الفصل الرابع والستون - شهاب قاتم
جلست في صمت بعد أن انهت حديثها إلي أُسرتها وإلي "هبة"التي كلما تذكرت أسئلتها إليها التي بالطبع تكذب بأغلب اجاباتها شعرت بمدى غبائها عندما تسرعت ووافقت على الزواج منه!
لا تدري كيف تُفسر ما فعلته.. أهي الوحدة والإحتياج؟ عشق شديد للغاية؟! أهذه هي الأسباب التي جعلتها تندفع بمنتهى الغباء ونست كل ما تعلمته في حياتها وذهبت لتوافق على الزواج منه؟
أهو حقًا يُعاني من اضطراب بعد الصدمة مثل ما قال ذلك المُعالج أم انه يدعي كل ذلك؟ لم تعد تشعر بالثقة نحوه.. هل يريد حقًا العلاج هذه المرة؟ هو من بدأ في نفسه وغير المعالج القديم الذي ذهب له قبل زواجهما، ولكن هذا ليس كافيًا أن تصدقه مرة ثانية!
ما الذي تفعله؟ أتريد أن تراه أفضل وتعطي له الفرصة أم تريد الهروب تماما وتحصل على الطلاق منه؟ يا ليت "معاذ" اجابها في نفس الوقت الذي ارسلت له بتلك الرسالة! على كلٍ ربما بعد عدة أيام ستجد أن الإجابة قد أُرسلت إليها وستستطيع أن تستخدم التطبيق مرة أخرى!
لا تدري اتريد الفرار.. المسامحة.. النجاح في هذا الزواج الذي لُعن بين ليلة وضحاها.. ربما تريد أن يصبحا أفضل.. الإلتزام بتلك الجلسات!! العديد من الأفكار تلوح بعقلها ولم تعد تدرك كيف لها أن تختار وكل قرار مما تُفكر به قد يؤدي إلي كارثة حتمية!
شعرت بالتشتت والحيرة الشديدة.. لم تلحظ أنها تنحدر معه ليصلا سويًا إلي تلك الهوة العميقة التي لا مفر ولا منقذ منها.. هو مضطرب وبشدة وقد جذبها معه إلي عمق سحيق من القتامة التي لا ينبثق بها ولو شعاع نور واحد!
استمعت لطرقات على باب الغرفة ثم ظهر هو عندما دخل يحمل كوبان من القهوة التي رآت تصاعد ادخنتها الساخنة فنظرت له بلمحة سريعة وقد أعطاها واحدًا من اقنعته المتعددة التي لا نهاية لها ولكن هذا القناع كان بلا مشاعر تُقرأ!
جذبت هاتفه من جانبها ثم ناولته اياه في صمت شديد دون أن تنظر له مباشرة ولم ترى ملامحه التي انزعجت من ذلك الجفاء الذي تعامله به ليتنهد قائلًا:
- انا عايز اكلمك في حاجات مهمة.. ممكن نطلع نتمشى برا شوية؟
رفعت نظرها لترمقه في تردد بينما ناولها ذلك الكوب فأخذته على مضض ونهضت لتومأ بإقتضاب ثم توجها سويًا للخارج ليشرع في الحديث بنبرة متريثة:
- فاكرة لما روحنا نشوف المستشفى وعرفت مين اللي قتل جوزك؟
التفتت لتعطيه نظرات مشتتة لتاقي بُنيتيه تلك العسليتان التي يتضح بهما الإنزعاج ليتنهد ثم تابع:
- كلوديا هي اللي وصلتله!
اعادت رأسها لتنظر امامها في صمت ولكن ملامح السخرية احتلت وجهها ولكن هذا لم يمنعه من الإسترسال بنبرة مترقبة:
- ولما جاتلي الفترة الأخيرة في مصر هي شبه اللي رجعتنا لبعض! كانت صاحبة فكرة اني انتحر.. بس الموضوع قلب بجد ساعتها!
التوت شفتاها بإبتسامة ساخرة وهي تتذكر ذلك اليوم وما حدث على اثره بعدها وارتشفت من قهوتها بدلًا من أن تمطره بوابل من احاديث قد خاضاها بدل المرة آلف مرة فتابع بقليل من التردد:
- وهي اللي عملت كل اللي حصل لبدر الدين..
تطايرت عسليتيها ناظرة له بإحتقار مُزج بالغضب وكادت أن تتحدث ليميل برأسه إلي احدى الجوانب ونظر لها ببنيتين محذرتين لتصحب نظراته تحذيرًا منطوق:
- أنا بفهمك كل حاجة علشان..
توقف من تلقاء نفسه ليبتلع ثم تنهد في ضيق وتكلم بنبرة شعرت خلالها بخوفه من أمر ما:
- أنا ساعدتها وهي مصر في حد كان عامل block لكل حسابات كارلو وموقفها.. تنظيم روسي كبير وعضو من اعضاء وقف الحسابات دي!
ادتها معلومات عن واحد كان في التنظيم وكان على عداوة معاهم فساعدها.. بس المشكلة إن مستشار كارلو اللي حكيتلك عنه مكتفاش بكده وقتل اللي وقف الحسابات!
هزت رأسها في انكار مما تستمع له وقد بدأت في الشعور بالتشتت بين إمكانيته أن يتحدث عن القتل بمثل هذه السهولة، وبين لماذا يُخبرها بكل ذلك!!
ابتعدت عنه وهي تسرع بخطواتها نحو البحر عله يتركها وشأنها فرمقها عاقدًا حاجباه وهو يتنهد في شعور بالصعوبة من صلابة رأسها التي عليه أن يُفتتها بأي طريقة فتبعها ثم وقف امامها ليتبادلا النظرات لبُرهة وكانت هي أول من اشاح بأنظارها فأخذ منها كوب قهوتها رغمًا عنها ليهمس في ضيق بلهجة آمرة:
- اقعدي.. لسه مخلصتش كلامي!
نفخت في تأفف بينما جلست على مضض ليجلس بجانبها هو الآخر وناولها قهوتها من جديد ليعود للتحدث بصوت مهزوز:
- أنا قولتلك إن فرانك جه بعد إل تشينو على طول.. كارلو بيثق فيه جدًا فوق ما اي حد يتخيل.. بس في نفس الوقت كارلو بيحب كلوديا بشكل شخصي وبيعتبرها زي بنته!!
عمومًا هو بيعمل مع الكل كده علشان يحافظ على استمرار عيلته لأن ملهوش أي حد غير ابنه بس.. باقي العيلة تقريبًا كلها مفيش بينه وبينهم قرابة.. اغلب عيلته يا مكانوش بيخلفوا يا إما بيتقتلوا!
قاربت على الصراخ به لتلتفت نحوه بإنزعاج ثم صاحت به:
- أنا مش عايزة اعرف اي حاجة عن الـ..
قاطعها مسرعًا بنبرة ثابتة وجمود ملامح هائل وهو يتفحصها ليرى كيف ستتقبل تلك الصدمة:
- كلوديا عايزة تقتل فرانك، وعايزاني اساعدها!
وقعت في ذول مما استمعت له ونظرت له في رهبة ثم التفتت لتنظر امامها والأفكار تنهمر على عقلها دون هوادة لتفعل الشيء الوحيد الذي لم يتوقعه.. وجدها تنغمس في نوبة ضحك هيستيرية لتُذكره ضحكاتها بنفس تلك الضحكات التي اصدرتها يوم استيقاظها بالمشفى عندما تحدث لوالدها بشأن زواجهما!
لوهلة ظل ينظر إلي نصف وجهها الذي يستطيع أن يلمحه وهي لا تتوقف عن الضحك ليعقد حاجباه وهو يتفقد ملامحها التي تبدو لمن لا يعرفها سعيدة.. لكن الحقيقة مؤلمة.. حقيقة انها قاربت على الإنهيار بمثل هذه الطريقة لا يساعده بتاتًا ولا يريد له أن يحدث!
قدم يده يتلمس ذراعها لتلتفت له في فزع وتوقفت عن الضحك ليتبقى بمقلتيها سحابة من دموع متكومة ليهمس لها في الحاح وبداخله يتضرع أن تُصدقه وتتقبل كلماته:
- انا مش هاقتل.. انا هقولها هتعمل ايه بس.. انا من زمان وبعدت عن الدنيا دي.. لو كنت عايز ارجعلها كنت رجعت!
لا تدري لماذا تسارعت أنفاسها لتهمس له:
- ابعد ايدك عني!
زم شفتاه واخفض يده مسرعًا ثم تابع حديثه:
- كلوديا من زمان معروفة.. لو ساعدت في حاجة بتاخد قصادها حاجة.. ولا بيفرق معاها حد قريب منها او بعيد عنها.. مبتفكرش غير في مصلحتها!
أنا بحكيلك كل ده علشان خايف! خايف اوي عليكي.. خايف لو مسعدتهاش تأذيكي انتي!
ابتلعت في آسى لتلتفت له وحدثته في سُخرية:
- وانت طبعًا مبرراتك لنفسك إنك رجعت للحياة دي في البداية علشاني وهتساعدها تقتل علشان خايف عليا.. كالعادة.. اي حاجة حرام وغلط بتلاقيلها مبرر من مبرراتك اللي مبتنتهيش!
أومأت في إدراك ثم نهضت لتغادره فنهض تابعًا اياها ولم يكترث لتحذيراتها بالسابق وأوقفها ممسكا بذراعها ثم صاح بها:
- الموضوع ده مفيهوش هزار.. فيروز أنا بجد مش هاقدر استحمل لو حصلك حاجة!
نظرت لملامحه التي ودت اكثر من أي شيء أن تكون بمثل هذا الصدق الذي يدعيه فرطبت شفتاها وهي تنظر له بأعين تفتقر للثقة ثم حدثته في هوان:
- ولو هي قتلتني مثلًا.. ايه اللي ممكن يحصل؟ هتعيط يوم او اتنين؟ هتزعل شوية؟ صدقني في الآخر هتكون كويس وهترجع لحياتك وهتلاقي طريقة تنتقم بيها من كلوديا وكله هيبقى تمام!
هز رأسه في انكار وانعقد لسانه لتضاعف صعوبته في الحديث امامها وحاول اكثر من مرة أن ينطق بالكلمات ولكن لسانه عانده في لذاعة ليصيبه باليأس والإحباط وكادت أن تغادر فأزاد من حدة قبضته على ذراعها ثم همس بحرقة:
- مرة زمان.. لما انا وانتي كنا مسافرين.. حلمت إنك بتبعدي عني.. مضايقة وزعلانة وشعرك قصير!! تقريبًا الحلم بيتفسر اليومين دول! أنا مش عايز الحلم اللي حلمته النهاردة الصبح أشوفه بيتحقق! فيروز أنا بصارحك بكل حاجة علشان.. علشان..
نظرت له في ثبات بإبتسامة تتهكم بها على تلك الكلمات وعلى حياتها بأكملها لتقول:
- علشان ايه؟ علشان لما ترجع تاني للقتل وشغل العصابات يبقى قولتلي.. وطبعًا متوقع إن ما دام قولتلي على حاجة يبقى لازم اقبلها بكل نتايجها وبكل ما فيها.. مش كده؟!
زفر متألمًا وهو يتفقدها بنظرة مشتتة وشعر بثقل الكلمات على لسانه فأومأ في النهاية بالإنكار بملامح تبدو متأثرة لتظن هي أنه واحدًا من اقنعته ليس إلا فهتف بها في همس:
- أنا مكنتش عايز كل اللي بيحصل ده.. ولا عايز حاجة غير إني اصارحك لأني مش عارف الفترة الجاية إيه اللي ممكن يحصل.. بالذات إن..
تناول نفسًا عله يُساعده أمام مقلتيها التي تجعله يشعر بالشتات وتابع بصعوبة:
- كارلو عارف إن أنا وانتي هنا.. شكله هيجبرني على حاجة أنا مش عرفها او محتاج مني حاجة!
في ثانية من ضعفه انتزعت ذراعها من بين قبضته التي لانت عند تحدثه وعقدت ذراعيها لتطأطا برأسها نحو الرمال اسفلهما في تفكير.. احقًا اصبحت زوجة احدى رجال المافيا .. بعد أن كانت زوجة لواحدًا من ضباط الجيش؟! كيف وصل بها الحال إلي هذه الكارثة؟!
تفقد وجهها بصعوبة كي يقرأ عليه أي مشاعرًا تُذكر وهي تتعمد أن تخفيه عنه ليتوسلها قائلًا:
- ارجوكي قولي حاجة.. متفضليش ساكتة كده!
رفعت نظرها إليه لتصفعه بوابل من الأسئلة التي لا إجابة لها:
- اقول ايه؟ عايزني اقول ايه؟ اقولك طلقني وروح لحياتك كلها واعمل اللي انت عايزه.. مش هتوافق!!
اقولك اهرب من المافيا هتقولي هيوصلولي ومش بعيد يموتونا..
طيب تحب اقولك ايه؟ اقولك روح ساعد كلوديا وشوف كارلو عايز منك إيه؟ ولا مثلًا متخيل إني زي اي مصيبة عملتها زمان وانت بتحكيلي عنها هاخدك في حضني واطبطب عليك واقولك كل ده هيعدي؟!
تنهدت بطيف دموع احتبس بعينيها لتهمس في آلم وتلك العبرات تحاربها كي تنهمر ولكنها حاولت التصدي لها بقوة:
- شهاب انا اخترت غلط! يوم ما وافقت اتجوزك اخترت غلط.. حطيت عقلي في تلاجة وجريت زي المجنونة ووافقت اننا نعيش مع بعض وافتكرت ان حبنا هيغير كل حاجة! بس للأسف اللي انت بتقولهولي دلوقتي الحب مش هيقدر يغيره!
تسارع وجيف قلبه وهو ينظر لها متفقدًا شبح ملامحها التي بدت كإمرأة تصارع الموت مُتذكرًا أن كل هذا بفعل يداه لينعكس ما يشعر به بصوتًا واجفًا وهو يقول:
- أنا بس عايز اصارحك.. مش عايز اخبي عليكي اي حاجة تانية.. انا هتصرف في كل حاجة واوعدك إن دي اخر مرة هاجي فيها ايطاليا!
تشنجت شفتاها وتساقطت دموعها التي لم تعد تتمكن من التصدي لها لتتكلم بنبرة مرتجفة:
- فيروز اللي اتعودت تسمع منك كل حاجة هي اللي عايز تصارحها.. فيروز بتاعة زمان.. مش بتاعة دلوقتي خالص!!
اللي واقفة قدامك دي عمرها ما هتثق تاني فيك.. عمرها ما هتقدر تنسى اللي انت عملته ولا تعديه!! كفاية بقى يا شهاب صدقني مبقاش ينفع اكون نفس الست اللي حبتك في يوم!
نظر لها في لوم واندلع الخوف على وجهه لتسأم من كل تلك المشاعر التي لا تعلم مدى مصداقيتها من زيفها ليهتف بها في همس:
- احنا قولنا هنحاول..
مررت اصابعها في شعرها القصير وهي تنظر له في شتات لتهمس بحرقة وهي تجهش بالبكاء في آن واحد:
- هنحاول في ايه؟ هحاول مع مين؟ راجل عصابات وقاتل؟ يعني اضمن منين إن المحاولة دي هتنفع؟ اكون عايشة في امان ازاي معاك وانا خايفة اني واحد فينا يتقتل؟ اجيب منين الثقة في واحد عاملني أسوأ معاملة اتعاملتها في حياتي؟ كفاية بقى .. انا خلاص مبقتش عارفة افهمك ازاي إن عمري ما هـ..
عانقها رغمًا عنها بقوة بين ذراعيه وصوته المبحوح من كثرة البُكاء يدفعه هو الآخر في أن يبكي.. كل ما تقوله منطقي للغاية.. ولكنه لن ييأس.. لن يترك اليأس لينتشلها منه!
تحكم في محاولات تفلتها منه ولم يكترث لدفعها اياه كي يبتعد عنها ليهمس لها:
- انا هحل كل حاجة.. مالكيش دعوة بأي حاجة هتحصل.. أنا السبب وانا هتحمل مسئولية اللي هيحصل المرادي.. أنا كل اللي عايزه منك إنك تحاولي معايا بس!
ابعدها قليلًا وجفف دموعها بأنامله ثم تلمس اسفل ذقنها ليرفع عيناها لينظر لها وتكلم بصوت مرتجف:
- انتي احسن مني بكتير.. يمكن بتعرفي وبتنجحي في حاجت انا استحالة انجح فيها.. انا حتى مش بعرف اتكلم زيك بس.. بس انا واثق انك تقدري تحاولي معايا.. اخر مرة يا فيروز! اخر مرة .. ادينا فرصة بس لغاية ما نمشي من هنا وأنا اوعدك ان كل حاجة هتكون احسن!
لو ملقتيش كل حاجة فعلًا اتغيرت ابقي اعملي اللي انتي عايزاه.. أنا ماليش حد غيرك.. مبعرفش اتكلم غير معاكي ومش شايف إني في حد واحد في الدنيا اخاف عليه غيرك!
اوعدك لما نمشي من هنا كل حاجة هتتغير.. أنا قدرت ابعد عن كل القتل والحياة دي مرة وهاقدر ابعد تاني.. يمكن مش عارف اعبرلك ازاي ولا بعرف اقول كل اللي بحس بيه بس مش هاخليكي تمشي من هنا غير وانتي في امان! مش هاقدر اخلي اذاهم يطولك انتي بالذات!
استحملي بس معايا الكام يوم الجايين لغاية ما نمشي من هنا.. صدقيني المرادي.. كل حاجة بعد كده هتبقى احسن!
نظرت له في حيرة وتشتت.. جزء بداخلها يريد أن يُصدق كل هذا بينما عقلها يأبى ويرفض بشدة.. يزجرها ويأنبها على تقبله في البداية والآن يصرخ بها أنه لن يتغير أبدًا مهما كان!
لا تدري ماذا عليها أن تقول ولا ما الذي تستطيع فعله! اتخدعه من جديد إلي أن يغادرا وبعدها تحصل على طلاقها منه؟ أم تقبل هذه الرغبة في التغيير؟ تستمع لكلمات المعالج وتقع في عشق تلك الملامح الخادعة مرة اخرى؟
يا لتلك الورطة.. تمنت لوهلة لو كانت ضعيفة للغاية كي تقتل نفسها وتُنهي تلك الحياة بأكملها ولكنها حتى ليست بمثل هذا الضعف أو ربما القوة التي تدفعها للإنتحار!
عقد حاجباه وهو يتفقدها ثم تلمس احدى وجنتاها بأنامل مترددة وهمس بها:
- عارفة الثقة اللي انتي مش عارفة تثقيها فيا.. مش عارف اثق في ربنا كده!! مضايق منه اوي.. مش حاسس في الصلاة انه بجد ممكن يكون موجود.. او قادر إنه يحل كل حاجة!
تشنجت ملامحه في تقزز ليتابع في حنق:
- انتي ازاي بتقدري تثقي إنه هيقدر يعمل كل حاجة؟ ازاي آمال من ساعة ما كنت صغير لغاية ما كبرت وهي لسه بتحافظ على الصلاة والحاجات دي؟
لو كان موجود بجد.. لو كان بيسمعنا.. لو كان قادر يغير كل حاجة.. ليه مبيعملش ده؟ ليه مصمم يعذبنا؟ ليه دايمًا حظي بيبقى وحش اوي كده؟
نظرت له في ذهول ثم هتفت سائلة في صدمة:
- شهاب.. انت رجعت زي الأول؟ مبقتش تصدق إن ربنا موجود وهو اللي خلقنا؟
هز كتفاه في وهن وهو لا يدري ما الذي عليه قوله ثم همس بصوت متردد:
- أنا ببص ليكي.. ليا.. كل الحاجات اللي حوالينا.. اكيد هو موجود! اكيد هو اللي خلقنا.. بس ليه بيظلم؟ ليه مصمم إن حياتي دايمًا تبقى كده؟ ليه دايمًا انا في حرب ودوامة مش بخرج منها؟
يا بعافر زمان علشان ابقى حاجة.. يا بلاقي اللي يضحك عليا ويستغفلني.. يا افضل سنين بحاول اهرب.. اكتشف إن اللي خلفوني أسوأ اتنين في الدنيا.. ليه خلقني بالحياة دي؟
ابتسمت في سخرية وحاولت الإبتعاد عنه ليجذبها له مانعًا اياها في توسل:
- متبعديش عني ارجوكي!
رمقته في جدية ثم تحدثت في قسوة:
- اللي حصلك ابتلاءات! يمكن لغاية ما غادة خدعتك.. إنما انت بعد كده عملت اختيارات غلط كتيرة وافعال كلها حرام! اختياراتك انت بتتحمل نتايجها.. والحرام اللي انت عملته.. قتل وستات واغتصاب وكل التجارات المشبوهة والرشاوي .. كل ده اكيد ربنا مش هيظلمك فيه.. يمكن التوهان اللي انت فيه ده عقاب منه!
ربنا مبيسبش.. بيحاسب وبيعوض.. مبيظلمناش يا شهاب!
يمكن لو اخلصت توبتك ونيتك ليه كل يوم وانت بتصلي، يمكن.. احتمال.. يقبلها!! دي حاجة بينك وبينه! وعارف.. ده الوحيد اللي متعرفش تكدب عليه!
يمكن تكدب عليا وعلى بدر الدين وتكلم الوزير وتضحك على الكل إنما ربنا هو بيبقى عارف كويس إذا كنت كداب ولا لأ!
ابتسمت في سُخرية وتساقطت دموعها رغمًا عنها لتهمس في ذهول:
- انا دلوقتي متجوزة واحد كافر! مش كده؟!
أومأ في انكار وهتف مجيبًا:
- أنا مش كافر أنا بس.. أنا مش عارف اصـ..
انعقد لسانه وتوقف من تلقاء نفسه لتنظر له وحاولت أن تجفف دموعها وحدثته بصرامة وجدية:
- قرب منه هو واترجاه وتوب وجدد توبتك كل يوم.. عقلك الذكي الإجرامي يقدر يكرس كل طاقته إنه يطلب العفو والسماح من ربنا.. يمكن وقتها لو تاب عليك يديك فرصة!!
لو فضلت بإسلوبك ده عمرك ما هترتاح.. هتفضل تايه.. ادعيه بجد يمكن يستجيبلك! خليك بس فاكر إن الوحيد اللي مش هينفع تكدب عليه!
رمقها في تشتت وحيرة وهو يُدرك فداحة ما فعله عندما تزوجها في البداية ليبتلع في صعوبة وحاول أن يقربها إليه لتبتعد هي وقبل أن تشرع بجدال جديد قاطعتهما "كلوديا" بإلقائها حقيبة بجانبهما على الأرض ثم صاحت بهما في سخرية بالإنجليزية:
- عصفوري الحب.. عليكما ترك نزاعكما جانبًا الآن.. عليكما أن تدربا جيدًا لأننا لا نعلم ما الذي سنواجهه!
توقفت عن توزيع النظرات بينهما ونظرت له بجدية لتحدثه بالإيطالية في تهكم:
- تلك الخرقاء لم تستطع تفادي سكين طعام!! اتمنى من كل قلبي أنك لازلت تستطيع التصويب مثل ما علمتك يومًا ما.. اترك تلك التراهات واضمنها إلي جانبنا!! هذه المرة أنا لا أضمن كارلو.. وأنا محقة فيما اقول ليو!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور اسبوعان..
مساء الرابع عشر من أبريل عام 2020..
وقفت في انهاك شديد في المطبخ وهي تقوم بغسل كوبها بعد أن انهت مشروب الشيكولاتة به وشعرت بأن جسدها بأكمله يتوق للراحة والإسترخاء بعد هذه الأيام الشاقة التي باتت لا تفعل شيء بها سوى التدريب على كيفية استخدام الأسلحة المتنوعة وإجادة التصويب وممارسة بعض الفنون القتالية التي تستطيع بها الدفاع عن نفسها!
لم تكن تعلم أنه جيد للغاية هكذا.. هو حتى افضل من "ماهر" في هذا الشأن وأفضل من كل من علمها يومًا ما كيف تدافع عن نفسها!..
حتى كيفية تدريبه اياها في اعماقها تجذبها إليه.. بالرغم من كل ما حدث ولكن تلك الجاذبية التي يتمتع بها بداية ببكاءه كالطفل إلي التصرف كقاتل محترف ورجل عصابات بلا مشاعر تجعلها تشعر بالتشتت الشديد من الأمر بأكمله..
مهلًا.. كيف استجابت لكل هذا؟ اهي مجرد شيء تُشغل به نفسها؟ مجرد إلهاء أم ملجأ لكل تلك الطاقة السلبية التي تشعر بها تغادر جسدها كلما ابرحته ضربًا أو لكمته أو ساوت جسده بتلك الرمال أسفلهما؟!
يُصمم كل يوم وكل ساعة أنه فقط يفعل كل ذلك لأنه يُريد أن يطمئن بأنها ستستطيع الدفاع عن نفسها لو حدث مكروه لها.. يثرثر بعدم ثقته بكلًا من "كارلو" زعيم العائلة الصقلية و "فرانك" مستشاره الأمين، ولا يكف عن الحديث عن اعمال المافيا وتنظيمهم وكيف نشأت تلك العائلة وكيف هرب بالسابق وتردده وحيرته فيما قد يريده منه الدون بعد حديثه إلي "كلوديا"!!
تشعر أنها باتت واحدة منهم بالفعل.. بمجرد عدة كلمات.. ولكن ماذا لو كان مُحقًا؟ ماذا لو حدث مكروه لهما بتواجدهما هنا في إيطاليا؟ زفرت في شرود انتقلت إليه بسائر حواسها وطغى على تحركات جسدها وهي تطنب تفكيرًا بالأمر لتنتشلها تلك المزعجة بلكنتها الإيطالية وهي تتحدث بالإنجليزية:
- لم اكن اعلم أنكِ جيدة للغاية ايتها الخرقاء..
التفتت نحوها على مضض وكادت أن تغادر فهي لا تطيق اجتماعها معها بغرفة واحدة فأوقفتها مشيرة إليها بأحدى السكاكين وارتشفت من نبيذها في هدوء ثم تابعت الحديث:
- اتعلمين.. عندما رأيت ليو أول مرة.. او شهاب او زوجك.. ثلاثتهما واحد أليس كذلك؟
نظرت لها في حيرة وتردد وكل ما يأتي على عقلها أن تجذب سكينا وترد لها تلك المرة منذ أسبوعان وهي تُلقي عليها بسكينٍ لتعود من جديد لتُحدثها بنبرة اتضح عليها القليل من آثار الثمالة:
- كنت اظنه فتى غبي يريد فقط الإلتحاق بالمافيا نظرًا لفقره واحتياجه للمال وبعض الحماس الذي يشعر به بعض الشباب في مثل عمره ولكن كلما اقتربت منه علمت كم أننا متشابهان.. إمرأة فاسدة مثلي وشاب فاسد مثله .. وجهان لعملة واحدة.. أو هكذا عملت على أن نكون!
عندما بحث جيدًا خلفي وعلم ما حدث لي يومًا ما بالرغم من أنني طمست كل ذلك الماضي الذي اكرهه أدركت كم أنه جيدًا.. حاولت أن افعل المثل ولكنه لطالما اتبع الحذر الهائل وإلي الآن لا اعلم ولو حرفًا واحدًا عن ماضيه!
ابتسمت في سخرية وتجرعت ما بكأسها دفعة واحدة ونظرت لها تلك النظرات المختلطة بين الدلال والأنوثة، الخطورة والعهر وأدركت أنها ليست في وعيها الكامل لتتابع حديثها:
- لقد كان لدي العائلة.. يضاجعونني واحدًا تلو الآخر.. عمان واخ بغيض! لا يفعلوا شيئًا سوى توزيع المخدرات بالصبا وبالمساء يتناوبوا على اغتصابي.. وفجأة شعرت بالغضب والكفاية.. ولم اجد سوى السكين لأقتل ثلاثتهم في ليلة واحدة.. ليتك تعلمين ايتها الخرقاء مدى الراحة التي شعرت بها وقتها! شعور مُرضي لأبعد حد ممكن.. كنت ارفرف في السماء وقتها..
توسعت ابتسامتها وهي تتوجه لخزانة بالمطبخ وجذبت زجاجة خمر وتجرعت منها مباشرة لتهمس إليها مُكملة:
- وجدني إل تشينو وقتها وأنا احاول الهرب.. علمت بعدها أنه كان يوظفهم بعائلة كروتشيتا.. ووقعنا في الحب.. كنت يافعة للغاية.. احببته بشدة.. إلي أن اصبحت علاقة مليئة بالرتابة والملل والخيانات المتعددة.. لقد بدأت العمل مع العائلة.. أصغر مافيوزو.. سلطت اهتمامي على أن اكون جيدة لأحصل على ثقة الجميع وتعالى لدي طموح أن اكتسب المزيد من البأس والحماية التي افتقرت لهما يومًا ما..
خاصة دون كروتشيتا.. شيئًا فشيئًا اصبحت ابنة كارلو التي تمنى لو انجبها.. اتعلمين أن ابنته إلي الآن ترفض العمل معه!! إمرأة شمطاء تبدو كالعجوز البغيضة.. اكرهها للغاية!
وقعت في الحيرة وهي تستمع لها ولثمالتها لتستطرد بنبرة واقعة في الثمالة بشدة:
- أول مرة أبادر بخيانة إل كانت مع زوجك.. لا أدري ماذا به.. لديه عنف لا نهائي عند المضاجعة.. ربما اعتدت أن يعتدي علي رجل.. لا أدري..
كان أول من فعلها معي.. إل تشينو كان جيدًا ولكنه لا يميل إلي الممارسات الماجنة العنيفة مثل زوجك.. ولكنني وقعت في عشقه بنهم شديد واصبحت أفعل كل ما يُرضيه.. ولكنه لم يستطع تجاوز أنني إمرأة خائنة!!
تأتي انتِ بكل ما انتِ عليه وبتلك البساطة وسذاجتك وبكل ما لا تملكيه مثلي، لتجعليه يقع في عشقك بعدة ايام!! كيف فعلتيها؟ كيف استطعتِ أن تجعليه مُتيمًا بكِ إلي هذا الحد؟ لقد كان لدي أمل ضئيل في أن يعشقني مثل ما فعلت يومًا ما.. كنت أظن انه سيعود إلي وإلي العائلة.. يا لكِ من محتالة!!
تناولت من الزجاجة مرة اخرى لتبتسم لها في حسرة وأكملت:
- تصفعيه وتطاولين عليه.. تتشاجري معه.. ولا يزال متيمًا بكِ.. محظوظة ايتها الخرقاء.. كما أنكِ في داخلك لديكِ قوة منيعة.. كلما شاهدتكما معًا تجعلينني اشعر بالخوف منكِ..
تنهدت في وهن لتهمس لها:
- هذا الرجل يُحبك بجنون.. لا أدري ما الذي حل بكما لتتشاجرا ليلًا نهارًا حتى عندما كان مُصابًا بالمرض ولكن ليو لم يعد ذلك الشاب الذي جعلته رجل المافيا.. أنتِ قد عبثت برأسه.. اصبح يعشق.. يتزوج.. حتى أنه اعتنق احدى الديانات..!!
القت الزجاجة من يدها لتسقط أرضًا وتهشمت لتنهمر بقايا الخمر أرضًا ثم نظرت لها في ثمالة وشراسة شديدة لتزجرها مُحذرة:
- ربما قد انتهيت انا وهو منذ سنوات.. ربما هو يعشقك الآن ولم يعد لي سوى ذكرياتٍ عدة معه.. ولكن ايتها الخرقاء حاولي أن تتسببي له بالآلم وسأقتلك أنتِ وكل من رآته عيناكِ القبيحة.. توقفي عن الشجار معه..
قد أقتل بلا رحمة ولكنني سأعشق ليو دائمًا وأبدًا ولن أسمح لكِ أو لغيرك بأن يؤلمه طوال ما استمرت حياتي البائسة!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
لا تستطيع أن تسرق ولو لحظة من نعاس بعد تلك القصة الغريبة والتهديد الصريح الذي تلقته من "كلوديا" منذ ساعات.. أيُمكن مثلًا أن يكون قد جعلها تتحدث إليها؟ قد يكون تلفيقًا جديدًا مثل حادثة انتحاره!!
لم تعد تثق بأي منهما!!
زفرت في تلك الظُلمة وتهادى عقلها للتفكير لو أن حديثها صحيحًا، لو أن ارادته في أن يتغير صادقة، لو أن كل ما حدث هو مجرد تصرف مريض مضطرب.. هل لها أن تحاول؟ مجرد محاولة؟ تصدقه من جديد؟!
صرخ عقلها وهو يُخبرها أنها ستكون خرقاء في منتهى الحماقة لو وثقت بكلمات رجل سيكوباتي مثله! لو مشاعرها تحكمت بها مرة أخرى ربما يقتلها المرة المُقبلة! أو احد من عائلتها! أو يستمر في اختطافها! أو ربما سيفعل بها شيئًا جديدًا مبتكرًا به نوع جديد من الأذى!! هو لن يتغير أبدًا!
توسدت السرير بظهرها علها تنتهي من تلك الأوجاع والإرهاق الشديد وبحثت في استماتة عن النوم لتجد فجأة الباب يُفتح والأنوار تنتشر في الغرفة لتنهض جالسة في تأهب لترى وجهه يعج بالهلع!
اقترب منها وقطرات العرق على جبينه وجلس بمحازاتها على السرير ليهتف في لهوجة شديدة:
- أنا عملت زي ما انتي ما قولتي.. بصلي وبدعي ربنا كتير وبقيت بتوب زي ما بتقولي.. وقبل ما انام بقيت بصلي دايمًا واول ما بصحى.. بس كل يوم كابوس.. مبقتش قادر استحمل! مبقتش فاهم فيه ايه!
نظر إليها في توسل وبكى بطريقة غريبة في هيسترية كانت حتى تضاهي مرات اصابته بالحمى لتتفقده مليًا ليهمس بصوت متحشرج اختلط ببكاءه:
- كل يوم بحلم بنار.. نار بتولع في كل حاجة.. فيا وفيكي وفي كل الأماكن اللي كنا فيها مع بعض.. حتى امال وهبة وهاشم.. حتى حازم.. كل يوم فيه نار غريبة وبصحى مخنوق كان الأوضة حواليا بتتحرق.. مش عارف انام! مش عارف!
أمسك بيدها في قوة شديدة وارتفعت شهقاته لتباغتها مشاعر مختلطة كثيرة ثم توسلها بإنتفاضة سيطرت على جسده شعرت بإنعكاسها على يدها الممسك بها:
- ينفع أنام معاكي في اوضة واحدة؟ على الكنبة هنا.. أو زي ما تحبي.. مش هاعمل حاجة ولا هقرب منك بس.. انا مبقتش عارف أنام لوحدي.. مش عارف!
انعقد لسانه واشتد بكاءه لتجذبه في عناق لا تدري كيف دفعتها مشاعرها لتفعله ليحيطها هو الآخر بين ذراعيه وازدادت نوبة بكاءه لتمد يدها بأنامل مرتجفة وربتت عليه لا تدري في حزن أم شفقة وهمست به:
- متقلقش.. كل حاجة هتكون كويسة.. اهدى.. مفيش كوابيس ولا حاجة!! اهدى.. متخافش..
شعرت بتشبثه بها يزداد شيئًا فشيئًا وهي تشعر بإختلاط وتضارب مشاعرها المُشتتة ليزداد تهرب النعاس منها بينما بدأ نشيجه في الهدوء والتراجع وتبعه شهقات متفرقة شعرت بها بين عناقهما فمررت يدها لتحاول أن تطمئنه وهي نفسها لا تعرف كيف تُمده بالإطمئنان وهي تفتقر له فأخفضت رأسها تتفقده لتجده قد سقط في النوم لتلعن ضعفها وشفقتها التي لن تنتهي أبدًا تجاهه!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يُتبع . . .
65 يوم الخميس الموافق 4 - 2 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد
ملحوظة : الرواية في حدود 80 فصل..
دمتم بخير