-->

الفصل الخامس والأربعون - شهاب قاتم

  

- الفصل الخامس والأربعون - 

     

"والآن أشهد أن حضورك موت
وأن غيابك موتان
والآن أمشي على خنجر وأغني...
قد عرف الموت أني أحبك
أني أجدد يوماً مضى ...
لأحبك يوماً وأمضي..."

― محمود درويش

     

عصرًا اليوم التالي..

خطوة واثنان وثلاثة.. وأخيرًا.. لقد أصبحا بمفرديهما بتلك الباحة الخارجية لغرفة مكتبه الذي يقع بنفس المنزل الذي خصصه لوالدته وأخواه.. منزل العائلة، يا لها من مُزحة!! 

أقترب نحوها أكثر وهو يحاول أن يوقف تلك الأفكار التي كادت أن تُفتت عقله منذ مغادرتها إياه ليلة أمس.. لو أنها تعلم ما اضطر للتظاهر به وتحمله كي يراها اليوم لأشفقت على حاله.. لو تعلم كم من فكرة مجنونة خطرت على عقله لتحدثت فورًا وقالت ما الذي يُزعجها بمثل هذه الطريقة.. لو تعرف ما تحمله من اقناعه لأخيه بأن يدعو خطيبته ووالديها واختها لتناول الطعام، إلي حديثه مع "هبة" في إلحاح بأن تقضي هي وزوجها اليوم بمنزله والإستمتاع الزائف بيوم عائلي كما حاول أن يُقنع به غيره ويؤكد على اهمية كم سيكون الأمر ممتعًا وهو في الحقيقة لا يطيق النظر بتلك الأوجه وطوال الليلة الماضية لا يرى سوى وجهها هي في طيات أحلام يقظته!!

لن يكون أبدًا ذلك الرجل الذي يتوسلها ليعرف ما الذي حل بها، أوقف يده بصعوبة طوال ليلة أمس ألا يُمسك بهاتفه ويستمع لصوتها الذي بات كالمخدر لجوارحه يُسكنها ويطفئ لهيب شرورها التي لا يدري كيف تغلبت عليها بسهولة، وبالطبع ليس هو من استطاع تملك الشجاعة ليخبرها بضرورة المجيء اليوم.. هي تأتي مثل ما يُريد هو، وسيُصلح ذلك الجفاء الغريب منها بمجرد أن تصبح أمامه.. مثل ما تقف هي الآن!! كبرياءه المتعالي لم يسمح له.. كبرياءه الذي يُدرك أنه سيتلاشى بمجرد تقابل أعينهما!

اقترب أكثر وهو يتفقدها وجاهد بكل ما أوتي من قوة أن يتحمل ارتدائها لتلك الكنزة الشتوية الخضراء التي لا يعلم من أين آتت بها وهو لم يبتع لها ذلك اللون خصيصًا الذي يؤلم عينيه ومؤقتًا سيترك هذا جانبًا وسيحاول التحمل أكثر ليعرف ما خلف كل هذا التغيُر الذي لم يعهده منها فهمس بسخريته المعتادة وهو يقف بالقرب منها واضعًا يداه بجيبيه:

- والنهاردة برضو مش نايمة علشان كده مآكلتيش كويس ومكشرة؟

نبرته الإستفسارية نبهتها من ذلك الشرود فالتفتت "فيروز" نحوه وهي تُمسك بكوب القهوة الدافئ ثم ابتسمت بإقتضاب وتحدثت بهدوء الذي بدوره أدى لتأثره تلقائيًا ليُزيد من غضبه من ذلك الجمود العجيب بها منذ رؤيتها صباح أمس:

- أنت اللي مصمم إن فيا حاجة مش عادية.. أنا كويسة صدقني

أومأ ونظراته التهكمية وابتسامته الساخرة التي ارتسمت على وجهه لم تبشر بالخير أبدًا بينما تحدث بنبرة مستاءة وقال:

- ملمستيش الأكل لا امبارح ولا النهاردة، مكشرة، وشك أصفر، مش مركزة في أي حاجة غير بس الجلسة امبارح!! يمكن فاكرة إنك هتقدري تقنعيني إنك كويسة بس أنا بحفظ الوشوش يا فيروز، وأيًا كان شكلك امبارح والنهاردة، أنا مش مقتنع بيه ومش مصدق كلمة واحدة من كلامك!

زفرت وهي تُغلق عينيها وبعد كل ما فكرت به الليلة الماضية منذ أن تركته، حديثها الطويل مع "هبة" الذي خاضاه وهي تبرر لها وتُقنعها أن ستصلح كل ما افسدته مشاعرها السطحية.. وذلك النحيب المؤلم الذي استطاعت التغلب عليه بأعجوبة بعد أن أنهت تلك المكالمة وهي لا تعلم حقًا كيف حدث لها ما حدث.. مفاجأتها بمكالمة والدها إليها وهو يلومها ويأنبها على عدم تواجدها معهم وصوته الحزين بأنه يشتاق إليها، نظرة اختها إليها وكأن املها بها قد خاب.. كل ما يحدث حولها بالإضافة إلي حديثه الآن لم يكن هينًا ولن تستطيع الصمود أمام كل هذا ففتحت عينيها بنظرة ينهمر منها الآلم عجت بالدموع الحبيسة التي عكست الخذلان الخالص وحاولت بشتى الطرق التحكم بتلك الدموع وآسرها بمقلتيها ولكن هيهات!

لن تصمد أمامه بحياتها، لن تستطيع كبح تلك المشاعر التي تزجر نفسها ألا تتأثر بها، لقد صرخ بها عقلها أن تتحلى بالمنطق وتسيطر على الأمر كي لا يفسد ولكن ها هي تدمر كل تلك الساعات وانهمرت دموعها أمامه وهو واقفًا ينظر لها نظرات قاسية وتحلى بجمود هائل أو ربما هي تحاول أن تُقنع نفسها بأنه يبدو هكذا، هي لا تراه بوضوح على كل حال بين تلك الدموع التي لا تود التوقف واضطرت أخيرًا أن تتحدث ولو بجزء ضئيل مما تشعر به لتقول بهمس وقد نفذ صبرها وهبت به الريح لتنهار تمامًا أمامه:

- عايزني ابقى ازاي يا شهاب؟ عايز شكلي يبقى ازاي؟ ولا عايز طريقتي تبقى ازاي؟.. أنا مبقتش قادرة على كل ده..

لقد رآها تبكي من قبل مرات ومرات.. ولكن اليوم، بهذه اللحظة تحديدًا، إنعكاس تلك الملامح التي تبدو وكأنها صورة حية تُمثل العذاب الأليم، لم يرها من قبل بهذه الطريقة.. 

اقترب منها قليلًا لتشير له بسبابتها كي توقفه وقبل أن يزداد غضبه تحدثت هي بلا انقطاع وقد تنبهت قليلًا لما كادت أن تتلفظ به ولكنها في نفس الوقت لم يعد بها مثقال ذرة من تحمل فهمست بوهن:

- كنت فاكرة إن كل حاجة ماشية كويس.. انت روحت وكلمت مامتك وبين يوم وليلة هي وهاشم بقوا معاك في بيت واحد وشايفاك بتحاول تقرب منهم وروحت العزا.. ويوم عيد ميلادي اللي.. كان..

زفرت وهي تحاول التغلب على ذلك البُكاء الذي كاد أن يسلب أنفاسها الملتهبة بنيران من آلام فاقت كل تحملها وأكملت بمزيدًا من الإنكسار:

- كنت حاسة إني في حلم حلو، أو في الجنة.. كل اللي عملتهولي.. لغاية دلوقتي جزء من عقلي مش مصدق.. بس في نفس اليوم جيت تقولي على اللي عملته مع مرات باباك وباباها.. حسستني بقد إيه أنا فشلت معاك.. إني كل اللي كنت بحاول فيه الفترة اللي فاتت دي ملهوش أي لازمة.. والنهاردة وأنا ببص لحازم.. أنا.. أنا مش قادرة اتخيل إنك بجد عملت كده!

اقتربا حاجباه مُخلفان تجعيدتان جعلت ملامحه تزداد قسوة وجمود لا يدري أيلوم نفسه أم يصرخ بها أم.. لحظة.. لقد أخبرته يوم العزاء اللعين بأنها لن تُكمل معه أمر العلاج هذا، لماذا تبكِ إذن الآن؟!

- بس انتي قولتي يوم العزا إنك مش هـ..

قاطعته بحرقة وكبحت ذلك الصراخ الذي كاد أن ينطلق من حيالها الصوتية خشيةً من أن يستمع إليهما احد لتقول:

- أنا عارفة أنا قولت إيه كويس.. قولتلك كمل مع حد تاني.. لسببين.. الأول إني فعلًا حاسة إن مفيش أي تقدم معاك وكنت متلخبطة ولسه بعاني ولسه مرجعتش زي الأول.. والتاني إني كنت عايزة أشوفك متمسك بفكرة العلاج نفسها.. بس أنت دمرت كل حاجة في ثواني..

نظر لها في اندهاش واقترب نحوها أكثر ليهمس سائلًا:

- أنا؟!

أومأت له وهي تحاول السيطرة على ارتجافة شفتيها وهي تطلق العنان لمزيدًا من تلك الدموع أمامه علها تُمحي ولو قلة قليلة من حقيقة ما تشعر به واجابته بنبرة امتلئت بالخزي:

- أيوة انت.. بين يوم وليلة جايلي بجريمتين قتل واول واحد هيتضر ويتوجع بسببهم هو اخوك اللي عنده تمن سنين!! أنا مبقتش عارفة اعمل معاك إيه! أنا فشلت معاك.. أنا بمجرد ما بشوفك مبفتكرش غير إني واحدة فاشلة!! 

رمقها متفحصًا وهي تحاول السيطرة على تلك الشهقات المتلاحقة ثم ترك لها كامل الحُرية بأن تتابع إلي النهاية:

- أنا امبارح في الجلسة اللي فاتت بعدت كل البعد عن حاجات مُعينة وكنت قاصدة لأني مكنتش هاستحمل اتكلم فيها.. أنت متخيل لو لأي سبب من الأسباب اتمسكت وكل اللي عملته في يوم اتحول لقضايا أنا لازم اعترف عليك؟! والمصيبة إنك أنت كالعادة مش مقتنع إن عندك مشكلة.. يبقى ليه كل ده؟ ليه تتعب نفسك وتتعبني؟ ليه اللف والدوران واطلع منك الكلام بالعافية؟ لازمة كل ده إيه؟

انتابتها رجفة من أثر تلك الشهقات المتبقية لتحاول سرق القليل من الهواء إلي رئيتيها كي تستطيع مواصلة تلك الكلمات التي حقًا لا تُكون جملة مُفيدة وعادت لتردف بهمس:

- أنا قومت ووقفت تاني على رجليا علشان خاطر المشروع.. ولما صارحتني بموضوع الجلسات وعرفت شخصيتك وافقت.. انت بالنسبالي كنت حاطة عليه امل كبير اوي، أنت يا شهاب اللي رجعتني تاني لأكتر حاجة بحبها في حياتي.. كل وعودك اللي اخترت اصدقها بالرغم من اني عارفة إنك بتكدب لأن دي طبيعة فيك.. وبعد كل ده اخترت أثق فيك.. قولتلك اننا قريبين من بعض واصحاب وبنساعد بعض.. تيجي في الآخر تقولي حرقت اتنين!! 

أنا بالعافية مسكت نفسي يوم عيد ميلادي.. بس مقدرتش أكتر من كده.. مش عارفة اشكرك على اللي عملته ولا اقولك إني فشلت في كل حاجة معاك.. علشان كده مختارة إني اسكت ومتكلمش وحتى لو هنكمل جلسات أنا لسه مش قادرة اتكلم في المواضيع دي.. علشان كده أنا مش كويسة.. أنا فشلي معاك دمرلي كل حاجة باقية.. دمرلي أي أمل في إني ارجع كويسة تاني.. أنت ببساطة باللي عملته ده دمرتني أنا!

نوبة من نحيب أعنف من السابق احتلت كيانها بأكمله ليخلل هو شعره بعصبية بالغة ونظر إليها وهي تبكي ولولا فقط كل المتواجدين بالمنزل الذي قد يدخل أي أحد منهم الآن لكان عانقها رغمًا عنها وآسرها بين ذراعيه إلي أن تهدأ تمامًا وجاهد أن يتحدث أكثر من مرة وبالرغم من تيقنه بما يجب أن يقوله ولكنه في الحقيقة ليس آسفًا على ما فعل ولن يتفوه بها فلم يجد سوى يده التي امتدت تلقائيًا ليدها ووضع كوب قهوتها بعيدًا وهو يُمسك بها بقسوة لينظر إليها بصلابة وهتف بها آمرًا:

- فيروز بصيلي..

رمقته بخيبة أمل ولم يتوقف بُكائها فأردف بحدقتين متفحصتين لتلك الملامح التي بالرغم من رؤيتها على أوجه الكثير من النساء ولكنها خلفت شعورًا غاضبًا بداخله لم يستطع تفهمه ولا إدراكه ولا حتى محارتبه:

- انتي مفشلتيش.. بصي حواليكي.. اخواتي ووالدتي.. انتي من يوم ما عرفتيني مكنش فيه كل ده.. أنا روحت العزا!! واللي عملته كان غلط بس مقدرتش يومها معملش كده.. 

أدرك أنه يتحدث بشيء خاطئ من تلك النظرة بحدقتيها العسليتان فزفر في إرهاق وتشتت ليطنب بالمزيد من الحديث بصعوبة شاقة وهمس له تأثير السحر أهدأ قليلًا من بُكاءها وتلعثم بالغ اعتراه في النطق مما أثقل من لسانه:

- أنا.. أنا عمري في حياتي ما.. انتي.. انتي الوحيدة اللي بعتبرك اقرب حد ليا في الدنيا.. أول مرة ست تحسسني إني مش مجرد حساب في البنك ماشي على الأرض ولا مجرد ليلة وعدت.. الصحوبية اللي ما بيننا دي أنا استحالة افرط فيها.. لو مش عايز اتغير مكنتش ببساطة عملت حاجات كتير! 

عارف إني بغلط، عارف إني ألعن إنسان على الأرض واللي عملته في حياتي كله أستاهل عليه الموت.. بس بصيلي.. بصي لشهاب اللي شوفتيه اول يوم وبصي لشهاب دلوقتي.. الاتنين زي بعض؟! يا ترى شايفة إن مفيش أي تغيير؟

جذبت يدها بعيدًا وهي تزيح خصلاتها خلف أذنيها وعقدت ذراعيها وهي تتفحصه بصعوبة بين ما تبقى من أثر البكاء وانتظرت لوهلة تُفكر جيدًا في كلماته بينما لم يُعط لها الفرصة فاستطرد قائلًا:

- انتي اهم عندي من أي حد في الدنيا، استحالة ابقى عايز ادمر الوحيدة اللي قبلت تسمع كل مصايبي وقبلتني زي ما أنا.. لو فاكرة نفسك فاشلة يبقى مين ورا كل ده؟ مين اللي غير فيا حاجات كتير محدش عرف يغيرها في سنين؟ 

فيروز أنا غلطت ومش هاكررها تاني، وصدقي لو لأول مرة اني بقول الكلام ده لحد بس.. بس مش هاقدر اخسرك بعد ما لاقيتك.. 

اوقفته عن الحديث لتهمس بهدوء جاهدت أن تحصل عليه ولكن كان لابد لها أن تتدخل قبل أن يتفوه بالمزيد من الإعترافات التي ستعقد الأمر أكثر بينهما وأخبرته:

- كلنا بنغلط.. بس الغلط اللي بجد إننا نستمر في الغلط نفسه ونكرره ومنصلحهوش!

ابتلع وهو يتفقدها بإشتياق فشل في أن يُخفيه وحاولت هي إنكاره خصوصًا بعد تلك التنهيدة وملامحه التي اختلفت أمامها لتترك لها حربًا جديدة ستخوضها كلما تسللت تلك الذكرى التي يصنعاها الآن واستمعت لهمسه الرجولي الذي بدا صادقًا أكثر حتى من بكاءها: 

- مش هاستمر ولا هاكرره.. اوعدك مش هيحصل تاني!

حاولت تحري صدق كلماته من تلك البُنيتان أمامها لتومأ بإقتضاب ثم همست في شجن وإصرار غريب لا يدري حتى كيف استطاعت أن تجده:

- بس يا ريت يا شهاب تكون قد الوعد ده.. لأن لو حصل أي حاجة تانية انت ببساطة هتبقى خسرتني.. كمعالجة وكصاحبة!

أومأ لها بالرفض واقترب أكثر إليها وهو يرفع أنامله في جرأة ليجفف دموعها وقال بنبرة واثقة:

- عمري ما هاخسرك! 

ابتعدت سريعًا للخلف كي لا يلمسها ليلاحظ هو طريقتها التي تغيرت معه وأدرك الأمر بطريقة أخرى تمامًا، ظن فقط أنها مستاءة منه بينما هي لن تسمح بالمزيد من تلك اللمسات التي تقتلها آلاف المرات كلما تذكرتها فإبتسم بإقتضاب وأومأ في تفهم ثم تحدث إليها:

- لو حابة بكرة نعيد الجلسة تاني او..

أومأت بالرفض وقاطعته مسرعة:

- لأ بكرة عندي شغل.. ومش هاينفع الجلسات تبقى ورا بعض كده.. كفاية أصلًا انها بتكون طويلة جدا وده ممكن يتعبك أكتر ما يساعدك!

تقبل الأمر وكم راقته تلك النبرة المُهتمة التي صدرت منها فتكلم بنبرة حملت القليل من المرح والحماس بآن واحد:

- طيب لو حابة بُكرة ممكن تاخدي اجازة ونخرج أو نحاول نغير مود الفشل ده! إيه رأيك؟

تنهدت وقد اتضح الإباء القاطع على ملامحها وهي تهز رأسها بالنفي وتحدثت بجدية:

- مش هاينفع يا شهاب، كفاية اوي الاجازات اللي اخدتها.. 

ضيق عينيه ولانت شفتاه بإبتسامة تسلب العقل وتسحر الأعين وهمس بثقة:

- بس أنا ممكن اجيبلك اجازات تاني على فكرة زي ما تحبي!

ضيقت ما بين حاجبيها واندفع الغضب جاريًا بدماءها ورمقته في إنزعاج هائل:

- مش علشان نقضي يوم مع بعض ونتبسط يبقى ده يأثر على شغلي.. ولا علشان حتى واسطتك الوزير يبقى تعمل كده.. فهمت أنا تعبت من تصرفاتك الغلط ليه! كفاية بقى!

استمع لزجرها بينما جاهد ليُمسك تلك الضحكة الساخرة كي لا تتفلت منه ثم حدثها في هدوء:

- تمام اللي تشوفيه! 

قطبت جبينها لتتخلف تجعيدات الدهشة فوق تلك الحدقتان المتوسعتان ليصرخ به عقله أن عينيها لا تمت للون العسلي بأي شكل من الأشكال وليست سوى رمادية خالصة فسألته في نفاذ لكل معان الصبر:

- تقصد إيه بقى بالضحكة دي؟

هدأت ملامحه أكثر وتحولت ابتسامته لنصف ابتسامة متغطرسة ثم تنهد قائلًا في تساؤل ساخر:

- غريبة.. يعني واسطة بابا وماما مش هي اللي جايبالنا الشغل في المصحة والمدرسة! صدفة مش كده؟! 

تباعدت شفتاها مما استمعت له لتقرر أن تتركه وتغادر وهي لا تُصدق أنه حدثها بتلك الطريقة ودوت كلماته في عقلها وهي تعلم جيدًا أنها حصلت على عملها وكل ما توصلت له بفضل نجاحها وإلا لما انتظرها العمل بل ولقد نالت ترقية جديدة في المصحة حتى بعد كل ذلك الغياب وقد وجدوها أجدر من زميلها "وائل" لتشعر بثقة في نفسها وكادت أن تبتسم في استهزاء ولكنها توقفت واحتلت ملامحها الصدمة بعد أن تذكرت عدة أشياء لتلتفت له ثم حدثته في استفسار وسألته بهمس لا يحمل سوى الصدمة:

- شهاب أنت كنت ورا الترقية اللي في المصحة؟

تفحصها بنظرة ماثلت نظرات صقر جارح ثم نظر مبتعدًا عن اعينها التي بات لا يملك أي حيلة أمامها فتوجهت هي ووقفت أمامه وزجرته في غضب:

- جاوب على السؤال.. 

تنهد وانزعاج طفيف جعل حاجباه يتقاربا ليجيبها في النهاية بجمود:

- ايوة انا.. ووائل ده اصلًا بني آدم سخيف وانتي تستحقي ده اكتر منه

المزيد من إندهاش الصدمة احتل ملامحها وأزاحت شعرها للوراء مخللة اياه بأصابعها التي استقرت بأعلى رأسها في محاولة بائسة لتُمسك بأعصابها ألا تتفلت وهمست في هول مما استمعت له:

- بس ذنبه إيه؟ ليه تأذيه؟ تعرف عنده ولاد ولا بيت ولا محتاج للشغل ولا تعرف انت إيه عـ..

قاطعها ليُسكتها عن تلك التخيلات التي عصفت برأسها:

- هششش.. اهدي.. أنا جبتله شغل في مكان تاني بنفس مرتبه.. أنا مأذتهوش!

زفرت وهي تبتلع ثم اغلقت عينيها لا تدري في راحة لعدم إيذاءه لزميلها أم لإستماعها المزيد من أفعاله الثعبانية التي يرتكبها بيديه ليُحرك العالم حوله كالأفعوانية التي لا يملك أحد زر تشغيلها ثم نظرت إليه بغضب وأنبته في تحذير شديد اللهجة:

- اقسم بالله.. لو مرة واحدة بس اتدخلت في شغلي تاني ما هعرفك أبدًا يا شهاب!

تركته وغادرت في غضب كاد أن يفتك بها وهي تضرب الأرض أسفل قدميها وكأنها تريد تدميرها بينما ابتسم هو دون إكتراث وهو يعلم جيدًا بمنتهى التأكيد والثقة،  أن الأمور بينهما ستعود من جديد لما كانت عليه ولم ير أي منهما تلك التي تتابع حديثهما وهزت رأسها في حزن بالغ وشعرت بالشفقة على صديقتها.. بالرغم من أنها لم تستمع ولو لحرف مما قالاه ولكن يكفي تلك النظرات والتصرفات! يكفي تلك المشاعر الصارخة بينهما.. لو لم يتوقف كلاهما سيحول واحدًا منهما الآخر لرماد!!

يا له من كبرياء غبي.. لم يُصرح بالأمر، ولم تُصرح هي الأخرى.. يُقنع نفسه بأنه يتغير لأجلها وترى نجاحها يكمن في تملك سلطانًا عليه ولن تشعر أنها حققت كا ما تريده سوى بأن يتغير ويُصبح نسخة أفضل مما هو عليه.. وخمن ماذا عزيزي! كلاهما كاذبان!

     

توقفت عن الضحك لتستقر شفتاها بإبتسامة إلي أن تلاشت ثم تابعت "فيروز" بعينيها "حازم" وهو يهرول بعيدًا في شفقة وحزن ولكنها اطمئنت قليلًا لوجود والدة "شهاب" بالقرب منه وهي تلاحظ أن علاقتهما تبدو بخير، هذه المرأة بطيبتها لن تحرمه أبدًا من وجودها بجانبه ولن تبخل عليه بتلك المشاعر التي يحتاجها بشدة.. 

آتت "هبة" لتجدها أخيرًا وحدها فهمست إليها سائلة:

- فيروز.. انتي بتعملي إيه بالظبط؟

التفتت نحوها وضيقت ما بين حاجبيها في استفسار واجابتها سائلة هي الأخرى بهدوء:

- بعمل إيه في إيه؟.. مش فاهمة قصدك!

تحولت ملامح صديقتها للغضب والإنزعاج لتزم شفتيها وهي تزفر وهمست كي لا يستمع إليهما احد:

- هو ده اللي فضلنا قد كده نتكلم فيه امبارح!! أنا مش فاهماكي.. أنا شوفتك بعينيا وانتي واقفة مع شهاب من شوية.. انتي كنتي بتعيطي وهو بيهديكي و..

تنهدت وامتعضت ملامحها في حزن ونفاذ صبر لتحاول الحفاظ على نبرتها وقاطعتها بحرقة:

- أنا بس محتاجة وقت.. مش هاينفع بين يوم وليلة أقوله اتعلقت بيك ومينفعش نكمل جلسات وباي باي.. هبة شهاب مش سهل أبدًا.. فكرك دماغي متعبتنيش من كُتر التفكير.. يعني لو بعدت بدون مقدمات هو مش هايستغرب!! وكمان لو عرف أنا عرفته ازاي اصلًا ومين اللي قالي اساعده، ساعتها أنا هخاف عليكو كلكو! 

رمقتها في وهي كادت أن تبكي من جديد لتتوسلها هامسة:

- أرجوكي حاولي تكوني واثقة فيا شوية، أنا حاسة إن دماغي هاتنفجر من كتر التفكير.. 

تنهدت "هبة" في حُزن ثم جذبتها في عناق قوي لتجاهد الأخرى ألا تبكي بأعجوبة وتكلمت بصدق لتقول:

- أنا حاسة بيكي، بس.. بس الفكرة إن أنا وانتي لو سمعنا الموضوع من برا احنا الاتنين عارفين الصح إيه.. يا فيروز أنا خايفة عليكي.. وشهاب يعني مش آخر واحد في الدنيا علشان تتابعي حالته

ابتعدت قليلًا وهي تنظر لها في مصداقية وأومأت في تفهم وتقبلت كلماتها ولكنها تحدثت في وهن وتشتت:

- هو بس أنا عندي شوية لخبطة.. وبالرغم من إن الموضوع صعب بس.. أنا حاسة إنه بيستجيب ولو في الفترة القليلة دي هو بيـ..

لم تعد تتحمل فقاطعتها بنبرة ارتفعت قليلًا في غضب ولكنها عندما لاحظت تابعت بخفوت:

- حاسة!! حاسة يا فيروز.. احنا هنمشي بالإحساس.. انتي مش شايفة انتو بتبصوا لبعض ازاي ولا.. يا بنتي سبب اننا هنا أصلًا انه عايز يشوفك!! من امتى وهو يفرق معاه عزومة وكمان زاقق هاشم على الكل.. انتي مش واخدة بالك، ده متابعك بعينيه زي ما تكوني طفلة وهتوه! 

التفتت "فيروز" تبحث بعينيها عنه لتجده ينظر نحوها هي و "هبة" بالرغم من جلوسه بجانب والدها وحديثه إليه فأعادت نظرها لصديقتها ثم زفرت وحدثتها بثقة:

- أنا محتاجة وقت علشان اتصرف.. وقولتلك إن مشاعري دي مش حقيقية.. احتياج لشوية اهتمام مش اكتر، مجرد انجذاب سطحي.. علشان كنت دايمًا قافلة على نفسي بس أنا هعدي الفترة دي، هاعرف اتصرف واعدي كل ده.. يا صلحت كل حاجة يا إمّا هابعد خالص! متقلقيش! 

تفحصتها بعينيها لوهلة وهي تبحث عن تلك الثقة بملامحها التي تبدو تمامًا كالدمار فأومأت لها بإقتضاب وقالت:

- أنا واثقة فيكي.. بس مش عيزاكي تتأذي ولا تأذي حد.. أنا وانتي عارفين كويس إنك بتعملي الصح وعمرك ما بتوافقي على الغلط أبدًا.. متتأخريش يا فيروز أكتر من كده..

ابتلعت وهي تنظر إليها وأومأت لها في تفهم لتبتسم "هبة" نحوها بإقتضاب بينما نادتها اختها فتوجهت إليها "فيروز" لتشرد الأولى من جديد في هذا الأمر وهي على يقين بأن إذا استمر الأمر لن تكون العواقب جيدة أبدًا!

لم يعد يقتنع بأن كل ما يحدث حوله طبيعي، فجأة هكذا تغيرت معه لمعرفتها بقتله "سارة" ووالدها.. لقد أخبرها من قبل أنه فعل ذلك.. ما الجديد إذن؟! ولماذا "فيروز" اليوم تُكمل في ذلك الهدوء الغريب؟ هل يُمكن أن "هبة" تعرف شيئًا وتخفي الأمر؟ قرر أن يرى ما الذي سيحصل عليه إذا تحدث معها فأخرجتها نبرته الرجولية المتسائلة من شرودها و فالتفتت إليه ناظرة له:

- هي مالها فيروز؟

قطبت جبينها وابتسمت إليه وتصنعت أن كل شيء بخير بينما اجابته وهي تهز كتفيها بتلقائية:

- مالهاش.. كويسة اهى

همهم في تفهم ثم تفحصها مُضيقًا عينيه ليسألها مرة أخرى:

- بس مكنتش كده الفترة اللي فاتت! هو فيه حاجة أنا مش واخد بالي منها؟!

توسعت ابتسامتها لتتحول لضحكة خافتة شعر بسببها بالغيظ الشديد واجابته في ثقة:

- شهاب أنت متعرفش فيروز.. استحالة تعرفها زي ما أنا اعرفها.. لا دي فيروز بتاعة زمان، ولا عمرها هتكون.. شهرين مش زي سنين أبدًا! أنا معرفش فيه ايه ما بينكم غير الشغل وانكوا بقيتوا اصحاب.. بس نصيحة مني بلاش تقرب اوي منها! مجرد نصيحة وافتكرها كويس اوي، انت وفيروز عمركوا ما هتتفقوا.. اخركوا هيكون الشغل بس، اكتر من كده بلاش احسن! 

ابتسم في حقد ومقتها بنظرة لا تتحدث سوى بالكراهية الشديدة وتحدث هازئًا:

- ودي بقى هبة اللي عارفة كل حاجة الطيبة العاقلة اللي فاهمة كل الناس علشان كده لازم تتصرف والناس تعمل اللي تقول عليه! زي ما كنتي عايزة تعملي مع هاشم ووالدتك!

رفعت احدى حاجبيها في سخرية لحديثه عن والدتهما بهذه الطريقة ونظرت له بتماثل شديد وتصدت له متحدثة في ثقة:

- أنا معرفكش.. بس عارفة صاحبتي، وأعرف أخويا وأعرف ماما كويس اوي! والجو اللي انت عامله ده لا هيفيدك ولا هيفدنا بحاجة.. وصدقني بكرة هتيجي تقول الأول كان احسن! مفيش حاجة هتتغير يا شهاب.. أنا فهمتك من يوم الخطوبة والعربية والهدايا وعيد الميلاد والعزومة وكل ده أنا فهمته كويس.. انت عايز تسيطر على كل اللي حواليك وتثبت إنك احسن من الكل بأي طريقة.. سميها بقى اسرار المهنة.. بس كل ده..

توقفت وهي تشير بسبابتها وعينيها ثم تابعت بخفوت وضيقت عينيها متفحصة اياه:

- مش هاينفع! صدقني مش هيفيدك ولا هيفدنا!

ابتسمت له بإنتصار بينما تحولت ملامحه للغضب من تلك الكلمات التي أخفت الكثير من المعان التي فهماها كلاهما جيدًا وقبل أن يتحدث همست إليه:

- انا من اول يوم وانا بحاول افهم من فيروز تعرف ايه عنك.. ومش هاكدب واقولك إني عرفت اوصل لحاجة.. مش عايزة تقولي حرف لأنها عمرها ما بتنقل كلام بين حد.. ممكن افهم بقى فيه إيه بالظبط؟

تفقدها في حيرة للحظات وهو يُفكر جيدًا ثم اجابها سائلًا:

- مش انتو اصحاب من سنين.. إيه رأيك تسأليها انتي؟

شعرت بإستفزاز هائل بعد تلك الإبتسامة التي أضافها بعد سؤاله الساخر لتتلاحق أنفاسها في غضب وقبل أن تتحدث آتت "فيروز" لتقاطع كلاهما:

- هبة.. طنط آمال عايزاكي بتقول جميلة صحيت! 

نظرت نحوها بغضب ثم سلطت من جديد نظرتها عليه لترمقه بإشمئزاز ثم التفتت وغادرتهما لتتعجب "فيروز" وسألته:

- فيه إيه يا شهاب؟ مالها هبة؟

ابتعد بنظره ووقف مسلطًا داكنتيه أمامه بالفراغ ثم وضع يديه بجيبي بنطاله ومط شفتاه في امتعاض وتعالي ثم اجابها:

- معرفش!

همهمت في تفهم ونظرت إلي ملامحه التي استطاعت أن تلمحها من جانب وجهه ولوهلة فكرت قبل أن تتحدث واستجمعت شجاعتها لتتكلم في تحذير:

- متنساش إن دي اختك.. مش وائل ولا سارة ولا حد من ولاد عمك!

التفت إليها وعقد حاجباه في انفعال فأكملت هي دون إكتراث لغضبه:

- هبة لأ يا شهاب! بجد لو عملتلها أي حاجة انت هتخسرني بجد!

زمت شفتاها في ضيق بينما تفقدها وها هي تُحذره بفقدانها للمرة الثانية اليوم!! ما الذي حدث لها؟ الأمر ليس فشل ونجاح فحسب.. ما الذي يدفعها لكل ذلك؟! هل هي حقًا لا تستطيع تقبل أمر أنه قتل شخصان بدافع الإنتقام الذي يستحقه بعد سنوات؟!

شرد أكثر مُفكرًا في كلماتها حتى بعد أن تركته وذهبت، أليست "هبة" من ذهبت إليها بذلك اليوم الذي لم يتقابلا به؟! ما الذي حدث يومها؟ هناك شيئًا بينما لا يعرفه هو ولكنه سيجد معنى لكل ذلك حتمًا!

     


مساء نفس اليوم..

لقد كانت بمنتهى الغباء أن تترك نفسها تبكي أمامه هكذا بمثل تلك الطريقة، هو ليس بغبي.. هو أبعد ما يكون عن الغباء.. بالطبع لقد أدرك أنها تكترث للغاية بشأنه، عليها أن تتوقف عن ذلك وإلا سوف يكون عليه انتظار حرقه لشخصًا تهتم به، أو تدخله في عمل أحد تكترث له حقًا مثل ما فعل معها.. وإذا استمرت في تفلت مشاعرها بهذه الطريقة ستكون على موعد مع اكتشافه لحقيقة تدخل "بدر الدين" بالأمر منذ البداية ووقتها لن يكون موقفها جيدًا أمامه..

يجب أن تنتبه جيدًا إلي افعالها حتى تنهي كل ذلك الأمر.. يستحيل أن تكون معه بعلاقة، يستحيل أن تتغير بين يوم وليلة هكذا.. ربما إدعائها أن كل ما يحدث سببه الحقيقي قتله شخصان قد يؤتي بثماره.. خطوة بخطوة إلي أن تعترف بأنها فشلت وستتركه وتذهب.. أو ربما ستستطيع أن تحرز نجاحًا مع هذا السيكوباتي.. أهي تريد أن تعالجه أم تريد الإبتعاد؟ هي حقًا لا تدري ولقد التهمت نيران التفكير عقلها حتى باتت لا تستطيع أن تحدد ماهية ما تريده..

تحتاج إلي إلهاء، عليها العودة إلي عملها، العودة إلي أسرتها واصدقائها، العودة لممارسة الرياضة، وأهم شيء العودة إلي تلك التي ودعتها منذ أكثر من عام والإبتعاد عنه تمامًا!

حتى ولو كان صديقها، أي صديق لها لا يأخذ سوى وقت من يومها وليس يومها بأكمله.. وعليه رغمًا عن أنفه تقبل ذلك الأمر شاء أم آبى.. وعليه أن يتوقف عن محادثتها بتلك المكالمات مثل ما يفعل الآن!!

زفرت في ضيق ثم تمتمت بالإستغفار وهي تُمسك بهاتفها الجديد الذي ابتاعه لها ثم اجابته بنبرة لم تحمل أية مشاعر سوى الرسمية الشديدة فآتاها صوته السائل:

- روحتي؟ 

همهمت مجيبة وانتظرت لترى ما الذي يريد التحدث بشأنه فسألها قائلًا:

- إيه رأيك نروح نشوف المستشفى بكرة؟

كادت أن تصرخ به بينما سيطرت على غضبها واجابته في هدوء:

- قولتلك إني عندي شغل..

أردف مسرعًا ثم أضاف في تساؤل:

- آه صح نسيت.. بعد بكرة طيب! بعد شغلك.. إيه رأيك؟

فكرت قليلًا قبل أن تجيبه، لو رفضت كل محاولاته بالطبع سيدرك أن هناك شيئًا خلف رفضها فأجابته:

- تمام مفيش مشكلة..

قبل أن يبادر بالمزيد من الحديث صدح هاتفها الآخر بالرنين لتحاول هي التفلت منه وإنهاء المكالمة معه فقالت:

- شهاب ملش فيه مكالمة على موبايلي التاني وعندي الصبح شغل و..

قاطعها عندما أدرك ما تحاول فعله:

- تمام.. خلصي مكالمتك وأنا مستنيكي!

حمحمت وهي تُفكر لوهلة وقبل أن يسيطر عليها الغضب قررت أن تستخدم الموقف بذكاء فأخبرته:

- أوك.. استنى!

فَعلت كتم المكالمة كي لا يستمع لها وتركته بنظرة انتصار لمعت بعينيها لتمتم لنفسها وهي تجذب هاتفها الآخر قبل أن تجيب:

- إذا كان عجبك بقى!! ..

تنهدت ثم أجابت:

- أيوة يا لبنى.. ازيك يا حبيبتي عاملة إيه؟

ردت مجيبة بنبرة تحمل القليل من الحزن:

- الحمد لله تمام.. انتي عاملة ايه؟

تمنت ألا تستمع لذلك السؤال المعتاد الذي لو اجابت عليه ستنفجر حتمًا ولكنها اجابتها كما أنها لاحظت اختلاف نبرتها:

- كويسة الحمد لله، انتي مال صوتك فيه إيه؟

ابتسمت بإقتضاب وحاولت البدء في الحديث أكثر من مرة لتزفر ثم تحدثت في غضب:

- كنا كويسين يا فيروز، بعد عيد ميلادك عملت اللي قولتي عليه، ومكنتش بصراحة اتصور اننا هنتبسط كده.. ما صدقت اننا كنا كويسين والدنيا تمام وفجأة قالي انه هيتنقل أسيوط! 

اندهشت "فيروز" مما تستمع إليه ثم سألتها في إنكار:

- أسيوط!! 

زفرت من جديد وتابعت:

- أيوة.. بيرخموا عليه في الشغل.. محبكش يتنقل غير جوزي! ولا فرق معاهم الولاد وبيته.. وفجأة قرار النقل ده طلع!

شعرت بالحزن من أجلها وحاولت البحث عن كلمات لتخفف عنها قليلًا:

- معلش يا لبنى متضايقيش.. اهم حاجة إنكو دلوقتي كويسين.. وبعدين ممكن تنقلي انتي والولاد معاه لو هيفضل هناك فترة و..

قاطعتها في حنق:

- ننقل إيه بس والولاد ومدارسهم واصحابهم والتمرين وماما وحياتنا ودنيتنا كلها هنا! 

فكرت في كلماتها التي بدت منطقية للغاية وذهب تفكيرها بأن ربما قرار نقل "معاذ" إلي محافظة أخرى بسبب بحثه الدائم الذي لا يتوقف خلف مقتل زوجها لتشعر بتأنيب الضمير وكأنها هي السبب وراء كل ما يحدث فهمست إليها:

- عندك حق.. بس يا لبنى حاولي متتعصبيش وتبينيله إنك متضايقة.. هو اكيد محتاجك جنبه دلوقتي.. وإن شاء الله يرجع هنا تاني قريب وميطولش.. انتي فاهمة شغلهم عامل ازاي!

ابتلعت وهي تصمت لوهلة في حزن ولكنها استطردت:

- والله بحاول.. بس انتي عارفة إن اللوا شوقي ده مبيسبهوش في حاله .. أنا حاسة إني هنفجر من ساعة ما عرفت ومتغاظة وعايزة احكي لأي حد.. ويادوب استنيته يروح يسلم على مامته وكلمتك!! 

أومأت في تفهم وأكملت حديثها معها:

- حبيبتي أنا موجودة في اي وقت.. لما تحبي تتكلمي اتصلي على طول.. وأنا عارفة إني كنت مشغولة شوية الفترة اللي فاتت بس خلاص خلصت اللي ورايا وهتلاقيني جنبك على طول.. وإن شاء الله معاذ يرجع تاني بالسلامة وحاولي متضايقيش ولا تتعصبي علشان علاقتكوا ببعض متبوظش تاني..

ردت بإبتسامة لا تعبر سوى عن الحزن:

- ولا يهمك.. إن شاء الله كله يبقى كويس.. شكرًا يا حبيبتي

توسعت ابتسامتها وهي تزفر خلالها بتلقائية وقالت:

- بس يا بنتي بطلي هبل متقوليش كده! وبعدين يعني الراجل اللي راجع من عند مامته ده قومي اعمليله عشوة حلوة كده..

ضحكت بينما تابعت في ثقة:

- على النار متقلقيش..

ضحكت هي الأخرى وحدثتها في مزاح:

- اوبا بقى على الدلع.. يا بختك يا عم معاذ!! 

شعرت الأخرى بالخجل لتحمحم بينما أخبرتها بتلعثم:

- طيب ممم.. أنا بقول نكمل كلامنا بكرة!

ضحكت "فيروز" من جديد وهي تهمهم في تفهم وقالت:

- يااه لسه بتتكسفي يا بنتي انتو بقالكوا سنين متجوزين وانتي كبرتي على جو الكسوف ده.. بس ماشي هاسيبك علشان الليلة اللي شكلها هتبقى حلوة دي!

أنهت المكالمة وهي لا تزال تحمل بعضًا من نبرتها المرحة ثم تفقدت الهاتف الآخر لتجد "شهاب" لا يزال منتظرًا فاستكملت حديثهما ليسألها دون مقدمات:

- كنتي بتكلمي مين؟

كادت أن تصرخ به لتخبره أنه ليس من شأنه ثم تذكرت ربما أنه قد يكون يراقب مكالمتها مثلما أخبرها "بدر الدين" يومًا ما كما تذكرت أنها إذا تركت غضبها ليخرج ذلك أمام عينيه ويشعر به سيدرك أنها تعامله بطريقة غريبة فأجابته بالنهاية:

- واحدة صاحبتي

همهم في تفهم ولكنه تابع بسخرية سائلًا:

- وعلشان كده كنتي قافلة الصوت ومش عايزاني اسمع المكالمة؟

يا له من وقح!! أيظن أن له كامل الحق فيما تفعله حتى تصل جرأته للإعتراض على مجرد إرادتها للحصول على بعض الخصوصية.. يجب إيقافه عند حده!! 

قررت أن تزجره ولكنها توقفت للحظة وتذكرت ما أخبرتها به "هبة" عن نظرته إلي "معاذ" يوم ميلادها فقررت أن تعلم ما إن كان له يدًا بالأمر فقد فعلها معها هي شخصيًا فلماذا قد يختلف تصرفه مع رجل شعر منه بالغيره، هذا إن كانت "هبة" مُحقة..

ردت في النهاية لتجيبه بهدوء وتريث وادعت صعوبة الحديث:

- شهاب الفكرة في إن مش معنى إنك صاحبي وليا اصحاب تانية ده يدي الحق ليا في إني محافظش على أسرار الناس، ولبنى كانت بتكلمني و.. وأنا عارفة إن هي ومعاذ فيه ما بينهم مشاكل.. محبتش أجرحها واخليك تسمع التفاصيل.. وبعدين أنا كنت بحاول اصلح الدنيا بينهم شوية.. يعني .. يوم ما كانوا موجودين في عيد ميلادي حاولت اتكلم مع كل واحد فيهم لواحده على أمل إن الدنيا تبقى تمام!

همهم في سأم من جديد بينما قرر أن سيتفقد مصداقية كلماتها لاحقًا فهو يشعر بأن هناك أمر لا يعلمه وادعى الإهتمام الزائف ليقول:

تمام.. كويس.. يعني بكرة يكونوا كويسين اكيد مشاكل عادية وهيحلوها!

تنهدت في تلقائية وهي كادت أن تقترب مما تريد فتابعت بنبرة حزينة:

- إن شاء الله.. هم بقوا كويسين بس الفكرة إن جاله قرار نقل وغصب عنهم لازم هيبعدوا عن بعض.. وحاسة إني أنا السبب في قرار نقله ده نوعًا ما.. علشان كده حاسة بالذنب!

عقد حاجباه في استغراب فسألها متعجبًا:

- وانتي مالك يعني بقرار نقله بالظبط؟

حمحمت وتناولت نفسًا طويلًا ثم زفرته لتجيب:

- معاذ من يوم ما ماهر ما مات وهو بيتدخل في القضية علشان يحاول يوصل للي قتله! القيادات عنده طبعًا مش عاجبهم اللي بيعمله.. بالرغم من انهم اصحاب اوي بس برضو حاسة إنه بيعمل كده علشان معزتي عنده كأخته وصاحبته.. فهمتني؟! ولا كلامي كله ملوش معنى؟

استمع لنبرتها الحزينة ليُهمهم في تفهم بينما قال:

- خليني أشوف هاعمل إيه! 

اندهشت لتردف في تعجب:

- ثواني أنا مش فاهمة.. شهاب انت هاتعمل إيه؟ 

انتظر للحظة قبل أن يُجيبها ثم رد قائلًا:

- ممكن اتصرف واخليه ميتنقلش.. مش ده هيبسطك وهيخلي الدنيا ما بينه وبين مراته احسن! يمكن اعرف اساعد!

ابتلعت وهي لم تكن تتوقع أنه سيجيب بذلك بل ويقدم يد العون وقبل أن تتابع تحدث هو:

- اقفلي وهاكلمك تاني.. سلام!

قطبت جبينها في اندهاش وأخذت تفكر في الأمر، لو قرر أن يُبعده فلماذا إذن يساعده الآن؟ أيود أن يُصبح بطلًا ما في نظرها؟ ستعلم حقًا ما مقصده من كل ذلك! 

     

دخلت غرفة المكتب التي بات "سليم" متشبثًا بها كثيرًا بالأيام الماضية وبالكاد يتحدث بكلمة أو اثنان مع الجميع ولكنها لا تريد محادثته في الأمر كي لا تُغضبه أكثر فهي تعرف جيدًا كيف يُصبح وهو غاضب فرمقته بنظرة سريعة وهو جالس يعمل وبالرغم من طلبه للقهوة بهذا الوقت وقد قاربت الساعة على منتصف الليل ولكنها لم تبدأ بالإعتراض وامتثلت الصمت من جديد مثل ما تفعل بتلك الأيام الماضية ثم تركت القهوة على مكتبه ولم يبادلها ولو نظرة ولم يُخبرها حتى بكلمة ثناء واحدة فالتفتت وهي تشعر بالحزن ومشت في طريقها لتغادر فأوقفها مناديًا:

- زينة.. استني!

تريثت ثم التفتت له وردت في هدوء:

- نعم يا سليم..

زفر في إرهاق ثم نهض ليتوجه نحوها ونظر إليها وقد قرآت العديد من المشاعر بعينيه ثم همس إليها مبتسمًا بإقتضاب:

- تسلم ايدك على القهوة..

ابتسمت له بصدق ثم أومأت في تفهم فأردف هو بخفوت ونبرة حملت الندم والإعتذار:

- أنا عارف آخر كام يوم كنت عصبي وسخيف اوي.. معلش متزعليش مني..

أمسك بكف يدها ثم قبله لتنظر هي له ووضعت يدها تتلمس ذقنه وهمست:

- أنا مش مهم هاستحملك وعمري ما هازعل منك.. أنا فاهمة إنك شايل المسئولية وحالة خالو مأثرة عليك.. إنما سيدرا ذنبها إيه؟

تبادلا النظرات لتصرخ زرقاويتيها بكم هو مخطئ بينما أدركت عسليتاه مقصدها ولكن كان صعبًا للغاية أن يتهاون بالأمر فتحدث بضيق:

- قاعدة ومقضياها ضحك ومسخرة والساعة كانت اتناشر.. بذمتك لو بدر كان قاعد معاهم ولا كان صاحي كانت عملت كده؟

ابتسمت إليه بإقتضاب وردت متكلمة في تريث:

- سليم.. متنساش إن سيدرا ولا أدهم هم الاتنين جدتهم ماتت زينا زيهم.. ولو حد يقدر يخرج التاني من الزعل فهيبقى اللي بيحبه.. أنا جابنك، وطنط نور جنب خالو.. يبقى طبيعي إن أدهم يحاول يخفف عن سيدرا ولا حتى العكس.. وبعدين يا سليم دول لسه صغيرين اوي.. راعي برضو فرق السن يا حبيبي..

رمقها ثم زم شفتاه في حنق وشعور بالذنب:

- هصالحها حاضر وهابقى اخدهم نخرج سوا انا وانتي وهم!

أومأت له بإبتسامة فاقترب ليُقبل جبينها فهمست له في حنان:

- ومعلش حاول تقعد مع خالو اكتر.. الشغل مش هيطير يا سليم..

أومأ وهو ينظر له بعشق ثم حدثها متنهدًا: 

- حاضر.. أوامر يا زوزا!

     

تردد كثيرًا قبل أن يقوم بتلك المكالمة.. ولكن من أجلها سيفعل أي شيء.. بالرغم بشعوره بتلك اللهيب الجارية بعروقه بدلًا من دماءه كلما تذكر ذلك الوغد "معاذ" ولكن هذا سيبرهن لها أنه قادرًا على مساعدة الناس وليس إيذائهم فقط.. لذا فلقد انتهى من أمر الرجوع بقرار نقله إلي محافظة أخرى.. لم ينهه بشكل كامل ولكن جعلها فترة ثلاثة أشهر فقط.. ولكن ماذا عن زوجها؟ ماذا لو استطاع المساعدة في هذا الأمر كذلك؟

هذا العاهر الذي يبدو أنه لن ينتهي منه أبدًا! يقف بينهما كعائق حقير ولكنه بما أوشك على فعله قد يُغير كل شيء.. قد تراه بمنظور آخر.. وقد يكون السبب خلف كل تغيرها معه حقيقة أنها لم تتقبل قتله تلك العاهرة ووالدها! لقد سأم التفكير في كل شيء، يشعر بآلم غريب لم يشعر به من قبل وكل ما يريده الآن هو العودة إليها مثل ما كانا بالسابق..

زفر بعد أن أخذ قراره، جذب هاتفه، اتصل برقمٍ ما وهو ينتظر الإجابة، لقد قرر بالسابق ألا يفتح ذلك الباب ولكن من أجلها سيفعل أي شيء قد يجعلها تشعر أفضل..

استمع جيدًا ليعلم أن الطرف الآخر قد أجاب فتحدث بالإيطالية ليقول:

- مرحبًا كلوديا..

استمع لضحكتها التي لوهلة شعر بالإشتياق إليها فردت بعهرها المازح الذي لن تتوقف عنه أبدًا ثم قالت:

- تشاو ليو.. إلي من ادين بالفضل لسماع صوتك أيها الوغد بعد عامان بأكملهما؟!

ابتسم وكاد أن يتحدث ليأتيه صوتها:

- انتظر.. 

عقد "شهاب" حاجباه بينما استمع لنبرتها من جديد وهي تُحدث أحد بجانبها:

- هل ابتر خصيتيك أم قضيبك؟! فكر بالأمر وسأترك لك فرصة إلي أن انتهي من هذه المكالمة.. وإلا إن لم تقل من الذي اعترض طريق الشحنة أقسم لك أنني سأبتر ما يُميزك عن النساء مثلما فعلت بهذا الإصبع أيها العاهر!

انتهت ليستمع "شهاب" لصراخ رجل فعلم ما تفعله وهز رأسه في إنكار بينما حدثته من جديد:

- كيف حالك ليو؟

زفر في ضيق ثم اجابها:

- بخير.. ولكن أظن أنني في حاجة لمعروف!

صدحت ضحكتها ثم حدثته بخبث هامسة:

- أوه ليو!! معروف!! ولكن تعلم المُقابل أليس كذلك؟

لن تتغير أبدًا هذه العاهرة.. فكر للحظة ثم اجابها:

- نعم.. كلوديا دائمًا تحصد المقابل.. أفهم ذلك.. ولكن لقد تلقيت رصاصة بدلًا منك.. أنتِ تدينين لي عزيزتي!

صاحت بصرخة تنم عن الرفض لتصيح به:

- أيها الوغد لقد تلقيت رصاصة أنا الأخرى بدلًا منك.. لقد فعلتها قبلك على كل حال!! نحن متساويان عزيزي ولا يدين أحد منا للآخر بشيء.. أم نسيت كل هذا؟!

عقد حاجباه من جديد وهو يتذكر ما حدث بالسابق ثم أومأ في تفهم ليعود من الجديد ليُحدثها ضاحكًا:  

- حسنًا.. أنتِ محقة.. لقد ضحيتِ بنفسك من أجلي ولقد قمت أنا بالمثل وانتهى الأمر! لا يدين أحد للآخر بشيء!

زفرت ثم تحولت نبرتها للجدية لتسأله:

- لقد أشتقت حقًا للخوض معك بتلك الجدالات ولكن توقف عن المزاح الآن لأنني أقوم بتعذيب وغد آخر.. أخبرني.. ماذا تريد؟

حمحم ثم اجابها قائلًا:

- هناك رجل قُتل.. ضابط بالجيش المصري.. أريد أن أعلم من قتله!

     

بعد مرور يوم.. الساعة الثانية ظهرًا..

خرجت من باب المدرسة لتجده في انتظارها ولكن هل آتى حقًا مستقلًا دراجة بخارية؟ هل هو شاب بالعشرون من عمره أم ماذا؟ لا تصدق مفاجآته التي لا تنتهي.. كما عليه التوقف عن الإبتسام بتلك الطريقة وإلا لن يُصبح الأمر هينًا عليها بالأيام المُقبلة فهي بالكاد تحاول أن تكبح عقلها عن تلك التخيلات التي لا تنفك تعصف بعقلها بين الحين والآخر!

أقبل نحوها وهو لا يزال محافظًا على ابتسامته الساحرة ثم سألها:

- عاملة إيه؟ 

أومأت له ثم عقدت ذراعيها واجابته برسمية:

- تمام وأنت؟

لماذا لا تبتسم واحدة من ابتسامتها الرائعة؟ ما الذي حدث لتلك المرأة؟ ما الذي تغير؟ زفر واختفت ابتسامته ثم اجابها:

- كويس.. شغل كتير بس

همهمت له في تفهم ورمقته في جدية ليردف:

- يالا بينا..

أومأت له بينما اتجهت لتلك السيارة التي اهداها اياها بينما كاد أن يتوجه هو لدراجته فأوقفها هاتفًا بتساؤل:

- إيه ده.. مش هتركبي معايا؟

نظرت له بعينين متسعتين ثم إلي دراجته ومجددًا له بمنتهى الإشمئزاز وقد أدرك أنها ترفض تمامًا خاصة بعد أن هزت رأسها بالنفي فأومأ لها بالموافقة:

- خلاص خلاص هنروح بالعربية.. متبصليش بعينيكي كده تاني!

رغمًا عنها لم تستطع محاربة تلك الإبتسامة التي ارتسمت على شفتاها من تقاسيم وجهه المازح ودخل كلاهما السيارة لتقود "فيروز" حيث المشفى التي قد انتهت تماما مثلما أخبرها..

لقد انزعج من حديثهما المقتضب، المكالمات الكثيرة مع اصدقائها واختها وكل ذلك لقد سأم منه، حتى وهي معه لا تتوقف عن الإستمرار بتلك الطريقة الغريبة.. ما الذي حدث؟ 

طوال الطريق بالكاد تحدثا، يحاول أن يُفاتحها بأشياء عدة ولكنها تجيب بالقليل من الحروف.. لقد قارب على أن يُجن من طريقتها تلك.. التفت ليرمقا في لوم شديد وغضب هائل وهو يقرر بداخله إن لم تعد لسابق عهدها معه سيجبرها لتفعل إذن!!

ترجلا من السيارة التي صفتها "فيروز" في مرأب المشفى وقد لاحظ الإندهاش الشديد على ملامحها وذلك الإنبهار ليبتسم بصدق على رؤية تعبيرات وجهها ولأول مرة يشعر بمثل تلك السعادة لإنتهاءه من بناء مجرد مبنى.. تلك المرأة وكل ما يتعلق بها يبدو أنه يُغيره بالفعل..

توجها نحو المصعد بينما تحدث مقترحًا:

- أنا شايف اننا نتفرج على آخر دور الأول!

ضغط على الزر الذي يشير إلي آخر طابق بينما التفتت له بأعين مستفسرة ليبتسم إليها وقال:

- متقلقيش.. كل حاجة اتقفلت.. متخافيش مش هاسيبك تقعي وأنا معاكي!

ابتسمت له بصدق وهي تتذكر تلك المرة التي آتت بها عندما شعرت بالرعب عندما استقلا ذلك الشيء اللعين وكادت أن تسقط ولقد أمسك هو بها فنظرت إليه وتمنت لو تحدثت وضحكت وأخبرته عن ذلك اليوم ولكنها امتثلت الصمت وسيطرت على مشاعرها كي لا توجد المزيد من الأسباب التي من دورها أن تُعزز ذلك الإنجذاب بينهما فأضاف من جديد هامسًا:

- أنا يومها خوفت عليكي فعلًا! 

رمقت تلك الإبتسامة التي بدت صادقة للغاية وأدركت جيدًا ما يُعنيه بتلك الداكنتان التي تعبر عن الكثير من المشاعر فتنهدت ثم تحدثت ولم تعد تستطيع السكوت أكثر من ذلك فقالت:

- كويس إنك كنت موجود! 

تنهد ثم تمتم وهو ينظر إليها ثم عقد حاجباه ليهمس سائلًا:

 - أنا دايمًا هاكون موجود جنبك.. انتي عارفة كده صح؟

أومأت إليه في تفهم بينما توقف المصعد ليترجل كلاهما للخارج ليسبقها "شهاب" بقليل وكأنه يعلم إلي أين هو ذاهب بينما أخذت تتفقد محتويات المشفى حولها، تلك الجدران وهذه الأرضية.. تشعر وكأنها بشركة ما وليس بمشفى على الإطلاق..

توقفت عن النظر عندما حدثها قائلًا:

- ده الدور الإدراي.. وأظن ده مكتبك..

توقف ليفتح احدى الأبواب وتبعه بفتحه للأنوار التي كشفت عن محتويات غرفة المكتب التي بدت عصرية للغاية ولن تُنكر أنها حتى أفضل من مكتبه هو نفسه الذي رآته عندما قابلته لأول مرة منذ شهور وانعقد لسانها بينما أرادت قول الكثير ولكن انبهارها بما تراه لم يدع لها الفرصة كي تجد الكلمات لإمتنانها الذي لابد أن تتحدث به فتحدث هو بدلًا منها في استفسار:

- أنا اللي اخترت.. وحش اوي ولا إيه؟

التفتت له بينما أومأت بالنفي وابتسمت إليه بصدق دون تلك الرسمية والإبتسامات المتكلفة ثم اجابته:

- احسن مكتب شوفته في حياتي.. مشوفتوش في الأفلام حتى.. شكرًا يا شهاب مش عارفة أقولك إيه!

بادلها الإبتسامة وكم ود أن يبقى ناظرًا لتلك الحدقتان ولكنه أشار نحو المكتب برأسه ثم تكلم قائلًا:

- افتحي الـ laptop..

ضيقت ما بين حاجبيها في استفسار وكادت أن تتحدث بينما اوقفها وسبقها مخبرًا اياها بنبرة نافذة للصبر:

- أرجوكي بلاش عِند واسمعي الكلام..

توجهت لتجلس على كرسي المكتب وقامت بتشغيل الحاسوب مثل ما أخبرها فتحرك بخفة وجذب كرسيًا وجلس بجانبها وتابع حديثه:

- معاذ هيروح أسيوط تلت شهور بس وهيرجع.. معرفش حد بلغه ولا لأ.. بس لو حابة تعرفي مراته انتي حرة..

التفتت لتنظر له بدهشة فوجدته قريبًا للغاية منها ليُبادلها النظرات في صمت وقد شعرت هي بإختلاف رائحته فهو لم يعد يضع ذلك العطر القوي لاذع الرائحة بينما كل ما تمناه حقًا أن يتذوق تلك الشفتان بأي طريقة ولكنه يعلم جيدًا أنه لو فعلها لن تتقبل هي ذلك فابتلع بصعوبة ولاحظت هي ذلك البروز بعنقه يتحرك فابتعدت بعينيها عن داكنتيه بينما حمحم في محاولة بائسة للتخلي عن أفكاره فيما يخص تقبيلها ثم تكلم بهمس:

- افتحي الايميل بتاعك كده..

انتقلت يدها سريعًا لتفعل ما قاله وحدثته في امتنان لتقول:

- شهاب شكرًا على اللي عملته مع معاذ والمستشفى .. أنا فعلًا مش لاقية كلام اقوله! بس أنت ازاي عرفت تـ..

توقفت عن الكلام من تلقاء نفسها عندما رآت بريدًا إلكترونيًا مصدره مجهول فتفقدته لتتعجب لمحتواه فهو به صور لرجل غريب لا تعرفه فالتفتت له بأعين سائلة لتختلف ملامحه ولكنه ود أن ينتهي من هذا الأمر برمته فقال بقليل من التلعثم:

- أبو محمد المنصور.. اسمه الحقيقي حمدي جابر السيد.. هو اللي قتل جوزك!

     

#يُتبع . . . 

ملحوظة : الفصل القادم بتاريخ 16 ديسمبر 2020