-->

الفصل الثامن والستون - شهاب قاتم

 - الفصل الثامن والستون - 

     

~ المجرم هو دائما انسان ينزف من الداخل ..

أما من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائما في سلام مع الآخرين ..

 انه لا يستطيع أن يكره .. 

ولا يخطر بذهنه ان يرفع سلاحا في وجه أحد ..

 أنه قد يطلق ضحكة أو يترنم بأغنية، ولكنه أبدا لا يفكر في أن يطلق رصاص .. 

وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد للنفس ..

(مصطفى محمود - الشيطان يحكم)

     

بعد مرور يوم..

الثالث والعشرون من أبريل عام 2020..

أطلق كل ما برئيتيه من أنفاس وهو يتفقد ملامحها التي بدت كواحدة من سبابا تلك الحرب الدائرة بينهما وكأن ليس هناك نهاية لكل ما يحدث سوى موت حتمي لواحدًا منهما!! 

هو لم يعد لديه المقدرة أن يتشتت بينها، بين محاولاته للفرار من انتقامات المافيا القديمة، وبين ظنونها وانعدام ثقتها به بعد كل ما مر عليهما!

عقد حاجباه ثم حدثها مُحذرًا ولم يعد ينتظر منها أن تجيب فلقد عبر سأمه السماء السابعة ليهتف بها:

- خليكي زعلانة وكملي في زعلك.. أنا لو مكونتش عملت اللي عملته ده كان زماني بدل ما أنا ما عمال اقنع فيكي ترجعي كويسة معايا بدفنك وببلغ اهلك بموتك!! 

فيروز اجمدي لغاية ما نمشي من هنا، بعد كده مفيش اي حاجة هتحصل، كل حاجة هتخلص، هنسافر، هنبعد .. مفيش اي حد هيتعرضلنا!

تلمس أسفل ذقنها بالإجبار بعد أن اطرقت برأسها للخلف ليرمق عينيها المشمئزتان ليجد الغضب يسري بدمائه.. لم يعد يتحمل تلك النظرات القاتلة التي ترميه بها كلما تلاقت اعينهما، لقد بات هذا اصعب مما تخيله يومًا ما، لقد اخبرها بما هو عليه، بما يفعله، لقد حذرها بأن تلك الأيام لن تكون سهلة.. لماذا تعامله إذن بتلك الطريقة؟! لقد قارب على الجنون من كثرة ذلك التمرد والكراهية الجليتان بمقلتيها! 

تنهد في شعور بالخيبة من تجاهلها اياه بعد أن باء بالفشل في البحث عن ملامحها بكل ما يريده، أو حتى لو شيئًا واحدًا مما يريده، يدرك بقرارة نفسه أنه لا يريد فرض تلك الحراسات عليها، لا يريد أن يفعل بها ذلك، يريد تلك المرأة التي عشقها، حتى لو اصبحت تلك المرأة التي كان يسترضيها لأيام.. ولكن ما الذي يفعله وهو قد اصبح يرتاب حتى بنفسه قبل الجميع وليس بها هي وحدها فحسب وهناك مئات الرجال قد يقتلاهما سويًا إن لم يكن متيقظًا جيدًا ليتركها خائب الرجاء والأمل في استعادتها عما قريب ووضع لنفسه المزيد من الخطط التي سيستعيدها بها ولكن على الأقل عليه الانتهاء من الحياة بإيطاليا كي يستطيع البدء معها من جديد..

توجه للأسفل كي يجد "كلوديا" حتى يُنهي ذلك الأمر الذي بات غير سائغ، مرارة الأيام بكل ما يحدث هنا حوله لن تقبلها هي ولن يستطيع أن يعيش في سلام معها بعد كل ما مر عليهما وبينهما.. عليه الفرار هو الآخر معها.. لقد سأم كل هذا! 

جلس على احدى الكراسي المُقابلة لها ثم حدثها بجدية سائلًا:

- ماذا فعلتِ بشأن ماريو روسو؟! 

هزت كتفيها بتلقائية واجابته:

- المعتاد.. إبادة شاملة دون المساس بالنساء والأطفال.. لا حاجة للقلق بشأنه مجددًا..

توقفت لوهلة ثم عادت لتتحدث مرة ثانية:

- بالمناسبة.. اخبرت الرجال بأن يشيدوا المنزل من جديد.. أنا اعلم كم تحب هذا المنزل ليو وهو أول شيء ابتعته بسيسيليا!

أومأ لها في تفهم ثم نظر نحوها في جدية وأعين تفحصتها بنظرات مُهيبة قد قاربت على نسيانها ولكنه ها هو يعود مجددًا بواحدًا من اوجهته العديدة كي يذكرها من هو بينما بدأ في إملاء تعليماته بلهجة آمرة ولم يشعر ولو بإمتنان زائف لها ولكل ما فعلته من أجله وبنفس الوقت حافظ على نبرة خافتة بالكاد تكون مسموعة:

- كارلو كروتشيتا، عليكِ قتله حتى تستطيعِ التنفس بحرية دون الإكتراث بما يظنه! 

ضيقت ما بين حاجبيها وصاحت به:

- أيها الوغد لقد اتفقنا على قتل فـ..

توسعت عيناه في تحذير وتأهب من مقعده ثم كمم فمها ليهمس بفحيح قاتل جعلها ترتاب بما قد دفعه للتحول هكذا ف يوم واحد:

- أتريدين الإنتحار بصراخك هذا؟ أم لديكِ كامل الثقة بأن أكثر من مائة رجل بهذا المنزل لن يخبروا كارلو؟! احترسي كلوديا، لا تكوني غبية!

أومأت له في تفهم ليتركها وأراح جسده بكرسيه ثم أكمل همسه:

- لو قتلتِ هذا الخرف سيكون من السهل عليكِ أن تقتلي فرانك كذلك! وبعد ما فعله كارلو وتركه لهؤلاء لرجال أن يقتحموا المنزل و..

ابتسمت وهي تقاطعه بنظرة ذات معنى:

- والآن عاد ليو ليثأر لنفسه عن طريقي! 

التفت إليها متفحصًا ملامحها للحظات وهو لا يتكلم أبدًا حتى تعجبت من طريقته ليهمس في النهاية:

- لا أريد الثأر هذه المرة.. أريد الإنتهاء من كل هذا كلوديا! 

أومأت في تفهم بينما سألته:

- حسنًا.. تريد مني أنا، الكابو كلوديا فريدناند فالياني، قتل دون عائلة كروتشيتا التي آوتني منذ سنوات!! قتل رجل ينظر لي وكأنني ابنته.. كم انت حقير أيها اللعين! بربك ليو، لن استطيع فعلها! هل لديك اقتراحًا آخر لإنقاذنا من تلك الورطة؟! 

نهض محمحمًا وهو يتجول امامها وذهب ليتناول كوب سكب به واحدًا من المشروبات الكحولية ثم تفقد الجميع حوله بنظرة عابرة ليجد أنهما لو همسا لن يستمع احدًا لهما فحدثها بالإنجليزية علَّ هؤلاء الرجل لن يفهموا شيئًا واقترب منها:

- كارلو يستمع إلي فرانك.. تريدين قتل فرانك.. بينما كارلو في نفس الوقت يلقنك درسًا.. كارلو يطعن في السن.. وابنه ألبرتو لا يتفق معه في الكثير من قراراته وهو على عداء مع فرانك دائمًا بالرغم من تلك الصورة التي يحاول كلاهما المحافظة عليها أمام اعين الجميع! 

زفرت في نفاذ صبر لتسأله بإمتعاض:

- حسنًا كيف سأفعلها ليو لو أن هذا هو الحل الوحيد؟

رمقها وانهى ما بكوبه وتركه على منضدة امامه ومرر سبابته اسفل شفتاه ليهمس لها متحدثًا بالإنجليزية:

- كارلو سيصاب بالكورونا ولن يجد من ينقذه بعد أن ذهب لمنزل المزرعة وأمر الجميع بالذهاب بعيدًا وتركه كي يعتني بخيوله الغبية كما هي عادته في الاختلاء بنفسه، فرانك سيتعرض لواقعة اغتيال من التنظيم الروسي الذي صمم أن يقتل احدى اعضاءه، وانتِ عزيزتي ستبكين بدل الدموع دماء على رحيل كارلو، الرجل العظيم الذي يمثل لك الوالد الحنون!! 

تعجبت في همس:

- ولكن من سيقنعه بأن يذهب إلي منزل المزرعة ويقنعه بأن يصرف العاملين ويطلب منهم عدم ازعاجه؟

هز كتفاه ليجيبها بإبتسامة:

- هذا الأمر لك وحدك.. أو هناك حلًا اخر.. بضع منشطات لحصان وسيركله إلي أن يميته.. هذا الحل أسرع بكثير! 

أومأت في تفهم لتصيح "فيروز" والتفت كلاهما نحوها:

- هات الموبايل اكلم اهلي! 

ضيق ما بين حاجباه في شعور بالقلق ما إن كانت استمعت لشيء ونظر نحو "كلوديا" لتنظر له نظرة فهم معناها جيدًا، فهي لطالما لا تثق بها بأمور العمل لا يدري لماذا تعظم من هذا الأمر بينما نهضت هي وناولته احدى الهواتف ثم تحدثت بصوت مسموع بالإنجليزية وهي تتجاهل نظرات "فيروز" المُحتقرة لكلاهما وتناولت الكوب من امام "شهاب" ثم قالت:

- احدى الرجال استطاع انقاذه من ذلك الإنفجار.. هيا.. سنُتابع حديثنا لاحقًا.. 

اقتربت منه لتهمس له بالإيطالية ولم تكترث لتلك الرماديتان التي تسلط عليها نظرات مميتة:

- ليو.. ارجوك لا تتشاجر معها.. أنت لا ترى نفسك وأنت تنظر لها.. توقف وحاول ألا تتجادلا من جديد.. 

رمقها في حيرة لجزء من الثانية ودس الهاتف باحدى جيوبه ثم اتجه نحو "فيروز" وامسك بذراعها لتحاول التفلت منه وهي تصيح به:

- ابعد عني يا كافر يا حيوان! اول يوم رمضان وبتشرب وبتسكر.. إنت عمرك ما هتتقي الله أبدا.. اياك تمد ايدك عليا!

انهت صياحها بصفعة قوية اسفل انظار الرجال وحتى "كلوديا" تعجبت من على مسافة لتلك الصفعة القوية بينما حاول هو السيطرة على غضبه ليتحدث بلهجة مُرعبة بين اسنانه التي قاربت على التهشم بأي لحظة الآن وقست قبضته أكثر على ذراعها:

- قدامي على الأوضة! 

كادت أن تتحدث لينظر لها بطريقة جعلتها تتذكر ذلك الرجل الذي كان يحرق إنسانًا آخر بمنتهى الأريحية لتبتلع في رهبة وفرت للأعلى في غضب شديد من حصاره الذي لا ينتهي أبدًا ووجهه الذي بات أكثر ما لا تطيقه في حياتها فبمجرد النظر إليه ينتابها شعورا لا نهائي بالحسرة والفشل!

دخل كلاهما الغرفة لتجد نفسها ترتطم بالجدار خلفها وهو بنفس الوقت يُغلق الباب ورمقها بجدية ووجه جديد لم تعهده منه لتسخر من نفسها صارخة بعقلها أنها هي الغبية الساذجة التي سمحت لرجل مثله ذو المليون وجهًا ومليارات الكذبات والخداع والخيل التي لا ملاذ منها بأن يستغل لحظات من ضعفها واحتياجها للعشق والآلفة وحولها إلي هذه الحياة الآن التي لا تختلف كثيرا عن حياة أسيرة تُعذب كي تعترف كُرها وإرغامًا بما لم ترتكب من جرائم شتى لا يد لها بها!

تبادلا النظرات ذات المعاني النارية التي لا تدل سوى على الغضب والرفض لما تفعله هي، بينما تجلت عيناها بكراهيتها الشديدة التي باتت لا تحمل له سواها بداخلها.. يفهم جيدًا أنها تود الفرار، وتدرك هي أكثر من أي شيء أنه لن يسمح لها! 

لهث ما تبقى من أنفاس صبره وأمسك بكلتا ذراعيها بقساوة بالرغم من محاولاته بأن لا يفعل ليسألها بنظرة عجت بالغضب وقلة الحيلة في آن واحد:

- انتي عايزة إيه؟ مش ناوية تجبيها لبر أبدًا؟

رمقته متقززة بأعين لم يجد بها الناظر إليها سوى شناءة ما تراه من وجهه بصحبة احداث اليومان الماضيان لتمط شفتاها حانقة وكأنه يريد إجابة بينما نظراته الباحثة في وجهها عن المشاعر والدعم الذي ظن أنه لطالما سيجدهما باءت بالخيبة الشديدة ليتجهم وجهه أكثر بشبح طفل فشل في اختبار العام لتوه ليُحدثها معللًا بكلمات واهية:

- انتي بتمدي ايدك عليا قدام الناس.. 

ابتسم بتهكم وهو يتريث لثانية ثم تابع بخفوت:

- لو كنت شهاب بتاع زمان صدقيني كان زماني عملت حاجات كتيرة اوي!

لم تستطع هي الأخرى سوى الإبتسام بنفس مقدار التهكم كرد فعل مساوٍ للمقدار الذي تهكم به هو أولًا وضادته بكلمات موجهة مباشرة من روحها المُمزقة التي لا تشعر سوى بفداحة ما ارتكبته بإختيارها لرجل مثله:

- شهاب بتاع زمان! 

توقفت لوهلة عن الإبتسامة وهي تنظر ببنيتيه بشجاعة ثم تابعت بخفوت مثل ما فعل هو:

- أنا مبقاش يلزمني لا بتاع زمان ولا بتاع دلوقتي.. الاتنين مفرقوش عن بعض كتير.. وهيفضل رأيي واحد.. هبعد عنك وهتطلقني يا شهاب لأني عمري في حياتي هاقبل إن اسمي يكون على اسم راجل بالكفر والوحشية دي!!

أتحبطه؟ أهذا ما تظنه؟ هي تغضبه! وهذا ليس بأمر جيد للحدوث في خضم ما يمر به هذه الأيام.. صفعة قوية كانت بمثابة الإجابة لها على ما تظنه، وصفعة قوية كانت إشارة له كتوضيح على ما ستؤول إليه الأمور فيما بينهما بالمستقبل القريب لتضيف له بنبرة توعد صاحبت حرقتها التي تدفع بداخلها رغبة مُلحة للفرار منه تحت أي ثمن:

- مش مصدقة قد ايه انت مش راجل.. ضرب واهانة وغصب على كل حاجة في يومي من ساعة ما بصحى لغاية ما بنام! بس أنا مش هاسكتلك أبدًا.. مش هاسكت لواحد فاشل زيك بيطلع عقده وكلاكيعه عليا، فاكر إن ضربك لواحدة ست هيخليك قوي وتقدر تدافع عن نفسك!

ارتسمت شفتاها بإبتسامة تشفي لتهمس بشماتة:

- لو كنت قوي زي ما بتحاول تبين قدامي كنت قدرت تمنع اللي اغتصبوك زمان.. ولا نسيت!!

رفعت احدى حاجباها في تحدي ليمتزج وجهه بملامح الخذلان والغضب ليجد نفسه سيصفعها مجددًا بينما كانت تتوقعها ففلتت منه ببراعة وانخفضت بكامل جسدها لتصيبه بقوة راكلة منتصف ساقه بالحذاء الذي ترتديه وفرت ناهضة لأحدى أركان الغرفة ليقترب منها بأعين تُطلق نظرات بركانية الصنع ليحتدم ثورانه بما استمع إليه منذ ثوانٍ لتنظر له وهي تحاول أن تحتمي منه:

- هي دي هتبقى حياتنا يا شهاب.. بنجري ورا بعض واحنا بنمد ايدينا على بعض! أنت بتظهر على حقيقتك ومبتتغيرش وأنا مش هاضيع لحظة إني اؤذيك زي ما بتؤذيني وهاستغل كل اللي اعرفه واللي عرفته عنك علشان اوجعك! 

طلقني احسن يا إمّا الحياة بيني وبينك هتبقى جهنم! أظن مبقاش فيه لا فرص ولا تجارب اكتر من كده!! لو كنت بتحبني زي ما بتقول يبقى تطلقني وكل واحد يروح يعيش بالطريقة اللي تريحه! 

نظر إليها بعد أن توقف على اللحاق بها ومحاولة الإمساك بها لتفعل هي الأخرى ولكنها ترتقب في تأهب على حذر شديد منه.. نظر إلي الأم، الزوجة، المعالجة، الصديقة.. والمرأة الوحيدة التي عشقها! 

مزيج من أُناس شتى أرغمها على تحمله وبالطبع يريد منها كل ما يظنه عنها، ينظر إليها كالطفل خائب الأمل في امه القاسية التي ود لو حصل منها على عناق بدلًا من سماع تلك التراهات تغادر شفتاها، الزوجة الكارهة لزوجها بالرغم من فعله للكثير كي يستحق هذا الزواج، المعالجة التي يومًا ما أدلى بكل شيء إليها، الصديقة التي لطالما أخبرته بأنه سيجتاز كل شيء وسيترك الماضي بعيدًا ولن يعود إليه ما دامت هي بجانبة.. والمرأة الوحيدة التي جمعت كل القدرة والشجاعة على الغوص بداخله كي يكون معها هنا، أمامها، تصفعه فيرد الصفعة وهلم جرّ.. ما الذي يفعله معها؟ لو أن هناك إله وجحيم، هل لهما أن يفسران له ما الذي يحدث؟! 

لا يفهم بالطبع لأنه لا يحكم على الزوجة بل يحكم على عدة نساء لا يكفيه إلا أن يراهن بتلك المقلتان مجهولتان الهوية طوال الوقت.. يريد الإعتماد عليها.. يريد الدعم والمؤازرة من الصديقة والعناق الحنون من الوالدة والعشق الجارف من الزوجة كي تجتمع كل الكلمات وتكون جملة واحدة.. كل شيء سيكون أفضل!

ولو أصبح أفضل سيحوله هو إلي الأسوأ.. مثله كمثل الشهاب الحارق الذي يدمر كل ما يلمسه بنيرانه المتوهجة.. وهكذا سيكون معها إن اقتربت سيحرقها.. ولن تتنازل هي وتقترب أبدًا.. علاقة مؤذية سامة من أسوأ ما يكون! 

لم تعد تفهم طبيعة نظراته ولا تُفسر أي شيء مما تراه بوجهه، لم يعد هناك أملًا في الإنخداع بملامحه البريئة التي لا تدري اتظهر هي معها فحسب أم هذه هي طريقة من ألف طريقة لكذبه المحض.. وبالطبع لن تنطلي عليها هيئته التي اعتادت يومًا ما أن تمزق قلبها تعاطفًا وشفقةً عليه.. تلك الإنحناءة بمنكبيه ويداه التي تتشبثان بخصره صارختان بالدعم لم تعد تملك عليها سلطانًا.. 

مهما فعل ومهما حدث، لن تشفق عليه من جديد ولو بعد سنوات.. فمن أمامها هو ذلك الرجل الذي انعكس لهيب حرقه لإنسان آخر على وجهه.. وليس هناك أمل لديها معه سوى أن تتخلص منه بأقل الخسائر! 

ابتلعت وقدمت يدها على حذر ثم تكلمت بنبرة كارهة لشخصه وهي تنظر له في مقت:

- هات الموبايل.. هطمن عليهم.. عمر ما هاحب فشلي يكون قدام الكل.. بالذات معاك! 

كادت أن تنهمر دموعها ولكنها ظلت عبرات تحمي مُقلتيها من نظراته التي ارعبتها لتُصاب بإرتجافة من كثرة الذعر عندما رآته يهشم كل ما بالغرفة وهو يلهث بشدة لتحاول هي أن تحتمي بنفس الركن وهي تنظر لثورة غضبه اللاذع إلي أن انتهى ثم التفت إليها لاهثًا بشدة ليهمس في وهن اختلط بأنفاسه:

- أنا مكنتش عايز كل ده.. مكنتش عايز ده.. بس كلوديا!! كلوديا لسه مموته أكتر من مية واحد علشان الحركة اللي عملوها معانا.. قادرة تموت كل دول وهي بتشرب سيجارة وكاس .. مش هاقدر اعيش في أمان معاكي غير لما اخلصها من فرانك! 

رطب شفتاه وهو يهدأ من أنفاسه وخلل شعره واقترب نحوها ليهمس لها:

- يوم ما اخلص من كل ده هتفهمي كويس أنا اقصد ايه! مفيش طلاق يا فيروز ومش هتبعدي عني.. عايزة تكلمي اهلك كلميهم.. 

أخرج الهاتف وقام بتشغيله ليجد الكثير من محاولات الإتصال من اخيه واخته ليعقد حاجباه في تريث وهو يحاول أن يجد سببًا منطقيًا برأسه لماذا قد يهاتفاه كثيرًا هكذا في أقل من يومان ولم يتوقف الهاتف عن إصدار الإشعارات والإهتزاز بالرسائل وقد لاحظت "فيروز" ذلك ليتأفف هو وقبل أن يُعطيها الهاتف وحتى قبل قراءة الرسائل اتصل بـ "هاشم" على الفور!

نظرت إليه في حنق بالغ، لماذا لا يود أن يُعطيها الهاتف لكل ذلك الوقت؟ هل هذا لرفضها إياه من جديد؟ ليحترس إذن.. هي لن تقبله أبدًا ولو بعد مئات السنوات من التغير الذي يزعمه! 

انهى المكالمة ثم وضع الهاتف بجيبه واقترب نحوها عاقدًا حاجباه لتجد أنها من غبائها لم تستمع لمكالمته التي لم يتفوه بها بالكثير على كلٍ لترمقه بنظرات مشمئزة لتتشدق بعد أن تناولت كفايتها من تلك الملامح التي باتت أكثر ما تكرهه بالحياة:

- هات الموبايل واطلع برا لغاية ما اكلمهم وابقى تعالى خد الموبايل تاني! 

اقترب نحوها اكثر ثم حمحم ولم تتباعد بنيتيه عن مٌقلتيها منعدمتان اللون في هذه اللحظة تحديدًا وتفقدت ملامحه لتجدها مبهمة بطريقة غريبة لم تره بها من قبل ليتعالى انزعاجها من محاولاتها لتحليل ما قد يشعر به أو يمر به فصاحت في غضب:

- خللي عندك كرامة وهات الموبايل ومش هتـ..

قاطعها بعد أن اقترب منها اكثر ليقول بنبرة هادئة ثابتة لا تحمل الغضب ولا حتى التعاطف والشفقة:

- والدك ووالدتك.. ماتوا امبارح الصبح!

رمقته في عدم تصديق وهي تضيق ما بين حاجبيها وهزت رأسها في انكار وهي تتسائل مأخزذة بحالة من الصدمة:

- إيه؟ انت هتهزر في الموضوع ده كمان؟ أكيد بتحاول تضايقني وخلاص مش كده؟ يعني إيه ماتوا؟ يعني مش هاشوفهم تاني؟

عبرات ثم دموع انهمرت منها بلا توقف هو ينظر لها في حالة من الشتات ليقترب إليها وحاول أن يُمسك بذراعيها لتهرب هي منه وهي تنظر له في يأس لا حول له في تغير ما شرت به للتو وتساقطت المزيد من دموعها في عجز لتهمس بين نحيبها:

- يعني إيه ماتوا؟ ازاي .. وامتى؟ يعني كده خلاص مبقاليش حد مش كده؟! 

ارتفع نشيجها الذي ضاعف آلامها في لحظات قليلة وهي ترتطم بعنف بين الصدمة والنكران التام كما هي عادتها في تلقي مثل تلك الصدمات لتصرخ به:

- جاوبني.. ازاي ماتوا؟ انت بتكدب في دي كمان؟ انت عايز تخوفني بيهم مش كده؟ زي ما هددتني بيهم مرة واتنين!! انطق أهلي فين وإيه اللي حصلهم؟! 

تفاقمت عقدة حاجباه في صعوبة ومشقة اجتاحاه فهو لا يدري كيف عليه أن يتعامل مع هذا الأمر فأمسك بها رغمًا عنها وحاول أن يعانقها بين ذراعيه.. هذا هو الحل الوحيد على ما يبدو كي يستطيع أن يُهدئها لتصرخ به وهي تحاول أن تنظر إلي وجهه: 

- ازاي هما الاتنين ماتوا؟ إيه اللي حصل؟! 

شعر بالخزي ولم يستطع النظر إلي عينيها وهو يزف إليها هذه الأخبار ولكن بالنهاية ستعلمها اجلًا أم آجلا ليجيبها بصوت مهزوز وكل ما يُفكر به هو ما قد تظنه عنه:

- العمارة كلها مسكت فيها النار بسبب تسريب غاز! 

اتسعت اعينها في ذُعر مما تستمع إليه وكأنما بدت كالميتة التي لا يدل على الحياة بها سوى تلك الدموع التي تتواتر على وجهها دون توقف ليرق قلبه بلمحة تكاد تكون معدومة من الشفقة عليها ليحاول أن يدفن رأسها بصدره لتدفعه بعيدًا عنها فتفحصها جيدًا ليلمح بأعينها نظرة اتهام واضحة وها هو قد حدث ما توقعه، ستتهمه بقتل والديها! وبالرغم من قتله لآلاف الناس ولكن هذه المرة هو لم يقتل أحدًا! 

صفعته بشدة وملامحها تتحول لملامح شرسة ضارية لا ترتسم سوى على وجه لبؤة تفترس ضحيتها التي لم تجد سواها منذ أيام من مسغبة ظنت أنها لن تنتهي ولكن ها هي هداها عقلها أخيرًا أن تُفرغ كل ما بداخلها عليه هو وحده وستلتهمه بغضبها الذي انبعث من شدة المها في توحش تام.. 

زئرت بين نحيبها في فجع:

- قتلتهم!! حرقتهم زي ما حرقت الراجل!! ليه عملت فيهم كده؟ وفريدة!! فريدة فين؟! عملت فيها ايه؟!

أومأ بالإنكار وهتف بلهفة في اصرار هائل:

- أنا مقتلتهومش.. لو كنت قتلتهم كنت هقولك بنفسي و..

أوقفته بصفعة قاسية ولم تكترث لملامحه التي كانت لتخيفها منذ لحظات قبل علمها بموت والديها ولكنها الآن ممّ ستخاف؟! هو مثلًا؟ على كلٍ لم يعد لديها شيئًا لتخسره.. ولن تترك له الفرصة أن يؤلمها ويعذبها بمجرد رؤيتها لوجهه الذي بات يُذكرها بمرضه وقسوته واجرامه الذي لن يتوقف عنه أبدًا!! 

حدثته بإشمئزاز وشفتاها ترتجفا في تقزز وكلتاهما التمعتا بآثار نواحها المؤلم:

- لو كنت قتلتهم!! أنت إيه البجاحة اللي فيك والجبروت ده!! أنت قذر.. كان يوم اسود يوم ما صدقتك وصدقت إنك هتكون بني آدم في يوم!! 

كلملي فريدة!! حالًا..

همست بجملتها الأخيرة بلهجة آمرة لا تحتمل ولن تنتظر نقاشًا أو جدالًا منه بهذا الشأن.. هي الآن لن يشفع لها حالات إنكارها المتعددة في مقابلة الصدمات الشديدة.. لن تستطيع أن تقع أرضًا وتفقد وعيها بصحبة نزيف دموي كما حدث لها منذ عامان ونصف العام عندما استقبلت خبر موت زوجها.. 

هي الأخت الكبرى.. زوجة القاتل.. المعالجة الفاشلة التي لم تر الأمور كما يجب أن تراها.. لقد أنكرت الكثير ولم يعد هناك وقتًا لتنكر المزيد.. عليها الإستيقاظ وإلا ستفجع على موت نفسها هذه المرة! وهي ليست بتلك المرأة التي تُقدم على الإنتحار!

نظر لتلك اللمحات الجلية في مُقلتيها منعدمتان اللون ليشعر بالخوف! لا يجد بداخله سوى الخوف لقوتها الشديدة التي يراها واضحة للغاية بعينيها.. لو كانا في موقف آخر كان ليُعلمها ما معنى أن تتظاهر بكل تلك الجسارة والقوة ولكن الموقف اليوم فاق خططه وقدراته.. لم يتوقع أبدًا موت والديها!

أخرج هاتفه في تريث وهو يتفحصها ببنيتيه في تركيز شديد كما الصقر وكاد أن يتصل بأختها كما طلبت منه ولكنها تقدمت في جسارة وانتشلت الهاتف من يده بفظاظة لتتصل بـ "فريدة" وبمجرد سماع صوتها انفجرت في بُكاء شديد! 

أن تسمع صوت أحد يُذكرك بمن كنت، بما كنت عليه، بكل ما فعلته يومًا ما، يجعلك كالمجروح بجروح غائرة لا نجاة منها ولن يستطيع أشهر الأطباء في مداواتك.. الآلم ينهش بك في وحشية وأنت تقارن أين أنت الآن وأين كنت في يوم من الزمان وأنت تستمع لهذا الصوت المألوف الحنون، ذكرها ذلك الصوت أنها ببساطة فقدت كل شيء.. 

حتى صورة الأخت القدوة فقدتها كذلك، بتلك الدماء التي تتشاركنها، بروابط الأخوة والحب التي زراعاها كلاً من والديها بداخل كل واحدة منهما، لقد خسرت كل هذا.. فقدته في خضم علاقة سامة وهي مضطربة بسذاجتها والآن هي حتى لا تستطيع معانقة اختها الصغيرة .. لم يعد يخيفها في الحياة سوى أن تكون "فريدة" بخير! وسوى ذلك لم يعد هناك أي شيء لتخسره! 

جففت دموعها قدر ما استطاعت وهي تحاول أن تنظم أنفاسها بعد أن اطمئنت بتواجد كلا من "هبة" و "هاشم" إلي جوارها ولم يتركاها إلي الآن ثم تحولت من مجرد فتاة فقدت والديها إلي الأخت المسئولة في ثوانٍ ليرمقها "شهاب" في حيرة واستغراب وهو يسأل نفسه كيف تحكمت هكذا في نفسها في ثوان؟!

تحدثت بمنتهى الجدية بلهجة آمرة وقالت:

- هاشم.. بعد العزا متخليش عمو يمشي.. أنا هكلمه.. حد بس يبعتلي رقمه.. وتكتب كتابك أنت وفريدة وتاخدها وتروحوا.. مش هاينفع تفضل قاعدة عن هبة طول الوقت ده! 

ابتلعت وهي تقضم شفتاها في آلم وهي تبتئس لمجرد معرفة أن اختها الصغرى ستتزوج ولن تراها بأعينها ولم تقبل تلك العبارات الرافضة على الطرف الآخر من "هاشم" لتحدثه في اصرار:

- فريدة لو لفت الدنيا يا هاشم مش هتلاقي احن منك عليها.. أنا واثقة فيك!

نظرت نحو "شهاب" في خيبة وتساقطت دموعها رغمًا عنها لينظر هو لها وقد أدرك جيدًا ما ترمي إليه ليستمع إليها وهي تضيف:

- أنا وشهاب اتفقنا.. متقلقش.. ابعتلي بس رقم عمي على الموبايل ده لأني لسه مشترتش موبايل جديد.. هو اكيد هيفهم إن مفيش حد باقيلنا غير خالتنا ودي استحالة اسمح إن فريدة تقعد معاها!.. تمام.. خد بالك منها أنت وهبة.. سلام يا حبيبي.. 

شعر بالغيظ والحقد يتباريان بداخله من منهما يتحكم بما يشعر به واحتدمت دماءه بعد سماعه لتلك المكالمة ولكن ما أدهشه هو اقترابها منه وهي تعقد ذراعيها في تحفز ثم حدثته بلهجة آمرة:

- حالًا تكلم أي محامي من اللي عندك.. بيت بإسم فريدة، ومهر ليها في حساب بإسمها في البنك!! 

رفع حاجباه مشدوهًا بما استمع له لتصيح به زاجرة: 

- سمعتني ولا أكرر تاني؟!

مدت يدها لتناوله الهاتف ليعقد حاجباه وتناول الهاتف منها في تردد شديد ليتسائل هاكمًا:

- ومن امتى دكتورة فيروز فارق معاها الفلوس؟!

ابتسمت بسخرية له ثم اجابته هاكمة منه هي الأخرى:

- من ساعة ما عرفت إن جوزي قتل اهلي علشان يلويلي دراعي! تخليل! 

همست بكلمتها الأخيرة لتتساقط دموعها بينما أرسل برسائل صوتية لواحدًا من محاميه بما طلبته منه لتلاحظ سخاءه الشديد ولكن ولو أودع لها كل ما يمتلكه من أموال لن يشفع الأمر له بينما وجدها تنتشل من يده الهاتف بجرأة وتهاتف عمها الذي أرسل لها "هاشم" برقمه منذ لحظات!! 

سأل نفسه، لماذا لا يشعر بشيء؟ لماذا يشعر بفراغ شديد؟ أيود أن يعانقها ليخفف عنها أم يعانقها لإحتياجه له هو نفسه لتلك المشاعر التي لا يتشاركها سوى معها هي فحسب؟

أم هذا لأن صفعاتها وطريقتها معه تغضبه؟ ربما لتفكيره بأمر الفرار من عائلة "كروتشيتا" وإيطاليا بأكملها؟ أم أنه بقرارة نفسه يرضيه أن يراها الآن لا تملك احدًا سوى اختها الصغرى وهو فقط؟ أكانت تلك المكالمة هي سبب إغضابه حقًا أم ما الذي يريده .. هو ببساطة لا يدري!

توجهت نحوه حانقة لتلقي بالهاتف نحوه ولم تكترث لسقوطه أرضًا ثم صرخت به:

- امشي اطلع برا! 

تنهد ثم رطب شفتاه وهو يتفحصها ثم حاول أن يقترب إليها لتصيح في رفض:

- متقربش!

رمقت ساقاه وخطواته التي يأخذها نحوها ثم رفعت له عسليتاها المُحذرتان لتزجره مرة أخرى:

- قولتلك متقربش وامشي اطلع برا! 

كاد أن يُمسك بها لتفلت منه ببراعة وفتحت الباب في محاولة للهروب بينما وقف احدى الرجال أمامها ليمنعها ألا تأخذ المزيد من الخطوات لتتصرف بسرعة وامتدت يدها إلي خصر الرجل لتحصل على سلاحه وقبل أن يدافع عن نفسه أمامها استطاعت ببراعة أن توقعه أرضًا باحدى اللكمات القاسية في أنفه التي أدت إلي اسابة الدماء من أنفه وركلة بين ملتقى ساقاه كانت سببًا قويًا لهذا الحارس أن يسقط أرضا أسفل انظارها! 

التفتت وهو تشهر السلاح نحوه ونظرت له في حقد هائل وتسارع أنفاس تجاهد بين الإستمرارية بهذه الحياة وبين رغبتها في الإستسلام لتصرخ به:

- امشي اطلع برا بدل ما اقتلك! 

اشار للحراس بألا يتدخلوا وهو يدعى الإندهاش المازح من فعلتها ورسم ابتسامة ساخرة وهمس متعجبًا بنبرة اخبارية اكثر منها استفهامية:

- الدكتورة فيروز هتقتل!! ده بجد؟ مش مصدق!! 

ابتسمت له نفس الإبتسامة وبدت كإنعكاس تام لإبتسامته، وكأنه ينظر بالمرآة لتتلاشى خاصته سريعًا وتحولت ملامحه للجدية عندما رآى مصاحبة تهلل ملامحها اشمئزاز مُهلك قارب للغاية أن يُهلكه لتهمس بين أسنان ملتحمة تحاول أن تمنع نفسها خلالها عن ترك وحش الأوجاع والحزن على والديها أن يسيطر عليها والسماح له بأن يفتك هذا الرجل الذي لا تكره أكثر منه بالحياة:

- هقتل علشان أنت خلاص.. خلتني نسخة حقودة منك.. كرهتني في نفسي.. في طيبتي وايماني إن أي انسان في الدنيا يستحق الحب والفرصة التانية!

صحتني على مصيبة واتنين وتلاتة.. بالظبط نموذج مريض ومرضه طغى لدرجة إنه بقى يعدي كل اللي حواليه! بقيت زيك شكاكة، مريضة، ومجرمة.. زيك بالظبط!! خلتني إنسانة اكره اشوفها او المحها في المراية! 

وبما إنك وصلتني للمرحلة دي فسهل جدًا إني أأقتلك! 

ابتسمت في انتصار وهي ترفع احدى حاجباها في تشفي بينما استشعر جديتها ليتكلم بجدية:

- فيروز سيبي المسدس! 

لهجته الآمرة وظنه بأنها تعاني صدمة فقد والديها لم تملك عليها سلطانًا بأن تنتهي عما تفعله، هو لم يلحظ بعد أن من أمامه بكل ما فعله بها ومن كثرة تلك الصدمات التي تعرضت لها قد تحولت من إنسانة إلي حجر فولاذي لن تُهشمه عدة كلمات ولا حتى نظرات مُخيفة.. 

اقترب أخذًا خطوة نحوها لتسارعه بإطلاق احدى الرصاصات بالقرب من قدمه لتجعل جسده يتيبس في مكانه لتتوسع ابتسامتها والغيظ من عدم تصديقه إياها ينفجر بداخلها لتتحدث في تهكم:

- مفاجأة مش كده.. الدكتورة فيروز بقت قتالة قتلة! مش ده اللي كنت بتدربني عليه!! هتجربه بنفسك!

رمقها في حيرة ودام الصمت بينهما وأعينها اللائمة المتألمة بكل ما مر عليها في هذه الحياة بداية بفقد أجنتها المتكرر وصولًا بفقدها لوالدها ووالدتها تلاقي أعينه المهزوزة بصورة المرأة الجديدة التي يراها لتهمس به في شجن يعكس دمار روحها:

- ازاي تعمل فيا كل ده! وصلت لأنك تقتل أهلي يا شهاب! للدرجة دي بتكرهني! 

تساقطت دموعها من جديد وهي لا تزال متبنية لهذه الفكرة بشدة لتختلف ملامحه في غضب لاذع ليصرخ بها:

- مش أنا اللي قتلتهم! قولتلك مش أنا! 

هزت رأسها في انكار وابعدت دموعها سريعًا ثم همست بين نحيبها:

- طلقني يا شهاب! 

أطرق برأسه لأحدى الجوانب ولم يصدق قولها وتكرارها لهذه الكلمات مرارًا وتكرارًا ليحدثها في خفوت:

- فيروز.. قولتلك انا مش هاقدر اطلقك ولا ابعد عنك.. احنا كنا كويسين لولا اللي حصل.. صدقيني لما كل ده يخلص هـ..

تحركت قدماه دون أن يشعر كي يقترب منها لتصرخ به مقاطعة لتلك التراهات التي تغادر شفتاه:

- قولتلك متقربش! مش فاهم إني بقيت كارهة نفسي على اللي عملته.. وقوفي ضد كل الناس والدنيا واختياري ليك.. علشان في الآخر اعرف إنك انسان كافر لا بتتغير ولا بتؤمن برنا ولا بتخاف منه ولسه كداب زي ما انت وبتقتل بمنتهى المتعة وفي الآخر تقتل اهلي! 

هتطلقني ولا لأ؟! دي آخر فرصة قصادك! وصدقني مش هاتردد إني اموتك.. أنا خلاص مبقاش يفرق معايا اي حاجة ولا عندي حاجة اخاف عليها! 

رمقها في ذهول ليبتلع وقد لاح بداخله طيف لا يُرى لضآلة حجمه الصغير ولكنه اتضح بين قتامته ليصرخ بصوت مهتز بالندم على كل ما فعله بها وعلى كل ما جعلها تواجهه وكل ما سببه لها من آلام لتهمس في بُكاء:

- كان نفسي اكلمهم اوي امبارح.. لو كنت بس سبتني اسمع صوتهم، لو كنت ادتني فرصة.. عمري ما هنسهالك.. منك لله! طلقني! 

رمق ملامحها ليشعر بذرة واحدة من تأنيب الضمير، حتى ملامحه اندفعت بتلقائية للتحول بناء على ما يشعر به، لم يكترث لحرق الرجال وإيذاءه لهم ولكن معها الأمر لطالما كان مختلفًا.. وكالعادة لا يستطيع التعبير في مثل هذه المواقف! 

ابتلع ليهمس بصوت مهزوز:

- أنا بحبك! وهافضل اقول الكلمة دي واحاول اثبتلك إني بحاول اتغير وجدير بحبك لغاية ما أموت.. بس مش عارف ازاي اعبرلك.. أرجوكي سيبي المسدس و..

لاحظت أخذه احدى الخطوات نحوها لتقاطعه مسرعة:

- اديك هتموت.. بس بالبطيء زي ما عملت في الناس.. 

أطلقت احدى الرصاصات لتصيبه في ذراعه لتجهش بالبكاء في هول مما فعلته به ليحاول هو التحكم في آلامه لتتحدث بخيبة أمل ووهن بين بُكائها:

- ازاي وصلتني لكل ده! أنا بقيت عايزة اقتل بني آدم لأ وبالبطيء كمان.. أنا استحالة اكون الإنسانة دي! 

رفعت السلاح لتوجهه على رأسها ودموعها تتساقط بلا توقف لتتسع عيناه في ذهول وهمست به:

- أظن إن يمكن ربنا يرحمني.. بس خلاص مبقتش قادرة استحمل حياتي معاك! 

أومأ بالإنكار ليتضرعها في لهفة:

- فيروز ارجوكي بلاش.. متموتيش نفسك.. أنا مستاهلش تموتي نفسك علشاني.. صدقيني اعملك كل اللي انتي عايزاه بس..

قاطعته في حسرة ويدها الممسكة بالسلاح الموجه فوهته لرأسها ترتجف بشدة:

- لأ!! أنا اللي مستاهلش! مستاهلش أبدًا كل اللي حصل ده..

لم تلبث سوى ثوانٍ ولم تكمل ما ودت قوله ولم تسمح له حتى بأن يوضح لها المزيد ليرها أمامه كجثة هامدة ليهرول نحوها مندفعًا في صدمة شديدة!! 

     

#يُتبع . . .

الفصل القادم يوم الأربعاء 17 فبراير 2021 على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بـ 24 ساعة على الواتباد..

دمتم بخير..