-->

الفصل السابع والستون - شهاب قاتم

 


 - الفصل السابع والستون - 

     

لقد كنتُ أحاولُ أن أضع كلَّ شيء ، أن أصلَ إلى النهاية قبل أن يفوت الأوان ، ولكني أدرك الآن كم خدعتُ نفسي ..

إن الكلمات لا تسمح بمثل هذه الأشياء .. فكلما اقتربتَ من النهاية ، زاد ما ترغب في قوله .
فما النهايةُ إلا وهم، غايةٌ تخترعها لتحثّ نفسك على الاستمرار، ولكن يأتي وقتٌ تدركُ عندَّهُ أنك لن تبلغها أبداً.

رُبما تضطر إلى التوقف، ولكن ذلك فقط لأنه لم يعد يتَوفرُ لديك وقت .. فَتتوقف، ولكن هذا لا يعني أنك وصلتَ إلى النهاية..

(بول أوستر - في بلاد الأشياء)

     

رفع رأسه لتتلاقى تقاسيم وجهه الشيطانية في لذة عذابه وجحيمه القاتمة بأعينها الباكيتان التي لم يعد البكاء قادرًا على إزاحة ولو إنشًا بسيطًا من هو ما تشعر به..

نظرت إلي كل ذلك الدمار والخراب الذي هو عليه، الآن أدركت أن هذه هي حياته، هذه هي ذروة سعادته.. أذى وعذاب يستمد خلاله قدرته على البقاء.. قدرته على الإنتشاء.. وقدرته على الإستمرار كشيطان يخفي وجهه الحقيقي خلف ماضٍ آليم، يتخذه ذريعة ليفعل ما يفعله ولو سألته لم تفعل هذا؟ سيجيبك بأن كل ذلك له سبب! ومهما كانت اسبابه ولو دُرست تلك الأسباب هي لم يعد بها مثقال ذرة من تصديق ولا تقبل.. لقد وصلت للنهاية معه!

أومأت في انكار شديد مثل الذي اعتراها طوال العامان ونصف العام الماضيان، إنكار لم تعد تستطيع سوى أن تبتره بخنجر الواقع الآليم الذي تراه.. حتى ولو سيجعلها هذا تنزف دماء الندم والخيبة للأبد! 

أطرق برأسه إلي احدى الجوانب في لهاث، هو ينظر إليها وأدرك أن ما رآته جعلها تكرهه للأبد، لقد تخلت عنه الآن ويواتيه الخوف بأن كل ما أراده معها يومًا ما لم يعد سوى احلام تحققت لتُصبح كابوس!! 

تحرك جسده ليتقهقر إلي الخلف لتشعر هي بالفزع منه وفرت هاربة وهي تعدو، لا تدري إلي أين ولكنها جرت دون وجهة محددة! 

نظر إلي أحد الرجال نظرة مرعبة، من حسن حظها أنها لم ترها، نظرة تبرهن أن القابع بتلك الروح القاتمة ليس سوى شيطان، ربما يكون مارد أُجبر على إخفاء ذلك الطفل الذي كان يومًا عليه، كان هو منقذه وملجأه الوحيد، ولكن مهما تعددت الأسباب والوقائع المؤلمة، ومهما كان كل ما تعرض له ليُجبره على فعل كل ذلك، سيبقى في النهاية شيطان يتلبد في السماء القاتمة، هائمًا طوال حياته، ولم يجد ولو شهابًا منكسرًا يستطيع التصدي له! 

صاح نحو الرجل بلهجة آمرة متحدثًا بالإيطالية:

- احرقه إلي أن يموت! 

توجه للخارج مهرولًا وهو يبحث عنها، ضوء الصباح الذي أخذ في الإنبثاق سهل له الأمر بأن يراها تعدو نحو البحر.. ذلك الإنبثاق جعله يرى النهاية، نهاية ما تصبو هي إليه، الفرار والهروب!!

هرول نحوها ليلحق بها ليرى رجال الحراسة الذين يطوقوا المنزل يلحقوا بها أيضًا نظرًا لما تلقوا من اوامر بالسابق من "كلوديا" ليكون أربعة رجال حولها ما شابه السجن الصغير ليستطيعوا منعها من الهرولة والفرار ظنًا منهم أنها تود الهروب فلحق بهم ثم اشار لهم بأن يبتعدوا فأومأ اثنان منهم وتبعهم الاثنان الآخرون لتجد نفسها في مقابلته وجهًا لوجه! 

نظر لها عاقدًا حاجباه بملامح صلبة جامدة، لقد تلاشت تلك النظرة التي حافظ عليها لشهور، لم يعد الطفل الخائف الذي يهرول خلف امه ليصرخ بها أن تحميه.. ما فعله منذ قليل جعله مرة اخرى يعود لذلك الشيطان الذي يخرب ويدمر ولا يملك بشرًا واحدًا ملجأ منه! 

ابتلعت في ذعر وتقهقرت إلي الخلف في رعب تام من مجرد رؤيته، رؤية ذلك الوجه أمامها لا يُذكرها سوى بشيئان، غبائها وإنكارها ولا شيء سوى ذلك.. 

اقترب منها ليحاول الإمساك بها لتصرخ به في هيستيرية:

- متلمسنيش.. اياك تلمسني.. متلمسنيش ابعد عني.. انت شيطان.. انت مش بني آدم.. اياك تقرب! 

استكانت انفاسه وهو يحاول أن يتعامل مع تلك الملامح وردة الفعل الظاهرة على وجهها وتلك الحالة التي وقعت بها بينما حاولت هي أن تلوذ بالفرار مرة أخرى فذهب نحوها وأمسك بها بقوة ولم يستمع ولو حرفًا مما قالته ولم توقفه صرخاتها لينظر لها نظرة قاتلة ولكنها باتت الآن تعلم مع من تتعامل! قاتل!! 

اطبق اسنانه في عنف وهو يحاول أن يسيطر عليها بألا تتفلت منه ودافعت بإستماتة عن نفسها ولكن قوته كانت أطغى، وتلك النشوة التي سرت بدماءه منذ قليل جعلته في حالة من الهيمنة والإرادة والرغبة بفعل المزيد، ألا وهي، الإيذاء المحض! 

تفحص مقلتيها بنظرات حادة جعلتها تبتلع ما إن سلطت تركيزها لوهلة عليها ليهسهس بفحيح جعلها ترتعد:

- مالك! خوفتي من اللي شوفتيه؟ مش قولتلك إن كل ده هيحصل؟ ايه اللي مخليكي مرعوبة؟ كوني قاتل؟ ولا علشان مكونتيش متخيلة اني اكون الإنسان ده! 

رمقته وقد تخلت عن رعبها، بم سيفيد الخوف من شيطان قد جعلك بوسوسته إليك تنتهي في قاع الجحيم؟! يجعلك ترتاب، تشك، يلعب على كل ما تتمنى نفسك، وحين تتبع خطواته سيقول لك، عذرًا أنت من فعلت هذا ولم يكن لي سلطانًا عليك!! 

نظرت له بملامح لم تعد تُشبهها لتهمس به في ذهول:

- انسان! لا لأ انت مش انسان! انت مفيش فيك ذرة انسانية! 

سيطر الجمود على جسدها بالكامل حتى باتت مقاومتها امامه لا تُذكر لتصرخ به:

- مفيش انسان بيقتل ويعذب ويجبر اللي حواليه بالوحشية دي! انت شيطان! انت مش بني آدم! ابعد عني! 

قاومته من جديد وقد اصابته بمنتصف قفصه الصدري بمنتهى القوة لتهرول من جديد فلحق بها في غضب وامسكها مسيطرًا على حركات جسدها مرة أخرى ثم صاح بها:

- بقولك ايه! اللي حصل ده مكنش ينفع غيره يحصل يا إما واحد فينا كان هيموت! 

نظر لها بشراسة ملامحه وكأنه لم ترتكب يداه اللعينتان شيئًا ثم همس وهو يقارب على تهشيم اسنانه:

- وانا مش هاقبل حد فينا يموت.. لا أنا ولا انتي! 

ضيقت عينيها نحوه والآلم يفتك بروحها لينتزع بداخله كل ذرة شفقة تجاهه.. هكذا هي العلاقة بمريض مثله.. تحول كل ذرة تعاطف بداخل أي إمرأة إلي قسوة، آلم، ورغبة أبدية لا نهائية بالفرار!! 

همست بحرقة له تعكس أوجاع روحها في كراهية ماقتة تاقت بكل ما تحتويه الكلمة من نفور وبغض إلي النهاية من النظر إلي وجهه الشيطاني:

- مكنتش هموت لو مخلتنيش اقتل بالوحشية دي.. مكنتش هتموت لو مكنتش عذبت إنسان زيي وزيك بالنار.. ده انت كنت بتتبسط وانت بتحرق الناس.. انت فاكر نفسك إيه؟ ربنا!! فين ربنا وحسابه وعقابه من حياتك.. هتقوله ايه يوم ما تقابله؟ هتقوله كنت بعذب علشان متقتلش؟! 

فاكر إن ملكش لا رادع ولا عقاب، مبسوط بحرق إنسان فيه الروح؟ يا ريتك سجنته ولا حتى ضربته بالنار وخلاص علشان متخليهوش يعاني.. لأ انت بتعذبه اشد عذاب.. انت وشك كله كان مبسوط، سعيد.. كأنك في الجنة باللي بتعمله! 

زفرت أنفاس مزقها الآلم لتهمس بصوت لا يغادر سوى روحًا ميتة:

- يا ريتني كنت ميتة ولا إني اشوفك وانت بتعمل اللي بتعمله! 

تعالت أنفاسه في لهاث ليحذرها بنبرة مميتة:

- بقولك ايه!! احنا كنا كويسين.. قولتلك إني مش ضامن مين هيأذينا وحصل وشوفتي بعينك يا تقتلي يا تتقتلي.. اهدي يا فيروز.. يمكن يكون اللي حصل صعب عليكي علشان اول مرة تشوفيه بس بكرة كل ده يخلص و..

قاطعته صارخة بآلم مزق روحها وحبالها الصوتية:

- يخلص!! يخلص وبعدين! انت بتبرر؟ بتبرر قتلي لإنسان يمكن عنده ولاد واهل وعيلة!! بتبرر حرقك لإنسان! إنسان يمكن راح برجليه للطريق الغلط بس بتعمل فيه كده.. تشوهه وتحرقه ويمكن مجبور إنه يجري وراك ولا مين يعرف إيه اللي اضطره للطريق ده! 

انت ولا عمرك اتغيرت ولا بتتغير ولا هتتغير علشان نكون كويسين!

انت زيك زي الشيطان.. خدعتني.. زينتلي إن الحياة معاك هتكون ووعدتني إنك خلاص بقيت إنسان تاني واتغيرت وانا زي الغبية صدقتك.. بس بعد اللي شوفته ده، انت بالنسبالي مجرد سجان لغاية ما ربنا يحكم ويخلصني من الحياة معاك.. 

همست في النهاية بكلماتها لتضيف بوجع تملك كل ذرة دماء بعروقها:

- كويسين!! لا عمرنا كنا كويسين ولا هنبقى.. احنا كنا في حلم وصحينا منه على كابوس.. فاكر النار اللي كنت بتحلم بيها؟ اتحققت خلاص يا شهاب.. 

لانت قبضتاه على جسدها وهو ينظر لها وقد تملكته مشاعر اليأس من جديد لتلوذ بالفرار فهرول من جديد نحوها وهمس في توسل بعد أن امسك بها:

فيروز.. بكرة كل ده ينتهي و..

قاطعته بآلم انعكس بنبرتها:

- ينتهي!! ينتهي على ايه؟ المافيا عيزاك تاني ولا كلوديا هتقولك الحقني ولا يمكن حد يضايقك فتعذبه وتحرقه وتموته!! 

اللي انت فيه ده ملوش نهاية غير الموت يا إما السجن المؤبد! انت ملكش نهاية غيرهم! وانا مستعدة إني اموت، مستعدة إني حتى اتسجن.. عارف!! مستعدة اتحرق زي ما كنت بتحرق الراجل.. اي حاجة غير إني ابص في وشك تاني! 

بصقت بوجهه لينفجر الغضب بعروقه وكاد أن يصفعها لتبدأ بينهما معركة شديدة من إخراجها لكل ما تشعر به بصفعه أو لكمه أو ركله بينما هو بات يواجه حربًا للدفاع عن وطنه.. وطنه الذي لم يجده سوى بها هي وحدها فحسب!! 

هو يحاول أن يوقفها أو يمنعها من تلك الحالة الهيسترية الشديدة التي ربما لو تخلت قليلًا عن ما تبقى بداخلها من إنسانية ستدفعها لقتله، وهي تحاول أن تعزي نفسها بما تفعله! أو ربما تُجبر نفسها بما تفعله على كراهيته الشديدة! 

باغتتهما لتوقفهما صارخة بالإنجليزية في عنف وقسوة:

- توقفا.. بربكما توقفا.. ما الذي تفعلاه بحق الجحيم؟! 

باعدت بينهما بالرغم من تلك الآلام التي تشعر بها في ذراعها اثر تلقيها لرصاصة لتنظر لكلاهما في ذهول: 

- ما هذا الذي تفعلاه؟ هل انتما طفلان أم مجنونان؟! 

التفتت نحو "فيروز" ناظرة لها في حنق شديد:

- أين حبك ايتها الخرقاء المدللة ذات الآداب السامية؟ أين عشقك الذي جعلك تبكي بحرقة عندما رأيتيه بالمشفى منذ شهور وروحك تتمزق على حالته؟! 

التفتت نحو "شهاب" لتصرخ به بنبرة اقسى:

- وأنت!! احتاج معروف آخر كلوديا.. تهرول كلوديا كالمختلة تاركة خلفها بلاد وعائلة مافيا لتنقذ عشقك لتلك الخرقاء والآن ماذا؟! تتشاجرا منذ الأبد! 

وزعت نظراتها بينهما في اشمئزاز غاضبة وصاحت بحرقة:

- كفى.. توقفا عن هذا الغباء.. بربكما كفى.. لم اعد اتحمل شجار طفلين مثلكما.. لقد دمرتما امكانية عقلي على العمل والتصديق بكل معانٍ للحب!! أي لعنة تحدث او حدثت بينكما توقفا عنها! القوا بها بعيدًا وكفى كل ذلك الجحيم الذي تعيشان به! 

وجهت كلماتها إلي "فيروز" بلهجة آمرة:

- اذهبِ لأي غرفة ايتها الخرقاء.. تبدين كأنقاض احدى زلازل فيزوف.. 

التفتت نحوه لتحدثه بلهاث من كثرة غضبها وصياحها:

- وانت.. لو عرفت اي شيء عن تلك اللعنة التي اصابتنا بالليلة الماضية فلتخبرني حتى اقتل ابن العاهرة الذي تسبب لنا في ذلك! 

رمقتهما "فيروز" في احتقار لكلاهما وتوجهت لتعود لداخل المنزل ليتحدث "شهاب" بالإيطالية في لهاث:

- اجعلي رجل امام غرفتها ورجل امام شرفتها.. أظن انها تريد الفرار! 

زفرت في حنق بينما ارتمى هو بجسده ارضًا جالسًا على الرمال لتلتفت صارخة بأحدى الحراس:

- رجلان امام باب غرفتها ويلازماها اينما ذهبت ورجلان اسفل الشرفة.. حركوا مؤخراتكم الكسولة.. هيا!! 

جلست في مقابلته ونظرت له في غضب ووجهه به بعض الدماء بجانب فمه لما تلاقاه من لكمات من "فيروز" وهناك اثار لأظافرها بصدره العاري لتمتعض ملامحها لتهمس به:

- بربك ليو.. ما الذي يحدث لكل ذلك؟! ما الذي يدفع إمرأة تعشقك كل هذا العشق الذي رأيت بأم عينياي لأن تفعل بك هذا؟ 

زفرت ساخرة وجسدها يتحرك بتلقائية وهزت رأسها في انكار لتحدثه بحرقة:

- يوم أن عشقتك بكل ما يملك جسدي العاهر من ذرة دماء وبكل ما تبقى في قلبي الكريه من شعور لم اكن لأفعل بك هذا.. حتى عندما رفضت انت أن تعشقني مرة واثنان ومائة.. 

كان بإمكاني قتلك.. كان بإمكاني أن اجعل كارلو يقتلك لإنشقاقك عن العائلة ورغبتك بتركها.. كان بإمكاني تعذيبك إلي أن تغادر روحك اللعينة جسدك الجحيمي المثير!! 

ولكن لقد تركتك كي تحظى بما تريد وترغب.. ساعدتك أن تلوذ بالفرار! احببتك لتلك الدرجة القذرة بأن اراك سعيدًا وانت تعشق سواي.. 

لقد حتى ظننت انك ستشعر بالملل وستعود لتلك الحياة، ستعود لأن قلبك من فولاذ ولا يستطيع أن يعيش سوى بين القتل والعذاب والأسلحة والمعارك والحروب.. 

ولكن لدهشتي عشقت تلك الخرقاء للغاية إلي أن توسلتني أن اساعدك في قصة عشقكما المميتة!! 

سعدت لأجلك حينها عندما رأيت ليوناردو بينسوليو الذي صنعته يداي وخلقه عقلي بمساعدة الرب، الرجل الذي عهدته وهو كالفولاذ الذي لا تؤثر به أي جحيم بات يبكي ويعشق ويهرول خلف إمرأة.. اقسم بكل ما أصدق به وبكل ما لا اعرفه عن قدرة الرب في خلقه لمعجزات انني كنت سعيدة من أجلك.. 

كنت اظن ان هذه الملحمة هي معجزة من الرب.. كنت اظن انني في النهاية سأرى الرجل الذي عشقته سعيدًا.. تأتي بعد عدة أيام تتشاجرا وتؤلما بعضكما البعض إلي أن تصل لمقاتلة عنيفة وكأنما انتما اعداء في عائلتان تتقاتلا!! بربك ما الذي يحدث بينكما! 

تنهدت في وجع من اجله وهي تراه بتلك الملامح ليهمس بحرقة وهو يرمقها ولم يعد به أي ذرة تحمل بعد ان استمع لتلك الكلمات التي لا يعلم معناها سواهما فحسب ليهمس بقتامة روحه في آلم وهو يشرد نحو البحر:

- لقد كذبت! 

ذُهلت مما قاله لتطرق برأسها إلي الخلف وهي ترمقه في غير تصديق لتتعجب بنبرة استفهامية في صدمة:

- كذبت عليك ولم تقتلها ولم تحرقها!!

ابتلع في مرارة متنهدًا وأومأ لها:

- اعشقها كلوديا.. اعشقها لدرجة.. درجة تجعلني اود ان احاصرها بين ضلوع صدري كي لا تهرب مني ابدًا.. اعشقها بطريقة لن.. لن..

توقف من تلقاء نفسه وهو لا يعرف كيف له أن يُعبر عما يشعر به تجاهها ودمعت عينيه ليهمس في آلم:

- طريقة لا توصف سوى بالموت.. هكذا اعشقها.. هذا ما اعرفه! 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي لأول مرة ترى ملامحه بتلك الحالة لتسأله:

- ما الذي كذبت عليك به؟ 

أومأ لها بالإنكار دون أن ينظر لها مباشرة لتتنهد وهي تعلم جيدًا أنه لا يثق بها، ولكن كونه يخبرها بذلك معناه شيئًا واحدًا.. هو لا يدري ما الذي عليه فعله.. يُذكرها بهذا الفتى الذي لا يعلم شيئًا عن القتل والمافيا.. والآن هو فتى صغير لا يعرف ما الذي عليه فعله!! 

تحولت ملامحه مائة وثمانون درجة لينظر لها في جدية وهو يمرر لسانه على شفته السفلى يُرطبها وقد عاد بملامحه رجل المافيا وحدثها بجدية:

- لقد ارسل ماريو روسو رجاله.. لقد كان فعل ماريو روسو

اطلقت زفرة متهكمة لتقول ساخرة وهي تشير بيدها بحركات مسرحية فكاهية:

- مرحبًا بالأعداء القدامى.. أليس هذا الرجل من حرقت اخيه، برونو روسو؟!

أومأ لها في تفهم وحك انفه بتلقائية شاردًا بالتفكير في الأمر لينظر لها نظرة جانبية مُرعبة:

- اتعلمين ما معنى أن نُداهم في قلب الليل بسيسيليا وأنتِ معي في منزل واحد؟! 

ضيقت ما بين حاجبيها في ادراك لما يعنيه وتفحصته جيدًا ليسعل رغمًا عنه فجأة لترمقه وهو عاري الصدر لتنهض هامسة له:

- هيا .. سنُكمل حديثنا بالداخل.. لا أريدك أن تُصاب بالحمى الآن!! 

توجها سويًا للداخل ليجلس على احدى الكراسي الوثيرة ممدًا ساقاه على احدى الطاولات بينما توجهت "كلوديا" لتشعل التدفئة وبعدها بدأت في سكب لكلاهما كوبان من مشروبات كحولية مزجتها ببعض الإضافات لتشتد قوتها ثم ناولته واحدًا وهي تشير برأسها له:

- تناول هذا سيدفئك!

أومأ لها في شرود وتناول منها الكوب بينما اشعلت احدى سجائرها بعد أن تمددت بجسدها على الأريكة في مقابلة وجهه فجذبها منها السيجارة لتمقته بنظرة قاتلة واشعلت اخرى لها من جديد ليأتي صوته المُفكر قائلًا:

- سيسيليا.. موطن كارلو كروتشيتا.. يسيطر على نصفها مع كوسا نوسترا.. يعلم ما الذي يحدث اسفل كل ذرة رمال بها.. يسمح لواحدًا من احدى العائلات الصغيرة البعيدة البائدة التي لا تعمل سوى بالمخدرات كالمرتزقة في مقاطعتها أن يداهم منزلي وأنتِ به! ألا يُخبرك هذا بشيء؟!

نفثت دخانها وهي تحدق بالسقف بينما ترك كوبه الذي انهى ما به دفعة واحدة وتحمل لذاعة المشروب القوية وسمعها تهمهم لتنظر له خافضة رأسها ثم حدثته:

- كارلو غاضب مني! يريد أن يُلقنني درس! 

نظر إليها ببنيتين كما الصقر بعد أن اعاد جسده بكرسيه وأكمل تدخينه وهو يتفحصها ليقول:

- اريد كأسًا مثله..

تفقدها في تريث متابعًا اياها كليث يتلبد فريسته بينما زفرت على مضض ثم نهضت لتصنع له آخر وناولته اياه بقوة ثم توسدت الأريكة مرة أخرى واكملت تدخينها وتجرع هو ما بالكأس دفعة واحدة مرة ثانية ثم سألها هامسًا وهو يُضيق عينيه في ريبة:

- ما الذي فعلتيه ليفعل بكِ كروتشيتا هذا؟ ما الذي تخفيه ايتها العاهرة؟! 

هزت كتفيها بعفوية لتتألم من ذراعها فهسهست متوجعة ثم صاحت مجيبة:

- بربك ليو لا تنظر إلي وكأنني اعلم ما يحدث! لم افعل شيئًا! 

نهض وهو يرمقها في شك وأخذ يهز رأسه في تفهم وتوجه ليتجرع المزيد من الزجاجة مباشرة ليتحمل لذاعة المشروب ثم تركه جانبًا واقترب منها لتصبح اسفله على الأريكة وحذرها بأنفاس تحمل رائحة الكحول:

- سأحرقك كلوديا لو انك تعبثي معي أو معها.. هل تفعلين كل ذلك فقط لتفرقينا؟ اتظنين أنني سأعود لكِ لو حدث لها مكروهًا؟ 

توسعت عيناها في ذهول لتصرخ به:

- ايها الوغد.. هل ظننت أنني استطيع أن افعل ذلك فقط كي اقتلها؟!

بربك ليو لو اردت ان اقتلها لكنت قتلتها منذ كثير من الوقت دون ان اكلف نفسي هذا الإرهاق.. ايها الغبي لقد تلقيت رصاصة بدلًا منك! ما الذي دهاك ايها الخرف؟ هل افسدت هذه الخرقاء عقلك؟

تفحصها بلهاث ورمقات مميتة جعلتها تبتلع ولم ير أيًا منهما "فيروز" التي جعلته يتعجب عندما رآهاه تغطي رأسها بوشاح غريب وصاحت به:

- قذر!! 

نظرا كلاهما نحوها في اندهاش ليهز رأسه في انكار من ذلك الوضع الذي رآته به بينما لحق بها عندما غادرت لتصيح "كلوديا" به:

- بربك ليو!! ستتركني بهذا الأمر وحدي.. 

صاح من على مسافة:

- لاحقًا ايتها العاهرة!

     

دخل الغرفة الماكثة بها وأغلق الباب خلفه بعد أن آمر الرجال بألا يسمحا لها بالمغادرة ليجدها واقفة واضعة احدى يداها على خصرها والأخرى على جبهتها واستمع لنحيبها وظهرها مولى إليه فاتجه نحوها ليقترب وبدأ في لمسها لتنفر منه وتلاقت اعينها الباكية ببنيتيه البائستان في نظرات لم تعد تعبر سوى عن حقيقته القاتمة وآلمها المفجع..

جذب الوشاح من على رأسها وتركه ارضًا بعد أن تقدم ليقترب منها من جديد ليهمس ساخرًا:

- ايه القرف اللي انتي لبساه ده! 

ضيق عينيه نحوها وهو يشعر بالإرهاق وزفر في إنهاك من كثرة التفكير بينما توسعت عينيها له في ذهول لتصيح به في حرقة:

- مش ده اللي غصبتني البسه! حتى مبقتش عارفة انا عايشة في حلال ولا حرام باللي انا بعمله ده وانا الرجالة دي كلها شافتني بشعري ولبسي اللي كنت نايمة بيه..

همست جملتها الأخيرة بآسى يلتهم روحها ليرمقها متفحصًا اياها واقترب منها اكثر ولم يعد يكترث لنظرات النفور منها ليهمس بها:

- انا قذر!! قذر!! 

أخذ يكرر الكلمة بصوت بالكاد يُسمع وهو ينظر إليها بنظرات غريبة لم تفهمها تبدو كنظرة مجرم لا يملك ذرة شعور انساني بدمائه وبطيات روحه القاتمة لتبتعد عنه في رعب ثم حدثته في ارتباك وخوف وهي صادقة فيما تقول:

- عايزة الموبايل اطمن على اهلي! 

ابتسامة جانبية لوت شفتاه لتتقزز من ملامحه بينما توسعت الإبتسامة لتصبح قهقهات ماجنة جعلت رغبتها بالفرار منه تزداد وحاولت الابتعاد عنه اكثر ليقول بنبر ضاحكة:

- عايزة تقوليلهم ايه؟ جوزي بيحرق الناس.. الحقوني.. الحقوني.. الشرير هيموتني! 

تحولت ملامحه للجدية لترمقه وهي تشعر وكأنه مجنون ما وهو يشير بيده بتلك الحركات بينما همست في حرقة وهي ترمقه بمنتهى الكراهية:

- هقولهم ايه بعد ما الكل نصحني اني بتسرع؟ هقولهم إني فشلت! إني كنت غبية وهبلة وانا بثق في واحد مجرم زيك؟ متقلقش! صورة الراجل اللي حاولت ابنيها مش ههدها في عينهم! 

همهم بإبتسامة مداعبة لتضيف في توسل وهي تتمنى أن تحصل على ما تريده:

- ارجوك.. انا نفسي بس اسمع صوتهم.. مش هاقولهم حاجة! اكيد مش هاقولهم ان الراجل اللي اتجوزته حصلي كل ده معاه وانا على بعد والطيران مقفول.. انا مش بالغباء ده.. خليني اكلمهم لو سمحت! 

تفقدها عاقدًا حاجباه ليبدأ في ادراك ان تلك اللعنة التي احتساها مع "كلوديا" قد بدأت تؤثر عليه ثم ضيق عينيه واقترب منها اكثر بينما هسهس بفحيح ارعد فرائصها:

- راجل.. مش كنت قذر من شوية! 

ابتسمت له ساخرة ومقلتيها تنهمر بالإحتقار المُقيم وقالت له بكراهية:

- نايم فوقها وانت عريان.. والهانم بتدافع عنك.. قذر وحيوانة.. يا ريتني ما حكمت على نفسي بالموت وانا زي الغبية روحت حبيت واحد زيك!

همهم في ادراك ليسألها وهو لا يزال محافظًا على ابتسامته:

- بتغير يا بطل؟!

اقترب اكثر منها لتمتعض وشفتاها الممطوتان ترتجفان من كثرة الإشمئزاز بمجرد سماعها اياه وهو يحدثها بهذه الطريقة واقترب نحوها ليحتوي جسدها بقوة وهمس امام شفتاها بأنفاس مُحملة برائحة الكحول والدخان:

- بتغيري مش كده.. متخافيش انا عايزك انتي مش هي.. انا زهقان منها من سنين..

انقض بقبلة تقززت منها وحاولت دفعه بعيدًا لتنجح وهي تصرخ به:

- انت ازاي كده!! انت معندكش دم؟

توسعت ابتسامته لها واتجه نحوها من جديد وهو يهمس:

- لا معنديش! 

اقترب لها لتظنه قد فقد عقله والقى بجسدها على السرير واعتلاها مرغمًا جسدها على الإذعان اسفله وقبلها بإفتراس لتنهمر دموعها وهي تحاول دفعه في اشمئزاز لدرجة انها تقززت من نفسها ليبتعد عنها وهو ينظر لها نظرات هوس جنونية وهمس بأنفاس متسارعة:

- بطلي بقى بدل ما اروحلها هي.. هتتبسط اوي لو بوستها بوستين من دول!

لثم عنقها بالإجبار وهو يتحكم بجسدها لتتجرع الآلم وعاد برأسها لقطات متفرقة من تلك المرة التي اجبرها بها لتنتحب في قهر ليرفع بنيتيه الثملتين إليها وتفقدها عاقدًا حاجباه بعقل غاب عن الوعي ليبتلع بصعوبة ثم همس لها:

- أنا آسف.. أنا قذر! 

القى بثقل جسده بجانبها على السرير ليتنهد في ارهاق وثمالة شديدة ثم حدق بالسقف وابتعدت هي عنه ناهضة من على السرير وفتحت الغرفة لتحاول الفرار بينما وجدت رجلان يمنعاها واحدهما وضع يده على سلاحه وهو ينظر إليها نظرات مُحذرة ليزداد نحيبها في وهن لترغم نفسها على العودة للداخل لتستمع إلي صوته يهتف بها:

- تعالي.. تعالي بدل ما اقوم اجيبك غصب عنك! 

نظرت نحوه في كراهية ودموعها تتساقط في خزي من كل ما اصبحت عليه حياتها معه واحتمت بتلك الأركان وهي لا تصدق أن رجل ظنت انها عشقته يُجبرها على ما يريد فعله ثم احتمت باحدى الأركان لتستمع إلي صوته يهدر كما المهلوس:

- أنا سكران! تقريبًا.. 

نهض دون توازن وتوجه نحوها والتفتت حولها لتجد ما تستطيع الدفاع به عن نفسها ولكنها باءت بالفشل لينظر لها في ثمالة واضحة بينما مد يده إليها في هدوء في انتظار أن تُمسك بها بينما رمقت يده في احتقار ونظرت له بأعين تتساقط منها الدموع كما شلالات الآلم الممزقة للروح ليبتسم لها بإنكسار ثم همس:

- انتي حلوة اوي لدرجة اني مستهلكيش! 

اطرق برأسه إلي احدى الجوانب وهو يرى ملامحها الباكية وابتلع ثم توجه نحوها مجبرًا اياها على السير معه والقى بجسدها على السرير ثم اعتلاها لوهلة ونظر بمقلتيها الباكيتان ثم همس لها:

- مستهلكيش وعارف انك هتتعذبي معايا.. بس انا لسه محبتكيش لدرجة اني اسيبك! انتي روحي يا فيروز! 

جعلتها تلك الكلمات تجهش بمزيد من البكاء بينما انتقل بجسده لينم على جانبه وعانقها رغمًا عنها وهي باتت لا تشعر سوى بالضعف والوهن في ذلك السجن الأبدي من العذاب وجسدها يتمزق وجعًا من مجرد لمسته لها وهو يتوسد صدرها عنوة ويحيط جسدها رغمًا عنها بذراعيه بمنتهى القوة التي امتلكها بين ثمالته ثم همس:

- اول مرة اتبسط كده النهاردة وانتي جنبي.. حسيت ان ليا ضهر هيحميني! 

تنهد في راحة وهو يسقط في النوم ولم يكترث لبكائها الذي تصاعد وجسدها بأكمله ينتفض على اثره، هذه حقيقة الأمر.. هو يريدها ليشعر بذلك الدفء والأمان.. مهما فعل بها ومهما كرهته هي، لن يتوقف على ارادة كل ما تمده به من مشاعر افتقر لها وصمم كل مرضه به أن يهديه لإستنزافها إلي آخر قطرة دماء بها قد تحتوي على تلك المشاعر! 

     

تثاءب وهو يحاول أن يستقيظ خلال تلك القهوة ليجد من آتى ليخرجه بمنتهى البراعة من حالته الناعسة بنبرته الرخيمة:

- ماسك في بنت عمتك ليه يا حيلتها؟

رمقه في إنزعاج ثم اجابه:

- الله يخليك ما تصبحني بالعقربة دي يا بدر.. لو قولتلك بقت بتقرفني ازاي في الشغل كل ساعة والتانية والله لا تروح تموتها بإيديك! سبني اشرب قهوتي في هدوء علشان أبدأ شغلي الله يكرمك والضغط تقيل وبكرة صيام وورايا بلاوي قد كده!

تفقده في حرص ثم قرر أن يُغير مجرى الحديث:

- طب اكلت حاجة قبل القهوة دي؟

أشار بيده دون اكتراث ثم حدثه بنبرة ممتعضة مليئة باليأس:

- اهو كله حرق دم! 

التفت لينظر له في تعجب ليضيف سائلًا:

- بدر انا عديت تلاتين سنة معنديش تسع سنين، فاكرني عيل ولا ايه؟

قدم كفه ليضربه على مؤخرة رأسه دون مبالغة منه ثم زجره ممازحًا: 

- هتفضل عيل يا حيلتها في نظري! 

رمقه بقليل من الإنزعاج وحدثه بإمتعاض:

- وانت هتفضل ايدك مرزبة طول عمرك! 

زفر في ضيق وشرد بعينيه امامه بحديقة منزلهم وهو يتناول من قهوته بينما تعالى هاتفه بالرنين ليتحدث حانقًا:

- اهو على الصبح ابتدينا.. ربنا يستر! 

اطلق ضحكة خافتة وهو ينظر لها في حنان ثم همس له:

- شيل المسئولية يا اخويا شيل! 

نظر له بإبتسامة ليردف:

- حاجة غم والله يا بدر..

اجاب دون أن يتفقد هوية المتصل:

- ايوة.. آه يا إياد صحيت فيه ايه؟ 

تبادلا النظرات في تعجب شديد واستمع "سليم" لما يخبره به "إياد" لتختلف ملامحه في ذهول ثم حدثه في جدية:

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. حاضر هاقوله.. شكرًا يا إياد! 

انهى المكالمة ثم تحدث إلي والده بنبرة حزينة:

- والد ووالدة فيروز تعيش انت.. العمارة ولعت بالسُكان! 

     

#يُتبع . . .


الفصل 68 يوم الأثنان الموافق 8 - 2 - 2021 الساعة التاسعة مساءًا على مدونة رواية وحكاية وسيتم نشر نفس الفصل بعدها بأربعة وعشرين ساعة على الواتباد

ملحوظة : الرواية في حدود 80 فصل..

دمتم بخير