الفصل التاسع والثمانون - شهاب قاتم
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
(أحمد مراد - تراب الماس)
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
مشى على مضض تابعًا والده إلي غرفة المكتب ثم أغلق الباب ليتحدث بإنزعاج وغضب واضح:
- وبعدين بقى يا بدر هتفضل تدلع فيهم كده؟ أنا زهقت من الأسلوب ده!
رمقه متفحصًا اياه بثاقبتيه اللتان لم تتغيرا نفس النظرات التي كان ينظر بها إليه وهو يختلف معه في الرأي دائمًا ليرد بنبرة هادئة:
- واد أنت.. أنا مبقتش قد الزعيق والشخط وعصبيتك دي.. اقعد واتلم وتعالى نتكلم..
زفر شاعرًا بالضيق من تصرفات كلًا من أبناءه وكذلك والده ليجلس بالقرب منه وغمغم:
- اديني قعدت!
ربت على قدمه في ثقة وكلمه بحنان ليقول:
- يا حيلتها با أهبل.. مالك كده بقيت شبه عمتك الحرباية زمان.. ما تسيب سيف يدرس برا والولد شاطر وبعدين أمه نفسها كانت بتدرس برا هتيجي أنت بعد العمر ده وتمنعه.. وبعدين فيها إيه لما ليلى تروح ولا تيجي مع إياد.. قلقان يعني من الواد حمزة.. بكرة يكبروا.. والاحسن انهم يبقوا تحت عينيك وعنينا كلنا، ولا نسيت أختك وجوزها!
تآفف وهو ينظر له ليهمس بقلة حيلة:
- ما أنت عارف إني مبحبش تلزيق الواد حمزة ده كل شوية، وبعدين سيف لو قعد برا مع آسر كل خوفي إنه ميجيش تاني.. ما هو الموضوع ابتدى بعمي زياد ووراه آسر.. مش عايز سيف هو اللي يكمل المسيرة!
ابتسم له بهدوء وسأله بنبرة مرحة:
- هيوحشك الواد.. ما أنا جنبك اهو.. مش هكفيك ولا ايه؟
نظر له ابنه بلومٍ شديد وملامح منزعجة على ما قاله وزجره قائلًا:
- الله يكرمك يا بدر متهزرش وأنا شايط كده!
عقد حاجباه وهز رأسه ليتكلم بثقة شديدة:
- طيب يا حيلتها روق ومتشيطش.. طول ما أنا عايش سيب العيال يعملوا اللي عايزينه.. ابنك وبنتك متربين احسن تربية.. سيف بالذات لا هيبقى زياد ولا آسر، ده روحه فيك أنت وزينة وليلي واستحالة يسيبكم!
شرد "سليم" أمامه بقليل من الطفولية ليُتمتم:
- ماشي.. اعملوا كلكم اللي انتو عاوزينه.. بس والله لو مخلص دراسته ورجع هاخد زينة وليلي ونروح نعيش معاه برا!
أومأ له بالتفهم ثم أردف وهو ينهض:
- لما ابقى اموت يا حيلتها ابقى اعمل اللي أنت عايزه.. يالا علشان نفطر وتروح شغلك!
رمقه الآخر في حقد ثم صاح به غاضبًا:
- جرا ايه يا بدر! هو كل شوية تقولي لما أموت! انتوا ليه مصممين تعكننوا عليا النهاردة؟
التفت ناظرًا له ليحدثه بإبتسامة:
- ياض أنا عديت الخمسة وستين وبغزي العين وبقول ستين بس.. مش هخللك فيها.. بس طول ما أنا لسه عايش تسيب ولادك في حالهم إلا أقسم بالله لا أكون معكنن عليك صح.. ويالا علشان ناكل وكفاية الإصطباحة المهببة دي.. قوم فز ياض!
نهض سليم ليسير خلفه على مضض وهو يغمغم بعدة كلمات لم يتبينها والده من شدة خفوت صوته ليعقب قائلًا:
- لا تعلي صوتك كده زي الرجالة وانت بتتكلم علشان أعرف أرد عليك!
تنهد ليرد متمتمًا:
- لا مفيش.. بدعي ربنا يديك الصحة بدل اسطوانة الموت اللي أنت ماسكلي فيها دي..
عانق منكبيه بذراعه مستندًا عليه ثم قال:
- طيب يالا يا حنين علشان زمانهم خلصوا!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
نظرت له بتحفز وهي تعقد ذراعيها وتفقدته مليًا ثم تناولت نفسًا طويلًا ليبتلع هو في قلق بينما قالت:
- اديني وزعت روزي وخلصت امتحانات وطلعت الأولى وفضيتلك!
تمتم وهو ينظر له بقليل من الإرتباك:
- ربنا يُستر!
لاحظت ما قاله وانتظرت إلي أن وضع لهما النادل طعامهما بأحدى الأركان المميزة للشخصيات الهامة المُخصصة بواحدًا من مطاعمه التي لا تخص سوى الصفوة لتقول للرجل بإمتنان وإبتسامة رسمية:
- شكرًا لك..
انحنى لها بإيماءه رسمية برأسه وانتظرت مغادرته لتسأل والدها:
- كل الناس شايفاك أنت وماما قد ايه قريبين من بعض وياما سألتكم انتو الاتنين السؤال ده، ليه متتجوزوش تاني؟ ليه لما انتو كويسين اوي كده مترجعوش لبعض؟ متقوليش زيها اصلنا مش بنتفاهم واختلفنا على مواضيع كتيرة لأني مبقتش مقتنعة، ومش بوصل معاها لحل.. اتفضل بقى جاوبني بمنتهى الهدوء أنا فضيالكم الأجازة كلها مبقاش ورايا حاجة خلاص لغاية السنة الجاية!
تناول القليل ليمضغه على تريث وهو يتفحصها لترفع احدى حاجبيها في ترقب ولم تشرع بتناول طعامها بعد ليبتلع ما بفمه دفعة واحدة وترك شوكته ليُفكر قليلًا بما سيقوله ليتنهد مجيبًا اياها:
- كامي انتي كبرتي أنا عارف ووعدتك نتكلم في الموضوع ده لما تخلصي امتحاناتك، أنا مش هاخبي عليكي.. أنا لسه بحب روز لغاية النهاردة.. بس هي مش عايزة اننا نرجع.. أنا حاولت مرة واتنين ومليون وهي مصممة.. مش علشان هي قاسية أو مش كويسة بس، اللي أنا عملته معاها زمان يخليها مش عايزة ترجعلي.. وبدون دخول في تفاصيل! لا من حقي اتلكم في تفاصيل من غير موافقتها ولا ليه لازمة نفتح في القديم!
تريثت لبُرهة مُفكرة في كلمات والدها وهي تعبث بطعامها ثم تناولت بعض المياة لتسأله بحماس ومُقلتيها العسليتان تلتمعا بشبح فكرة:
- ولو رجعتكم لبعض؟
ابتسم متهكمًا ليزفر بقلة حيلة ليقول بخفوت:
- صدقيني حاولت.. بس وريني شطارتك!
أومأت له بتفهم لتبدأ تناول طعامها في حماس:
- ماشي.. وليا عندك عربية اول ما اطلع الرخصة!
ابتسم لها بحنان وود ثم عاد ليتناول طعامه مرة ثانية ليعقب في ثقة:
- اللي تختاريها كمان! رجعينا انتي بس مع بعض وأنا اعملك اللي نفسك فيه!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
اقتربت من والدتها لتعانقها وهي واقفة تحضر لهما قهوة الصباح لتحدثها بحيوية:
- أفضل صباح لأفضل روزي بالحياة بأكملها!
التفتت تتفحصها بإستغراب لودها الشديد المبالغ به هذا الصباح وردت بالإنجليزية مُعقبة:
- أفضل صباح لكِ كامي..
تفحصتها مليًا وهي تراها تتجه لتُسخن لهم بعض المخبوزات المصنوعة مُسبقًا والتي اخرجتها من احدى المُغلفات الورقية التي تحمل اسم احدى مطاعم "شهاب" فأدركت انها احضرتها منذ ليلة أمس لتسألها مُتعجبة:
- ما بالك هذا الصباح؟ هيا اخبريني ما الذي تريديه!
التفتت وابتسمت لها بإقتضاب وشعرت بإقتراب المأزق لتغمغم:
- لن استطيع الإفلات.. أليس كذلك؟
أومأت لها بالرفض بإبتسامة واثقة واجابت:
- أبدًا.. لن تفعليها معي.. تستطيعي الإفلات من راي.. أمّا أنا فيستحيل.. اتكلمي وقولي فيه ايه بالتي هي احسن بدل ما نقفش على بعض اول اجازتك وانتي عارفة لما خصامنا بيطول لا أنا ولا أنتي بنبقى مبسوطين!
تناولت نفسًا مطولًا مثلها كمثل والدتها تمامًا لتتمتم قائلة:
- حسنًا سأتكلم!
أخرجت المخبوزات بعد أن صدح جهاز التسخين بإشارة الإنتهاء وأعدت صحنان لهما وتوجهت لتجلس على المائدة فتوجهت كذلك والدتها حاملة قهوتهما وجلست بالقرب منها وهي تتفحصها في ترقب لكلماتها لتتنهد الأخرى ثم سألتها:
- ماما انتي ليه مترجعيش لبابا؟
أغلقت عينيها لتتمتم بإستغفار وملامحها بأكملها تحاول محاربة الإنزعاج الشديد من مجرد سؤال ابنتها ثم نظرت لها لتجيبها متسائلة:
- احنا كام مرة اتكلمنا في الموضوع ده وقولتلك إننا مش هنرجع لبعض؟
زفرت بضيق شديد ثم حدثتها بإنزعاج:
- يا ماما انتو كويسين، وبتعاملوا بعض ولا كأنكم اصحاب جدًا.. ده انا ساعات بحس انكم اقرب من أي أب وأم تانين بشوفهم.. بدل ما أنا متبهدلة كده ما بينكم شوية عندك وشوية عنده اتفاقات ومواعيد.. ده أنا بتعذب بس لو فكرت كده اسهر معاكم انتو الاتنين علشان نشوف فيلم ولا نفطر سوا احنا التلاتة في رمضان!
رفعت حاجبيها مندهشة مما استمعت له من ابنتها ثم همست متعجبة بصدمة:
- بتتعذبي!! بعد كل ده يا كامي وجاية تقوليلي بتتعذبي! بعد كل السنين دي اللي بحاول احافظ فيها على علاقة كويسة مع راي جاية تقولي بتتعذبي.. طيب.. أنا غلطانة.. اعملي اللي انتي عايزاه وميكونش فيه عذابك!
نهضت وهي تحمل قهوتها ثم اخبرتها في لوم:
- بس رجوع لباباكي مش هارجع!
تركتها لتغادر صاعدة نحو غرفتها لتتبعها ابنتها وهي تصيح خلفها في توسل:
- يا ماما استني بس.. انتي مش شايفة هو بيحبك قد ايه.. وانتي لغاية دلوقتي مش مدياني مبرر غير انكم مش بتتفاهموا مع إني أنا وكل الناس شايفين انكو بتعرفوا تتفاهموا وتتفقوا على كل حاجة اكتر من اي اتنين حوالينا!
التفتت لها مبتسمة بسخرية وغيظ لتقول وهي تمط الكلمات متهكمة:
- بيحبني!! آه.. هو اللي باعتك بقى!
كادت ابنتها أن تتحدث لتسبقها هي:
- طيب روحي قولي للي باعتك أن مفيش رجوع ما بيني وبينه.. ولو بنتفق ظاهريًا علشان احافظ على بيئة سليمة تكبري فيها من غير خناق بيني وبينه وانتي نفسيتك تتأثر فأحنا مش بنتفق ما بيننا وبين بعض!
زفرت ابنتها وهي تخلل شعرها في انزعاج وصاحت بها:
- طيب على الأقل فهميني مش بتتفقوا في ايه واحنا نلاقي حل لكل ده!
رمقتها في حُزن ولكن سرعان ما سيطرت عليه لتحدثها بحزم:
- أنا عمري في حياتي ما اتدخلت في أي حاجة تخصك.. بسيبك تختاري اصحابك وهواياتك وكل حاجة في حياتك براحتك.. ويوم ما تكبري يا كامي وتحبي تختاري انسان تتجوزيه وترتبطي بيه عمري ما هتدخل غير بنصيحة ليكي كأم وصاحبة لكن أكتر من كده مش هاتدخل.. يا ريت كل واحدة فينا تحافظ على اختيار التانية وتحترمه!
نظرت لها في النهاية بلوم لتهمس بآسى:
- وأنا آسفة لو كنت عذبتك! ليكي الحق تعملي كل اللي انتي عايزاه! بس أنا كمان من حقي اقبل بجوازي من حد أو لأ!
تركتها لتُكمل طريقها للأعلى لتصعد ابنتها خلفها وتوسلتها بندم:
- يا ماما آسفة والله مقصدش، أنا اقصد إن الموضوع بيبقى مُتعب مش اكتر.. استني بس..
التفتت لها من جديد ثم حدثتها بهمس:
- أرجوكي يا كامي سيبيني شوية لواحدي.. بلاش نتكلم اكتر من كده!
ترددت قليلًا لتُفكر فيما ستقوله لتندفع في النهاية وليحدث ما يحدث:
- طيب يا ماما بما اننا اتكلمنا يبقى نكمل كلامنا، هو بابا عمل ايه لكل ده يخليكي مش عايزة ترجعيله؟ ليه كل ما أسأل واحد فيكم مبتدونيش اجابة واضحة وده من حقي اعرفه لأني بنتكم.. انتي دايمًا مربياني على الصراحة انتي وبابا، وأنا مش بخبي عليكم حاجة.. أنا خلاص بقى عندي خمستاشر سنة ومش صغيرة وفاهمة انكم بتحبوني.. انما هو يقولي أنا غلطت وانتي تقوليلي مفيش ما بيننا تفاهم، أنا مش عارفة إيه اللي حصل يبعدكم عن بعض كل السنين دي و..
قاطعتها بلهاث لتصيح بها غاضبة:
- عايزة تعرفي إيه اللي حصل!! حاضر يا كامي!
اتجهت للأعلى حيث غرفتها لتسير ابنتها خلفها ظنًا منها أنها ستحدثها بينما وجدتها تحمل هاتفها وتجري اتصالًا وظلت تتفقدها في ترقب لما تفعله والدتها إلي أن أجاب الطرف الآخر لتراها تتحدث بهاتفها في حزم شديد:
- اتفضل البس وتعالى انا وكامي مستنينك علشان نتكلم في حاجة مهمة!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
دخل مستندًا على عصاه إلي المنزل بعد أن استقبلته ابنته ليهمس لها متسائلًا بسخرية:
- خربتيها مش كده؟
نظرت له بملامح يتضح عليها الوقوع بكارثة حتمية:
- لم أقصد! أنا آسفة!
تفقدها وهو يومأ لها بالتفهم وهمس لها كي لا تستمع "فيروز" إلي كلماتهما:
- طيب اهدي خالص لغاية ما الحوا يعدي ومتتكلميش كتير يا إما هتعد عليكي غلطاتك وسيبيني أنا اتكلم!
هزت رأسها بالموافقة بينما توجها لغرفة الجلوس لتتلاقى داكنتيه بعسليتيها ليرى الغضب بهما جليًا وبمجرد اقترابهما سألتهما بحزم:
- مين فيكم صاحب الإقتراح بتاع موضوع اننا نرجع لبعض؟ واياكوا تكدبوا!
التفت كلًا منهما للآخر وهما يجيبان في نفس الثانية:
- هو!
- هي!
همهمت في تفهم وهي ترمق كلاهما ثم حدثتهم بملامح متجهمة:
- طيب اقعدوا علشان شكلنا مطولين، وأنا مش هتكلم في الموضوع ده تاني.. اعتبروها آخر مرة بقى علشان كتر الكلام ملوش لزوم!
ابتلعت ابنته وهي تنظر له نظرات مُعتذرة بينما همس لها:
- بتبعيني من اولها!
همست معقبة بخفوت شديد له:
- ما هي لو عرفت إن انا اللي ورا الموضوع مش هتعديها بالساهل!
جلس كلاهما بالقرب من بعضهما البعض لتوزع نظراتها المستاءة بينهما ثم تحدثت بثقة:
- بغض النظر مين فيكو اللي ورا الحوار ده بس خلينا نكون واضحين.. أنا مش هتكلم غير هي المرة دي وقدامكم انتو الاتنين لا كامي تتهمني إني بعذبها ولا راي يتهمني اني قاسية.. علشان محدش يفتكر إني بفتري عليكم
نظرت له بنظرة مطولة ولم تبرح عينيها خاصته لتسأله بثقة شديدة:
- من ساعة ما سبت مصر وقابلتك واتجوزنا.. كام مرة قولت إننا هنحاول سوا ونتفق ونتفاهم ومحصلش؟
تفقدها في ندم شديد ثم همس مجيبًا:
- كتير..
نظرت له بتقزز وآسى وهي تحاول عدم تذكر الماضي لتسأله بنبرة مهتزة تخلت عن ثباتها وصلابتها:
- وبدون دخول في تفاصيل.. كام مرة سامحت وحاولت ونسيت إنك غلطت فيا؟
كان يتذكر كل شيء.. بل قبل سفرهما حتى؛ لقد حاولت مرارا وتكرارا وكان هو بطريقته يستطيع أن يفعل كل ما أراده ولكن دوه القسوة عليها بتلك الطريقة التي ظلت تدمر علاقتهما وكأنه يشيد بناية شاهقة من دمار محض وضع كل حبة رمل لازمة به بيديه ليجيبها بآسف:
- كتير..
سألته وعينيها شارفت على البكاء ونبرتها باكية دون أن تنهمر أي من دموعها:
- فاكر الليلة اللي انا حملت فيها في كامي.. كنا بنتخانق وبعدها قولت انك هتعملي اللي أنا عايزاه ورجعت وعيدنا نفس الخناق، بنفس طريقتك.. فاكر ولا أنا كذابة؟
طأطأ برأسه للأرضية وأومأ بإقتضاب دون التحدث لتنظر إلي ابنتها في لومٍ شديد لتهمس سائلة:
- وانتي.. بعد ما سمعتي كل اللي سمعتيه ده.. عمري منعتك عن باباكي أو كرهتك فيه أو قولت عليه كلمة وحشة؟
أومأت لها بالرفض ثم همست:
- لأ..
انهمرت دموعها وآتى سؤالها معاتبا اكثر منه استفهاميا:
- عمري قولتلك صاحبي دي ومتصاحبيش دي او بطلي رسم او بفرض عليكي اي حاجة؟
أومأت مجددًا بالرفض بينما شعرت بالحزن بعد أن رآت والدتها تبكي بمثل هذه الطريقة لتستمع لها من جديد وهي تتحدث:
- عمري في حياتي حرمتك من أي حاجة انتي عايزاها غير بس وانتي صغيرة علشان الخوف عليكي وكانت حاجات بتؤذيكي؟
أومأت لها بالإنكار والتزمت الصمت لتهتف بحرقة بكلاهما:
- أنا معاكم انتو الاتنين.. بضحك وبهزر وبتعامل معاكم بإحترام.. لكن شغل العصابات والاتفاقات من ورايا ده يخصكم وبس.. أنا مش لعبة تتفقوا عليها واللي يجيب score اعلى يبقى فاز..
اشارت بيدها نحوه وهي لا تزال تنظر إلي ابنتها بينما صاحت بين بكائها:
- اتفضلي.. هو عندك اهو.. عايزة تعيشي معاه طول حياتك اتفضلي انا مش هاعذبك زي ما بتقولي ولا همنعك..
انتقلت اعينها له ثم صاحت به:
- وأنت.. اتفضل كامي بنتك حبيبتك موجودة اهي ونسخة منك بالظبط وبتعرف تقنع وتجادل وشاطرة وذكية.. خليها تروح تجوزك اللي تشاور عليها..
وزعت نظراتها بينهما لتصرخ بهما:
- بس زي ما بحترمكوا انتو الاتنين وبحترم قرارتكم اياكوا حد فيكم يجي يحكم عليا اعمل ايه ومعملش ايه.. الموضوع ده بجد لو اتفتح تاني اعتبروني برا حياتكم..
تركتهما وغادرت لتتوقف وهي تشعر بدمائها تحترق بداخلها لتلتفت نحو ابنتها وهمست لها بآسى:
- كل ده ومتعرفيش تفاصيل.. صدقيني لو عرفتي هتلوميني إني سمحتله يدخل حياتنا كأب وصاحب! وحفاظًا على زعلك وعلى كرامته بلاش تسألي في الموضوع ده تاني..
التفتت لتتركهما خلفها وانفجرت ببكاء جعلت كلاهما يشعر بتأنيب الضمير بينما لن يمر الأمر دون أن تعرف هي ما الذي حدث بينهما وهو لتوه تجرع كأسًا علقمي المذاق من اليأس وقد أدرك لتوه أنها لا تزال عند قرارها ولن تسامحه ولو بعد عشرات السنوات!
تنهد بعد أن نهض ليحدث ابنته بهدوء:
- اطلعي صالحيها واعتذريلها.. وبلاش نتكلم في الموضوع ده تاني.. أنا اللي عملت كده فيها وفي نفسي.. وفيكي انتي كمان.. مكنش المفروض اوافقك انك تتكلمي معاها في الموضوع..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
بعد مرور عامان . .
بعد أن تبادلا عدة الجُمل الروتينية مثل ما اعتادا فهما لا ينفكا يرى بعضهما البعض على الأقل ثلاث مرات اسبوعيًا شعرت بالصمت يزداد بينهما ففكرت أن تتخلص من إنفراده بها هكذا قبل بدأ مراسم الحفل لتخبره:
- طيب أنا هاروح أشوف كايت وأكون معاها شوية..
تفقدها بجدية بينما قال بخفوت:
- استني يا فيروز!
هكذا باتت عادته كلما أراد التحدث في أمرٍ هام، يناديها بنبرته الجلية بمنتهى الخفوت ناطقًا اسمها الحقيقي الذي منذ أكثر من خمسة عشر عامًا لا تستمع له سوى منه وحده فقالت بملامح تلقائية:
- اتفضل.. قول..
ابتلع وملامحه تتوسلها قبل أن ينطق لسانه.. كل حفل نهاية عام لإبنتهما أو تكريمها أو تخرجها بات الأمر روتينيًا.. لقد علمت مسبقًا ما الذي سيطلبه منها، وبمنتهى البساطة هي لا تستطيع إعطاءه ما يطلبه، الأمر لم يعد بيديها، عودتهما سويًا كرجل وزوجة لن تكون مستساغة وخاصة بعد كل ذلك العمر.. لقد عرفته منذ حوالي عشرون عامًا.. ربما قد ظل يُثبت لها أنه أصبح رجل أفضل ولكن قلبها وما تشعر به بمجرد التفكير به كرجل وزوج ما هو سوى السخط وإرادة البُعد التام عنه!
نحن حقًا لا نختار ما نشعر به، لا يريد رجلًا أن يغضب حتى يقتل زوجته التي أحبها يومًا ما ولا تريد إمرأة اختارت رجلًا بكل ما هو عليه ولم تستمع لمن حولها بأن تكرهه.. ما تحمله القلوب ليس لنا سلطانًا عليه، مهما فعلنا لا نختار مشاعرنا ولا من نحب!
ازداد صمته بعد قراءة ملامحها التي تصرخ بالرفض ولكنه سيفعل ما عليه وسيحاول، علها توافق في النهاية:
- فيروز، كامي خلاص داخلة الجامعة! عارفة ده معناه إيه؟
رفعت كتفيها ثم اخفضتهما بتلقائية كعلامة على عدم معرفتها واجابته:
- معناه ايه؟
ابتسم ساخرًا فهو يُدرك أنها ابعد ما تكون عن الغباء وقال بنبرة تمتلئ بإشتياق يعلم أنه سيبقى ونيسه وجليسه الوحيد طوال السنوات القادمة:
- معناه إني مش هاشوفك غير بس في اجازات كامي.. أنا أيًا كان الجامعة اللي هتدخلها والمكان اللي هتقعد فيه أنا هاروح اعيش جانبها!
تعجبت عاقدة حاجبيها ليتابع بتوسل:
- كفاية كده أرجوكي.. ارجعيلي يا فيروز، أنا مش عايز اقضي اخر كام سنة في حياتي لواحدي من غيرك.. تعالي نعيش أنا وأنتي ونكون جانبها طول الوقت!
ابتسمت له بآسى ثم همست بخفوت:
- لو كنت اقدر ارجع ويبقى فيه ما بيننا علاقة تاني أكتر من اللي ما بيننا دلوقتي صدقني كنت عملتها من زمان.. بس مش قادرة يا شهاب.. خلينا كده احسن!
أومأ لها وهي تجرح كبرياءه للمرة المائة ربما من خوضهما مثل نفس الحديث لتشعر بالشفقة لأجله فغيرت مجرى الحديث تمامًا لتقول:
- أنت كامي قالتلك اختارت أي جامعة؟
أومأ بالرفض لتخبره بإبتسامة:
- جالها قبول في الخمس جامعات اللي بعتتلهم، بس كأنك معرفتش مني حاجة!!
توسعت ابتسامته بمصداقية ليتمتم:
- غلبتني في دي.. بعت كذا منحة والوحيدة اللي قبلتني ايطاليا..
اخبرته في توسل بنبرة مرحة:
- لا الله يكرمك بلاش السيرة دي.. أنت صحيح ناوي تروح تسكن في مكان جانبها؟
هز رأسه بالموافقة بينما عقب مجيبًا:
- وصلتني لدرجة تخليني احبها اكتر ما بحبك ولو اخترت بينكم يبقى هختارها هي!
تنهدت وهو لن يكف أبدًا عن قول هذه الكلمة في حديثهما لتخبره بقلة حيلة:
- ما خلاص بقى.. أنا لو مكانك هختارها هي برضو! كامي مبتقدرش تستغنى عنك وبتحبك بجد.. وأنت كمان مدلعها زيادة عن اللزوم!
نظر لها بملامح حزينة بالرغم من تلك الإبتسامة التي يُجبرها على شفتاه ثم قال بفخر:
- مش ناقص الأم والبنت يبقوا كارهني..
ابتسمت بسخرية على كلماته ثم همست بمصداقية:
- أنا مش بكرهك، لو كنت بكرهك مكنتش هربت معاك في مكان واحد.. حق ربنا إنك كنت تفضل مسجون.. بس لما فكرت وقولت لو يمكن اديتك فرصة اخيرة تتغير، وحصل فعلًا..
ابتسم لها بخبث وهمس بنبرة ماكرة:
- طيب يا بطل ما دام اتغيرت وبقيت حلو ما ترجعيلي وكفاية لغاية كده..
ضحكت بخفوت على منادتها اياها بتلك الكلمة ثم قالت بطيف تحذير ممتزج بضحكتها:
- لا!! انسى!! متحورش الكلام أنا عارفاك كويس..
زفر بضيق وابتسامته تتلاشى بينما سألته:
- ها، ناوي تعملها مفاجأة إيه السنادي؟
تفقدها في استفهام بينما اجابها سائلًا:
- هي مقالتلكيش؟
أومأت بالرفض ليُتابع مُجيبًا:
- هغيرلها العربية.. بس أنا مقولتلكيش حاجة!
تنهدت بقليل من الغيظ وهي تغمغم:
- والله خايفة من دلعك ليها ده!
زمت شفتاها ثم اضافت متعجبة:
- وبعدين أنا مش فاهماها تقولي أنا حاجات وتتفق معايا على جامعتها، وطبعًا بابا الحنين بتاع الفلوس والدلع تتفق معاه على حاجات.. بنتك بتلعب بينا حضرتك وأنا وأنت واقفين نتفرج!
ابتسم وهو يتفقدها وراقه للغاية افتقادها لزمام الأمور ليقول بمرح وإعجاب:
- أنا شخصيًا موافق يتلعب بيا، واضح إن فيه ما بينكم مشاكل.. ابقي حليها.. يالا مش هاعطلك أنا داخل اشوف ارقام الكراسي!
تركها وغادر لتشعر هي بالإستفزاز من طريقته بينما شعر هو بالفخر بداخله لإقترابه منها دون أي اعتراضات بينهما وبالرغم من أنها طفولية شديدة منه ولكنه يُعجبه الحال بهذه الطريقة التي يتبعها مع ابنته.. حتى ولو كان صديقها لا ضرر من ذلك!
بعد مرور عدة اشهر. . .
تفقدته بعسليتين مهتمتين وسألته بجدية:
- هل أنت متأكد أنك ستكون بخير؟ أم تريدني أن امكث معك الليلة أيضًا؟
عقد حاجباه مبتسمًا لها ثم اجابها متعجبًا:
- أحيانًا أسأل نفسي من هنا والد من!
نظرت له نظرة مشابهة لخاصته بملامحها التي لم تفشل ولو مرة بأن تُذكره بملامحه والدتها وقالت بمرح وابتسامة:
- لا يهم.. المهم أن احدنا يتولى الأمر في النهاية.. ولكن اخبرني.. هل تريدني أن امكث معك أم أعود للسكن الجامعي؟
أومأ بالإنكار وابتسم لها وهو يقربها إليه في عناق واجابها بتنهيدة:
- اذهبي.. سأكون بخير.. طابت ليلتك..
ابتعدت وهي تنظر له في تفحص ثم حدثته مُدعية ملامح جدية:
- أنت حقًا تدفعني للقلق عليك.. عليك أن تكف عن التفكير بالأمر.. لقد وضحت والدتي هذا أبي.. يُمكنك التزوج، لا تزال وسيمًا على كل حال..
ضحك بخفوت ثم قال بعدم اكتراث:
- كفِ أنتِ عن المزاح.. هيا اذهبي كي لا تتأخري أكثر من هذا!
حدقته بنظرات في منتهى الجدية وسألته:
- اخبرني أبي.. هل تريدها صغيرة أم من عمر والدتي؟ أستطيع أن ابحث لك عن عروس!
ابتسمت في النهاية ليرمقها في غيظ ثم قال بين أسنانه بنبرة غير ودودة:
- طابت ليلتك كاميليا!
غمزت له بمشاكسة ثم قالت:
- سيكون زواج ناجح للغاية.. فقط لتختار العروس!
تنهد لمزاحها السخيف ثم التفت ليغادرها وصاح من على مسافة:
- احلام سعيدة كامي..
ابتسمت ثم صاحت بنبرة منتصرة:
- هذا ما تأخذه بعد أن اصبحت ملازمًا لي وكأني لا زلت اذهب الروضة ولست في الجامعة! احلام سعيدة أبي..
استمع لصوت باب المنزل وهي تغلقه خلفها ليتنهد في يأسٍ شديد وها هو أصبح يعيش بمفرده تمامًا.. ربما كانت فكرة في منتهى الغباء بأن ينقل سكنه بالقرب من ابنته، ولكنه لن يستطيع الإبتعاد عن الشخص الوحيد الذي يُحبه ودون أن يراه كمجرم وقاتل!
رمق هاتفه في تردد، وصورتها لا تغيب عن رأسه ولو لثانية واحدة، لو وقته بصحبة ابنته فهي كصورة طبق الأصل منها لتعذبه بحركاتها التلقائية التي تشابه والدتها، ولو كان وحيدًا لا يُفكر سوى بها.. أليس كل هذا العذاب لسنوات كافيًا لها؟ لقد برهن لها بكل الطرق أنه تغير.. ما الذي تريده بعد؟
جذب هاتفه وبداخله شعوران متضادان، واحدًا يخبره بأن اشتياقه لها يستحق مكالمة والآخر اليائس يزجره بألا يفعل.. لم يتبق ذرة كرامة بداخله أمامها على كل حال.. وكالعادة الشعور الأول دائمًا يلوذ بالإنتصار!
انتظر تلك الرنات إلي أن يأتي صوتها من جديد عله يُسكن بعضًا من آلام اشتياقه لها وما إن فعل تمدد على فراشه تاركًا عصاه بالقرب منه ثم همس لها:
- وحشتيني! مش قادر استنى لغاية ما اشوفك في اجازة كامي..
زفرت بضيق ثم ابتسمت لتقول بزجر خائر القوى:
- وربنا ما هينفع! وفر عليا وعلى نفسك..
استشعر ابتسامتها خلال كلماتها المنطوقة ليخبرها:
- اديتك الإخبارية ولا لسه؟
توسعت ابتسامتها ثم اجابته:
- طبعًا بنتي واستحالة متدنيش الإخبارية.. مرة في التليفون ومرة لما تشوفني في اجازتها.. كفاية بقى ضغط على اعصابها يا شهاب.. قولتلك مليون مرة هي ملهاش دعوة ولا ليها ذنب بإني مش موافقة نرجع لبعض.. وبعدين كبرنا بقى خلاص! سيبك من الإسطوانة دي!
لانت شفتاه بمرارة وامتلئت عينيه بالدموع التي انهمرت على الفور في راحة بأنها لا تراه ليقول بخفوت:
- انتي في عينيا احلى واحدة.. مكبرتيش وزي ما انتي.. احلى من زمان كمان..
تنهدت بقلة حيلة وهي لا تدري ما الذي عليها فعله كي يتوقف عن كلماته تلك لتغير مجرى الحديث وقالت:
- أنا صاحية من بدري والوقت اتأخر وعايزة أنام!
ابتسم متذكرًا تلك الأيام البعيدة عندما كان يُحدثها قبيل النوم دائمًا ليقول:
- فاكرة لما كنا بنتكلم كتير قبل ما ننام؟
آتاه صمت ليس بهين ثم تناولت نفسًا مطولًا فجأة ليشعر بالإرتباك الضئيل لما توشك على قوله ولكنها باغتته بما لم يتوقعه:
- كانت أيام حلوة.. تصبح على خير يا شهاب!
ودعها ليقول:
- وانتي من أهله!
أنهى المكالمة التي لم تستمر سوى لأقل من دقيقتان ليتنهد بين بُكاءه وهو يتذكر الكثير من الأشياء بينهما ليستسلم ليأسه التام بأنها لن تعود له حتى ولو بعد عشرون عامًا من المحاولات!
جلست بتحفز شديد في بالكرسي المُقابل للسائق عاقدة ذراعيها وهي تتوعد بداخلها ابنتها التي اجبرتها على العودة معه في نفس السيارة ولم ترد أن تصتنع شجارًا بعد حفل تخرجها.. ها هي السنوات تمر ولا يزال كلاهما يحاولان أن يرغماها على قبول زواج وعلاقة كل من تجاربها في الحياة تخبرها وتبرهن لها أنها ستكون علاقة مُرهقة حد الثمالة..
عفوًا إلي أين يتجها بها؟ لقد أصبحت ابنتها أقرب له منها، بالرغم كل ما حاولت تشييده لسنوات ولكن ذلك الدلال الذي يدللها به وشدة اقترابه منها لم يتركا لها مجالًا أن سوى لتكون الأم والصديقة غير المقربة! من كان ليظن أن "شهاب الدمنهوري" بكل ما هو عليه سينجح في الإقتراب من ابنته بهذه الدرجة؟!
لا بل ومكث بالقرب من سكنها الجامعي طوال فترة الدراسة وفي الأجازات يذهب معها أينما أرادت، لماذا تشعر وكأنها مُهمشة من حياة ابنتها فجأة هكذا؟
زفرت وهي تشعر بالغيظ الشديد ولكنها حاولت تسكين نفسها بأن الجامعة قد انقضت، وستستقل هي عما قريب وستعمل وبالكاد ستستطيع رؤية أيًا منهما!
تناولت نفسًا مطولًا بعدها وهي تشرد أمامها بالطريق جالسة على مضض بالقرب منه، لم تكن تتخيل أبدًا انها ستتركها لتعود معه وستعود هي بمفردها! حسنًا لقد قاربت على الإنفجار عن قريب.. ربما عند توقفهما بإحدى الإستراحات أثناء العودة ستعود مع ابنتها بدل جلوسها بصحبة انفاسهما والصمت الذي ستشعر أنه سيقطعه عما قريب وهي تجاهد أن تتحمل تلك الدقائق معه حتى مغادرة سيارته!
التفت إليها مستفهمًا بإبتسامة وسألها:
- خير.. النفس ده بيبقى بعد منه مصيبة! فيه إيه مالك؟
أعاد نظراته للطريق وهو يُكمل القيادة بينما اجابته بإقتضاب شديد:
- مفيش..
أردف من جديد متسائلًا:
- وعلشان خاطر شهاب صاحبك حبيبك اللي متمرمط معاكي بقاله سنين؟
التفتت ناظرة له وهي تقارب على الصراخ من كلماته المُبتذلة بعد كل تلك السنوات ثم هتفت به وأنفاسها المتلاحقة من ثرة الغيظ قد فتكت بكلماتها:
- شهاب إيه!! بقولك إيه انت وبنتك أنتو هتجننوني.. أنتو..
تلعثمت بغضب من كثرة غيظها ثم تابعت بإنزعاج:
- انتو مصممين إنك أنت وهي ترجعوني ليك! أنا مش هتزفت أرجع.. حرام عليكوا بقى انتو الاتنيين! ده أنت خلاص جاخل على تمانية وخمسين سنة.. بص أنت وبنتك بحركاتكوا الخبيثة دي، لو متلمتوش أنا هختفي ومحدش هيعرفلي طريق!
لم يسيطر على نوبة الضحك التي اعترته وتحكمت به ليزداد غيظها منه وهو يضحك حقًا بهذه الطريقة الشديدة فهو يبدو صادقًا بتلك الضحكات لتنفعل هي ثم صاحت به:
- طب إيه رأيك بقى لما توقف على جنب وتنزلني هنا!
التفت نحوها وهو يحاول أن يُهدأ من ابتسامته وتأكد من توصيد الأبواب فهو يعرف أنها عند غضبها قد تفقد عقلها وتتحول لإمرأة مجنونة تمامًا لتغمغم حانقة:
- يا ريتني ما كنت ساعدتك ولا قربتك منها.. كان يوم منيل بستين نيلة..
لانت ضحكته لتتحول لإبتسامة هادئة وسألها بجدية:
- طيب بعيدًا عن العصبية والصريخ وشوية الكلام بتوع الست المصرية الأصيلة اللي جواكي دي، انتي إيه اللي خلاكي تساعديني من البداية وبعدين تحبيني؟ لما كنتي عارفة عني كل المصايبب دي بتشخيصي بكل اللي اتعلمتيه زمان، إيه اللي خلاكي تحاولي معايا مرة واتنين وتلاتة لما عارفة إن أنا وحش ومبتغيرش؟ مش بس بعد ما اتجوزنا لأ من زمان، من أيام ما بدر الدين قالك تساعديني!
التفتت بمقعدها ناظرة له بينما سيطر على وجهه الوجوم لتهدأ هي قليلًا وتناولت نفسًا عميقًا ولكنه لم يكترث بالإرتباك هذه المرة وكل ما أراده هو سماع الحقيقة منها لتجيبه بحرقة:
- أنا قولت إنك عندك عقدة من الستات وهتتحل.. ومش كل المجرمين بيختاروا طريقهم وبيبقى فيه أسباب دفعتهم يبقوا كده.. آه شوفت فيديوهاتك زمان مع الستات وعرفت معلومات عن صفقات سلاح ومخدرات لكن اللي مكونتش اتصوره إنك تحرق الناس بالبشاعة دي..
تفقدت ملامحه بآسى بينما التفت ناظرًا لها بإحدى النظرات التي لم تظهر على وجهه منذ زمن بعيد، ذكرها بذلك الرجل الذي كان يحرق البشر دون أن تتلاقى اهدابه ولكنها لم تكترث وتابعت:
- اللي اتعلمته كان بيقول إن كل مرض وليه درجات، مكونتش اتخيل في أسوأ كوابيسي إنك تبقى بالشر ده.. بالذات إني كنت عارفة إنك اتحرمت من مامتك وأنت صغير، قولت يمكن اقدر أساعد.. وبعد ما قربت منك وعرفت حاجات كتيرة عنك قولت فعلًا الأسباب في العقد دي ولما تتعالج هتكون كويس..
ابتسمت بسخرية وتنهدت بقهر وأكملت:
- لما عرفت اغتصابك لأروى كانت إشارة ليا وحاولت ابعد عنك.. بس أنت رجعتلي بعدها بمصيبتين لو فاكر.. المصيبة الأولى هي كل حاجة حلوة كنت بتعملهالي.. فاكر يوم عيد ميلادي؟ فاكر يا شهاب؟ طلعتني سابع سما وفي ثانية نزلتني سابع أرض وانت بتقول إنك حرقت مرات أبوك وأبوها.. وبعدها بدقايق كملت حاجات حلوة وجميلة اوي.. فاكر؟ اصحابي والهدايا والحنية اللي كنت شاطر فيها وبتعرف تمثلها كويس جدًا.. وزن زن زن لغاية ما جبت اخري معاك..
التفت لها بأعين تحمل القسوة واللوم على حد سواء ليعقب بسخرية وإنفعال شديد:
- لا مكونتش بمثل، مش كل حاجة كانت كدب.. أنا فعلًا حبيتك واتعلقت بيكي.. بطلي تفتري عليا بقى بعد كل السنين دي!
حاولت منع نفسها عن الإستجابة للإستهزاء الذي قارب على الإنفجار على وجهها وهمست له:
- حبتني واتعلقت بيا! بجد!! طيب، هنقول إنك حبتني بجد.. وأنا ساعتها كنت في حالة إنكار زي الزفت، وأول مرة أقرب من راجل واحس بالتعاطف ده معاه.. بس تعرف أنا قولت دبرلهم حريقة، ولع بيهم البيت علشان تتأيد ضد مجهول ووإنه كان قضاء وقدر، حادثة زي أي حادثة.. علشان رغبة الإنتقام اللي جواك وإنك بمرضك انتقمت من سبعة وعشرين سنة بُعد عن مامتك.. لكن عارف فوقت امتى.. فوقت وأنت بتحرق الراجل في إيطاليا قدام عينيا..
تنهدت بحرقة وهي تُكمل بسخرية متخلية عن كل تلك الأقنعة التي كانت تحاول إرتدائها لسنوات كثيرة ولم تعد تشعر بنفس الآلام التي كانت تشعر بها منذ سنوات وأكملت:
- اتعلمت كتير اه والمفروض إني كنت شاطرة بس زي ما كنت انت بتستغل مشاعري وتعاطفي معاك، كنت محتاجة الحب زيي زيك.. بس عارف.. أنت اخدت كل مشاعري ومدتنيش حاجة في المُقابل غير شوية احضان وبوس وفلوس.. اديني موقف واحد.. موقف واحد بس يثبت إنك كنت بتحبني وواقف جنبي في عز حاجتي ليك..
انهمرت احدى دموعها لتجففها بسرعة واستطردت:
- بيقولوا إن أي مرض في الدنيا سواء وراثي ولا مُكتسب فيه الأسباب اللي خلته يكبر ويتأصل جوا الإنسان! كنت فاكرة إني هساعدك فعلًا.. بس والله حبيتك اوي وصدقت كلامك.. وعلى فكرة..
ابتسمت بإنتصار بالرغم من حزنها الشديد وخسارتها الفادحة:
- أنا ساعدتك يا شهاب.. سيبك من عصبيتي وحركاتي التافهة لما بتعصب من إنك انت وكامي قريبين واصحاب اكتر مني بس أنت اهو خلاص كلها سنتين ويبقى عندك ستين سنة.. بس شوف حياتك بقت فين.. بتحبني بجد، لسه عايزني، بطلت حرق وقتل واغتصاب وسادية وإلحاد.. متعلق ببنتك وبقت روحك لدرجة إنك سبتني وروحت قعدت جنبها طول فترة الجامعة!
رفعت احدى حاجباها بتلذذ وفرحة انصهرت آلمًا بصحبة حزنها:
- أنا غيرتك ونجحت معاك! صممت اعالجك وعملتها.. أنانية وسمعت صوت نفسي ومشاعري بإني اخليك بني آدم وإنسان بجد، ونسيت بقى العدل والقانون وإنك المفروض تتحبس! زي ما أنت ما جواك تحقيق انتقامك ولو بعد سنين أنا كمان جوايا حتة عدم الفشل والمثالية والنجاح.. نجحت معاك، ونجحت مع بنتنا، ونجحت فيإني اخلص من عار كان هيلازمني طول حياتي..
من الآخر نجحت إن يبقى عندي حياة! بالرغم من يأسك وضعفك وجبنك أنا نجحت يا شهاب!
التفت ناظرًا لها بغضب شديد وأنفاس متلاحقة ثم صاح بها أثناء قيادته التي بالغ في سرعتها ولم يكترث أن ابنته تتبعهما:
- لما أنا اتغيرت وبقيت إنسان وبقيت راجل وبني آدم وكل اللي أنتي بتقوليه ده! لما أنتي متأكدة كويس جدًا إني مبقتش ي الأول، ليه مترجعليش؟ ليه الذل اللي بشوفه على ايدك ده؟ بنتنا خلاص خلصت جامعتها.. حياة بيني وبينك مستمرة تلاتة وعشرين سنة من يوم ما عرفتك، كل ده مش عايزاه يشفعلي؟
انهمرت دموعها في تواتر دون توقف وهي تنظر له ثم همست مجيبة:
- عارف ليه مرجعتلكش.. أولًا علشان العلاج ومساعدة إنسان حاجة.. والعلاقة وإني اقربك تاني مني حاجة تانية.. لو أنا المعالجة الشاطرة والست المثالية فده دليل إني نجحت معاك وغيرتك.. إنما أنا كست، منجحتش إنك تكون راجل صريح معايا وحنين ومسئول.. منجحتش غير في إني ابقى أم وبس! لكن زوجة أنا ابعد ما يكون عن النجاح!
ابتسمت بتهكم ثم استطردت بقهر:
- وتاني حاجة بقى، إني حتى لو من جوايا مسمحاك، ولو نسيت، ولو يومي ميكملش من غيرك، ومهما كنت محتاجاك كصاحب جنبي، أنا لو رجعتلك هترجع زي الأول! ويمكن أسوأ.. استنزاف واستغلال لمشاعري.. أنا علشان أخليك كويس للبنت لازم نفضل بعيد عن بعض، يا إما البنت هتكره الحياة، ومش منك بس ولا بسبب تصرفاتك.. أنا كمان هعاملك بطريقة مش كويسة.. زي ما أنت أناني أنا كمان أنانية.. مفيش حد فينا كويس.. أنا وأنت مش هناخد غير الأذى والوجع!
همست جملتها الأخيرة وشهقاتها تفلتت رغمًا عنها في النهاية لتواجه صعوبة شديدة في تنفسها ثم تابعت بوهن:
- احنا كبرنا.. كبرنا اوي على الكلام ده! وكفاية إننا قدرنا نوصل للحالة اللي احنا فيها دي.. أنا مبقتش بكرهك زي الأول ولا بتوجع وأنا بكلمك.. وأنت فوزت زيي زيك بالبنت وبالحياة الجديدة.. كفاية لغاية هنا.. مفيش احسن من دي نهاية لينا.. أرجوك بلاش نفتح في الموضوع ده اللي كل ما بيتفتح واحد فينا بيتعب.. علشان كرامتك وكرامتي!
جففت دموعها بصعوبة وهي تحاول ملاحقة انفاسها الباكية وبعد عدة دقائق من الصمت التفت ناظرًا لها ثم تحدث بحرقة وكأن كلماته تعانق لهيب روحه القاتمة لتندلع مصيبة اياها بحريق ذكرها تمامًا بكل ما مضى بينهما:
- طبعًا مستنية من شهاب إني اعيط واتحايل عليكي.. بس لأ مش هتحايل! أنا فعلًا متغيرتش لأني أنا وانتي عارفين كويس إن اللي أنا فيه ده مالهوش نهاية!
ابتسم هاكمًا على حاله ثم تابع:
- تعالي أكلمك كمعالجة نفسية.. بلاش إنك الست اللي أنا بحبها.. ولا حتى أم بنتي واننا اصحاب والإسطوانة البايخة دي! عارفة أنا ممكن بقيت عارف الغلط فين ومبعملوش علشان علاقاتي متبوظش معاكي انتي وكاميليا، بس لسه فيا الخبث والذكاء.. يمكن خسرت حتة التصميم اللي كنت شاطر فيها وده دليل على العلاج اللي لسه مكمل فيه لغاية دلوقتي يمكن اعجب ويمكن ارتاح!!
ازداد لهيب روحه التي تحترق بإعترافه بتلك الكلمات ولكنه تابع على كل حال لم يعد هناك شيئًا بينهما لم يصبه الإحتراق المدمر لأرواحهما:
- محاولة انتحاري دي كانت بسبب اكتئابي ويأسي إنك استحالة ترجعيلي، لما بصيت ليا وليكي وشوفتني أب فاشل جنبك وأنك قدرتي تلعبي دور الأب والأم وقولت إني ماليش لازمة.. بس لأ فيا حاجات متغيرتش.. أنا بمعارفي اللي بانيتها هنا بقالي خمستاشر سنة قدرت من غير ما كامي تعرف إني العب دور ولو بسيط في انها تقبل في كل الجامعات اللي قدمت فيها.. انتي وبنتك مثاليين اوي بس أنا مش زيكو..
اندهشت ناظرة له في صدمة شديدة وقبل أن تتحدث بكلماتها اللاذعة تابع بإنفعال:
- لسه فيا الخبث.. وآه بقول لكاميليا إني لسه بحبك وأنا اللي ورا إنك ترجعي معايا في عربية واحدة وكل مرة فتحت معاكي الموضوع بتاعنا بنسبة كبيرة كنت أنا اللي وراه، أنا يمكن متغيرتش في كل حاجة بس اللي متأكد منه إني مش هابطل احبك، بالرغم من كل مثاليتك التافهة وبالرغم من كرامتي اللي بقت لبانة في بوقك أنا مش هابطل احاول لغاية ما أموت!
نظر لها واعينه ممتلئة بالدموع ليهمس بحرقة:
- علشان يوم ما يحصل ابقى متأكد إني عملت كل حاجة ممكن اعملها!
نظرت إليه وعدم القبول قد انصهر بصحبة غضبها الحزين الذي ود الصراخ بالكثير لتقول:
- كاميليا لو عـ..
قاطعها وهو ينظر لها بقسوة محدجًا اياها بتوعد:
- مش عايز اسمع حاجة تانية منك النهاردة! زي ما قولتي كفاية.. متندمنيش إني اعترفتلك بحاجة! زي ما انتي بنتك وبتربيها بالطريقة اللي شايفاها صح فهي برضو بنتي ومن حقي اعملها اللي اقدر عليه!
بعد مرور عدة أشهر . .
وقفت مستندة بجانب باب غرفتها التي تقع بمنزلها وهي تعقد ذراعيها وبالرغم من هيئتها المتحفزة آتى صوتها ليصرخ بقلة الحيلة والإستسلام التام:
- خلاص.. مصممة متقوليش هتروحي فين!
زفرت بضيق وهي ترتدي سترة رسمية باللون الأسود ثم توجهت لترتدي حذاءًا يلامس الأرض فهي دائمًا ما شعرت بطول قامتها غير المريح وهي ترتدي كعبًا لتبدو كنخلة تسير بجانب شجيرات حولها ثم تحدثت قائلة:
- ماما أرجوكي.. أنا حاسة بحصار.. سيبوني بقى اعملكم مفاجأة ولو لمرة واحدة في حياتي!
زمت شفتاها ثم أخبرتها بهزيمة تامة:
- عندك حق.. احنا محاصرينك فعلًا! اعملي اللي انتي عايزاه يا كامي وربنا يوفقك يا حبيبتي.. بس ابقي طمنيني عليكي
شعرت بالإستياء قليلًا ثم توجهت نحوها بملامح مُعتذرة وحدثتها في هدوء:
- ماما انتي بتقولي لبابا كل حاجة.. وهو عرض عليا مليون مرة اشتغل عند كذا حد يعرفهم.. ناس كتيرة في المجال بس أنا عايزة اعمل ده لواحدي.. لو اتقبلت النهاردة هتكون فرصة حلوة اوي.. هي دي اللي أنا عايزاها وهقدر اكبر فيها مع الوقت.. أرجوكي متزعليش مني وادعيلي علشان بجد أنا هفرح اوي إذا اتعينت في الشركة دي..
ابتسمت لها بحنان ثم عانقتها واخبرتها بلين:
- ربنا يعملك اللي فيه الخير وأشوفك احسن واحدة في الدنيا يا كاميليا يا حبيبتي..
بادلتها الإبتسامة ثم تحدثت إليها بتوسل:
- روزي مش هواصيكي.. تحبسي جوزك لغاية ما اطمنك إني خلصت.. أنا مش ضمناه ده مجنون وهيجي ورايا أنا عارفاه!
عقبت بتآفف لتقول:
- طليقي!! وحاضر هاحبسه.. بس تطمنيني أول ما تخلصي!
تابعت بداخلها لتقول:
- مش اول مرة احبسه يعني!
أردفت لتقول بعد أن جمعت ما تحتاجه ثم قالت مودعة اياها:
- ماتحرمش منك يا روزي.. وليكي احلى هدية عندي بقى إذا موضوع النهاردة مشي على خير! ادعيلي كتير .. أقولك، انتي تروحي تقريلي قرآن.. سلام بقى علشان الحق ميعادي..
نظر لها بإنفعال لازمه منذ معرفة انها فعلت كل هذا دون أن تُخبره ليهتف بها بجدية:
- فيروز.. الشركة فين وبتاعت مين؟
نظرت له بتعجب ثم قالت:
- وأنت مالك يا أخي.. ما تسيب البنت في حالها تعمل اللي هي عايزاه!
زفر بضيق بينما ازدادت نبرته حدة ليقول:
- بقولك الشركة دي فين؟
ابتسمت له بسماجة ثم اجابته بنفس الإبتسماة التي لم تلمس عينيها:
- بنتك اللي شبهك مقلتش أي حاجة ولا نعرف هي فين وعملت كل ده من تحت لتحت! سيبها تعتمد على نفسها.. كفاية إنها معرفتش انها اتقبلت في الجامعة بسببك!
رفع احدى حاجباه ثم التفت ليغادر وقال بطريقه:
- ماشي.. أنا هاعرف هي فين بس ساعتها متزعليش بقى انتي وهي!
هرولت خلفه وأوقفته لتصيح به:
- استنى هنا.. ما كفاياك خنقة ليها! أنت فاكرها فيروز ولا إيه اللي هترقيها في شغلها وتتوسطلها عند الوزير! ما تعقل بقى يا شهاب وبطل تخنق البنت!
التفت لها متفقدًا اياها في اعتراض ثم تشدق بلذاعة:
- ودلوقتي انتي اللي مش بتدلعيها وبتسيبيها تعمل اللي هي عايزاه! ولا بس علشان الموضوع على مزاجك لأنك في يوم كنتي ضد الوسايط! دي بنتي زي ما هي بنتك!
زفرت في ارهاق من تصرفاته التي إذا استمر بها لن تُسفر سوى عن ردة فعل عكسية من ابنتهما فهمست به متوسلة:
- ارجوك كفاية.. كامي عنيدة وأنت عارف مبتحبش حد يفرض عليها حاجة.. بلاش تبوظ علاقتنا الحلوة اللي بتجمعنا بيها.. بلاش شغل الإستعباد ده لأن كاميليا في المجتمع اللي احنا فيه ده سهل اوي تستقل بنفسها وتبعد عني وعنك..
ابتسمت بمرارة ثم أردفت بحزن متسائلة في استكار:
- مش هتعرف تضربها ولا تعذبها وتقولها هنسافر ايطاليا وتهددها بأهلها! بلاش تخسر حبها ليك.. على الأقل استنى لغاية ما تقولنا بنفسها.. البنت ذكية وشاطرة واكيد اختارت صح! أرجوك بلاش يا شهاب عمايلك دي! الحب مش خنقة.. الحب احترام وتفاهم، استناها لما ترجع بالسلامة وابقى كلمها بهدوء!
تفقدها بتردد لوهلة قبل أن يلتفت متجهًا للخارج فأضافت هي:
- لو زعلتها ولا اتدخلت في شغلها هتبقى خسرتني وخسرتها.. فكر كويس قبل ما تعمل أي حاجة!
زفرت براحة شديدة بعد أن دخلت إلي المصعد وهي لتوها انتهت من إجراء تلك المُقابلة وبالرغم من موافقة هذا الرجل الخمسيني الوسيم على افكارها التي تتأكد انها فريدة من نوعها ولن تخطر بعقل أحد ولكن بداخلها تشعر ببعض الإرتباك!
شركة متخصصة في الخدمات منذ أكثر من اربعون عامًا فجأة تريد التوسع لتصبح شركة عقارية لو فقط تم قبولها بها ستكون فرصة هائلة للعديد من الترقيات وتولي مناصب أفضل بمرور الأعوام..
حاولت استلهام الثقة بداخلها وهي تتذك أن درحاتها وأفكارها وحتى طريقتها الرسمية التي لم يغب عنها المرح والذكاء الشديدان ستكون جميعها كفيلة لقبولها بتلك الوظيفة!
اخرجت هاتفها ثم أرسلت لوالدتها رسالة صوتية:
- ماما أنا خلصت.. الحمد لله الـ interview كان كويس وعملته مع المدير التنفيذي.. قوليلي بابا عرف ولا لسه!
قامت بإرسال هذه الرسالة ثم تفقدت المكالمات الفائتة لتجد واحدة من والدتها وخمسة عشر من والدها لتهز رأسها متنهدة، لقد علم وشعر بالإستياء! جيد للغاية!
فاقت على صوت رجولي عذب يُحدثها:
- مصرية هنا.. ده إيه الصدف الحلوة دي..
التفت لتجد رجلًا شاهق الطول بكل طولها الذي كانت تعاني منه جعلها تشعر أخيرًا وكأنها متوسطة الطول لتبتسم برسمية له بالرغم من أنها أرادت أن تُعطيه ابتسامة مخالفة تمامًا ولكنها لن تقضي حاجتها منذ الوهلة الأولى في المكان الذي تريد أن تتناول فيه الطعام وقالت له:
- مصرية بس عمري ما روحت مصر!
رفع حاجباه واخفضهما وهو ينظر لها بثاقبتيه السودويتان ورد بإبتسامة جعلتها رغمًا عنها تلتفت لجاذبيته الشديدة وتناست تمامًا ما آتت من أجله:
- ده مصر تنور.. عيلتك مولودة هنا أصلًا؟
ابتلعت وهي تحاول السيطرة على هذا الموقف واجابته بإقتضاب:
- ماما جت هنا بعد ما أهلها ماتوا وبابا درس في ايطاليا وبعدين جه هنا.. اتقابلوا صدفة وخلفوني!
أشار لها وهما يوشكا على مغادرة المصعد الذي فتح أبوابه للتو:
- ثانية واحدة لو سمحتي..
اجاب هاتفه لتزفر هي بقليل من الإرتباك ثم حاولت ألا تنظر لملامحه التي تصرخ بالجاذبية الشديدة وذقنه السوداء التي تتناغم مع شعره الفحمي اللامع لتتمتم بداخلها:
- يارب مش ناقصة عك من أولها!
استمعت له وهو يتحدث:
- يا فندم عيوني.. هو أنا عندي كام سولي وزوزا.. مسافة ما تقفل هتلاقيني قدامك في مصر.. مش بكاش ولا حاجة.. هو بس عشم على شوية ثقة.. ما خلاص بقى.. حاضر يا بابا والله الويك اند الجاي هتلاقيني عندك! بدر كويس؟! تمام.. لا هاكلمه لما اخلص شغل.. تصبح على خير..
أنهى مكالمته ثم لحقها بإحدى ابتسامته التي سلبت أنفاسها ولكنها قاومت بشدة بينما اعتذر منها قائلًا:
- معلش.. أنا عيلتي كلها في مصر ومقولكيش اموضوع إني هنا وهما هناك ده مضايق بابا ازاي..
هزت رأسها بالتفهم ولم تقول شيئًا علّ هذا الموقف ينتهي ليسألها:
- انتي كنتي مقدمة على إيه؟
تنهدت لتضيق ما بين حاجبيها وترددت قليلًا قبل اجابته ثم قالت:
- يعني أنا مهندسة لسه متخرجة.. بقدم علشان الشركة الجديدة اللي هتفتح!
همهم في تفهم وهو يضع يديه بجيبيه ليزداد طوله فجأة وازداد ارتباكها بينما تمتم لها:
- انتي مش عايزة تقوليلي تفاصيل ليه؟
هزت كتفيها بتلقائية وحمحمت لتقول:
- يعني معرفش حضرتك، وشايفة من الأفضل إني مقولش..
ابتسم بخجل امتزج بجرأة لأول مرى ترى هذا المزيج في حياتها برجل واحد ليفاجئها قائلًا:
- عمومًا انتي قبلتي خلاص..
نظرت له بوجوم وسيطر الإنزعاج على نبرتها لتخبره متسائلة برسمية:
- معلش أنا آسفة بس هو حضرتك دخلك إيه؟
ابتسم نصف ابتسامة ليجيبها:
- المدير التنفيذي للشركة الجديدة!
رفعت حاجبيها وظنت أن هذا الرجل مغرور لا محالة ويمزح معها ليس إلا لتزجره قائلة:
- حضرتك أنا عملت الـ interview مع ..
قاطعها مُكملًا كلماتها:
- خالي.. آسر الدمنهوري.. إنما أنا سيف بدر الدين.. ابن اخته..
قدم يده ليصافحها لتنظر له مليًا وبادلته المصافحة على مضض لتقول:
- كاميليا آرون! بس ازاي حضرتك عرفت إني قبلت؟ وإذا كنت أنت المدير التنفيذي ليه معملتش المقابلات؟
ابتسم لها وهو يجد أن هذه الفتاة بها مزيج غريب من أشياء لا يستطيع أن يفقه ما بها، منذ أن دخلت وهو جالسًا بالغرفة المجاورة يتابع المقابلات ووجد نفسه يريد معرفة المزيد عنها، شيئًا به يُجبره على معرفة من هي، يريد فقط الإقتراب منها لأي سببٍ كان ليجيبها بملامح متلهفة يحاول أن يخفيها:
- خالي شايف إني صُغير شوية في المجال.. فقالي اتابع من بعيد احسن من اني اقعد في المقابلات!
ضيقت عينيها متفحصة ملامحه في صمت وهي ترى جاذبيته الشديدة واستطاعت بسهولة تفسير تلك النظرات لتقول له بنبرة مُقترحة بمنتهى الجرأة ولتذهب فرصة العمل إلي الجحيم:
- طيب بص يا سيف بما إنك صغير وأنا لسه متخرجة.. ممكن ترجعوا في رأيكوا وممكن مقبلش في الوظيفة اللي متقدمة علشانها.. بس إيه رأيك نروح نشرب قهوة سوا؟!
اندهش من جرأتها الشديدة ليرفع حاجباه متعجبًا لتردف قائلة بإبتسامة جعلته يشرد بملامحها وخاصةً عينيها زمرديتي اللون:
- أو ممكن نخليه غدا.. اعتبرني بعزم مديري الجديد! أنا اعرف مكان حلو أوي ممكن نتغدا فيه!
#يُتبع . . .
الفصل القادم اقصاها على تالت يوم في رمضان لأن هيكون طويل وفيه احداث كتيرة وهيكون آخر فصل..
بعتذر بس أنا ضرسي تاعبني جدًا وملوش حل عند كل الدكاترة..
رمضان كريم..