-->

الفصل التاسع والأربعون - شهاب قاتم

 - الفصل التاسع والأربعون - 

     

~ إحنا عايشين فى مجتمع مريض نفسيًا لا عايز يتعالج ولا عايز حتى يعترف إنه مريض..

- عمرو الجندي

     


بعد مرور ثلاثة أيام.. الثامن عشر من ديسمبر 2019.. صباح يوم الأربعاء..

هذه البلد غريبة، كل تفاصيلها عجيبة للغاية، والأغرب هذا السائق الذي ظنت أنه يتحدث الإنجليزية، لقد توقعت سائق وسيم نوعًا ما ولكنه كان يبدو قبيحًا بشكل لا يُطاق.. ربما عنده انتهاءها من ذلك المعروف الخفي الذي لم يفصح عنه "ليوناردو" ستتضاجعه لتحظى ببعض المتعة، وستحاسبه حسابًا عسيرًا على ارساله هذا السائق القبيح غير الجذاب إليها..

أشعلت احدى سجائرها وهي تراقب الطريق بعينيها بينما استنشقت دخانها بتريث شديد بين شفتاها الفاتنتان ثم شردت وهي تُفكر بالأمر، ولم يبق سوى سؤال واحد لم تستطع الإجابة عليه، ألا وهو لماذا لم يخبرها بسبب احتياجه إليها؟! 

حسنًا من معرفتها به هناك احتمالان لا ثالث لهما.. إما الأمر هام للغاية وهو يتبع قواعده الخاصة بالحيطة والحذر مثل ما كان يفعل دائمًا وإما الأمر تافه للغاية.. ستعلم بعد ثوانٍ على كل حال!! وأيًا كان الأمر فستساعده إلي النهاية، أولًا؛ لأنه الرجل الوحيد الذي لم تشعر مع سواه بالثقة.. والثاني، هو أن "كارلو" بجنونه المحض يبدو وأنه سيُفسد كل شيء قريبًا.. وقتها ستحتاج إلي "ليوناردو" أكثر من أي احد آخر..

ترجلت من سيارتها ثم انتظرت السائق أن يُخرج لها حقيبتها ورمقته بملامح ممتعضة ثم مشت بحذائها الشتوي ذو الكعب العال وتفقدت تلك اللوحة التي كُتب عليها رقم المنزل فكانت هي كما أرسل لها العنوان.. طرقت الباب وانتظرت لتراه فظهر لها بطلته التي لم ترها عليه من قبل لتتحول ملامحها للإشمئزاز ثم زفرت زفرة مصحوبة بصوت وحدثته بالإيطالية قائلة:

- هل انضممت لعائلة ما تُفرض عليك الجوع والقبح؟ لماذا تبدو هكذا أيها الوغد؟

ابتلع وهو يلوي شفتاه في قلة حيلة ثم ابتعد قليلًا ليُفسح لها المجال للدخول لمنزله ليستمع لصياحها الذي ينم على الهول والإنزعاج ثم تابعت:

- هل هذه العائلة أيضًا هشمت منزلك؟ بربك ليو!! ما الذي يحدث معك؟

فرغت من النظر إلي محتويات المنزل التي بدت كدمار تام وكذلك المنزل بأكمله يبدو قذرًا بكل تلك زجاجات الخمر الفارغة وأكواب كثيرة من القهوة غير النظيفة فالتفتت له ثم عقدت ذراعيها ووقفت بشموخها الأنثوي ثم رمقته في جدية:

- ما الذي يحدث معك بحق الجحيم؟ 

زفر في ارهاق ثم اغلق باب منزله وأشار لها برأسه لتتبعه نحو المطبخ ووقف لصنع القهوة عله يستيقظ من آثار تلك الخمر ثم همس لها:

- أنا حقًا احتاج مساعدتك هذه المرة أكثر من أي مرة أخرى في حياتي.. وسأفعل لكِ كل ما تريدي، ولكن.. لا تتركيني دون أن تساعديني بهذا الأمر أرجوكِ كلوديا! 

لم تسمعه من قبل يتوسل.. هذه الأولى على الإطلاق.. بالرغم من رغبتها في إبراحه ضربًا وإيقاع أشد أنواع العذاب به ولكنه يبدو أن هناك أمرًا عظيمًا يحدث وهي لا تعلم عنه شيء فحدثته بجدية:

- سأساعدك وسآخذ المقابل لاحقًا.. أعدك بهذا.. ولكن اخبرني ماذا هناك! 

تنهد ثم شرد واضعًا يده على هذا الإبريق الزجاجي الذي ينتظر به نضوج المياة وبعد محاولات عدة لإخبارها في الأمر همس بخفوت:

- لقد وقعت في عشق إمرأة!!

     

جذبت هاتفها الذي يصدح بالرنين دون إنقطاع لتجيبه، لا تدري لماذا تحتاج إلي النوم بشدة هذه الأيام.. لا تتوق سوى للنوم والذهاب لمدينة كاسل وتجلس أمام نهر الفولدا وتتناول البطاطا المقلية دون اكتفاء ولكن حتى الآن الوقت في ديسمبر سيكون بمثابة انتحار حتمي بذلك الجو البارد هناك:

- آلو..

انزعج "عاصم" قليلًا من شعوره بإيقاظه لأخته ولكنه لم يعد يتحمل عصبية "سليم" المُفرطة، وبالطبع بعد اندلاع ذلك البركان لا يدري لمن يتحدث سواها:

- معلش يا زينة صحيتك..

همهمت في نعاس وهي تحاول أن تفيق بأعجوبة وكذلك شعرت بالإستغراب فهي لم تكن يومًا قريبة هي و "عاصم" فسألته:

- لا ولا يهمك.. قولي فيه ايه؟

زفر في حنق وتحدث دون انقطاع:

- جوزك بقى فظيع.. لازق في الشغل وعصبيته بقت مش ممكن.. اه صحيح طول عمره عصبي بس مش كده.. منكد علينا اوي يا زينة بجد شوفيله صرفة.. أنا لولا الموضوع اللي حصل ده كنت كلمت خالي.. بس بقى بجد لا يُطاق يعني!! رهيب.. طول الوقت بيشخط فينا وبيجي قبل الكل وبيمشي تقريبًا اتنين الفجر معرفش حتى بينام ازاي ده!

أوقفته عن الحديث بعد أن تنبهت من نعاسها وأدركت إلي ما يُعنيه:

- طيب طيب أنا هتصرف.. هو في الشركة دلوقتي مش كده؟

اجابها متنهدًا:

- ايوة في الشغل! 

همهمت في تفهم:

- خلاص سبني انا هتصرف.. خطيبتك عاملة إيه صحيح؟

تريث لبرهة قبل اجابتها ولكنه في النهاية تحدث بإقتضاب دون الإفصاح بتفاصيل، لأنه لا يرغب أبدًا في تقوية العلاقات مع أسرته ولن يفعلها ولو بعد أعوام:

- تمام.. في شغلها.. يعني شغلها واخد كل وقتها يا إما أنا معاها.. الدنيا كويسة

همهمت من جديد وهي تنهض من على سريرها وحدثته بإبتسامة:

- ربنا يوفقكوا ويسعدكوا يا حبيبي وسلملي على لميس.. يالا أنا هاقوم كده أشوف هاعمل ايه مع سليم وأنت بس متقولوش اننا اتكلمنا بدل ما يتعصب زيادة وانت عارفه عامل ازاي في الشغل..

هتف مسرعًا:

- لا بصراحة ولا هيحصل أنا مش ناقص مشاكل..

ضحكت في خفوت وهي تومأ وقد تذكرت كيف كان بتلك المرات القليلة التي ذهبت بها العمل:

- ايوة، كده احسن برضو.. يالا خد بالك من نفسك.. باي!

تركت هاتفها جانبًا ثم توجهت لتستحم وارتدت ملابسها ثم توجهت للمطبخ حيث كانت تظن أن "نورسين" تتواجد دائمًا فإبتسمت إليها عندما تلاقت أعينهما وتحدثت "زينة" في هدوء:

- صباخ الخير

رمقتها "نورسين" بحرص شديد، ملامحها المتهللة تخالف كثيرًا تلك الملامح المتجهمة التي علت وجهها بالأيام الماضية، ولكنها على كل حال بادلتها الإبتسامة وردت:

- صباح الخير يا حبيبتي.. إيه كده لابسة ورايحة فين؟

اجابتها وهي لا تزال تحافظ على ملامحها الودودة:

- أنا رايحة لسليم الشركة.. أنا كنت جاية أقول لحضرتك بس علشان تكوني عارفة.. هاخد السواق يوصلني..

تعجبت قليلًا من اجابتها ثم اندلع العديد من الإستفسارات بوجهها وسألتها:

- انتو اتصالحتو؟

هزت كتفيها وأومأت لها بالنفي واجابتها:

- لأ.. أو لسه.. هي الفكرة بس إن اللي حصل ده كله كان كتير عليا شوية.. يعني بابا اللي وصله بسبب خالي اللي هو حمايا واكتر واحد بيحبه جوزي في الدنيا وأنا كنت بعتبره أقرب ليا حتى من بابا سيف الله يرحمه وفي نفس الوقت بابا كريم غلط اوي .. وبرضو سليم خبى عليا.. مكنتش عارفة افكر خالص يا طنط..

أومأت لها في تفهم لما تقصده وحدثتها بنرة آسفة وصعوبة اتضحت على لسانها الذي يحاول انتقاء الكلمات بأعجوبة:

- أنا فاهمة إن كل ده صعب بس بدر وقتها كان.. كان صعب اوي وباباكي اللي عمله كان اصعب برضو ومكنش بدر اتغير بالشكل اللي ..

قاطعتها مسرعة ولكن دون انفعال:

- ارجوكي يا طنط بلاش كلام في الموضوع ده دلوقتي.. أنا لسه محتاجة وقت.. علشان خاطري خلينا نتكلم في الموضوع ده بعدين..

أومأت لها في تفهم وعلى محياها ابتسامة مقتضبة لا تحمل سوى الآسى الصريح لكل ما يلاقيه زوجها فعادت "زينة" لتستكمل حديثها:

- أنا هاروح لسليم.. مش محتاجة مني أي حاجة؟ 

أومأت لها في طيبة ثم اجابتها:

- لا يا حبيبتي ربنا يخليكي.. بس انتي مفطرتيش.. مش عايزة تفطري؟

حمحمت في تريث ثم اجابتها بإبتسامة تحمل القليل من الحماس:

- أنا هافطر مع سليم! ومش عارفة حتى هنرجع امتى.. 

أنهت حديثها معها وتوجهت للخارج بصحبة السائق ليقلها لمقر الشركة الرئيسي كي تراه، أعدت حجزًا كذلك بواحدًا من المطاعم التي تعلم كم أن البطاطا المقلية لديهم مذاقها لا يُقارن.. كان ذلك الإبتعاد عنه أكثر مما تتحمله هي نفسها، ولكنها لم تكن تريد إرتكاب أي خطأ معه، كانت تريد أن تُفكر في الأمر جيدًا دون أية تأثيرات على قرارها الذي اتخذته.. 

زوجها ووالده علاقتهما من أقوى العلاقات التي رآتها في الحياة، لن تستطيع أن تُحرم أيًا منهما من وجود الآخر بجانبه، ولكنها كذلك لا تستطيع مسامحة خالها "بدر الدين" بتلك السهولة.. كلما آتى على عقلها صورة والدها وهو مرتعد من مجرد ملامسة أحد له ولسانه الذي يصرخ بما لا يُفهم وحالة الشلل والجنون التي أصبح بها يجعلها تتسائل إلي أي حد عذبه؟ ومن أين له بهذا الجبروت بأن يرتكب في إنسان آخر جريمة شنيعة؟ 

ربما كان هذا واحدًا من الإختبارات الصعبة لعلاقتها هي وزوجها التي اثبتت لها الكثير من مدى صلابتها وكيفية تصرفهما هما الاثنان.. حسنًا.. لقد سامحت "سليم".. أما عن خالها فهذا لن تستطيع فعله الآن على الإطلاق.. حتى ولو كان والدها مخطئ، ولكن لا يوجد إنسان يستحق التعذيب بمثل هذه الطريقة من إنسان آخر.. 

شردت بالمزيد من الأفكار تجاه والدها وحالته، هل يُمكن علاجه مثلًا؟ أو هل من المفترض أن يذهبوا إليه أكثر؟ لقد حدثها إياد بأمر ذهابه له أكثر من مرة ولكن لم يتركه أحد ليصحبه خارج منزل "شهاب".. هي بصراحة لا تعرف بعد كيف عليهم التصرف هي واخوتها تجاه هذا الأمر.. 

لوهلة ابتسمت في مرارة وآسى عندما تذكرت كلمات زوجها.. كان محقًا للغاية في رأيه تجاه "أروى".. ولكن كل ما كانت ترغب فيه هو مجرد مساعدتها على أن تعبر هذه الحادثة وتلك الحالة المرضية ليس إلا.. يبدو أنها لن تتغير أبدًا.. أحيانًا حتى بعد كل المحاولات العديدة في مساعدة شخص ما لا تُسفر عن أي نتيجة..

تنهدت استعدادًا لمواجهة زوجها بعد أن توقفت بها السيارة ونظرت نحو مبنى الشركة الذي أنعش العديد من الذكريات برأسها فابتسمت في اقتضاب وتوجهت للداخل وبداخلها تفاؤل بأن تُصلح علاقتها هي وزوجها.. 

     

في مساء نفس اليوم..

أومأت "كلوديا" في تفهم بعد أن استمعت لكل ما أخبرها به، شيء بداخلها لا يُصدق أن هذا الرجل الذي عرفته لسنوات قد وقع بالعشق واقترب من عائلته المفقودة التي لم يخبرها حتى كل التفاصيل عنهم الآن.. 

أطفأت بقايا سيجارتها بالمنفضة وهي تنفث آخر دخانها من بين شفتاها ثم التفتت له على تلك الأريكة الجالسان عليها وحدقته في تريث ولكن ملامح الإمتعاض ظهرت على وجهها وحدثته في استفسار:

- هل كذبت عليك تلك المرأة بأي شيء؟ 

أومأ لها بالنفي فعادت لتسأله من جديد:

- هل ضاجعت غيرك؟

زفر في حنق ثم اجابها بالإيطالية:

- كفي عن عهرك كلوديا، هي ليست مثلك.. أخبرتك بأنني لم افعل شيء سوى تقبيلها!! 

اومأت في تفهم وانزعجت من تلك المقارنة بينها وبين تلك المرأة ثم نهضت وهي تهمهم في تفكير ثم فجأة وقفت أمامه لتلكمه بوجهه:

- هذه من أجل احضاري لأمر تافه

زفر في سأم من طريقتها التي لن تتغير أبدًا لتلاقيه بأخرى غيرها ثم عادت لتصيح به وهي تلكمه من جديد:

- وهذه من اجل ارسال سائق قبيح لا يملك مثقال ذرة من الوسامة! 

تأفف بحنق وهو يبتلع بمرارة طعم الدماء بفمه من قوة لكمتها ثم همس متسائلًا:

- هل ستساعديني أم ماذا؟! 

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته في تريث شديد واجابته ثم أضافت سائلة:

- بالطبع سأفعل أيها الوغد.. ولكنني أريد رؤيتها بشدة.. هل حقًا تعشق هذه العاهرة؟ 

نهض في غضب ثم صفعها وأمسك بشعرها يعقده حول يده في قوة شديدة ونظر لها نظرة جعلتها تبتلع بقليل من التعجب وطفيف من الخوف ولأول مرة منذ أن رآت وجهه اليوم تشعر وكأن "ليوناردو بينسوليو" لم يتغير أبدًا ولا زال متواجدًا بداخله بمكان ما:

- انطقي مرة أخرى عنها بمثل تلك الكلمة وسأقتلك حينها .. أنا لا امزح بشأنها، كلوديا.. هل هذا مفهوم؟! 

أومأت له وهي تضيق ما بين حاجبيها وتسائلت بداخلها، إذا كان هذا حاله ويدافع عنها بمثل هذه الطريقة، ماذا عن تلك العاهرة؟ هل تعشقه مثل ما يفعل هو؟ عليها رؤيتها بأي طريقة فأجابته:

- مفهوم.. وسأساعدك وسأحضرها إليك وستأتي مهرولة.. ولكن أنا افعل لك خدمة العمر عزيزي.. مما يعني أنني سآخذ المقابل!! أنت تعرف ذلك جيدًا..

تركها وعاد اليأس إلي نبرته من جديد وحدثها:

- سأفعل لكِ كل ما تريدي.. فقط ساعديني كلوديا..

ترك شعرها ثم عاد ليُلقي بجسده مرة أخرى على الأريكة لتهمهم هي في تفكير ثم سألته متعجبة:

- أنت لا تريد اختطافها ولا اجبارها.. بربك هذا وحده يكفي، هذا قد بلغ أعلى درجات العشق والصبر بالنسبة لرجل يعذب ضحاياه بالحرق!!.. بربك ليو، ما الذي تريده تلك المرأة أكثر من ذلك؟ 

من جديد زفر بسأم وحدثها بنفاذ صبر:

- توقفي عن القسم أنتِ تعلمين أنني لا أصدق بتلك الترهات!! 

تذكر حديثه مع "فيروز".. تلك الصلاة التي كان يؤديها.. إعادة تفكيره بأمر التصديق بإله.. مناقشتها معه مرارا وتكرارا وذلك الشعور الطفيف الذي شعر به عندما أدى العديد من الصلوات فأضاف بوهن ليتحول بعدها لإنزعاج واضح:

- لا أدري.. ربما أنا أصدق بوجود إله.. ولكن فقط اخبريني ماذا يجول بعقلك كلوديا أنتِ لم تتفوهي بحرف يدل على أنك ستساعديني!

حمحمت في مزيدًا من التفكير وسألته:

- بم أخبرت عائلتك تلك؟ أقصد هل أخبرتهم أين أنت؟

اجابها مُسرعًا:

- أخبرتهم أنني قد سافرت لإنهاء بعض الأعمال..

همهمت في تفكير ثم أضافت في تساؤل:

- وهل يعلم أحد عني شيء؟ أو انني آتيت معك؟ 

أومأ بالإنكار زافرًا وأخذ إنزعاجه في الإزدياد لتضيف هي في مرح:

- حسنًا عليك إخبارهم بعودتك.. وأنني زميلتك وشريكتك بالعمل.. بربك ليو.. أبدو أنني أصغر منك كما أنني رائعة.. هل تُنكر هذا؟

تحول إنزعاجه لغضب من مزاحها:

- اللعنة ايتها العاهرة توقفي عن مزاحك بالأمر، وأخبريني بأي لعنة تُفكرين!! 

نظرت له بإشمئزاز وحدثته مصيحة:

- ايها الغبي.. أقدم حيلة في التاريخ.. سنجعلك تبدو وأنك تموت من عشقك لها.. علينا فقط أن نُحيك خطة يُصدقها الجميع.. عليك الإنتحار أيها الوغد!!

     

قبل يدها من جديد ربما للمرة الآلف هذا اليوم بمنتهى الإمتنان وهو لا يتوقف عن النظر إليها والإهتمام الشديد بها وكأنها نجمة تزين تلك السماء المُعتمة ولا يوجد سواها من تنير ظلام أيامه الماضية لتبتسم إليه:

- سيبك بقى من الرومانسيات وقولي هنعمل مع أروى إيه؟

تحولت ملامح "سليم" للغضب الشديد ليُجيبها ولكن لم يتخل عن مزاحه:

- ليه يا حبيبتي النكد ده أنا ما صدقت كنا كويسين.. ليه السيرة دي.. ده بدل ما تقوليلي نروح البيت ونرجع اوضتنا كده ونتدفى في البرد ده واسمع منك وحشتني يا سولي!

ضحكت في خفوت لينهار من جديد أمام تلك الملامح وزرقاويتيها السعيدتان فلقد اشتاق للغاية لتلك الملامح التي بات كمن يتجرع مرارة فقد سبب حياته الوحيد بينما حدثته بضيق مازحة هي الأخرى:

- يعني مكفكش اللي حصل في المكتب؟ مفيش فايدة!! 

كاد أن يتحدث بينما آتى النادل لتهتف "زينة" بلهفة:

- لو سمحت ممكن french fries تاني بعد اذنك؟ 

أومأ لها النادل بإحترام بينما رفع تلك الأطباق فنظر لها "سليم" في تعجب وتحدث بملامح مستغربة:

- زينة يا حبيبتي ده خامس طبق من الصبح والبطاطس مليانة زيت.. بالراحة شوية

نظرت له بإنزعاج ثم زمت شفتاها لتبدو ملامحها طفولية بشكل جعله يبتسم بينما أخبرته في حنق:

- الظاهر بتوحم.. اعمل إيه يعني.. نفسي مش رايحة غير للبطاطس! 

تنهد وهو يومأ لها واحتوى كفها بكلتا يداه:

- ماشي بس خدي بالك علشان هتتعبك دي.. المقلي كتير كده مظنش إنه هيكون كويس

أومأت له في تفهم لتقول:

- ماشي ماشي.. فترة وهتعدي.. هنعمل إيه بقى مع أروى؟

ترك يدها وهو يخلل شعره بمنتهى الإنفعال ثم قال بغضب:

- فيه إيه يا زينة انتي ليه مصممة تنكدي؟

ابتسمت بإقتضاب لينظر نحوها في تعجب وحدثته في هدوء مسرعة:

- بص أنا فهمت أروى إنها بتحاول توقع ما بيننا، اه صعبانة عليا بس برضو أنا مش هاسمحلها تعمل كده فينا تاني.. أروى بتحاول تأذينا واختارت يومها تقولي بالذات بعد لما بقينا لوحدنا.. مش فاهمة ازاي الدكتور اللي بتروحله مش جايب معاها نتيجة

ابتسم في تهكم بصحبة زفرة خلفت صوتًا ساخرًا ثم همس بحرقة:

- اختك دي شيطان!! ولا عمرها هتتعدل لو جابولها دكتور من السما السابعة كده!

تنهدت في آسى على حال اختها وقالت:

- احنا لازم نروح نتكلم مع ماما أنا وأنت يمكن تشوف حل.. او تتابع بنفسها مع الدكتور معاها.. أو حتى نتقابل احنا التلاتة برا علشان انت عارف الدنيا بقت مشحونة اوي في البيت بسبب موضوع خالو وانـ..

اوقفها عن الحديث مشيرًا بكف يده:

- فاهم يا حبيبتي والله بس بابا ساعتها كان بيـ..

قاطعته هي هذه المرة لتوقفه:

- أرجوك يا سليم علشان خاطري بلاش نتكلم في تفاصيل الموضوع تاني.. أنت عارف خالو بالنسبالي كان ايه.. ياما عمللي حاجات حلوة.. لو كانت مثلًا علاقتنا بعيدة مكنتش قدرت اعيش معاه في بيت واحد بس أنا مقدرة إنك بتحبه أكتر من أي حاجة في الدنيا.. وهو لما جه كده وكلمني و..

توقفت من تلقاء نفسها بينما امتلئت عينيها بالدموع ليشعر "سليم" بالحزن من تلك المأساة التي أصبح يعيش بها الجميع وتمنى لو انه فقط يستطيع أن يوقفها فتحدث ملهوفًا:

- علشان خاطري بلاش عياط.. زينة.. اسمعي.. أنا عارف إن اللي بدر عمله كان بشع.. وباباكي كمان غلط وغلطه كبير اوي وأظن انتي الوحيدة اللي اقدر اوريها فيديو متصور من كاميرات الفيلا باللي كان هيعمله في ماما.. بس علشان احاول اعمل اي حاجة أنا ماشي في اجراءات كتيرة بإننا نجيب باباكي عندنا البيت لو ده هيريحك! أنا رفعت قضية على شهاب!

نظرت له في دهشة وتعجب بل وخشية شديدة مما قد يحدث من "شهاب" تجاه زوجها.. ومما قد تراه كذلك من فعل والدها الشنيع!!

     

بعد أن بدا الأمر حقيقيًا.. بعد أن بدت تلك المشاعر الجارفة فريدة من نوعها لدرجة أنها صدقت بالفعل أن هناك بينهما شيئًا يحدث بل وشيء قويًا للغاية لن يستطيع أحد أن يُفرقهما.. بعد أن داومت على العلاج، بعد أن واظبت على ألا تُشغل نفسها سوى بدفع كل ما تملك من حواس أن تُصبح أفضل.. بلا تحكمات ودون إضطرابات.. لا تزال تشعر بأن عشقها له لم يكن مجرد احتياج لإهتمام، ولا انبهار زائف.. 

كلما تذكرت تلك الأوقات معًا منذ البداية بشركته إلي النهاية بمنزله وبعد أن آتى مهرولًا خلفها يطرق على بابها، تشعر بإفتقاده، إحساس أنها عشقت رجلًا بلرغم من مرضه لا تستطيع التخلص منه بعد!! 

لا يزال لديها أمل بأن كل شيء سيصبح أفضل.. عله يتراجع عن سيكوباتيته ويشعر بفداحة فعله.. علها تكون البداية للعلاج.. تتمنى لو أن ذكرى واحدة من كل تلك الذكريات قد تترك أثر به ويؤلمه ابتعادها كي يبدأ في التغير حقًا.. 

لماذا ترك كل شيء وسافر بالرغم من تلك الورود التي لا ينفك عن إرسالها ومكالماته إليها لا تنتهي ورسائله التي تحذفها في ثوانٍ دون قرآتها؟ لماذا لم يبق ويذهب ليتعالج؟ لماذا لم يقترب من والدته وأخوته؟ ماذا يريد أن يفعل بعد ذلك؟ 

لا تزال تصرفاته تُحيرها.. تلك الطرق التي يود أن يعتذر لها بها تخالف تمامًا سفره مبتعدًا هكذا.. إلا لو أنه يريد الهروب وشعر بعظم ما ارتكبه.. هل يُمكن أن يكون هذا صحيحًا؟! 

قاطع والدها أفكاها بإقترابه فنظرت له بإبتسامة مقتضبة ليحدثها:

- عاملة إيه؟ حاسة إنك احسن؟

أومأت إليه بإقتضاب وابتسمت بقليل من الآسى ثم اجابته:

- الحمد لله احسن..

جلس بالقرب منها ثم عانقها بذراعه لتتشبث هي به بينما اخبرها:

- أنا مبسوط إنك بتتابعي مع حد!

تنهدت في وهن وهي تستمع بهذا العناق الذي شعرت أنها اضاعته في الأيام الماضية بغباءها ورغبتها في الإبتعاد فجأة وعلقت على كلماته في تأييد لتقول:

- كان لازم يا بابا، الموضوع عندي بقى صعب.. لقيت نفسي بتعاطف مع الحالات أو بتعصب أو بضغط.. كل ده كان غلط.. مكنش ينفع ارجع شغلي تاني وانا في الحالة دي

همهم في تفهم وتابع حديثه معها ليتحدث بقلق حقيقي على ابنته:

- مرضتش اقولك لأ.. من زمان وانتي بتاخدي قراراتك بنفسك وبحبك تتعلمي وتواجهي وتشوفي انتي هتقدري تتصرفي ازاي.. كنت ممكن موافقش وأقول لأ وارفض كمان إنك ترجعي شقتك انتي وماهر لواحدك.. بس فهمتي دلوقتي قصدي كان ايه؟ 

شعر بإماءتها على صده فربت عليها بحنان وأردف:

- حاولي تفكري في قراراتك الجاية بطريقة احسن من كده.. وحرم علينا حياة الناس اللي بيجوا يرموها بين ايدينا ونتعامل معاها واحنا مش مؤهلين لحالتهم.. ربنا هيحاسبنا يا بنتي.. 

أنا عايزك تاخدي وقتك.. تكملي مع الأخصائي اللي بتروحيله.. ولما تفوقي كده هتلاقي كل حاجة مستنياكي.. لو على الشغل إن شاء الله ربنا هيرزقك بالأحسن منه.. والناس مش هتشطب أمراض نفسية يعني يا ست فيروز

ضحكت في هدوء على كلمات والدها بينما عانقته بشدة وهي تشعر بالدفء والراحة التي لن تشعر بها سوى هنا في عناق والدها لتحدثه في حماس:

- ماشي يا دكتور.. فترة كده وهارجع احسن من الأول إن شاء الله

ابتسم وهو يربت عليها متنهدًا بالرغم مما يشعر به من قلق ولكنه اخبرها:

- يارب يا حبيبتي إن شاء الله..

      


بعد مرور أربعة أيام.. الثاني والعشرون من ديسمبر 2019.. صباح يوم الأحد..

ضيقت عينيها ناظرة له بتشفي شديد وابتسامة تلاعبت على شفتاها وهي تُمسك بذلك السكين الحاد بينما ضيق عينيه وهو يرمقها بقليل من القلق فحدثها في غيظ: 

- يُعجبك أن تفعلي بي ذلك.. يا لكِ من عاهرة!!

توسعت ابتسامتها في شر وحماس ثم أضافت:

- العاهرة الأفضل على الإطلاق.. هيا لا تضيع الوقت.. فللتو انتهينا من ذهاب اخيك لسفره هذا الذي اقنعته أنت به وكذلك هذا الصغير ذهب لمدرسته.. والدتك هي من سترى ذلك وسأعمل أنا ألا يُخبر احد هنا بالمنزل أي من أخواتك! وسأرسلها معك في سيارة الإسعاف.. 

وحتى أكون الصديقة الأفضل على الإطلاق سأُحدثها أنا وسأبدو مقنعة حد اللعنة حتى تأتي إليك.. وإلا أقسم أنني سأجبرها بنفسي..

تحولت ملامحه للإنزعاج ونظر لها محذرًا:

- إياكِ أن تؤذيها كلوديا وإلا سأحرقكِ بيداي.. 

رفعت يديها بإستسلام ثم تحدثت في مرح:

- حسنًا لن أجبرها إلا إذا اضطررت لذلك.. والآن هيا .. الإسعاف في طريقهم إلي هُنا!! أين تركت تلك الورقة على كل حال؟ 

أشار برأسه نحوها لتهمهم هي في تفهم ثم أقتربت ممسكة بذلك السكين لتقطع شرايين يده ليوقفها بلهفة وهو يشعر بقليل من الخوف:

- انتظري انتظري.. هل أنتِ متأكدة أنها ستأتي بتلك الطريقة؟

زفرت في حنق لتجيبه:

- نعم أيها المختل.. لو قتلت نفسك من اجلي لأتيت لك هرولة من إيطاليا.. ماذا!! أنت خائف! لا تقلق إذا حدث شيئًا سنوقف النزيف بسهولة وأنت تعلم أنها ليست مرتي الأولى.. بربك ليو لا تضيع الوقت.. 

أومأ لها ثم مد ذراعه لتقترب هي منه بالسكين ليُصيح:

- ولكن كلوديا إياكِ أن تـ.. آه!

لم تستمع له وبالفعل بترت شرايينه بتلك السكين لتتمتم:

- وغد!! 

نظر إليها في اشمئزاز ليتوعدها:

- سأحرقكِ كلوديا إن لم تأتِ.. والآن اذهبي.. وحاولي أن تتظاهري بتحدثك للعربية أفضل.. فعربيتك مُريعة للغاية.. 

نظرت له هي الأخرى بإشمئزاز وهزت رأسها بإستهزاء على ما يقول بينما مسحت تلك الدماء المتبقاة على السكين بتلك الرسالة التي تركها لها ورمقته في انتصار وشيك وقالت:

- لا تنسى أن تدعي فقدان الوعي أيها الوغد.. أراك لاحقًا..

توجهت للخارج في هدوء حتى لا يلمحها أحد وأغلقت الباب بمنتهى التريث ثم توجهت حيث والدته وهي تحاول التحلي بملامح بريئة لم تملكها أبدًا بينما حدثتها بلهجة عربية مصرية تفتقر للإتقان:

- صباح الخير..

ابتسمت نحوها "آمال" بطيبة بالرغم من تعجبها أن زميلته قد آتت معه من سفره وتشعر بالإستغراب ولكنها هي حتى لا تعلم بعد كيف كان يعيش "شهاب" حياته بإيطاليا.. هما بالكاد تحدثا على كل حال ولطالما كان منشغلًا ولكن كذلك لا تحبذ وجود هذه المرأة بمنزله.. شيئًا ما يُشعرها بالخوف كلما نظرت لوجهها ولكن ما العمل..

اجابتها بإبتسامة مُتكلفة:

- اهلًا يا حبيبتي صباح النور 

 بادلتها نفس ابتسامتها المُتكلفة ثم حمحمت لتحدثها بصعوبة وهي تحاول تذكر كلمات تلك اللغة الصعبة لتمقت آمال جلوسها معها ولكنها لا تكترث لشيء سوى سعادة ابنها وهي بالنهاية ضيفة فيجب عليها اكرامها إلي أن تغادر:

- كنت عايزة اشوف البلد بعد فطار.. ممكن نقول لشهاب.. أو نرسل لأوضته 

رفعت "آمال" حاجبيها وتجعدت جبينها ثم أومأت لها بإقتضاب لتلوي شفتاها وهي تتمتم:

- دي ناوية على خروج كمان

ابتسمت لها مُدعية البلاهة بالرغم من خيالها بقتل تلك المرأة، بداية بأطرافها ونهاية بفصل رأسها عن جسدها.. ولكن هذا لن يعجب "ليوناردو" بالطبع فتركت خيالاتها بعيدًا بعد أن فهمت ما قالته جيدًا ثم سألتها:

- مش سمعت.. بتقولي إيه؟

نهضت وهي ترمقها بمزيدًا من عدم الإعجاب ثم اجابتها:

- مفيش يا بنتي بقول ده أنا يادوب اصحيه كمان علشان يفطر.. 

تركتها وغادرت بينما تابعتها "كلوديا" بعينيها ثم زفرت في تأفف وهي تهز رأسها في تقزز.. من كان يصدق أنها ستجالس والدته في يوم أثناء مساعدتها إياه في استعادة إمرأة يدعي عشقها.. لا يهم.. ستُجبره لاحقًا على سداد ذلك الدين!! 

أفاقها من أفكارها ذلك الصياح الذي استمعت إليه يأتي من الطابق الأعلى حيث غرفته فابتسمت بخبث ثم نهضت لتتجه مُدعية الإندهاش بينما وجدت تلك المرأة العجوز وبعض العاملين لتخرج هاتفها من جيبها وأعطته إلي "عنايات" ونطقت بصعوبة مُدعية الخوف:

- إسعاف.. كلميهم..

ابتلعت وهي تنظر إليها لوهلة بينما تضاربت أفكارها إلي أن تذكرت الرقم وهاتفتهم لتخبرهم بوجود حالة انتحار بينما توجهت "كلوديا" نحوه وجلست بجانبه مُدعية أنها تحاول وقف النزيف وسط صياح والدته المُزعج وبين هؤلاء المتطفلون الذين توقفوا أمام غرفته لتشعر بالضيق من ذلك الموقف اللعين ثم وضعت يدها على شريانه الثُباتي بعنقه لتجد أنه لا يزال به نبض ورمقته لتعلم  أنه يدعي فقدان الوعي فابتسمت بداخلها ثم صاحت بالإنجليزية مُدعية خطورة الموقف:

- هل هناك صندوق للإسعافات الأولية؟ 

حسنًا هذا الأمر لم يتفقا عليه ولا تعلم ما معناه باللغة العربية ولكن فهمتها "عنايات" التي صاحت بالجميع أن يغادوا وذهبت بنفسها لتحضر الصندوق بينما كادت "كلوديا" أن تقتل تلك المرأة التي تُصيح وتبكي بلا توقف.. 

بعدتها قليلًا وقامت بتطهير مكان الجرح وهي تنظر لكمية الدماء المفقودة بينما أدركت أنها ليست خطيرة بعد فتريثت أكثر حتى يبدو الأمر مُقنعًا بالمشفى وتظاهرت بوضع المُطهر أكثر من مرة أمّا عنه فتوعدها بداخله أنه سيؤلمها عندما ينتهي كل ذلك من كثرة هذا المُطهر الغبي الذي تسكبه دون إنقطاع..

تعجب بداخله وهو يستمع لصرخات والدته وبُكاءها.. لم يكن يعلم أنها تكترث لهذا الحد لو حدث له شيئًا ما.. ربما عليه أن يُحدثها لاحقًا.. ولكن بعد أن يستعيد "فيروز" أولًا سيحاول أن يُعطي والدته فُرصة أخرى.. 

ظلت تراقبه بينما صاحت بتلك المرأة الخرقاء بجانبها بعصبية مُفتعلة لتقول:

- أين الإسعاف؟ لماذا لم يأت أيًا منهم إلي الآن؟

نظرت لها "عنايات" وهي تبتلع في توتر وتحدثت بإنجليزية لتجيبها:

- لقد هاتفتهم.. سيأتون.. ولكن نحتاج إلي بعض الوقت ليس إلا.. 

زفرت في حنق وعادت لتراقبه جيدًا والوقت يمر دون أن تحضر عربة الإسعاف الغبية إلي الآن.. لقد هاتفهم بنفسه قبل أن تقطع شرايينه، لماذا لم يحضروا؟! ووالدته ببكاءها هذا يجعلها تغضب أكثر من تلك الضوضاء وابتلعت في قليل من الخوف عندما وجدت تنفسه يزداد كمن يبحث عن الهواء بصعوبة! 

زفرت في ضيق وهي تحاول أن تتذكر ألا يبدو الأمر مُفتعلًا ولكنها لم تستطع أن تتركه هكذا فاقتربت وهي تضغط على موضع القطع نفسه ووضعت الشاش الطبي بينما فاجئها بأنه لا يريد الإستجابة.. 

ابتلعت في خشية من أن يفقد حياته بالفعل بسبب حيلة غبية ثم صاحت به بإيطالية كي لا يفهم أيًا مما حولهما شيئًا:

- ليو.. كف عن التظاهر وافعل أي شيء يدل على أنك حي.. أنت أيها الوغد.. ألا تسمعني؟!

نظرت له بقلق ثم ضيقت ما بين حاجبيها لتلعن أكثر من مرة عندما لم يأتِها أي رد منه ولم يفهم أي أحد ما الذي تقوله بينما استمعوا لطرقات على الباب تخبر بوصول الإسعاف لتتمتم بحنق:

- بلد غبية!! 

افسحت هي ووالدته التي تبكي الطريق للمسعفون ليقومون بنقله إلي السيارة وتعجبت لماذا فقد وعيه بحق هذه المرة لتتذكر سوء حالته الصحية وعدم تناوله للطعام بشكل منتظم فزفرت وهي تعترف بغباءها الشديد ثم نظرت لوالدته لتقول:

- روحي معاه.. أنا باجي بعدين بسواق

نظرت لها "آمال" وهي تحاول السيطرة على دموعها وهرولت خلف المسعفون وتابعتها "كلوديا" جيدًا لتدرك أنها لم تتناول هاتفها فتوجهت بعدها لتتحدث إلي مدبرة المنزل بإنجليزية وهي ممتنة أن هناك من تستطيع التحدث له:

- ليس هناك داعٍ أن تخيفي الصغير وكذلك هاشم فهو سافر لتوه.. سأهاتفك من المشفى عندما نطمئن عليه.. ابقِ على سرية الخبر وإلا قد ينتشر بالصحف.. 

أومأت لها "عنايات" في تفهم بالرغم من عدم قبولها بأن تتكتم على الخبر.. على الأقل يجب أن تخبر أخوته.. وبنفس الوقت لقد سافر أخوه وإذا علم "حازم" لن يكون أمرًا جيدًا خصوصًا أنه لم يمر كثير على خبر وفاة والدته.. 

نظرت نحو "كلوديا" وهي تغادر وتعجبت أكثر لتلك المرأة التي لم تأتِ سوى ليلة أمس وامتعضت ملامحها عندما تذكرت نبرتها الآمرة ولكن يبدو أن لها شأنًا هامًا حتى يستضيفها "شهاب" بنفسه في منزله..

     

لماذا لم تتحدث إلي "هبة" كي تخبرها؟ عليها فعلها الآن حتى لا تشعر والدتها أو يشعر والدها بالقلق.. لماذا ذهبت على الفور بعد حديث "كلوديا".. واللعنة لماذا آتت معه من إيطاليا إلي مصر؟ 

تلك المرأة بنبرتها بطريقتها بأكملها وذلك الغضب واللهفة التي اتضحا على صوتها لم تشعر تجاهها بالراحة بكل ما يتعلق بها.. ولكن هل حقًا قام بالإنتحار لأجلها؟ 

أيفعل سيكوباتي هذا الأمر؟ يستحيل.. السيكوباتي هو الوحيد الذي لا ينتحر أبدًا.. أهو يمزح معها أم ماذا؟! وهي بمنتهى الغباء بمجرد مهاتفة هذا الرقم اللعين لها أكثر من مرة اجابت وصدقت وبمنتهى السذاجة نهضت وارتدت ملابسها وذهبت له على الفور.. لولا فقط التأكد من والدته لما كانت لتفعلها أبدًا.. ولكن لترى.. تُقسم أنها لن تتراجع عن قرارها أبدًا.. 

انتظرت أن تجيبها "هبة" كي تخبرها عما حدث ففعلت ليأتيها صوتها المازح:

- قوليلي بقى اننا هناكل دونتس النهاردة..

ابتلعت وهي تحاول أن تهدأ من أنفاسها التي لا تدري غاضبة أم متلهفة وتشعر بالقلق عليه خلالها لتتحدث بجدية:

- هبة شهاب بيقولوا حاول ينتحر.. أنا رايحة المستشفى ليه دلوقتي.. ممكن تجيلي على هناك.. أو لو مش حابة ممكن تقولي لبابا وماما إني معاكي.. أو انا هقولهم.. مش عارفة..

تساقطت دموعها و"هبة" على الطرف الآخر تستمع إليها لا تدري أتخبرها أنه ليس هناك سيكوباتي يقتل نفسه أم تخبرها بأن تهدأ.. ربما الإختيار الثاني هو الصحيح وهي تبكي بصحبة سائق غريب لا يعرفها فهي لا تود أن تثير فزعها فحدثتها بهدوء:

- طيب اهدي وابعتيلي لوكيشن المستشفى وأنا هاجيلك.. 

حاولت السيطرة على دموعها وحدثتها في وهن:

- طنط آمال معاه.. وواحدة صاحبته.. أنا مش عارفة الموضوع بجد ولا إيه؟ بس هو فعلًا ممكن يعمل كل ده؟ 

زجرتها بقليل من الحدة دون مبالغة لتستيقظ من تلك الحالة التي وضعت بها نفسها لتقول:

- فيروز اهدي.. انتي في الشارع خدي بالك.. امسكي نفسك كده وخليكي معايا على ما توصلي واطمن عليكي..

ظلت "هبة" تُحدثها طوال بقاءها بمفردها بهذا الطريق الطويل إلي أن وصلت للمشفى وبالكاد استطاعت السيطرة على بُكاءها واستجمعت نفسها من حالة الشتات التي سيطرت عليها منذ قليل لتسأل بمكتب الإستقبال عنه ثم توجهت بسرعة إلي المصعد حيث أنها علمت أنه بغرفة العمليات وأدعت أنها قريبته وبعد توسل منها إلي تلك الموظفة سمحت لها في النهاية.. 

خرجت لتسير لا تدري أين هي ولكنها لاحظت كراسي انتظار جالس عليها "آمال" والدته وقبل أن تتقدم منها آتت إمرأة أخرى من احدى المنعطفات وحالت بينها وبين استكمالها لطريقها فرمقتها "كلوديا" بغرور وتعالي بعد أن تفحصتها وبداخلها تشعر وأنها أفضل منها بل هي أكثر إثارة وملامحها نفسها تبدو أجمل لتلعنه بداخلها على اختياره الذي لم يلقى إعجابها ثم حدثتها بالإنجليزية سائلة:

- هل أنتِ فيروز؟

استمعت للكنتها الإيطالية لتومأ لها واجابتها بالإنجليزية هي الأخرى وملامحها يبدو عليها التشتت والحُزن:

- نعم.. أنتِ كلوديا أليس كذلك؟! 

همهمت لها بالموافقة ثم رمقتها في غضب وانزعاج لتحدثها بوعيد:

- اقسم لكِ إن حدث له شيئًا من تحت رأسك سأقتلك بيدي.. لا أدري ما الذي رآه بإمرأة مثلك حتى يعشقك هذا العشق!! أنتِ لا تستحقي كل ذلك الآلم الذي يُعانيه من أجلك! 

صفعت صدرها بخفة بتلك الرسالة التي كتبها لها مُسبقًا وهي ترمقها بحدة وصلابة بينما الأخرى تشعر بشتات من غضب وحُزن ممتزجان ولم تغفل أن تحدجها بإحتقار من أعلى رأسها لأخمص قدماها ثم تركتها وتوجهت نحو والدته وهي تحاول أن تبحث عن سبب مُقنع كي تُفسر به تواجدها هنا .. ربما أن "هبة" اخبرتها بما حدث سيكون لائقًا وستتظاهر أنها آتت لتكون معها ليس إلا!

     


دلفت بخطوات مترددة بعد أن ذهبت "هبة" ووالدتها بعيدًا وقد فهمت أن صديقتها تُفسح لها المجال لتبقى معه بعد أن استيقظ من آثار تلك العملية التي تم نقل الدماء له بها وسيطر الأطباء على ذلك الشريان الذي انقطع ولكنها لا يزال أمامها تلك الـ "كلوديا" التي لا تزال لا تعلم ما الذي آتى بها من إيطاليا إلي هُنا وابتلعت في رهبة ما إن رآت حقًا مظهره الذي يبدو مُتعبًا وذلك الضماد على معصمه وتلاقت أعينهما ليشعر كلاهما بتوقف الزمان ولم يكترث أيًا منهما لتواجد "كلوديا" معهما.. 

بالرغم من رغبتها بالصراخ به على ما فعله، وبالرغم من ذلك الشعور الذي يلح عليه بأن ينهض من هذا السرير الغبي ويذهب نحوها كي يعانقها رغمًا عنها شاءت أم آبت، ولكن كلتا أعينهما أرغمتهما على تبادل النظرات التي امتلئت بالكثير من الكلمات غير المنطوقة بين خذلان، اشتياق، عشق، غضب.. والعديد من المشاعر التي كادت أن تجبر كلاهما على الصياح بالكثير من كلمات اللوم والتأنيب ولكن كلاهما التزما الصمت..

صاحت "كلوديا" به بإبتسامة منتصرة:

- والآن قد وفيت بوعدي لك أيها الوغد.. سأنتظر بالخارج! لا تدعها تغادر دون أن تُصلح ما افسدته!

التفتت لتغادره بينما رمقتها في طريقها للخارج بتقزز ولم تكترث "فيروز" إليها ليهمس هو لها في حُزن وهو لا يُصدق أن خطتهما نجحت ولكن كلماته حملت المُزاح:

- كان لازم أموت نفسي علشان أشوفك!

رمقته في حزن وأعين امتلئت بالدموع وابتسمت في وهن وسألته:

- أنت عملت كل ده ليه؟ واشمعنى كلوديا هي اللي قالتلي؟ أنت مجنون وكداب.. مش مصدقة إنك بتحاول تصلح الغلط بغلط أكبر منه!! 

رفع حاجباه لتتخلف تجاعيد بجبهته في تعجب من امرها وتحدث بلهفة:

- انتي فعلًا مش مصدقة.. فيروز أنا لسه طالع من اوضة العمليات و..

قاطعته هامسة بحرقة لتنهمر احدى دموعها وهي تنظر له ومزيدًا من خيبات الأمل بددت كيانها:

- انت فاكرني هصدق كلمتين التمثيل بتوع زمان مش كده؟ فاكرني مش فاهمه إن واحد مريض زيك استحالة ينتحر.. دي حاجة استحالة تعملها أبدًا ولو كان ده الإختيار الوحيد قدامك.. عمرك ما هتتغير وهتفضل كداب.. الكدبة المرادي كانت إيه؟ عامل نفسك بتنتحر  وكلوديا ساعدتك مش كده؟! أنا بجد مش مصدقة إني وصلت نفسي للمستوى ده من الكدب لا وجيتلك كمان علشان لثواني كده صدقت إنك ممكن تكون عملتها فعلًا..

رمقته بخيبة أمل وجففت دموعها وكادت أن تغادر بينما نهض هو خالعًا تلك الإنبوبة التي توصل لجسده المحاليل المُغذية والدماء وأوقفها مسرعًا بالرغم من ذلك الدوار الذي يشعر به وأمسك بذراعها بينما نظر لتلك العينين التي اشتاق لها حد اللعنة وهو يحاول البحث عن كلمات صحيحة كي يتفوه بها فهمس لها بمنتهى الصدق:

- أنا كنت عايز أشوفك يا فيروز..وفعلًا كنت بكدب بس لما نزفت محستش بالدنيا حواليا.. أرجوكي متمشيش.. هاعمل كل اللي انتي عايزاه بس بلاش تمشي..

رمقت عينيه التي التمعت بها الدموع الحبيسة وهي لا تود أن تضعف أمام تلك الملامح التي تبدو صادقة للغاية مثل ما فعلت بالسابق ثم حدثته بآلم:

- مش عايزني امشي ليه؟ ما أنا كنت جانبك وكل اللي طلبته إني اساعدك وتكون إنسان احسن.. عايزني افضل جنب واحد زيك علشان تعيشني النهاردة يوم حلو اوي وبكرة تغتصبني او تروح تحرق بشر ملهمش ذنب في أي حاجة؟ هنكسب إيه لو فضلينا جنب بعض أنا بإضطراباتي وأنت بمرضك اللي مش عايز تتعالج منه؟ إيه النهاية لكل ده.. 

عايزني اقعد جنبك واكون معاك اسمعك وتكلمني.. بتتبسط وانت بتكدب عليا وأنا بصدق كدبك مش كده؟ هو ده اللي أنت نفسك فيه.. صح؟ عايزي واحدة زيي تحبك وتقبلك بكل عيوبك علشان تتبسط.. 

أنا حبيتك فعلًا يا شهاب ولو مكنتش بحبك مكنتش جيت.. وقبلتك بكل اللي فيك وبكل عمايلك.. إنما أنت.. مش عايز أبدًا تتغير ولا تكون إنسان كويس!! أنا غلطانة والله إني عملت كده فيك وفي نفسي..

انتفض جسدها بعنف ليتخلص من قبضته التي لانت بالفعل على ذراعها بعد أن فرغت مما تود قوله وهرولت للخارج فلحقها ليهرول وراءها لتلاحظهم "كلوديا" ثم تمتمت:

- غبي يلاحق خرقاء.. يا لهم من ثنائي.. 

ظل يُتابعها بينما توجهت هي إلي الدرج لتحاول الهروب بسرعة من تلك الورطة التي قد أوقعت بنفسها فيها لتستمع لصوته المنادي:

- استني يا فيروز 

صاحت ببكاء وهي تومأ بالإنكار: 

- لا.. ابعد عني يا شهاب وكفاية كده.. 

أسرعت من هرولتها وهي تتمنى أن تنتهي من ذلك الدرج بينما يحاول أن يُمسك بها ولكنه يشعر بالدوار فصاح بها:

- أنا آسف.. أنا هاعمل كل اللي انتي عايزاه بس متمشيش وتسيبيني

أومأت في سخرية وهي تبكي ولم تتوقف عن أخذ الخطوات لأسفل:

- آه ما أنا سمعت الكلام ده كتير!! معنديش استعداد اصدقه تاني..

لقد أرهق من ذلك الدرج وأُرهق من صلابة رأسها التي لا تنتهي فحدثها بتوسل من جديد:

- المرة دي غير أي مرة.. فيروز أنا بحبك ومش قادر ابعد عنك.. متسبنيش.. 

استطاع أن يُمسك بها أخيرًا فنظرت له وبالرغم من ذلك الصدق المندلع على محياه وعشقه الذي يصرخ بتلك الداكنتين ولكنها لن تستطيع تصديقه أبدًأ فأومأت بالإنكار ثم همست:

- أنا كمان بحبك.. بس مش هاينفع يا شهاب..

استطاعت التخلص من قبضته من جديد وجرت لتهرب من تلك الكلمات وذلك الإعتراف سواء منها أو منه الذي تعلم أنها ستعاني بسببه لكثير من الوقت وفرت للخارج ليتبعها ثم ناداها في غضب:

- فيروز.. استني.. 

ازادت هي من عدوها وهي تحاول الفرار فهي لا تريد أن تُفسد كل شيء من جديد بعدما استعادت حياتها مرة ثانية ولو بنسبة ضئيلة وخرجت من باب المشفى وهي لا تعلم إلي أين تتوجه لتسمعه من جديد:

- فيروز حاسبي! 

كان هذا آخر ما استمعت له قبل أن تقع أرضًا بفعل سيارة مسرعة وهي تتذكر العديد من الذكريات الغريبة في حياتها جمعتها به وبزوجها الراحل وبأسرتها ثم أظلمت رؤيتها ولم تر شيئًا بعدها..

     

#يُتبع . . . 

سيتم نشر الفصل القادم بتاريخ 23 ديسمبر 2020 على مدونة رواية وحكاية