-->

الفصل الثالث والأربعون - شهاب قاتم


- الفصل الثالث والأربعون - 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

أنا أعرف أنها تحبني، لا ليس كما أحبها، ولكنها تحبني . إنها تردد دائماً أنها ضدي إذا شيّأتها ولكنها لا تكف عن تشييئي دون وعي منها. إنها تهرب مني في وقت لا أكف فيه عن الاندفاع نحوها. إنها – رغم كل ما تقوله – تفضل التفاهة والمشاعر التي تمر على السطح ،وأنا أعرف أن الحياة قد خدشتها بما فيه الكفاية لترفض مزيداً من الأخداش ولكن لماذا يتعيّن علي أنا أن أدفع الثمن ؟

 إنها امرأة جميلة – وتستطيعين رؤية ذلك في صورها – ولكنها أجمل في الواقع من صورها ، وقد يكون دورها في إتعاسي وهزيمتي أنها مشتهاة بطريقة لا يمكن صدها وهو أمر لا حيلة لها به ولكنني أيضاً لا حيلة لي به، وهي ذكية وحساسة وتفهمني وهذا يشدني إليها بقدر ما يبعدها عني ، فهي تعي أكثر مني ربما طبيعة الرمال المتحركة التي غرقنا فيها دون وعي منا .

 أقول لك باختصار أنها جبانة، تريد أن تكون نصف الأشياء ، لا تريدني ولا تريد غيابي ، وفي اللحظة التي وصلت فيها أنا إلى انتساب كامل لها كنت أبحث عنه كل حياتي تقف هي في منتصف الميدان.

(غسان كنفاني)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

نظرت إلي منزلها الذي امتلئ بالورود نفاذة الرائحة وكأنها للتو دخلت إلي الجنة، هل حقًا الجدران والأثاث تغيب بين كل تلك الورود؟! وما تلك البالونات التي لم ترى مثلها أبدًا؟

كل منها تحمل تهنئة بيوم مولدها واسمها، متوالية بطريقة غريبة من الاسفل إلي الأعلى حتى لامست السقف وكأن هناك أحد صمم كل ذلك في ساعات عدة، وتلك الأضواء الخافتة من أين آتت؟! هل هذا هو منزلها الذي اعتادته؟! 

ظلت تنظر في إندهاش وذهول حتى تناست أنها تُحدثه ونظرت أكثر لتجد كومة مُرصاة من صناديق الهدايا التي ستحتاج لوقت ليس بقليل لتستكشف ما بداخلها وتوسعت ابتسامتها ليستمع هو لصوت طفيف من زفراتها أثناء تلك الضحكة فآتاها صوته وليتها رآت تلك المشاعر التي نجحت في رسمها على ملامحه وتحدث قائلًا:

- تقريبًا طلعتي البيت، فيه شوية بلالين كده، تسعة وعشرين بالظبط.. أنا ملقتش غير درجات الأخضر والعسلي والرمادي والأصفر علشان شبه لون عينيكي.. ممكن تقربي منهم؟

حمحمت وهي لا تدري كيف لها أن تُعبر عما تشعر به فتحدثت له بنبرة سعيدة للغاية وقالت بتلعثم:

- شهاب بجد شكرًا.. أنا.. أنا عمري في حياتي ما حد عملي مفاجأة حلوة كده أو.. أنا بجد..

أطلق ضحكة لأنفاسه خلالها ليقاطع تلك الصعوبة البادية عليها قائلًا:

- دي المرة المليون اللي بتشكريني النهاردة، وقولتلك دي أقل حاجة ممكن اعملهالك يوم عيد ميلادك! ممكن بقى تقربي من البلالين!

تعجبت قليلًا من طلبه الذي ألقاه على مسامعها وأقتربت نحو البالونات ولم يدع للحيرة فرصة في تملك أفكارها فأخبرها سريعًا:

- كل بلونة مربوط تحتها ورقة، لو مش تعبانة وعندك وقت ابقي اقريها! وبصي كده على باقي الشقة كويس..

توسعت ابتسامتها من جديد في سعادة وبدأت في التركيز بين تلك الورود الكثيرة لتجد أن أثاث المنزل بأكمله غير الذي عهدته وحدثته في غير تصديق:

- أنت.. أنت عملت كل ده امتى وازاي فتحت الشقة و..

ابتسم ليقاطعها في ثقة:

- فريدة اختك تعرف هبة، وهبة اختي، يعني.. عرفت اوصل متقلقيش

أومأت في تفهم ثم حدثته في مزاح:

- يعني عملتوا عليا عصابة!! ماشي! 

همهم ثم أردف ليُكمل تلك المكالمة التي أشتاق لها كثيرًا بالأيام الماضية:

- مش عصابة اوي يعني.. أنا قولتلها إني عايز اعملك مفاجأة، وهي اللي عرفت تكلم اصحابك.. يعني، ساعدتني شوية! 

تنهدت وهي تنظر حولها وعبير تلك الورود الرائعة بالهواء حولها يتسلل إليها ولأول مرة منذ الكثير من الوقت تشعر بسعادة غريبة، ربما لم تسعد بمثل هذه الطريقة من قبل فهمست إليه:

- أنا حاسة إن النهاردة، مش عارفة.. يمكن حاسة إني رجعت صغيرة تاني.. اصحابي حواليا.. كل المفاجأت دي ويمكن حاجات عمري ما اتخيلت إني اعملها أو اجربها في يوم!! أنا فعلًا اتبسطت اوي النهاردة، مش عارفة أقولك إيه! محسسني إني أليس في بلاد العجايب!

همهم إليها ثم ابتسم وهو أخيرًا يشعر بالإنتصار لسماعه تلك الكلمات منها واستطاعته وقدرته على أن يرى تلك السعادة التي تملكت كيانها بأكمله فكلمها بنبرة دفعتها للتعجب:

- أولًا انتي تستحقي إنك مبسوطة على طول، ثانيًا انتي لسه مدخلتيش الأوضة مش كده؟!

هزت رأسها في إنكار لكل ما يحدث لها اليوم وقالت:

- لا لأ! كده كفاية بقى.. فيه إيه في الأوضة؟

تنهد وتحدث في ثقة ليقول:

- شوفي وكده وعرفيني..

زفرت بإبتسامة لم تعد تغادرها منذ لقاءها بأصداقاءها وتوجهت لغرفتها التي تغيرت كليًا فهي بالكاد تعرفت عليها وهنا أيضًا المزيد من صناديق الهدايا وتلك الأضواء الخافتة وأثاث جديد بالكامل وكل أنملة بها جعلتها تشعر وكأنها أميرة مملكة ما لم يُسمع عنها قط..

شعرت بالسعادة الشديدة ولم تأخذ في حسبانها أنها مجرد خدعة رائعة في سرق ذكرياتها مع زوجها من ذلك المنزل الذي بدأ به تقاربهما يومًا ما، إرادة تملكه لها فاقت التصور إلي هذا الحد.. منزلهما الذي قاما ببناءه يومًا ما، غرفة نومها هي وزوجها في غضون عدة ساعات تلاشت تمامًا تحت تأثير هذا السحر والإنجذاب.. تلك الذكريات والمشاعر التي تشاركاها هي و "ماهر" سُرقت بأحدى أفعاله المُحنكة، أسعدها بالطبع ولكنها لم تر حقيقة الفعل الشنيع الذي ارتكبه.. 

ربما مشاعرها المنجرفة إليه أجبرتها على الشعور بإحساس السعادة، ولكن مشاعرها لزوجها قد تلاشت تمامًا، تلاشت أمام سحر أفعاله التي لن يتوانى في تسخيرها بأكملها ليتملك عشقها الذي أراده ويريده كل يوم، ولن يتوقف حتى يحصل عليه، ولقد فعلها ببراعة ونجح بكل ما يريده تمامًا..

توجهت نحو ذلك الدولاب العصري وفتحته لترى ملابس عدة لها، بعضها تعرفت عليه وهو ما كان القليل بينما الأكثر كان جديدًا بأكمله وشعرت لوهلة أنها بحلم ما فتحدثت بفوضوية في نبرتها وهي لا تجد الكلمات الصحيحة لتقولها:

- شهاب .. أنت كل اللي عملته علشاني بجد كتير وأنا مش عارفة أقـ..

لم يسمح لها بإكمال حديثها فقاطعها:

- مش هتقولي.. كل اللي عملته النهاردة في يوم واحد مش هيبقى زي تعويض سبعة وعشرين سنة من غير والدتي اللي انتي كنتي السبب في اني اكلمها تاني.. أو مجرد وجودك جانبي وانتي بتسمعي المصايب السودا من غير ما تسبيني وتجري مش هيجي حاجة قدام كل اللي انتي شايفاه قدامك.. لما اكلم حد الساعة خمسة الفجر ويجيلي يجري صدقيني لو فيه حاجة عايزها وهتبسطه هعملهاله من غير تفكير.. انتي تستحقي كل ده يا فيروز.. ولولا دماغك الناشفة كنت عملت حاجات أكتر، كنا مثلًا ممكن نسافر في أي حتة بس عارف إنك مكنتيش هتوافقي! 

لوهلة توقفت وهي تشرد في تفكير بعد أن استمعت لتلك الكلمات واندفعت مشاعرها لتتحدث بدلًا من لسانها وعقلها فهمست:

- أنت عارف إن اللي كل اللي عدا علينا ده علشان أنت بالنسبالي حد مهم.. مش مجرد واحد خطفني ولا حد بشاركه بالأرض.. ولا حتى مجرد أخو صاحبتي!! وعارف إن حتى لو مقدرتش اساعدك في موضوع العلاج هنفضل قريبين من بعض.. مش كده؟

زفر في ضيق من مجرد فكرة ابتعادها عنه لأي سبب من الأسباب فأجابها هامسًا:

- عارف!!

تنهدت وهي تحاول أن تستيقظ من ذلك الحلم الرائع الذي لا تود أن ينتهي بينما حدثته:

- ثواني.. خليك معايا.. احنا فيه حاجات كتيرة اوي لازم نتكلم فيها! 

تركت الهاتف قبل أن تستمع منه للمزيد وتوجهت لتبدل ثيابها لتجد حتى منامات قطنية جديدة تمامًا وابتسمت وهي تتعجب كيف له حتى أن يُفكر في كل شيء مثل هذا..

نحت تلك الإعجابات والسعادة جانبًا وفكرت في الكثير مما عليهما التحدث به ثم توجهت لتُمسك بالهاتف من جديد ليُكملا حديثهما فسألته:

- عندك استعداد لكام حاجة كده مش هيعجبوك، ولا مش اوي؟!

ابتسم بمجرد سماع صوتها يتحدث من جديد ليُجيبها في هدوء واستمتاع بكل ما توصل له معها:

- أنا لسه معتبر إن النهاردة عيد ميلادك.. ليكي الحق تعملي كل اللي انتي عايزاه!

 تناولت نفسًا عميقًا ثم أطلقته بعد أن جلست القرفصاء على هذا السرير الجديد الذي لم تعتاده بعد ثم حدثته بعزيمة شديدة لتقول:

- اللي أنت عملته مع سارة وباباها.. أنا مـ..

قاطعها قبل أن تُكمل:

- كنت متأكد إنك هتتكلمي عن الموضوع ومش هتسيبيه يعدي!

انزعجت من مقاطعته اياها وأردفت بإنزعاج:

- لو سمحت متقاطعنيش.. وطبعًا مش هاسيب الموضوع يعدي.. أنت قاتل اتنين، مولع فيهم حرفيًا.. كنت بتكلمني إنك اتغيرت وإن وجودي جنبك بيديلك دعم ومبتعملش الغلط.. بس يا شهاب مينفعش تعلق تصرفاتك وأفعالك على شخص.. لو فعلًا كنت اتغيرت مكنتش عملت ده، سواء أنا جانبك ولا لأ! أنا فاهمة ومقدرة إن العلاقة اللي ما بينا بقت كبيرة وبقينا اصحاب جدًا بس ده مينفعش! 

فجأة شعرت بإنقطاع المكالمة لتنظر بالهاتف لتجد أنهما يتحدثان منذ ساعة وقد انتهت المكالمة من تلقاء نفسها وقبل أن تتصل به فعل هو لتجيبه مسرعة وأكملت حديثها: 

- أنت معايا؟! 

تأكدت خلال تلك الهمهمات المنزعجة التي اجابها بها فأكملت حديثها: 

- أنا واثقة إن سارة طماعة، وأيًا كان اللي باباها عمله زمان من كلامك واثقة إنه كان ممكن يحل الأمور بين مامتك وباباك.. بس احنا مش ربنا علشان نعاقب الناس ونعذبها ونموتها! كان ممكن بدل ما تطلع كل الإنتقام اللي جواك ده فيهم همّ كنت طلعت بداله مشاعر تانية في إنك تعوض كل اللي فاتك مع مامتك و..

استمعت لزفرته الغاضبة وهي تتحدث فقاطعها مرة ثانية:

- فيروز!! أنا مش كده ومش بفكر زيك.. انتي متخيلة إن كل حاجة هتتغير في العالم لو تصرفاتي اتغيرت، العالم هيبقى كامل وحلو ومفيهوش أي مشاكل ووردي! أنا فهمت انتي بتفكري ازاي ونظرتك اللي بتشوفي بيها الدنيا حواليكي ازاي! بس أنا استحالة بعد كل اللي شوفته هاقدر اعدي الموضوع من غير ما اخد حقي!

من جديد حاولت استجماع سيطرتها على انفعالها وفكرت فيما عليه قوله جيدًا وبعد لحظات من صمت حدثته فيما فعله وهي بداخلها كامل الإصرار بأن تُقنعه بأن ما فعل لن يفعله سوى شخص مريض بعيد كل البُعد عن طريقه للعلاج!! 

شعرت بقليل من التوازن، أحيانًا كانت تتشتت بمجرد ادراكها أنها عادت لتلك الأخصائية النفسية التي كانت عليها منذ زمن بعيد، لا تدري لماذا! هل بسبب تلك السعادة التي اختبرتها اليوم؟ هل لبشاعة أفعاله؟ أم أنها باتت تحمل لهذا الشخص مشاعر قوية حقيقية ولا تريد أن تراه يُكمل في هذا الطريق المظلم؟

لم يكن الأمر سهلًا على أيًا منهما.. سواء هو أو هي.. أن يعترف ويقبل ويصدق فكرة اقتناعه بوجوب وجود رادعًا وقانون يحمي من انتهاكات الغير وأننا لسنا المُلزمين بعقاب الغير، كان أمر مُرهق، عليها العمل عليه كثيرًا الأيام المُقبلة! 

أما عنها هي، فلا تدري كيف استطاعت أن تتحدث معه بتلك الصرامة الشديدة وارغامه على الكف عن محاولاته المراوغة في الإجابة وانتشال الإعترافات منه في تواتر وأحيانًا في دقائق من حيل باتت تشعر بأنها واضحة للغاية.. وكأنها تعودت على طريقة حديثه واستشعار نبرته الكاذبة وطرقه التي يحاول أن يُخفي بها الحقيقة..

أكدت له أنها رغمًا عنها لو تحول الأمر إلي قضية واضطرت إلي الإعتراف عليه ستفعل، هذا ما يُلزمها به عملها في النهاية، كانت هذه الخطوة صعبة للغاية وتعلم أنه قد يخفي عنها المزيد ولكن هذا يعود له وشأنه الخاص، إذا أراد أن يُخفي الأمر فهذا حقه، وإذا أراد أن يتوقف عن تلقي العلاج هذا حقه هو الآخر!! ولكن وقتها لن يجوز له ظنه وتفكيره في فكرة العلاج ولن يُحق له قول أنه يتغير ويريد العلاج.. وقتها لن تصدقه..

غضبت لأن ببعض الوقت نبرتها حملت التهديد الخفي، كما كرهت أحيانًا ردة فعله، ولكن هي لن تستمر في ذلك دون لمس تغير حقيقي، لن تأتي لاحقًا وهي تواجه نفسها بالمزيد من الأسئلة اللانهائية وتشعر بفشلها بالأمر!! لقد سأمت هذا!

وبالرغم من غضبه أحيانًا تجاه ما قالته ومالا تتقبله طبيعته كرجل سيكوباتي سادي إلا أنها لن تُنكر أنه بدأ في الإنصياع إلي الطريق الصحيح، حتى ولو قليلًا هذا يُعد نجاح فيما أرادت الوصول إليه من إحداث أي تغيير في تلك الشخصية، مجرد تناقشه في الأمر بهذه الحدة يُخبرها بأن هناك بعض الصدق بداخله لتقبل الأمر!

تثاءبت رغمًا عنها ولم يلحظ أيًا منهما كيف مرت تلك الساعات في تلك المكالمة الطويلة الغريبة التي لم تتوقف منذ أن آتت لمنزلها وتنبه كلًا منهما عندما بيّنت "فيروز" الأمر وهي تقول في ذهول:

- الساعة بقت خمسة الصبح!!

تثاءب هو الآخر ثم أغلق عينه ولا يزال يتحدث إليها ليهمس في إرهاق:

- تبقى زي ما تبقى.. بس كفاية كده كلام في المواضيع الهباب دي علشان دماغي وجعتني منها!

انزعجت من كلماته قليلًا ولكنها أكملت بنبرة مازحة وبنفس الوقت اتضحت بها رغبتها الشديدة في النوم:

- اوعى عيد الميلاد ينسيك العلاج!! مش هابطل ازنقك كده!

ضحك بخفوت وحدثها بخبث وقال:

- ما بلاش زنق نتي مش قده!

زفرت في حنق من وقاحته المعهودة التي يبدو وأنها لن تتغير ولو بعد آلف سنة ثم زجرته ولكن دون مبالغة:

- أقصد زنقتك في الكلام، وبعدين أنت مش هاتبطل سفالتك دي.. كل حاجة لازم تربطها بسفالة! اتلم بقى!

تنهد هامسًا  وهو يبتسم ليتكلم قائلًا:

- فين السفالة دي؟ ده تحرش لفظي بريء! 

أغضبها أكثر فزجرته هذه المرة بحدة وقالت:

- أنا غلطانة إني قاعدة لخمسة الصبح بتكلم معاك والله.. أنا هاروح أنام!

توسعت ابتسامته لينهاها بإعتذار خفي وتحدث بإرهاق ليقول:

- استني بس، انتي اجازة بُكرة ونامي براحتك بعدين.. 

تريث لبرهة وتحولت نبرته تمامًا للجدية وإكتراث حقيقي حمله كل حرف نطق به وهو يسألها:

- انتي اتبسطتي فعلًا النهاردة؟! 

همهمت له بالموافقة ثم حاولت أن تصمد أام ذلك النعاس الذي يحاربها بعنوة واجابته:

- جدًا والله.. بجد شكرًا على كل اللي عملته.. أنا مودي كان في الأرض بس بعد اليوم ده حاسة إني احسن كتير!

ابتسم براحة ولأول مرة يشعر بمثل تلك السعادة وحدثها بثقة وغزل خفي بطريقته هو:

- يا سلام.. احنا تحت أمرك يعني لو كل شوية هتبقي كويسة بعيد ميلاد نخليه كل شهر وماله! بس المرة الجاية ولا فيه خيل، ولا أي حيوانات! 

ضحكت عندما تذكرت ما حدث لتردف:

- أنا كارثة.. أنا عمري ما هنسى اللي حصل ده.. كرهت أي حصان خلاص! 

استطرد بمزيدًا من الأحاديث الواهية التي لا نهاية لها:

- خلاص يبقى المرة الجاية هتنطي ببراشوت لواحدك!

تنبهت من نعاسها للحظة عندما عاد إليها شعورها بالخوف من تلك القفزة المرعبة وصاحت به:

- والله ما يحصل تاني.. أنا كنت مرعوبة!

ضحك مقهقهًا وهو يتذكر خوفها وتلك اللحظة عندما هبطا سويًا وتكلم أثناء ضحكه ثم أضاف سائلًا:

- كان شكلك مسخرة فعلًا، بس بذمتك مش اتبسطتي وبطلتي خوف شوية من الأماكن العالية؟

تنهدت وهي تُفكر للحظات في الأمر وحاولت إنعاش ذاكرتها بذلك المنظر الذي رآته من زُرقة البحر من على مسافة شاهقة ولا يحيط بها أي شيء سواه هو لتتذكر وقتها تلك الحُرية وكأنها عصفور في السماء ينطلق كيف ما شاء لتجيبه:

- اتبسط.. بس الموضوع مُخيف..

تنهد في سكون ليكلمها بهدوء وصدق انطلق من مشاعره تلقائيًا دون تفكير:

- واحدة واحدة هبطلك الفوبيا دي.. المرة الجاية هنعمل حاجات تانية خالص!

أغلقت عينيها وهي تستمع إليه ونظرت بشمولية لكل ما حدث لتهمس بعد لحظات:

- احنا بقى بينا ذكريات كتيرة بصراحة.. بالرغم من الخطف والعصبية وخمرة في الأكل وكل تصرفاتك الغريبة دي بس حقيقي مش عارفة اعمل ايه معاك.. أشكرك ولا أموتك!

ابتسم من جديد بإقتضاب ثم حدثها بصدق:

- مش بتقولي السيكوباتيين مش بيندموا، أنا بعترف أهو إني ندمت على كل اللي عملته معاكي زمان! ده نجاح ليكي، وثبتيلي إني غلط، وبتغيري فيا حاجات كتير.. ولو على الموت متقلقيش عدا عليا الأصعب من كده ولسه فيا الروح!

فكرت قليلًا فيما مر عليها معه ولكن لح على عقلها فعلته الغريبة اليوم لتسأله:

- أنت النهاردة الصبح لما موافقتش أخرج من البيت وأنت دخلت وقربت مني و..

قاطعها مسرعًا بعد أن زفر بإنزعاج وقد أدرك إلي ماذا تُرمي جيدًا بكلماتها:

- يعني واحد قعدله أكتر من عشر سنين في المافيا، تفتكري مش هيعرف يدافع عن نفسه أو يمسك حد بيفكر يمد ايده عليه قدامه؟

تعجبت قليلًا ثم أطنبت بهذا لأمر:

- بس أنا زمان، يعني أنت مبينتش خالص إنك بتعرف تدافع عن نفسك، والليلة اللي كنا فيها في الأوتيل لما..

قاطعها قبل أن تتابع وهو لا يُحبذ تذكر هذا اليوم بالتحديد:

- كنت بشوف آخرك فين، مش من الذكاء أبدًا يا فيروز إنك تبيني كل اللي تقدري عليه قدام حد مرة واحدة!

همهمت في تفهم وهي تُفكر بكلماته لتجد النعاس يعود إليها مرة أخرى لتتثاءب من جديد وشعر هو بحاجتها البالغة للنوم فتحدث سائلًا:

- اسيبك تنامي ونبقى نشوف اقدر على ايه تاني بكرة؟!

همهمت من جديد بالموفقة ليبتسم هو في بلاهة اتضحت بشدة على ملامحه الناعسة وتابع:

- على فكرة أنا كمان اتبسطت النهاردة.. كل سنة وانتي طيبة 

أخبرته بإبتسامة وبصوت ناعس للغاية بات شيئًا جديدًا بالنسبة له لا يستطيع التخلي عنه:

- وأنا كمان.. وأنت طيب..

تنهد وهو لا يود إنهاء هذه المُكالمة أبدًا ولكنه كذلك لا يُحبذ رؤيتها مُتعبة لهذه الدرجة فهمس إليها:

- تصبحي على خير، وابقي كلميني لما تصحي!

بالكاد استطاعت الرد وهمست وقد بدأت منذ قليل في الإستسلام للنوم:

- أوك.. وأنت من أهله..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

ظهرًا اليوم التالي..

فكرت "أروى" وأعدت لخطتها جيدًا بعد أن ادركت أن "زينة" الوحيدة التي ستكترث لمثل هذه التراهات عن والدهما، وقتها فقط لن يبقى أمامها إلا التخلص من "منة" التي تلازمها مثل خيالها ولكن إذا تم ما تخطط له ستسطيع فعل ما أرادته بمنتهى السهولة!

جذبت هاتفها وانتظرت كي تجيب عليها ففعلت "زينة" وما إن آتاها صوتها تظاهرت بأحدى نبراتها الزائفة لتحدثها:

- وحشتيني يا زينة اوي، عاملة إيه يا حبيبتي؟

ابتسمت "زينة" بتلقائية وردت مجيبة:

- الحمد لله، معلش من اللي حصل والدوامة اللي كنا فيها دي بسبب وفاة تيتا وتعب خالو أنا مقصرة معاكي شوية، انتي عاملة إيه دلوقتي؟ حاسة إنك احسن؟

امتعضت ملامحها وبداخلها امتلئت بالسخرية ولكنها اجابتها: 

- آه الحمد لله احسن كتير، فترة بس على ما أقدر امشي بسهولة تاني مع التمرينات دي وربنا يسهلها.. الموضوع صعب شوية مع العكازات بس شوية بشوية هاكون احسن

تنهدت "زينة" في حُزن حقيقي لتهتف مسرعة:

- إن شاء الله يا حبيبتي هتكوني احسن يا أروى.. مجرد وقت بس وهترجعي احسن من الأول كمان 

أكملت حديثها لتستطرد كي تصل إلي هدفها:

- إن شاء الله.. بقولك يا زينة.. أنا كنت مخنوقة أوي واديكي شايفة البيت كله زعلان ماما وطنط شاهي مقضينها عياط وعاصم حتى يوم ما بيخلص شغل بيبقى طول الوقت مع لميس ونفس الكلام إياد هو وأسما وانتي عارفة آسر يعني دايمًا مع خالو زياد.. ومنة بصراحة مخدتش عليها أوي.. ما تيجي نخرج في يوم نروح أي حتة الصبح! 

استمعت لنبرة أختها المتوسلة التي صدقتها بتلقائية وحسن نية واستطاعت "أروى" تزيفها ببراعة وكادت أن تجيبها ولكنها تذكرت كلمات زوجها إليها وبالطبع هي لا تُريد أن يتشاجرا بسببها وبعد تفكير للحظات كلمتها لتقول:

- أكيد طبعًا.. أنا كمان نفسي أخرج.. بس يعني يومين كده علشان عندي متابعات مع الدكاترة وشوية تحاليل بخلصهم هاظبط وقتي وأكلمك ونخرج سوا في الوقت اللي تحبيه!

احتل الغيظ كل دماءها وكادت أن تنفجر بها ولكنها ادعت خلاف ما تُبطنه لتهتف بإبتسامة:

- أكيد علشان الحمل وكده.. ربنا يقومك بالسلامة.. خلاص شوفي هتفضي امتى وقوليلي!

تنهدت وغاب عقلها وهي تُفكر كيف ستقنع "سليم" بهذا الأمر ولكنها تابعت:

- حاضر يا حبيبتي.. 

أنهت "زينة" المكالمة مع أختها ثم جلست لتُفكر كيف ستقنع "سليم" بعد أن حذرها مرارا من "أروى" وبنفس الوقت فكرت، علها تكون بداية جديدة لأختها بعد كل ما تعرضت له.. حالة المرض التي تلازمها منذ تلك الحادثة إضافةً للإغتصاب بالطبع سيتركها في حالة حزن قد تلازمها لسنوات.. 

هي تعلم كيف أن والدتها تغيرت ولكنها بحياتها لا تعرف كيف تستطيع الإقتراب من أبناءها، هي ليست مثل زوجة خالها "نورسين" وحتى بعد أن باتت "هديل" أمها أفضل قليلًا ولكن هناك دائمًا هذا الحاجز بينها وطريقتها نفسها لا تُسهل الأمر على الجميع، مهما فعلت لن تستطيع بشهور أن تُغير جفاءها مع الجميع الذي دام لسنوات!

حسمت أمرها وقررت أن تنتظر عودة "سليم" لتُفاتحه بالأمر، لن يكون الهاتف فكرة صائبة خصوصًا أن مزاجه بات صعب التعامل معه بالآونة الأخيرة وأغلب الوقت غاضبًا بشدة.. سوف يكون الأمر أسهل لو انتظرت للمساء!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

وقف شاردًا بإبتسامة حقيقية وهو لا يستطيع بعد التخلص من أحداث يوم أمس نهايةً بتلك المكالمة الطويلة وهو يستمع لصوتها وشعر بكم تغيرت معه فقط بسبب تلك الأشياء البسيطة الذي فعلها لأجلها!

تذكر ابتسامتها وملامحها عندما دخلت حديقة ذلك الفندق ووجدت أصدقائها في انتظارها لتتوسع ابتسامته أكثر، بالرغم من أنه لا يحبذ التواجد مع العديد من الأشخاص ولم يكن يومًا ذلك الرجل الذي يملك العديد من الأصدقاء ولكن مجرد سعادتها بأمر استطاع فعله تسعده هو نفسه..

تصلب جسده وتحولت ملامحه للإشمئزاز عندما وقفت بعيدًا عن الجميع قليلًا بصحبة ذلك المسمى بـ "معاذ" وجرى الغضب في عروقه مجرى الدماء وتمنى لو فقط استطاع أن يعرف ما الذي تحدثا به ولكنه لا يملك بعد تلك الشجاعة ليسألها بطريقة مباشرة، ربما بطريقة أخرى إذن! 

لن يسمح في يوم ما لأي رجل كان بالإقتراب منها، فكرة أنها تصادق الرجال تقتله حيًا كل يوم، بالرغم من استباحته الآن لعلاقتهما التي تظنها صداقة ولكنه في المستقبل لن يستطيع تقبل هذا الأمر!

ابتلع في حقد واتضح الغضب ببنيتيه الداكنتين وهو يُفكر بالأمر، ماذا بعد كل ما يحدث بينهما؟ إلي متى سيُكمل في هذا الإدعاء الزائف؟ متى سيتملك المزيد منها؟ متى سيستمع يومًا ما إلي اقرارها الحقيقي بعشقها اياه؟

هو يرى ذلك على ملامحها كل يوم، يلمسه في تصرفاتها، فهي لم تتحدث من قبل إلي رجل مثله كل تلك الساعات وقد ظهر ذلك في مكالمتها التي راقبها من قبل، لم تقض أيامًا هكذا مع صديق لها كما تُسميه!! 

ولكن تلك الغيرة التي تندلع بداخله كما اللهيب المستعر وتحرق قلبه كل يوم بعدم وجودها بجانبه طوال الوقت بات التعامل معها صعبًا أكثر مما تصور في يوم ما! 

قاطع صوت والدته تفكيره وهي تناديه لينتبه إليها:

- شهاب يا حبيبي.. هتتغدا معانا النهاردة؟

التفت إليها بتفكير لوهلة ما إن التقى "فيروز" اليوم واجابها:

- مش عارف.. بس لغاية دلوقتي ماشي..

ابتسمت إليه وهي تقترب منه وتلمست ذراعه ليرمق يدها في تعجب ثم نظر إليها وهي تحدثه بنبرة حملت الحنان:

- أنا عايزة اتكلم معاك، احكيلك على حاجات كتيرة اوي.. من يوم ما اللي حصل ده حصل وأنا كـ..

حمحم عاقدًا حاجباه ثم أشار بسبابته ليوقفها مقاطعًا بإبتسامة مقتضبة:

- هنتكلم اكيد، بس معلش أنا مشغول شوية.. 

ابتعد مغادرًا إلي غرفة مكتبه وتركها خلفه وهو بعد لا يتقبل فكرة أنها باتت متواجدة بالقرب منه وتعيش معه بنفس المنزل وكذلك أصبحت في متناول يده ولكنه لا يستطيع بعد معاملتها وكأن شيئًا لم يكن! 

ذلك الحاجز بينهما لم يعبره بعد، تلك السنوات لم تندثر آلامها ولو للحظات.. ربما لم تكن كاذبة وكان والده هو السبب بكل ما حدث وكل ما لاقاه من عذاب ولكنه لم يصل إلي مجرد أن يجلس بالقرب منها ويتقبل حديثها بسهولة..

أخرج هاتفه وبداخله لا يُفكر سوى بإبعاد "معاذ" بأي طريقة وإخراجه من حياة "فيروز" بأي شكل.. ليرى إلي من سيستطيع الوصول، وزارة الداخلية، ربما بعض المسئولين بقرارات الضباط.. سيجد حلًا لهذا الرجل حتمًا!!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

فتحت عينيها بصعوبة وهي تحاول تفقد الوقت لتجد أن الساعة قاربت الواحدة ظهرًا لتبتسم وهي لا تُصدق أنها قد نامت إلي هذا الوقت، لم تفعلها منذ سنوات.. ربما منذ أن كانت بالمرحلة الجامعية!! 

مددت ذراعيها وجسدها في استعداد للإستيقاظ ثم مشت بصعوبة نحو مطبخها لتُجهز قهوتها وأخذت تنظر إلي منزلها بكل تلك المحتويات الجديدة بداخله وكأنها لم تعرفه أبدًا ثم تركت قهوتها لتبرد قليلًا وتوجهت لتؤدي صلاتها الفائتة وكذلك الحاضرة وما إن فرغت حتى أمسكت بقهوتها وارتشفتها بهدوء لتتوجه نحو كومة الهدايا تلك وبدأت في تفقد تلك الصناديق.. 

الإبتسامة لم تغادر شفتاها كلما رآت محتوى صندوق، سعادتها تزداد بشكل لم تختبره قبل كلما شعرت بمثل ذلك الإهتمام الشديد منه لكل التفاصيل التي تُحبها، إذا استمرت في اكتشاف كل ما بداخل تلك الصناديق التي تنتظرها لن تفعل اليوم شيئًا أبدًا..

نهضت وتابعت ارتشاف قهوتها وتوجهت نحو تلك البالونات وهي تتفقدها وضحكت بخفوت على تلك الألوان التي أختارها.. هل حقًا تبدو حدقتيها بكل تلك الألوان؟ 

قهقهت وهي تتذكر تلك المرات التي سألها بها عن لون عينيها ووضعت قهوتها جانبًا وأقتربت أكثر لترى أن هناك ورقة مطوية كأحدى تلك الرسائل القديمة وعُقد عليها خيطًا بينما لون الورقة نفسها شابه أوراق البردي لتتوسع ابتسامتها وهي لا تصدق أن كل ذلك قد يستطيع فعله.. 

توقفت لوهلة وهي تنظر حولها بكل تلك الورود التي لا تزال رائحتها تُعبأ المنزل وكل ما فعله لها، أحقًا رجل مثله يستطيع أن يكون بمثل هذه الرومانسية الشديدة واللطف البالغ؟! لو فعل هذا من أجل صديقته، ماذا سيفعل إذن من أجل إمرأة يعشقها؟! 

شردت في الأمر لثوانٍ وتلاشت ابتسامتها وهي تُفكر أكثر، هل هناك إمرأة يعشقها ولم يُخبرها عنها؟ من هي إذن؟! .. 

هو لا يعرف أي إمرأة وليس على علاقة بأي إمرأة، لقد أخبرها ذلك مرارا.. ولكن هل توقف عن رؤية النساء تمامًا بتلك الأيام الماضية؟ 

لقد كانت معه طوال الوقت، بمنزل أُسرته، مع اخوته، حتى عندما واجه زوجة ابيه قد كانت معه، ولكن تلك الأيام قبل يوم مولدها، هل عاد لرؤية النساء وقضاء تلك الليالي وعلاقاته العابرة معهن؟! 

سيطر الوجوم على وجهها ولا تدري لماذا شعرت بالغضب من مجرد الفكرة وقاربت على أن تسأل نفسها العديد من الأسئلة ولكن صوت جرس المنزل أفاقها لتضع هذا التفكير جانبًا لوقت لاحق وتوجهت لتتفقد من الطارق فوجدتها "هبة" لتي فتحت لها الباب على الفور وقبل أن تتحدث جذبتها "فيروز" لعناق طويل وشدت بذراعيها على جسدها ثم همست:

- وحشتيني اوي والله ومبسوطة إنك جيتي.. 

توجعت من قوة ذلك العناق لتحدثها في استغاثة:

- بالراحة طيب هتكسريني!

ابتعدت عنها قليلًا وهي تنظر إليها بود ولهفة اشتياق لصديقتها ثم صاحت بها في لوم:

- بقى كده تروحي من ورايا وتتفقي انتي وشهاب وتسيبيه يعمل كل ده وأنا عبيطة ومش فاهمة حاجة! 

تنهدت "هبة" وهي ترمقها في جدية وخوف من حديثهما المُقبل بينما دخلت وأغلقت الباب وحدثتها:

- اعملك إيه يعني.. عايزة أشوفك كويسة وكنت عارفة إن مفاجأة زي دي هتبسطك

توسعت ابتسامتها واتضحت السعادة الشديدة على ملامحها وقالت:

- بصراحة كانت مفاجأة حلوة اوي.. شكرًا يا هبة..

أومأت لها في تفهم ثم دخلت وهي تنظر إلي المنزل الذي لم تعد تتعرف عليه وكأنه ليس بمنزل صديقتها ونظرت لتلك الورود وصناديق الهدايا وكل ما يعج به المنزل من مظاهر احتفال رجل بيوم ميلاد حبيبته ليأتيها صوت "فيروز" السائل:

- بقولك إيه، تفطري معايا؟ أنا لسه صاحية ويادوب خلصت النسكافيه ولسه مفطرتش.. 

التفتت لها وأومأت لها بإقتضاب وتوجهت كلتاهما نحو مطبخها و "هبة" لا تُصدق كل ما تقع عينيها عليه لتصاب بمزيدًا من الذهول ونظرت لها "فيروز" لترى الإندهاش الذي يُسيطر عليها فحدثتها بنبرة سعيدة:

- أنا بجد مش مصدقة إنه عمل كده.. أنا عارفة إنك لسه مش بتطيقيه ولسه مش قابلة وجوده في حياتكم.. بس كل اللي عمله ده علشاني أنا بصراحة عمري ما اتخيلته!! 

لاحظت أنها تنظر لها بطريقة غريبة وابتسامة أغرب فسألتها في تعجب وابتسامة:

- فيه إيه يا هبة؟ انتي بتبصيلي كده ليه؟

ابتلعت "هبة" وعقدت ذراعيها ولكن ابتسامتها المقتضبة ونظرة عينيها لم تتغير وحاولت ألا تقسو عليها ولكنها لن تتركها في ذلك الوهم أكثر من ذلك فأخبرتها سائلة في هدوء:

- مش ملاحظة حاجة غريبة في كل اللي بيعمله شهاب معاكي؟

ضيقت ما بين حاجبيها في تفكير وفكرت للحظات حيث نظرت كمن يبحث عن شيء بعينيه ثم أعادت نظرها إلي صديقتها واجابتها ثم سألتها:

- لا.. حاجة غريبة زي إيه يعني؟

همهمت إليها وهزت رأسها في تفهم وتابعت حديثها لتصل إلي ما آتت لأجله اليوم:

- طيب انتي مش ملاحظة حاجة غريبة فيكي؟

اعتراها التعجب وانفعلت قليلًا لتلك الطريقة الهادئة المليئة بالألغاز التي تتبعها معها صديقتها التي لم تكن أبدًا تتحدث هكذا وتوجهت إلي مبرد الطعام لتُخرج ما ستعده لهما واجابتها:

- أنا مش فاهمة حاجة غريبة إيه اللي بتتكلمي عنها، وبعدين يا هبة أنا حاسة إنك بقيتي غريبة اوي بقالك فترة، مالك؟!

ابتسمت "هبة" وتريثت قليلًا قبل أن تجيبها سائلة وهي لم تعد تتحمل تلك الحالة التي تشابه الإغماء وفقدان الوعي التي سقطت بها صديقتها:

- أنا اللي بقيت غريبة ولا انتي؟

التفتت لها أثناء تحضير الطعام وهي ترمقها بإستغراب ثم أعادت نظرها إلي ما تفعله واجابتها بضيق:

- لا بجد أنا مش فاهمة حاجة.. انا لما بكلمك بقيتي بتردي بطريقة غريبة، وامبارح في عيد ميلادي كنتي قاعدة وواخدة جنب وساكتة اوي، والنهاردة جاية تتكلمي بألغاز، فيه إيه يا هبة مالك! أنا مبقتش فهماكي!

زفرت وقد حسمت قرارها لتتحدث بقليل من الإنفعال:

- لما بتكلميني.. لما تفضي طبعًا من شهاب.. ولما جيتلك عيد الميلاد اللي هو عمله.. مع إننا كل سنة بنقضيه سوا يعني والله يرحمه ماهر كان بيحاول ياخد اجازة دايمًا اليوم ده! مش ملاحظة إن لاقتك انتي وشهاب بقت غريبة شوية؟ 

بقيتو مع بعض طول الوقت.. أعياد ميلاد over شوية.. هدايا كتير ومش اي حد هيعمل كده لواحدة صـ..

زفرت في حنق والتفتت لها لتحدثها بإنزعاج مقاطعة اياها:

- قولي بقى إنك علشان من زمان محددة موقفك معاه مضايقة اننا بقينا اصحاب اوي.. أنا مش فاهمة انتي بجد مضايقة علشان أنا مبسوطة؟ ولا مضايقة علشان عرفت انجح معاه وعلاقته بيكو اتغيرت وانتي كنتي ضد الموضوع من الأول؟ بجد يا هبة أنا مش فاهمة هتفضلي لغاية امتى رفضاه!! مش عايزة حتى تديله فرصة إن يبدأ يكون احسن!

صوتها الغاضب ونبرتها شديدة الحِدة جعلت "هبة" تغضب هي الأخرى ولكنها حاولت السيطرة على إنزعاجها بشتى الطرق فيكفي تلك القنبلة التي ستُلقيها بوجهها ولكنها تظاهرت بالتلقائية وتوجهت لتصنع قهوة لنفسها بينما عادت "فيروز" لتُكمل صنع الطعام فتناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته في هدوء وأردفت دون إنزعاج أو غضب:

- فيروز أنا مبسوطة إن ماما مبسوطة بإن هي وشهاب أخيرًا بعد كل السنين دي ابتدوا يبقوا كويسين، ومبسوطة إن هاشم كمان قرب منه وبقوا في بيت واحد والشغل اللي جابهوله ده أكيد هتكون فرصة حلوة اوي ليه.. مبسوطة إنك بتنجحي طبعًا معاه وكل حاجة بس..

تريثت لبرهة لتسألها "فيروز" بإنزعاج: 

- بس إيه؟ بس علشان انتي مش قابلاه فيبقى وحش مش كده؟!

تنهدت في خوف مما ستتفوه به وقالت:

- لا.. هي بس الفكرة إنك انتي وهو.. يعني لما شوفتكوا في العزومة اللي كانت في البيت عندنا وامبارح في عيد الميلاد.. بقيتي غريبة شوية معاه.. أنا حتى بعامله عادي وبقينا كويسين نوعًا ما وإلا مكناش عملنا المفاجأة من وراكي.. بس انتي مش ملاحظة حاجة غريبة في تصرفاتك معاه؟

طأطأت برأسها للأسفل في صمت دام للحظات ثم التفتت إليها بينما تظاهرت الأخرى بالإنشغال وهي تسكب تلك المياة الساخنة بالكوب لتُكمل صنع قهوتها لتسألها "فيروز" مُجيبة:

- كفاية الغاز يا هبة، تصرفاتي غريبة ازاي يعني؟

حمحمت وهي تُسلط نظرتها على الكوب وقامت بتقليب مكوناته لتهمس إليها:

- شهاب، وقتك كله اللي بقى معاه، سعادتك وانتي جنبه، وانتي بتبصيله، مش ملاحظة أي حاجة؟

ضيقت ما بين حاجبيها في محاولة لإدراك ما تُرمي إليه صديقتها بكلماتها تلك وأردفت مجيبة:

- طبعًا ملاحظة، ملاحظة إننا في وقت قصير بقينا اصحاب، مبسوطة جدًا إن الراجل اللي كان بشع اوي زمان بقى بيتغير، بقيت مبسوطة طبعًا إني بنجح معاه!

أمسكت بالكوب وكأنها تحاول التشبث به قبل أن تتفلت منها كلمات قاسية قد تؤلمها بشدة بالرغم من ارادتها الصراخ بها ولكنها تابعت في هدوء:

- فيروز انتي وشهاب مش اصحاب.. اللي بينكم بقا أكتر من الصحوبية!!

رمقتها في غير تصديق وانفعال بالغ وصمت دام لوهلة لتبتسم إليها بإستنكار وحدثتها في زجر:

- انتي ايه اللي انتي بتقوليه ده! أكيد اكتر من اصحاب بما إني بقيت اعرف عنه حاجات كتير .. انتي نسيتي إني بساعده يتعالج .. هبة انتي عايزة تقولي إيه بالظبط؟

تنهدت ثم نظرت لها متفحصة حدقتيها بجدية ولم تعد تستطيع التحكم في اعصابها ولكن آتت نبرتها في هدوء:

- فيروز انتي بتحبيه!! ومش حب الاصحاب.. بقالك فترة كمان بتحبيه!

نظرت لها في ذهول شديد وحاولت التحدث أكثر من مرة ولكن لسانها انعقد لهذا الإتهام الذي وجهته إليها ومقتتها بمزيد من النظرات المصدومة لتهز رأسها في إنكار:

- انتي اكيد اتجننتي بجد!

تركتها وغادرت المطبخ لتجلس بالخارج حيث رواق الإستقبال فتبعتها وجلست بجانبها دون النظر إليها وهمست متحدثة:

- والمصيبة اللي انتي مش شايفاها إنه هو كمان بيحبك! 

التفتت بأعين متوسعة نحوها بينما ارتشفت من قهوتها في هدوء دون أن تبادلها النظرات لتصيح بها بصعوبة وتلعثم:

- هبة، أنا آسفة بس كلامك ده كله غلط.. أنا، أنا استحالة احب شهاب، وهو يمكن يكون اتعلق بيا بس مش حب.. يعني مشكلته ان مفيش حد قريب ليه، حياته كلها فاضية، وأنا.. لا استحالة.. هبة انتي عارفة إني بحب ماهر.. أنا لا يمكن أفكر في راجل بعده.. 

تريثت لبرهة ولا تزال "هبة" تنظر أمامها لتنظر "فيروز" هي الأخرى حولها ووقعت عيناها على كل ما يحتويه المنزل من أشياء قد آتى لها بها ثم همست في صدمة ونبرة خافتة:

- أنا!! استحالة لأ.. ازاي احبه.. لأ! لا لأ.. أنا بعامله إنه صاحبي.. 

التفتت إليها بعد أن وضعت الكوب بعيدًا وتلمست يدها لتجد أن عيناها ترورقت بالدموع الحبيسة فحدثتها:

- شهاب بيحاول يبقى معاكي طول الوقت، بيحاول يبهرك بكل حاجة علشان تفهمي.. وانتي سبتي كل الدنيا بكل اللي تعرفيهم وقفلتي حياتك عليه! انتي بتحبيه بجد يا فيروز.. 

فرت احدى دموعها وهي تومأ لها بالإنكار وهمست:

- لا استحالة! أنا مبحبوش! هبة انتي مـ..

قاطعتها بإبتسامة لا تعبر سوى عن الحُزن وحدثتها بحرقة:

- بصي حواليكي.. مين بيعمل كل ده غير لست بيحبها؟ مين كان هيموت من الغيرة امبارح وانتي واقفة مع معاذ؟ ومين الست اللي هتقبل تصرفات واحد بالشكل ده غير لما تكون بتحبه وبتحبه اوي كمان؟ 

أنا شوفتك وانتي عينيكي بس بتضحك لما بتبصيله، انتي.. انتي.. أنا شوفت نفس البصة زمان لماهر.. شوفتك وانتي بتدافعي عن ماهر وعن انه دايمًا مشغول ومسافر زي بالظبط ما بتدافعي عن شهاب وإنه بيتغير وكويس!! 

انتي بس يا فيروز مش حاسة إنك هربتي من حالة الحزن اللي انتي فيها ليه هو، انتي بدل ما تواجهي حزنك على ماهر وفعلًا ترجعي شغلك حبتيه هو.. يمكن كنتي فعلًا عايزة ترجعي شغلك أو كنتي مفكرة إن ده هيطلعك من الإكتئاب.. بس ده محصلش!

نهضت وكأنها تحاول الفرار من هذه المواجهة وكلمات صديقتها إليها ووقعت في مشاعر مختلطة وحالات عدة، ربما حالة من الرفض لما تستمع له، أو حالة من الإباء لفكرة أنها تعشق رجل سوى زوجها، حالة من الإستياء أنها قد تقع يومًا ما في عشق رجل سيكوباتي قاتل مغتصب مثله، مشاعر رعب تملكتها من أن تكون صديقتها صائبة فيما تقوله.. بدلًا من أن تنجح في عملها وقعت في الحب؟! لتصل إلي الفشل الهائل في حياتها وفي عملها وحتى بعلاقة صداقة ظنت أنها قد تساعدها قليلًا في تقبل هذه الحياة؟!

عادت "هبة" لتتحدث من جديد بعد أن نهضت وأمسكت بحقيبتها وقالت بهدوء:

- انتي مش عايزة تواجهي نفسك يا فيروز باللي انتي بتعمليه.. فكري في كلامي كويس بهدوء من غير ما تروحيله ولا تكلميه.. صدقيني هتلاقي إن معايا حق.. أنا هامشي علشان سايبة جميلة مع سالم ومش هقدر اسيبهم اكتر من كده.. سلام!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

ملحوظة : الفصل القادم بتاريخ 10 ديسمبر 2020