-->

الفصل الثالث والستون - شهاب قاتم

 


- الفصل الثالث والستون - 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


إن الماضي دوامّة، إذا تركته يسيطر علي لحظتك الحالية سيمتصك ويجرفك..

(إليف شافاق - قواعد العشق الأربعون)

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

استند بكلتا يداه على خصره وهو يتفقدها بإبتسامة غير مُرحبة لتوزع "فيروز" نظراتها بينهما ولم تشعر سوى بمزيد من الإستياء لتُفكر كم كانت غبية وساذجة لتفكيرها ولو للحظات أنه هذا الرجل الذي تزوجت منه سيتغير يومًا ما.. 

تركتهما خلفها وتوجهت لنفس الغرفة التي تمكث بها ليتنهد "شهاب" ثم توجه جالسًا بالقرب من "كلوديا" وتفحصها جيدًا بينما استمع لإجابة سؤاله:

- أهذا كل ما أتيت لأجله؟ 

أومأت بالموافقة ثم رفعت عينيها إلي السقف بقليل من التفكير واجابته في النهاية بالإيطالية بعد أن بحثت عن "فيروز" بعينيها لتتأكد أن لا أحد يستمع إليهما:

- إلي أن ننتهي من تلك الكوفيد أريد أن أعرف كيف سنقتل فرانك! هذا سبب آخر! 

رفع كلتا حاجباه وأطلق ضحكة خافتة ليسخر مما تفوهت به ليقول بلهجة مُحذرة:

- أنتِ من ستفعل.. أنتِ سوف تقتلين فرانك.. أنا قد ودعت تلك الحياة منذ أكثر من عامان.. تريدين المساعدة، حسنًا لا أمانع ولكن أن أقوم أنا بقتل مستشار عائلة كروتشيتا  معناه أن ألقي بكلتا يداي في هذه الحياة مرة أخرى.. كما يعني أن كارلو سيعلم! 

ابتسمت له إلي أن تحولت ابتسامتها إلي ضحكة ساخرة ثم تلاشت تمامًا وحدثته بجدية:

- ليو.. أنت قد عدت لتلك الحياة مرة أخرى عندما هاتفتني لأجل معروف.. أتتذكر أم نسيت؟.. كان من اجل إمرأتك الخرقاء.. أردت أن تعلم من قتل زوجها العاهر! ولقد ساعدتك.. وبعدها عندما هاتفـ..

قاطعها في غضب كي لا تُكمل ما يعلمه بالفعل:

- الأمر بيني وبينك ليس كأمر قتل فرانك! لا تدعي أن الأمران أو حتى كل ما فعلتي من أجلي يتساوى بقتل فرانك!

أومأت له في تفهم بينما أراحت جسدها بالأريكة ومددت كلتا ساقيها على احدى المناضد القصيرة أمامها وصمتت لحظة في تفكير لتتنهد وقالت في جدية:

- على كلٍ لقد غادر فرانك إيطاليا بأكملها.. وهذا معناه أن لدينا المزيد من الوقت كي نُفكر كيف سنتخلص منه! 

زفر في حنق شديد وزم شفتاه ليُريح جسده هو الآخر في ذلك الكرسي خلفه وبعد لحظات من صمت فكر خلالها سألها بنبرة دلت على تفكيره العميق:

- ألا تزال علاقة كلًا من ألبرتو وفرانك متوترة كما هي؟ 

أطلقت زفرة متهكمة مصحوبة بصوت ساخر واجابته:

- أظن أنها اصبحت أسوأ.. خاصةً بعد مقتل عضو APT29.. اقسم لك ليو انني استطعت أن احل الأمر واستجاب ألبرتو لي ولكن صمم فرانك على قتله ولقد استجاب كارلو له! 

همهم في تفهم لترمقه في تفحص شديد لتبادر بإنفعال:

- لا تخبرني رجاءًا أنك تريد أن نقتل فرانك بمساعدة ألبرتو!! يستحيل أن يحدث هذا.. أنت تعلم أن ألبرتو لن يفعل شيئًا دون موافقة كارلو! هذا والده، ليو! لن يذهب ليعبث وراء ظهره! 

تنهد في تفكير ثم نهض متحدثًا في ارهاق:

- سنرى!! لا تقلقي! 

نهضت لتتبعه وهي تصرخ به:

- أنت ايها الوغد.. بم تفكر؟ أستتركني لتذهب للخرقاء و..

التفت لها بملامح اثارت ريبتها وقاطع حديثها بنبرة تمتلئ بالتحذير:

- كلوديا! كفِ عن تسميتها بالخرقاء! هذه زوجتي.. أرجوكِ لا تستفزيني حتى لا أقتلكِ أنتِ وفرانك سويًا! هل هذا مفهوم؟! 

رفعت احدى حاجبيها في تحدي لتنظر له في تحفز بينما التفت وتركها خلفه ذاهبًا لغرفة "فيروز" ولم يكترث لسماع أي إجابة منها ثم دخل الغرفة وأغلق الباب! 

تفقدها ببنيته في محاولة لتفسير ما تشعر به بعد رؤيتها "كلوديا" ليجدها جالسة تضم ركبتيها إلي صدرها ليعقد حاجباه وتقدم نحوها ليجلس بالقرب منها بينما هي لا تزال تشرد بأرضية الغرفة ولم تعره اهتمامًا يُذكر.. 

ابتلع بعد أن حسم أمره.. هو لا يريد، ولن يستطيع أن يخفي عليها المزيد من الأشياء التي لو فقط نما إلي علمها لاحقًا ما الذي سيفعله ليُساعد "كلوديا" قد يفسد كل ما يحاول إصلاحه طوال تلك الأيام! 

حمحم ثم بدأ بالحديث بنبرة تحمل القليل التلعثم:

- فيروز.. انا عايز اعرفك كلوديا جاية ليه وعايزة مني ايه! 

التفتت لتنظر له وعينيها تلتمع بإبتسامة ساخرة لتقول دون اكتراث:

- وأنا مالي.. ما تعملوا اللي تعملوه.. مظنش جايلي تاخد الموافقة مني! 

نهضت لتبتعد عنه ولكنه تبعها وتكلم محذرًا:

- لازم تعرفي كل حاجة علشان متجيش تلوميني على اللي هيحصل لو عرفتي صدفة! 

ابتسمت في تهكم اثناء ذهابها للشرفة الملحقة بالغرفة وهي لا تصدق أنه يكترث أن يخبرها الآن بكل أمر يُقبل على فعله بينما شعرت بيده توقفها ممسكة بذراعها وهو يتحدث لها:

- أنا مش هافضل اجري وراكـ..

التفتت له لتوقفه بصفعة عن الحديث وصرخت به:

- كام مرة اقولك متلمسنيش! 

أمسك بكلتا يداها بقوة شديدة ثم هسهس بين أسنانه الملتحمة:

- بقولك إيه.. أنا بحاول اصلح كل حاجة ما بيننا وانتي مش عايزة تـ..

قاطعته ولم تسمح له بقول المزيد:

- وأنا مش عايزة اصلح ولا ادي فرص ولا طايقة اشوفك قدامي ولا جانبي وهنتطلق يا شهاب!! خلاص! أنا جبت اخري معاك.. فرص ومحاولات.. شطبت على كده!

روح بقى عيش حياتك بطريقتك وانتقم من الناس واقعد مع كلوديا .. لو فعلا عايز تصلح يبقى تطلقني! دي الحاجة الوحيدة اللي هتحسسني إنك بتحاول فعلا! 

رمقها في غضب بأنفاس تسارعت من ذلك اللهيب الذي يندلع بداخله كلما آتت على ذكر أن تُفارقه ليدفعها بكلتا يداه لأحدى الجدران وهو يطبق أسنانه حتى قاربت على التهشم ليحدثها في حرقة:

- وأنا ايه اللي يخليني ممسكيش اضربك ولا ارجع للأسلوب اللي بعامل بيه أي واحدة تانية غير إني عايز اصلح؟ ردي!! ايه اللي يخليني مش عايز اعمل كل ده؟! 

رمقته في كراهية وتحدي لتمتعض ملامحها في تقزز وهمست في سخرية:

- علشان أنت عايز اللي تحبك وتطبطب عليك واول ما ده يحصل هتستغلها.. هتستغل حبها ليك زي ما استغلتني في يوم.. هتدور على أقل واتفه سبب إنك تقلب عليها.. ضرب بقى، اغتصاب، حجاب.. أي حاجة وخلاص! عمرك ما هتتغير يا شهاب! 

تفقدها في حزن لوهلة وشعر بمحاولتها في أن تحرر ذراعيها من بين يداه ليهمس عاقدًا حاجباه:

- أي واحدة ممكن اعمل معاها كده.. إلا انتي يا فيروز! 

أطلقت ضحكة متهكمة لتعقب بلذاعة:

- وأنا بقى المفروض اصدق واخدك بالحضن واقولك يا حبيبي متزعلش مش كده!! كان فيه وخلص.. كان.. وعمره ما هيكون تاني! 

شعر بغضبه يتزايد ليدفعها بعنف للجدار خلفها ثم صرخ بها:

- انتي ايه بقى! ايه! كل اللي بحاول فيه بتصديه ليه؟ هتقوليلي دمرت ومدمرتش وكل حاجة ما بيننا باظت علشان اللي انا عملته.. انتي كمان ادتيني أمل إن فيه اللي بيحبني وعايزني بمنتهى الصدفة.. حبيتك واتعلقت بيكي بطريقة عمري ما حسيتها غير معاكي انتي.. وصحيت على إنك كنتي مخبية عليا إن كل ده كان وهم وكنتي عارفة كل حاجة وكنت بالنسبالك حالة مش اكتر! 

رفعت حاجبيها في اندهاش ثم صاحت به:

- انت بتكدب الكدبة وبتصدقها!! بجد مش ممكن.. كل ده كنت حالة بالنسبالي! كل اللي عملته معاك ده يثبتلك إني مجرد كدابة وواحدة جاية تعالج واحد! انت بجد محتاج تتعزل والله يمكن ربنا يكرمك وتخلص من امراضك دي!

ابتسم بمرارة وكاد أن يبكي ولكنه منع نفسه بأعجوبة ليرد قائلًا:

- اه بكدب الكدبة وبصدقها.. بس على الأقل بحاول اتعالج.. بحاول اصلح كل ده! لأني للأسف كنت فاكر إني هقدر اعدي انتقامي منك بس مقدرتش! حاولت اكون كويس معاكي مقدرتش.. وفي نفس الوقت مقدرتش اكمل في اللي كنت عايز اعمله فيكي! 

 رمقته في تهكم ثم هزت رأسها لتهمس ساخرة:

- لا كتر خيرك والله! 

تنهد في محاولة جديدة لكظم غيظه وغضبه كي لا يفعل ما يزيد الأمر بينهما اضطرابًا ثم تحدث بلهجة مُحذرة:

- اتعدلي علشان أنا مش عايز اعمل حاجة غصب عني وعنك ومتعجبكيش.. انا جاي افهمك إن كلوديا عايزة تـ..

صرخت به لتقطعه وهي تحاول دفعه بعيدًا عنها:

- ما تولع أنت وهي وابعد عني بقى.. روحوا اعملوا اللي تعملوه بعيد عني!

لم يعد يستطيع كبح غضبه ليصرخ بها هو الآخر:

- ما هي المشكلة انه مش هينفع يكون بعيد عنك! وانتي غبية ومش عايزة تفهمي حاجة! 

فجأة اندفع الباب لتظهر "كلوديا" التي تهكمت بالإنجليزية في استمتاع وهي تنظر لهما:

- ما بالكما عصفوري الحب؟ أبدأتما الشجار بهذه السرعة؟ 

التفت واتجه نحوها لترى غضبه الشديد كما لم تره من قبل ليصيح بها:

- اذهبي للجحيم كلوديا.. وإياك والتدخل فيما لا يعنيكِ!

قلبت شفتاها وهي تومأ له في تفهم بينما تسائلت بالإيطالية كي لا تفهمها "فيروز":

- هيا اخبرني.. هل يتعلق الأمر بي أم هناك شيئًا آخر؟

زفر عاقدًا قبضتيه وهسهس بين اسنانه الملتحمة في غيظ فهو غير مستعدًا لمزاحها السخيف الآن:

- كلوديا اغربي عن وجهي! 

نظرت له في مؤازرة زائفة بالحزن من اجله وهمست في تلذذ:

- اوه ليو عزيزي أنت تـ..

صفعها بشدة لينفرج ثغر "فيروز" وهي تنظر لكلاهما ثم فرت للخارج لتنظر له "كلوديا" في غضب وهمست به:

- أحقًا تصفعني من اجلها!! حسنًا ليو.. لا تلوم إلا نفسك! 

التفتت لتغادر بينما اوقفها محذرًا بنظرات مُرعبة وهمس بها:

- إياكِ وافساد الأمر! أنا لا امزح بشأنها.. هل هذا مفهوم أم تريدين العودة لذلك الرجل الذي كنت عليه يومًا ما؟

ابتسمت له بعهر ثم همست بنبرة استفزازية:

- الرجل كنت عليه كان اكثر مرحًا من ذلك الغبي الذي يهرول خلف إمرأة خرقاء..

دفعته بقوة ثم تركته لتخرج من الغرفة ثم تنهد في ضيق وهو لا يدري أيُفكر بأمر "فرانك" و "كلوديا" حتى ينتهي من ذلك الكابوس؟ أم يذهب ليحاول من جديد مع "فيروز" علها تتقبل الأمر؟ أم ماذا عليه أن يفعل بصحبة إمرأتان كل منهما أكثر صلابة من الأخرى؟!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد مرور أربعة أيام..

صباح السادس والعشرون من مارس عام 2020..

تهادى إلي اذنيه تلك الدندنة التي اعتادت "كلوديا" على اصدارها دائمًا وهي تُغني بإحدى الأغاني الإيطالية فاتجه وهو يبحث عن "فيروز" فلم يجدها ووجد الأولى وحدها بالمطبخ تصنع شيئًا ما ولاحظت وجوده خلفها وقبل أن يُغادر أوقفته متكلمة بنبرة إعلامية وافتعلت السُخرية:

- إن كنت تبحث عن الخرقاء فهي بالخارج.. تتناول قهوتها في استمتاع بأمواج البحر.. يا لها من رومانسية!!

تأفف من تلك الصفة التي لا تكف "كلوديا" عن منادتها بها في سأم ولكنه ليس في مزاج لمجادلتها وأكمل في طريقه لتوقفه من جديد هاتفة به:

- انتظر شهاب! 

لطالما نادته باسمه الحقيقي عندما يكون الأمر جديًا فوقف على مضض ثم التفت إليها ليتعجب في انزعاج:

- ماذا تريدين كلوديا؟ أليس الوقت مبكرًا للغاية لنتجادل؟! 

تفقدته في هتمام وتساؤل يلتمع بمقلتيها فهمست متعجبة بإهتمام:

- ما الذي يحدث معكما؟ ماذا هناك؟!

زفر في حنق وهو يمسح على وجهه في عصبية ثم اجابها بنبرة سأمة:

- أيًا كان ما يحدث فهو لا يعنيكِ في شيء..

التفت ليغادر فاتجهت بسرعة ووقفت أمامه:

- بربك شهاب.. ما الذي يحدث بينكما؟ 

منذ أن أتيت وانتما لا تكفان عن الصراخ والجدال.. كل منكما يمكث في غرفة.. منذ شهران كنتما كعصفوري حب والآن ينظر كلًا منكما للآخر وكأنه يستعد لحربٍ ما.. مال الذي حدث ليُغير كل ذلك الحب الملحمي؟

رمقها في تفحص لوهلة وهو لا يثق في أن يخبرها شيئًا ليعقد حاجباه وكسا الغضب ملامحه ليكز اسنانه في انزعاج:

- لا تتصنعي الإكتراث.. ودعي هذا الأمر وشأنه ولا تتدخلي به! أنا احذرك كلوديا!

تنهدت في ملل ليتركها وغادر للخارج كي يجد "فيروز" التي قرر أن يُعطيها بعض الوقت منذ تلك الجلسة يوم أمس.. لأول مرة أن تنهار بمثل هذه الطريقة أمام ذلك المُعالج الذي لا يملك شعرة واحدة برأسه.. لقد بدأت في الحديث واخبرته بالكثير ومنذ ذلك الوقت وهي تتحاشاه ولكنه لن يدعها أبدًا دون أن يُصلح الأمر برُمته!

هل عليه أن يُخبرها بأمر "فرانك" لو تقبلت الحديث معه؟ أم يُحدثها بشأن الجلسة يوم أمس؟ يشعر بأن مجرد الإقتراب منها بات صعبًا اصعب من أن يُفكر كيف عليه قتل "فرانك" نفسه!

اقترب في هدوء ثم جلس أرضًا بجانبها ونظر إليها بلمحة سريعة ثم شرع في التحدث إليها:

- صباح الخير! 

أطلقت زفيرًا لا يعبر سوى عن إرادتها في عدم التحدث إليه ليتنهد حانقًا:

- انتي امبارح ابتديتي تتكلمي.. أنا عايز اطمن عليكي.. انتي كويسة؟

التفتت نحوه بنظرة ساخرة ثم تناولت المتبقي في كوبها ونهضت كي تغادره ففعل المثل ولكنه اوقفها وهمس بها في توسل:

- فيروز.. ارجوكي حاولي تساعديني.. مش هنعرف نعدي اللي حصل ده إلا لو حاولتي معايا! 

تفقدته بعسليتيها لتلتوي شفتاها في مرارة والتمعت عينيها بالدموع الأسيرة التي أبت المغادرة لتهمس له في حزن:

- عمرنا ما هنعديه يا شهاب! 

فرت مسرعة من امامه عائدة إلي سجنها الجديد المكون من اربع جدران ليتنهد في ارهاق من عنادها الذي لا تكف عنه وانعدام رغبتها الشديد في ان تحاول معه ليشعر بأن تلك العلاقة بينهما لن تعود كما السابق أبدًا مثل ما تقول دائمًا وسيطر اليأس التام عليه!

يبدو أن فعل اكثر ما كانت تكرهه يومًا لم يكن انتقام ذكي منه، ولا مجرد طريقة مثلى كي يؤلمها مثل ما آلمته.. بل كان اذكى ما يُمكن لإفساد الأمر بينهما دون وجود ثغرة واحدة لإعادة ما كان بينهما! 

يبدو وأن اجبارها على أن يضاجعها بالإجبار يُمثل له ما تُمثله الخيانة بالنسبة له! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

صباح السابع والعشرون من مارس عام 2020...

نهضت لتتجه لتحضير قهوتها في هدوء بعد أن فرغت من تأدية صلاتها وتمنت ألا تجد بطريقها أيًا منهما.. هذه المرأة لا تطيق النظر بوجهها.. وأما عنه.. فحدث ولا حرج!

لا تدري إلي متى ستظل في هذا السجن الأبدي الذي تظن أنه لا ينتهي أبدًا.. وإلي متى سوف تجلس معهم تلك الشمطاء.. اربعة عشرة يومًا بالطبع لن يكونا كافيان لها.. شهرًا.. سنوات.. متى ستتخلص منها؟

ولماذا تُفكر بتلك الطريقة؟ أظنت أن رجل بمثل ماضيه من القتل والتعذيب سينتهي فقط بالزواج أو حتى بالعلاج؟ يا لها من ساذجة اختارت بمنتهى اللا منطقية.. تركت عقلها واستمعت لتلك المشاعر بالحب الواهية وها هي تحمل اخطاء اختيارها! 

اغتصاب.. تاريخ اجرامي.. واحدى العاشقات السابقات التي لا تملك ذرة احترام على الإطلاق.. كل هذا بمنزل واحد في مواجهة وباء لا ينتهي وجرح غائر لا تعرف كيف عليها التعامل معه.. 

سكبت القهوة التي نضجت في احدى الأكواب والتفتت كي تعود لغرفتها فهي ليست في مزاج لأن تواجه أيًا منهما ولكن من سوء حظها وجدت "كلوديا" عاقدة ذراعيها في تحفز وأشارت برأسها بلمحة سريعة ثم حدثتها بالإنجليزية:

- ما بالك انتِ وليو؟ ما الذي يحدث بينكما؟

ابتسمت لها في استفزاز ثم اجابتها:

- أليس ليو صديقك منذ آلاف السنوات.. فلتذهبي وتسأليه.. 

توجهت لتغادر بينما اوقفتها بعد أن مدت ذراعها في طريقها لتستغفر "فيروز" متمتمة في ضيق بينما سألتها "كلوديا" مرة أخرى:

- هيا.. من منكما بدأ تلك التراهات؟ أنتِ أم هو؟

امتعضت ملامح "فيروز" واجابتها لافظة في غضب جم بنبرة صوت مرتفعة:

- ابتعدي عني ولا شأن لكِ بما حدث بيننا..

ابتسمت ضاحكة في خفوت وحاولت استفزازها لمعرفة أي شيء منها وهي تحول بينها وبين ذهابها لغرفتها:

- لا تقلقي عزيزتي.. نحن امرأتان بصحبة هذا الوغد.. سنكون فريقًا رائعًا.. هيا.. ما الذي حدث؟

رمقت ملامحها الممازحة بمنتهى الغضب لتزفر وهي تحاول أن تتمسك بداخلها بالصبر قدر المستطاع:

- ابتعدي عن طريقي!

بالغت في تلك الملامح وهمست لها بإبتسامة بلكنة ايطالية:

- هيا هيا.. سأقتله لكِ ولكن اخبريني ما الذي حـ..

قاطعتها وقارب صبرها على النفاذ وهي تشدد على نطق كلماتها:

- اذهبي لأي جحيم وابتعدي عن طريقي

قلبت شفتاها متصنعة الحزن ثم همست لها بدلال:

- هيا ايتها الخرقاء سأسـ..

لم تعد تتحمل تلك السخافة لتجد نفسها ترميها بالقهوة الساخنة لتصرخ بها "كلوديا" بكلمات ايطالية لم تفهما الأخرى وكادت أن تلكمها بينما انخفضت "فيروز" بحركة مباغتة وباعدت بين ساقي الأخرى باحدى قدماها لتقع أرضًا واتجهت لتذهب في طريقها لتُفزع متصلبة في مكانها عندما وجدت سترتها قد تعلقت بالجدار بفعل سكين قد أُلقى من خلفها في لمح البصر فالتفتت نحوها تنظر لها في رعب لتبتسم الأولى قائلة وهي تُمسك بسكين آخر:

- لا أحد يؤذي كلوديا ويلوذ بالفرار عزيزتي الخرقاء! 

رمقتها في تقزز وهي ترفع احدى حاجبيها في انتصار لتلتفت "فيروز" كي تتخلص من تلك السكين بيدها ولكن كان قد سبقها إليها يد "شهاب" الذي بمجرد تلامس يداهما ابتعدت عنه بإشمئزاز ثم صاح متسائلا:

- ما الذي يحدث هنا؟! 

نظر إلي "كلوديا" في غضب بينما كادت "فيروز" أن تذهب فأوقفها بقبضة قاسية حول ذراعها لتصرخ به الثانية وهي تحاول أن تتخلص من قبضته:

- انت مبتفهمش.. قولتلك متلمسنيش مليون مرة! 

هزت "كلوديا" كتفيها وتحدثت بالإنجليزية وهي تشير إلي كلاهما بالسكين:

- كنت اريد أن اعرف عن ماذا تتشاجران.. سكبت القهوة على ملابسي فألقيت عليها بالسكين.. وعن قريب سأقتلها لك..

كاد أن يتحدث فبادرت "فيروز" في سخرية:

- سيكون هذا أفضل حتى اتخلص من رؤية وجوهكما الكريهة! 

صدحت الأخرى بضحكتها عاليًا واقتربت من كلاهما لتقول في استفزاز:

- ما الذي حدث بينكما؟ أين العشق الملحمي؟ منذ اشهر هذا الوغد انتحر من اجلك وكنتما تتبادلان القبل.. هيا.. فلتدعاني احصل على بعض التسلية والمرح.. من منكما بدأ؟ 

هل ليو شعر بالملل وقام بمضاجعة غيرك لهذا انتِ غاضبة.. أم هي من بدأت بالعهر وضاجـ..

اوقفها بصفعة قوية جعلتها تشعر بمذاق الدماء بفمها ليحدثها لاهثًا بين اسنانه بنبرة شيطانية:

- هي ليست مثلك! توقفي كلوديا.. آخر تحذير لكِ!

رمقته في غضب وكادت أن ترفع السكين بوجهه ليُمسك بيدها وهو يثنيها خلف ظهرها بحركة سريعة وتمتم بأذنها شيئًا بالإيطالية لم تفهمه "فيروز" وحاولت أن تتخلص منه ولكنه كان أسرع بإلقاء جسد "كلوديا" ارضًا بعد ان انتشل السكين وذهب يجذب "فيروز" خلفه عائدان لغرفتيها!

دفعها في عنف على الأريكة ثم اقترب يعتليها عندما استند بأحدى ركبتيه على الأريكة بملامح جعلتها ترتاب وفي نفس الوقت جعلتها تشمئز منه أكثر بينما حدثها في جدية بنبرة مُحذرة:

- الواطية اللي تحت دي مجنونة! بلاش تفتكري انها هتسيبك تعامليها زي ما بسمحلك تعامليني! في ثواني ممكن تموتك من غير ما ترمش! 

رفعت حاجبيها في دهشة تصنعتها ثم همست بلهجة استفزازية:

- ولما هي واطية مقعدها في بيتك ليه.. ولا اقولك انت حر انت وهي.. خليها تموتني علشان اخلص منك! 

رمقها بنظرات مطولة لتلمح الجنون المحض ببنيتيه وملامحه باتت مرعبة لتبتلع في قلق منه فحاولت دفعه بكلتا يداها كي يذهب بعيدًا عنها او تفر هي من اسفله ليُكبل يداها بسرعة ووضعهما اسفل ظهرها لتتحول ملامحها للخوف والتقزز في آن واحد ليهمس لها بمزيد من التحذير:

- اتلمي وبطلي كلامك ده! هي لما تموتك تفتكري هاسيبها؟ وقعدتها معايا هنا احسن الف مرة من قعدتنا لوحداها.. دي في حد ذاتها حماية من حاجات كتيرة اوي متعرفيهاش ولا عايزة تعرفيها لأنك ببساطة مش مدياني فرصة اتزفت اقولك حاجة! 

نظرت لملامحه التي باتت تُذكرها بتلك العلامات اسفل عينيها وبكل ما شعرت به عندما اعتدى عليها بالسابق ويداه القويتان فوق يداها بتلك الطريقة تجعلها تشعر وكأنها اسفله مرة اخرى على ارضية المرأب لتنهمر احدى الدموع في قهر من عينيها عندما انعكست انفاسه على وجهها لتجد نفسها تهمس في توسل:

- ابعد عني ارجوك.. متقربش مني! 

تفقدها في حيرة ليبتعد مسرعًا وابتلع في تردد وتوجه نحو الباب لتنهض هي وانكمشت على نفسها ليتوقف في طريقه بينما همس:

- أنا آسف.. بس.. حاولي متحتكيش بيها خالص لغاية ما تمشي! 

توجه للخارج وأغلق الباب خلفه لتأخذها هي نوبة بُكاء شديدة بعد أن استعادت نفس ذلك الشعور الذي شعرت به منذ ما يقارب شهرًا بأكمله! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الثامن والعشرون من مارس عام 2020..

انتظره خصيصًا بمرأب السيارات ليستطيع التحدث إليه فمنذ ثماني أيام وهو بالكاد يراه أو يجيب دائمًا وهو منشغل بالعمل ولكنه لن يتراجع حتى ينهي معه ذلك الجفاف الذي يتعاملان به سويًا بسبب هذا الحقير الذي لا يزال يرتاب بأنه خلف ما حدث لهما بالشهر الماضي! 

استند على ذلك العكاز الطبي عندما ارتفع باب المرأب الكترونيًا لينظر له بالسيارة متابعًا اياه بعينيه إلي ان انتهى من صفها وأطفأ المحرك ثم ترجل للخارج وهو ينظر إليه بسودويتان مُرهقتان ثم هتف به:

- خير يا حيلتها.. مستنيني في الضلمة كده ليه؟

رمقه في عتاب اتضح بعسليتيه ثم اجابه في سخرية:

- بقى بتهرب مني يا بدر علشان خاطر الحيوان اللي اسمه شهاب..

اتجه نحوه ليُمسك منه العكاز ثم اسنده وهما يتجها لداخل المنزل:

- لا وانت الصادق يا ابن ليلى الشغل مش ملاحق عليه وعماتك الاتنين كبروا ومش قادرين يستحملوا زي زمان!

التفت له وحدثه في جدية:

- المشاريع الجديدة مش كده؟

أومأ له والده وهو يجلسه ثم جلس أمامه على كرسي مُقابل له ثم غير مجرى الحديث وسأله: 

- اتعشيت يا اخويا ولا عملت بأصلك ومستنيني؟

تنهد ثم ضيق عينيه ليمازحه مجيبًا:

- أنا بصراحة مش عايز اتخن فسبقتك اصل اكل بليل ده مش كويس علشاني وزوزا مبتحبش الكرش!

امتعضت ملامحه ليتمتم في انزعاج:

- لا خلفت ندل بصحيح! خليك بقى مرزوع على ما اشوف نورسين تحضرلي العشا

توسعت ابتسامة "سليم" عندما قرأ الغضب الطفيف على ملامحه وهو ينهض بينما هتف به مناديًا وهو يحاول النهوض ليتبعه:

- يا ريت تحضرلي معاك حاجة خفيفة اصلي من ساعة الفطار مكلتش!

التفت ناظرًا إليه في تعجب ليجده يحاول اللحاق به في صعوبة:

- ده انت رخم اوي بقى.. يعني هتاكل ولا مش هتاكل..

اقترب منه وهما يسيرا نحو المطبخ ليحدثه بإبتسامة:

- يا عم مستنيك والله من الصبح هناكل سوا.. وبعدين انت تيجي معايا كمان يومين افك الجبس ده علشان انا اتخنقت منه خلاص وابقى اكمل الباقي ادوية..

رمقه في اهتمام ثم تحدث بنبرة ناهية:

- لما نشوف الدكتور هيقولك ايه، متستعجلش.. وبعدين حد يلاقي الدلع وميدلعش.. قاعد طول النهار تنكش في اختك وامك ومراتك مستعجل على الهم اوي؟

تنهد في حيرة ثم نظر له بملامح تحمل الريبة ثم تكلم في جدية:

- رجوع العقربة اللي اسمها أروى دي مش مريحني!

التفت "بدر الدين" حولهما ليتأكد من عدم وجود أحد ثم همس له:

- ولا أنا!! هي شاطرة اه بس تحسها لسه زي ما هي مش سالكة، ومن ساعة ما صممت ترجع الشغل وانا مش مطمن!

تناول نفسًا مطولًا ثم زفره في تريث:

- بكرة لما ارجع هافوقلها صح.. إياد مرحش ولا مرة؟

أومأ له بالإنكار وسيطر الوجوم على ملامحه بينما سأله هو الآخر: 

- ومكلمكش ولا مرة من ساعة ما خرجت من المستشفى؟

حمحم "سليم" ولم ينظر بعينيه مباشرة ثم اجابه:

- مرة كده قالي حمد الله على سلامتك وخلاص!

أدرك مسرعًا أن "بدر الدين" سيتحدث بإعتذارات عدة فبادر هو:

- بقولك لما افك الجبس ده عايزك ترتاح بقى شوية وتسيبلي الدنيا تاني.. وبلاش علشان موضوع كورونا ده ننزل الفترة الجاية ونقضيها من البيت وخلاص

رمقه في تفحص بعد أن جلس كلاهما بالمطبخ ليتعجب "سليم" فتسائل:

- فيه ايه يا بدر بتبصلي كده ليه؟

زفر ثم شرد في تفكير ليتمتم له:

- انت مصمم تطلع اللي عمل كده في المخازن.. وحتى مش عايز تعدي الموضوع.. وبرضو شايفك مصمم انه شهاب! 

طأطأ برأسه وهو لا يريد اعادة ذلك الجدال معه ولكنه لن يقتنع سوى بما في رأسه فتكلم على مضض:

- بصراحة اه!

دام الصمت للحظات ليتحدث الآخر بصوت غاب في وسط تفكيره:

- طيب لو هو ورا اللي حصل.. اولًا بيعمل كده تاني ليه بعد ما جالي؟ ثانيًا اتجوز فيروز ليه؟!! وازاي هتقبله لو متعالجش؟! 

تأفف في امتعاض من مجرد تلك الأسباب التي يُفكر بها والده ثم غير مجرى الحديث:

- روح الله يكرمك شوفلنا نوري تحضرلنا اي حاجة بدل ما يبقى خناق وجوع!

التفت إليه بإمتعاض وهو ينهض ليقول:

- وقال بتكلمني على الكرش.. ابقى تعالى كلني.. ده اللي ناقص! 

اتجه مغادرًا ليبحث عن "نورسين" ثم صاح من على مسافة:

- خليك قاعد يا حيلتها على ما اجيلك!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

الحادي والثلاثون من مارس عام 2020..

نهض مفزوعًا في فراشه عندما رآى كابوسًا جديد من نوعه عليه تمامًا يجمع بينه وبين "فيروز" التي كانت يتم اطلاق الرصاص عليها بين ذراعيه وهما يتشاجران.. 

لم يلحظ ما الذي يفعله عندما نهض وتوجه إلي غرفتها وفتح الباب وأنار الغرفة ثم اتجه نحو سريرها ليلمسها ثم هتف بها لتنهض في رعب شديد وهي تنظر له وهو يتصبب عرقًا:

- فيروز قوليلي ان انتي مش هتسبيني! أنا آسف.. أنا عمري ما هأذيكي تاني.. متسبنيش! 

رمقته في استغراب ثم تفقدت الساعة خلفه لتجدها الخامسة صباحًا لتبدأ أنفاسها في الهدوء ليتحدث هو في توسل مرة اخرى:

- أنا بحبك.. والله بحبك.. أرجوكي متسبنيش.. حاولي معايا تاني.. أنا يمكن مبعرفش اتكلم واقول حاجات كتيرة زيك بس أنا ندمان على كل اللي عملته معاكي.. 

ساعديني يا فيروز.. أنا فعلًا مش عارف اخليكي ازاي تسامحيني.. بس صدقيني عمري ما هاعمل اللي عملته معاكي تاني! 

تفقدت ملامحه ودموعه التي لا تعلم من أين آتت ليتوسلها مرة أخرى بصوت خافت متحشرج من بكاءه:

- أنا مش هاقدر اعيش من غيرك! 

مسحت على شعرها ثم عقدت ذراعيها وهي تنظر له وبكل ما بداخلها لا تريد أن تقع فريسة تلك الملامح التي تبدو بريئة نادمة فطأطأت برأسها للأسفل وصمتت للحظة ثم سألته:

- انت كنت بتحلم بحاجة؟

لمحته بطرف عينيها يومأ لها ثم همس في وهن:

- كنا بنتخانق وفجأة حد ضربك بالرصاص و.. ووقعتي و..

أومأت في تفهم ثم همست له:

- روح كمل نومك يا شهاب! إن شاء الله محدش هيضربني ولا حاجة هتحصل! 

مد يده ليتلمس يدها فشعرت بإرتجافة أنامله ليهمس متسائلًا:

- هتقدري تسامحيني على كل اللي عملته؟ هتحاولي معايا تاني؟

رفعت نظرها إليه وتبادلا تلك النظرات الصارخة بالآسى والخذلان لتهز كتفيها في عدم معرفة وأومأت بالإنكار لتخفض بصرها من جديد ولكنها لم تتخلص من لمسته ليتوسلها مرة أخرى:

- أنا بحاول.. والدكتور قال إن اللي حصلي ده كان ptsd بس أنا حاسس إن عمرك ما هتعدي الموضوع ده! كل ما بقرب منك بتحسسيني قد إيه أنا مستاهلش و.. 

توقف من تلقاء نفسه وهو يحاول أن يبتلع ولم يجد الكلمات الصائبة فهمس من جديد:

- أنا بفكر كتير وبحاول الاقي الكلام بس مش عايز يخرج! زي ما اكون في الجلسات القديمة معاكي و..

زفرت في ارهاق ورفعت عسليتيها الباكيتان له لتتحدث في حزن:

- انا مكنتش مؤهلة إني اعالجك.. عاندت نفسي وعاندت في حالتك وحبيتك.. انا بقالي اكتر من سنتين ممسكتش حالة كاملة ولا نجحت في حاجة!! 

تنفست بصعوبة وهي تنتحب في قهر على كل ما يحدث لها في حياتها سواء قبل أن تلقاه أو حتى بعد زواجهما لتزداد شدة بكائها: 

- أنا مبقتش عارفة اساعد حد ولا اساعدك ولا حتى اساعد نفسي.. امشي يا شهاب ارجوك! 

رمقها لوهلة ولم يستطع منع نفسه في أن يعانقها حتى ولو أنها سترفض هذا العناق وما فاجئه هو استسلامها الغريب بين ذراعاه ولم تدفعه ولم تبعده لتجهش بالمزيد من البكاء فربت عليها في حنان ثم همس لها:

- أنا آسف.. أنا آسف بجد آسف.. مكنتش عايز اي حاجة من دي تحصل

صرخت بين شهقاتها وكأن روحها تُنتزع منها:

- واهو حصل.. وعملت اللي عملته.. لا أنا قادرة اسامحك ولا انت عارف تصلح اللي عملته ولا هتعرف!! أنا مبقتش حاسة إني مطمنة طول ما أنا جانبك! ابعد عني ارجوك.. كفاية نفس الكلام اللي بنتكلمه كل مرة بقالنا شهر بحاله! 

فرق عناقهما لينظر لها باكيًا وجفف دموعها ليحتوي وجهها بين كفيه ولم تتوقف دموعه عن التساقط ليتوسلها مجددًا:

- آخر مرة.. آخر محاولة.. اوعديني اننا في يوم هنكون كويسين.. أنا بحاول على قد ما اقدر.. خدي وقتك براحتك، سنة او اتنين لو عايزة.. بس اوعديني اننا هنعدي اللي حصل! 

نظرت إليه وبداخلها جزءًا من مشاعرها يود أن يُصدقه بينما عقلها يصرخ ألا تفعل فهي لو استجابت له مجددًا في فترة قصيرة لن يكون هذا سوى بمثابة دعوة له أن يعيد أفعاله وكذباته من جديد فهمست بعد فترة دامت من الصمت:

- هحاول.. اوعدك.. بس مجرد محاولة.. وهنفضل زي ما احنا في كل حاجة.. معرفش الموضوع هيعدي كمان سنة ولا اتنين ولا خمسة بس موعدكش إني هستجيب لحاجة غير لما أتأكد أنا بتعامل مع مين بالظبط.. 

انا مبقتش قادرة اثق فيك ومظنش هاقدر اثق فيك تاني بسهولة!! اللي حصل ده.. سواء غصب عنك ولا قاصده بس خلاك تنزل في نظري اوي! واستحالة نرجع للي كنا عليه غير بعد ما اتأكد إنك بطلت كدب وبتتعالج بجد! 

أومأ لها بإبتسامة مريرة ارتسمت على شفتاه ولم تتوقف دموعه ليتلمس يدها على حذر ثم قبلها في هدوء وهمس في اصرار:

- اوعدك إن المرادي غير اي مرة.. كل حاجة هتتغير! 

أومأت بإقتضاب وهي تشيح بنظرها بعيدًا عنه وجذبت يدها من لمسته في رفق وابتلعت احدى شهقاتها ثم اخبرته:

- بعد اذنك اطفي النور وخليني اكمل نوم! 

أومأ في تفهم لينهض وهو يُبعد دموعه بيداه ثم توجه للخارج وأغلق باب الغرفة خلفه ليتولد بداخله أملًا جديدًا بالرغم من ضآلته في استعادتها ليقر لنفسه أنه سيفعل كل ما يلزم حتى يشعر بأنها باتت أفضل مرة أخرى..


⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


انتظر إلي أن انتصف النهار ثم آتى بهاتفه ليتحدث على مقربة من المنزل كي لا يستمع إليه احد:

- معاليك عامل ايه؟.. يا خبر ابيض.. لا بسيطة.. لو كانت الدنيا زي زمان كنت قدرت اتصرف من أي مكان في اوروبا حتى لو هنستورد اللي فيه عجز سواء الكمامات أوي أي مستلزمات تانية.. 

بص ممكن المصانع في مصر قدام مبلغ كويس يقدروا يوفروها.. متقلقش ابعت أي مندوب في الشركة وأنا هاخليهم يتصرفوا.. خمسة مليون كويس؟! أو تمانية؟.. كده كده كنت هاعمل تبرع قريب..

لا مفيش شكر ولا حاجة.. أنا بس كنت محتاج حاجة ضروري.. عقد جوازي متوثقش علشان كل حاجة قفلت من ساعة الحظر! .. لا متشكر جدًا.. تمام هبعت المحامي بيه.. وأكيد لو محتاج اي حاجة أنا تحت امرك.. 

تنفس الصعداء بعد أن حل أمر عقد الزواج بأكمله.. كان عليه أن يُهاتف احدى الوزراء منذ البداية.. ولكن ربما قرارها صباح اليوم بأنها ستحاول كان كل ما يحتاجه ليطمئن قليلًا بشأنها..

تفقد الهاتف ليُرسل برسالة لأكبر محامي بقسم الشئون القانونية بمجموعة شركاته بمصر بينما توجه للداخل باحثًا عن "فيروز" ثم قدم إليها الهاتف مخبرًا اياها:

- لو عايزة تطمني على حد او..

توقف من تلقاء نفسه عندما رفعت عينيها إليه في لوم وقلة حيلة ليتنهد ثم همس بها: 

- انا عارف إن اللي بعمله ده انتي مش قادرة تقبليه بس زي ما انتي مش قادرة تسامحيني انا صعب عليا ارجع اثق فيكي تاني

اخفض رأسه دون أن ينظر لها ثم تابع في صعوبة:

- انا هاسيبك تكلمي اللي انتي عايزاه براحتك! 

التفت وتركها لتتابعه بعينيها إلي أن خرج بينما بسرعة شديدة تفقدت احدى التطبيقات التي لا تستطيع الدخول إليها سوى بالبريد الإلكتروني وكلمة الحساب لتُرسل إلي "معاذ" عدة رسائل للإطمئنان عليه في البداية وبعدها سألته أهم سؤال كانت لا تنفك عن التفكير به.. هل تستطيع أن تحصل على الطلاق بموجب توكيل عام أم لا؟ وبالطبع تحججت أنها تساعد صديقة ليس إلا.. 

اعادت الهاتف كما هو وبدأت في التحدث مع أُسرتها كي لا تثير ريبته بها فهو بالطبع قد يستمع إلي تلك المكالمات كل مرة وتظاهرت أن الأمر بأكمله كان طبيعيًا وحاولت أن تُهدأ من نفسها وهي تتوعده أن هذا الزواج لابد له من نهاية يومًا ما..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

وقف ليصنع القهوة في هدوء تام وهو يُفكر كيف ومتى سيخبرها بما تريده "كلوديا"!! لا يدري كيف ستتقبل أنه سيخطط لمقتل احدى الرجال المهمين بعائلة "كارلو"! 

شرد مُفكرًا وهو ينتظر نضوج القهوة ولم ينتشله من صوت افكاره سوى صوت "كلوديا" المتهكم:

- اوه.. العاشق المُتيم.. لقد سُررت للغاية برؤيتك عزيزي! 

تأفف وهو يلتفت نحوها عاقدًا حاجباه:

- ماذا تريدين كلوديا؟ 

هزت كتفيها واتجهت لتحضر بعض النبيذ ثم اجابته:

- ماذا سأريد سوى خطة محكمة لقتل فرانك.. على كلٍ لقد اصبحت تصفعني من اجل تلك الخرقاء! 

التفتت لتنظر له بجدية ثم سألته هامسة:

- الهذا الحد أنت تعشقها؟

زفر حانقًا وأومأ لها بالموافقة على كلماتها ثم تحدث بنبرة لا تدل كثيرًا على الاعتذار عكس كلماته:

- كلوديا.. أنا اعتبرك اقرب احد لي بعدها.. ولكن لقد بالغتِ معها كثيرًا واتذكر انني حذرتك بشأنها! 

تنهدت وأومأت له هي الأخرى لتبتسم بمرارة ثم تمتمت في مُزاح:

- من كان ليُصدق أن السيد بينسوليو يكترث لإمرأة!! على كل حال.. لا يهمني سوى أن احصل على ما أريد.. 

ارتشفت من كأسها ثم اشارت له بسبابتها أن ينتظر ليزم شفتاه في حنق بينما تابعت هي:

- لا أدري ما معنى الذي سأبلغك به ولكن كنت اتحدث مع دون كروتشيتا منذ قليل.. وفاجئني كثيرًا عندما اخبرني أنه يتمنى لك ولزوجتك الشفاء العاجل! 

انعقدا حاجباه في هول ولاح الغضب على ملامحه ليتمتم في صدمة:

- كارلو!! 

أومأت له في تفهم وهي تتنهد في صمت ثم ارتشفت من كأسها ليتعجب هو في قلق وارتياب:

- هل هذا معناه أن..

أومأت وهي تهمهم له ثم قاطعته:

- يبدو أنه في حاجة إليك من جديد ليو! ولكن السؤال، ما الذي قد يحتاجك به كارلو؟!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع . . .

64 يوم الثلاثاء الموافق 2 - 2 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد


ملحوظة : الرواية في حدود 80 فصل..

دمتم بخير