أنت بتهزر.. مش هانط!! الله يخليك بلاش 

توسعت ابتسامته إليها وأقترب يجذب جسدها وهو واقفًا خلفها وأخذ يربط جسديهما معًا بأشياء لم تتعرف عليها ولم يُسيطر عليها سوى حالة من الهلع بأن تقفز من هذه المسافة التي تيقنت أنه ستنتهي بها فاقدة لحياتها دون محالة ليصيح بالقرب من أذنها:

- روح العزا و روح لمامتك علشان تواجه خوفك.. انتي كمان هتعملي زيي..

صرخت بعبارات من النهي ولكنه كان قد فرغ من ربط المعدات الخاصة اللازمة للقفز وبالرغم من قدميها التي تحاول أن تثبتهما في أرض المروحية دفعها ثم وقف أمام الباب وصاح:

- متخافيش.. أنا عملتها كتير وعارف أنا بعمل إيه.. 

التفتت لتنظر له وهي على مشارف البُكاء ليبتسم هو وصاح من جديد لتستطيع سماعه: 

- جاهزة؟!

أومأت بالإنكار بينما أجبرها على ارتداء نظارة غريبة الشكل وأحكم اغلاقها وكذلك فعل هو المثل وشعرت أنها قاربت على فقد وعيها ولكنه صاح:

- 1، 2، 3!! 

دفعها للخارج لتصرخ هي وهو خلفها ثم أجبر كلتا ذراعها على الإمتداد بجانب جسدها ثم رمقت الأرض البعيدة لتبتلع وأخذت تتمتم ببعضًا من الأدعية وأغلقت عينيها في رعب ليصيح بعد أن استقر جسديهما في الهواء:

- فيروز.. اوعي تكوني مغمضة عينك.. افتحيها.. اتفرجي على المنظر من هنا.. مش هتحسي انك خايفة

بصعوبة بالغة في حالة الهلع التي تتملكها من المرتفعات فتحت عينيها بصعوبة لتشاهد زرقة البحر من على مسافة وشعرت بالهواء على هذا الإرتفاع الشاهق يرتطم بوجهها وأخذت تنظر لمدى اختلاف التفاصيل بسبب الإرتفاع والإبتعاد عن الأرض وشعرت بمدى خفة جسدها الذي بات يحمله الهواء ولأول مرة في حياتها تختبر مثل هذه التجربة ولوهلة بدأ الإستمتاع في التسرب لعقلها وهي لم يحدث لها هذا من قبل قط ولكن عاد إليها الفزع عندما اقتربت أكثر إلي الأرض وأدركت أنها سترتطم بها وستفقد حياتها لا محالة وكادت أن تصرخ ولكنها استمعت لصوت غريب وما كان سوى صوت المظلة التي قام "شهاب" بفتحها!

لهثت في خوف كلما أقتربا من الأرض بينما استمعت لصوته:

- متقوليش إن الموضوع معجبكيش!

صاحت في رعب من مجرد إدراكها أنهما باتا وشيكان على ملامسة الأرض عن قريب:

- حلو بس هنوصل الأرض امتى!! أنا خايفة!

ضحك على ما يستمعه ثم أخذ يوجه المظلة حيث يقوما بالهبوط وصاح بها بأن تحاول أن تناغم خطواتها عند ملامسة الأرض:

- فيروز.. بصي كويس قدامك متغمضيش عينك وأول ما هنلمس الأرض هنجري.. واحتمال نقع.. عادي جدًا بس خدي بالك وركزي!

استمعت هي لتلك الكلمات ليتضاعف فزعها وخفقات قلبها كانت مسرعة بشكل لم تختبره من قبل وأخذت تنظر أمامها واستعد هو لأن يُمسك بجسدها عند هبوطهما ولكنه كان عليه أن يُفصل تلك المظلة عن رداءه أولًا ففعلها بسرعة وهما يهرولان وأمسك بخصرها وهي تحاول العدو ليسقطا بالنهاية على رمل الشاطئ سويًا واحتوى جسدها الذي لم يفارق خاصته بعد لتصرخ به:

- أنا هموتك.. فكني من الزفت ده!

لم يستطع السيطرة على نوبة الضحك التي أصابته وأخذ يحل تلك الأربطة وهو نائم أسفل جسدها بينما حاولت هي التفلت وأنفاسها اللاهثة في غضب وصياحها لم يفعل سوى أن يدفعه للضحك أكثر وما إن انتهى حتى فرت ونهضت وهي تصرخ به:

- والله العظيم ما هاروح معاك في حتة تانية.. أنت!! أنا مثقكش فيك أبدًا ماشي يا شهاب!

اطمئن متنهدًا براحة عندما رآها واقفة تصرخ به فهذه علامة على أنها لم تتأثر بأي أضرار من القفزة وظل جالسًا أرضا ونظر لها ليقول:

- مش قولت هساعدك.. انتي نطيتي ولا يجي من الدور الخمسين اهو.. الفوبيا راحت خلاص!

رمقته بمزيدًا من الغضب وكل ما سيطر عليها أن تصفعه ولكنه نهض واقترب منها متحثًا بنبرة هادئة:

- خلاص خلصنا ووصلنا بالسلامة! متضايقيش بقى!

نظرت إليه بإنزعاج وهدأت أنفاسها قليلًا ثم تكلمت في تصميم هائل:

- أنا عايزة ارجع.. وحالا!!

أومأ لها بتفهم ثم أخبرها:

- احنا لازم فعلًا نرجع علشان العيد ميلاد.. 

توجه ليسير نحو المنزل بينما تبعته لتوقفه ونظرت له بإستغراب ثم سألته:

- عيد ميلاد إيه؟!

 عقد حاجباه ورمقها في إنزعاج ثمأشار نحو وجهها بسبابته وقال:

- اهو عينيكي دلوقتي رمادي.. استحالة دي تكون عسلي أبدًا!

     


في صباح اليوم التالي.. الثانية عشرة والنصف..

توقفت أمام منزلها في تلك السيارة التي صمم على إهدائها إياها وهاتفًا جديدًا كذلك بالرغم من أن هناك رقمًا به ليس يخصها ولكنها ستقوم بتبديل الأرقام لاحقًا.. ابتسمت ثم طأطأت برأسها للأسفل وهي مرتدية ذلك الرداء الذي أحضره لها، وقد فاق توقعاتها اليوم.. رداء يليق بها، ليس فاضحًا ولا يكشف أي من جسدها، إحضاره لأصدقائها بأكملهم، أخوته حتى "حازم" قد حضر، أختها، تلك الأمسية الرائعة التي يبدو وأنه كان يُخطط لها منذ الكثير من الوقت حتى يقوم بتحويلها لحفلة يوم مولد لم يفعلها أحد لها مثل ما فعلها هو!! 

جذبت الهاتف ثم فتحته لتجد أن هناك أرقام كل أصدقائها ورقمه هو ورقمي والدها ووالدتها فهاتفته مثل ما اتفقا سويًا قبل مغادرتها ولم تلبث ثانية واحدة حتى قام بإجابة الهاتف وآتاها صوته السائل:

- وصلتي؟! 

حمحمت ثم اجابته:

- آه.. بس مش عارفة هاطلع الشقة ازاي وأنا مش معايا المفتاح!

تنهد وابتسم على سذاجتها ثم تحدث قائلًا:

- التابلوه على اليمين.. افتحيه كده..

مدت يدها لتتعجب من سلسلة مفاتيح طُبع عليه اسمها لم تتعرف عليها ولكنها تبدو باهظة الثمن مثل ما اتصفت كل تلك الهدايا الغريبة التي لم تظن أنها ستتلقاها في حياتها في ليلة واحدة أبدًا وذُهلت كيف توصل لمفتاح شقتها بينما آتاها صوته المتحدث:

- لقيتي المفتاح؟!

فاقت من ذهولها الذي يبدو أنه لن ينتهي لأيام فعقلها لا يواكب كل ما يفعله معها بعد ثم اجابته: 

- آه..

همهم في تفهم ثم أخبرها:

- طيب اقفلي العربية واطلعي وخليكي معايا متقفليش..

رفعت حاجبيها في إندهاش وهرولت مسرعة للأعلى وتوقعت أن هناك شيئًا ما ينتظرها في شقتها ولن تُنكر أن هناك حماس اندلع بدمائها مصحوبًا بسعادة هائلة لم تشعر بها منذ وقت بعيد وبسرعة فتحت الباب وقد استمع "شهاب" على الطرف الآخر من الهاتف لما تفعله ليسألها:

- فتحتي الباب؟!

انعقد لسانها وهي تنظر أمامها لما ينتظرها وكأنها شُلت تمامًا وحاولت أن تتحدث لأكثر من مرة بينما فشلت تمامًا ففهم هو أنها تشعر بسعادة غامرة ليهمس هو لها بنبرته العميقة متنهدًا:

- كل سنة وانتي طيبة يا فيروز!


     

#يُتبع . . .

ملحوظة : الفصل القادم سيكون بتاريخ 7 ديسمبر