-->

الفصل العاشر - وكر الأبالسة - Den of Devils


الفصل العاشر


❈-❈-❈

 "أنا وأخويا على ابن عمي.. وأن وابن عمي على الغريب"

مثل شعبي..

❈-❈-❈



تفقدت بعينيها ملامحه أثناء بُكائها وقد طاحت كل ما فكرت به بل واتفقت عليه مع صديقتها من عقلها وتفكيرها وتملكتها مشاعر فطرية منبعثة من فتاة بالسادسة عشر وهي لتوها تعرف أن ما فقدته لا يُمكن تعويضه، وبنفس الوقت لم تفعلها مع رجُل، لطالما لم تقبل أن تكون بعلاقة بأحد وهي طفلة صغيرة في مثل هذا العمر، كانت تظن أن تلك الفتيات المراهقات يتعجلن فقط لإعجابهن بتلك المشاعر وقوتها وأن يتواجد أحد ليهتم بهن.. 

وبالرغم من حاجتها الشديدة وقتها لتواجد من يكترث بها حقًا، هي كانت تمنع نفسها بأعجوبة أن تدخل بعلاقة، ليس لأنها لا تريد، بل لأنها تريد تلك العلاقة أن تدوم! تدوم للأبد، تستيقظ وتنام وتدرس وتعمل لاحقًا وتفعل كل شيء بالحياة مع رجل واحد فقط، يكون أمانها وشريكها بكل أوجه الحياة، وقتها لم ترغب في علاقة قصيرة المدى، لأنها وببساطة كلما نظرت حولها تجد أن العلاقات السطحية والعملية والأخرى قصيرة المدى التي تنغمسن فيها مثيلاتها من الفتيات لا تدوم، بل عذابها أكبر بكثير.. 

آلمها في الوقت الحالي كان أكبر بكثير، بعد أن ظنت أنها وجدت الرجل الوحيد الذي سيُكفيها عن الدنيا بما فيها، يتحول ليُصبح خائنًا، مُستغلًا، وبكل ما تحتويه الكلمة من معنى، هو أسوأ من تعاملت معهم يومًا ما.. أسوأ من والديها، أخيها، خالتها نفسها، وأسوأ منها هي التي ظنت أنها تملك قدرًا من الذكاء تُحسد عليه.. ببساطة لقد كانت تظنه كيانًا مثاليًا وفي النهاية ساوى صورته بنظرها بالتراب!

حاول التفكير كثيرًا بالكلمات التي ستغادر شفتاه كي ينطق بها، حسنًا، هو لم يتعرض لمثل هذا الموقف، فتاة، تهديد سيمُس سمعتها حتمًا، حتى ولو كانت هي تعيش حياة مختلفة ولن يكترث رجل بعقليات هذه الطبقة المُخملية للأمر، ولك وطأة هذه الفضيحة في المجتمع ككل لن يكون هينًا.. لا يعرف هؤلاء القوم كيف ردة فعل رجل مثله كانت حياته بأكملها مقسومة لنصفان بين حي شعبي وبين قضبان ظالمة.. أي رجل سرعان ما سيتيقن أنها كاذبة وأنها هي المُخطئة!

هو حقًا لا يستبعد ذلك، ولكن وجوده ظُلم بالسجن بعد أن حُكم عليه بقضية اختلاس لم يقم بها جعلته ينظر للبشر جميعًا بأنهم ليسوا بأكملهم ظالمين، ربما عليه التأكد قبل النظر إلي تلك التي يتشارك معها الدماء دون اختيار منه بنظرة احتقار! 

زم شفتاه وبداخله يحترق مما استمع له وبعد تلك الأنفاس التي تناولها كلما حاول التحدث صاغ سؤاله أخيرًا:

- فين التسجيل ده؟ 

منعها بصوته وملامحه عن البكاء لتتفقده بتردد ولكن إذ لم تُرهِ قد يراه بطريقة أخرى ووقتٍ آخر من خلال "ياسر" نفسه وتنبهت أنها تفعل كل ذلك في النهاية كي تكسبه في صفها فأمسكت بهاتفها الذي أرسل هذا الدنئ ما سجله لها منذ سنوات وقبل أن تناوله اياه كي تراه نظفت حلقها ثم أدركت أنها عليها أن تقص كامل ما حدث منذ سنوات قبل زواجها فتحدثت بنبرة تحمل اثار بُكائها وهي تتردد قليلًا:

- الفيديو ده.. أنا.. أنا مكونتش أعرف عنه حاجة، غير النهاردة.. دلوقتي بس فهمت اللي حصل يومها من أكتر من خمس سنين.. كنت أنا وياسر عدينا بالفترة الأولانية، اتعرفنا على بعض وقالي انه بيحبني، وفي نفس الوقت ده أنا كنت لسه رافضة سلمان بعد ما جه وصارحني انه بيحبني بس كنت بعتبره ابن خالتي عادي، كنت اتعلقت بياسر غير إن كمان طنط سوزان كانت ممكن لو حكيت لسلمان يقولها وتعرف.. وميغركش منظرها، هي بتخاف اوي على صورتنا كعيلة قدام الناس وكانت استحالة تُسكت.. وكنت في نفس الوقت لسه راجعة من برا، كنت بعمل ماجيستير.. وحسيت إني لازم اعرفه إيه اللي حصل.. أنا يمكن قاسية وفيا حاجات كتيرة اوي متعجبش الناس بس..

تنهدت بآلم وهي تتذكر ذلك اليوم تحديدًا لتهمس بنبرة مُنتحبة:

- بس استحالة اخدع أي راجل أنا بحبه.. وكنت فعلًا عايزة اتجوزه.. مفيش علاقة سليمة بين أي اتنين ويبقى فيها كدب.. ويومها هو كان عندنا في البيت، كان قاعد مع بابي.. علشان ياسر وعيلته كانوا اخر ناس عندهم فيلا جانبنا وبابي كان عايز ياخد الأرض دي ويوسع بيتنا أكتر.. وهمّ كانوا رافضين يبيعوها.. بس ياسر اقنعهم وكان بيتفق بعد كده مع بابي على الدفع والتفاصيل دي!!

ابتلعت وشردت بالأرضية ثم تابعت بصوتٍ خافت بينما هو نظر لها ومشاعره تحمل الغضب والتقزز الشديد تجاه هذا الرجل على حد سواء:

- يومها، خرج واتقابلنا وكنت اخدت قراري، يا إمّا احكيله ويُرفض أو يقبل.. وأول ما ابتديت احكي قولتله بالظبط إني كنت صُغيرة ومش فاهمة ومبقتش virgin (عذراء) بس رد فعله خوفني أوي..

ارتجفت ملامحها في محاولة منها أن تهزم هذا الشعور بالبكاء الذي يحاول محاربتها ولكنها حاولت من أجل أن تُفسر له:

- قالي متقلقيش ومتخافيش.. احنا كويسين.. بس أنا لازم امشي حالًا وبكرة هنتكلم اكتر في كل حاجة.. استغربت جدًا ساعتها بس قولت يمكن وراه حاجة، أو يمكن عايزنا نتكلم في مكان بعيد عن البيت علشان لو أتأثرت ميبنش عليا!

هزت كتفيها وانهمرت دموعها وهي تُكمل:

- بعدها لقيته تاني يوم الصبح بيكلمني ولا كأني قولتله أي حاجة واتفق معايا اننا نتقابل في اوتيل، قولت عادي أروح وفعلًا روحت ولقيته حاجزلنا table (مائدة - ترابيزة) بعيد عن الناس في ركن لوحدنا وقالي احكي.. حبيت تكوني براحتك علشان تتكلمي من غير ما حد يضايقنا ونبقى لوحدنا احسن.. بس دلوقتي فهمت انه صورلي كل ده من غير ما اخد بالي.. والفيديو اهو!

عقد حاجباه وأنفاسه تتعالى في غضبٍ شديد بينما تناول الهاتف منها في لهفة ليحدق بما يراه، لقد كان مظهر كلاهما مختلف بالفعل، يبدو أن حقًا هذا منذ سنوات، وهذا الحقير لا ينفك يُطمئنها بكلماتٍ واهية بمنتهى الخداع:

- أنا مكونتش فاهمة ان حاجة زي دي خطر أو يعني إني مبقاش virgin بسببها.. بس يا ياسر أنا مفيش حد لمسني.. مش بس علشان الناس أو أنا بفكر بالتخلف ده بس دي حاجة  special (مميزة) اوي وأنا فعلا مش بحب اعرف كل شوية واحد.. 

انهمرت دموعها في تأثر وهي تقول: 

- صدقني يا ياسر أنا عمري ما حبيت راجل غيرك، بس مش هاقدر اكدب عليك ولا اخدعك.. كان في ايدي اعمل surgery (عملية جراحية) واخبي عليك.. بس أنا مش كده.. ازاي الإنسان اللي هرتبط بيه عمري كله هاخبي عليه.. أنا يمكن كنت مش فاهمة وصغيرة وغبية بس صدقني مفيش رجل قرب مني غيرك.. وأنا بحبك.. وبجد نفسي نتجوز ونكون مبسوطين.. نفسي اللي قولتهولك ده مغيرش فكرتك وصورتك عني!

هذا كان أكثر مما يتحمله وهو يرى ضعفها الشديد وبُكائها ليُعطيها الهاتف ولم يُكمل المشاهدة حتى النهاية فكان يكفيه هذ الجزء وحده وكز أسنانه بعنف وهو يُفكر في مدى دناءة وخساسة هذا الحقير ليهتف سائلًا:

- وفين بقى الباشا راغب بيه من كل ده؟

رفعت نظرها له وقالت بتنهيدة:

- راغب ميعرفش اي حاجة من اللي بيحصل ما بيني أنا وياسر.. وأي تهديد منه لياسر أو العكس هتأثر عليه في الانتخابات وهيرفض اننا نعمل اي حاجة دلوقتي!

ابتسم هاكمًا ثم أردف بإنزعاج:

- ما طبعًا .. أهم حاجة مصلحة البيه وعادي بقى أهل بيته يولعوا.. زي ما بالظبط عمل معايا.. ايه الأخوات اللي تشرح القلب دي يارب! 

رمقته بهدوء بعد أن كفت عن البُكاء بينما سألها من جديد:

- انتي هتقوليله؟

هزت كتفيها كعلامة على عدم المعرفة واجابته سائلة بإقتضاب:

- هتفرق؟

زفر بضيق وهو يتجول أمامها مُستغرقًا في تفكيره ثم التفت ليهتف بها:

- اسمعي.. متقوليش لراغب، والكلب التاني ده قال هيكلمني كمان يومين، سيبهولي وأنا هاتصرف معاه! متعرفيهوش خالص اننا اتكلمنا!

تفقدته بإستغراب وحاولت تناسي بُكائها وكل ما تشعر به لتسأله بإقتضاب مجددًا:

- أنت هتعمل إيه؟

تفحصها لوهلة وهو بداخله يريد أن يتركها بعيدًا ليُفكر، فهو حقًا لا يدري ما الذي سيفعله فأجابها دون إعطائها إجابة محددة بنبرة مستغرقة في التفكير:

- ربنا يسهل!

توجه ليُغادر غرفتها لتتابعه هي بعينيها متعجبة بينما التفت لها وملامح الإستفسار تسيطر على وجهه بالكامل ثم استمعت لتساؤله الغريب:

- هو ازاي بعد كل سنين جوازكم دي مخلفتوش؟

ابتلعت ونظرت للأرضية في محاولة لإختيار كلماتها بحصافة فهي لا تريد أن تخسر ما وصلت إليه معه ولا تريد أن يكسبه الخائن الحقير في صفه لتحصل على النبرة المناسبة واجابته بعد تريث منها في عدم وجود أي منفعة لها بالكذب عليه بل تستطيع الحصول على مزيد من الدعم بإجابتها لو قالت الحقيقة المجردة:

- مكونتش عايزة استعجل في موضوع الأولاد، كنت دايمًا مشغولة والشغل عمال بيزيد ومسئوليته بتكبر، كان هو أولويتي.. وياسر كان دايمًا بيكلمني في الموضوع بس استحالة كنت اقدر اسيب كل حاجة على راغب لواحده بعد ما مامي ماتت وبابي تعب وسلمان ساب الشغل خالص معانا وبقى بيجي كام مرة في السنة بس، فده كان قراري اللي استحالة اتناقش فيه.. وكنت عايزة اهتم بأولادي مبقاش مشغولة عنهم بأي حاجة!

أشرأبت نحوه بحسرة وهي تهمس مضيفة بإبتسامة مقتضبة هاكمة:

- أظن شوفت اللي مامته وباباه مشغولين عنه بيحصله ايه!

أومأ لها في تفهم وقبل أن يلتفت كي يُغادر آتت "إيناس" وهي تحمل بعض الشطائر التي جهزتها بثلاث أطباق وثللاث اكواب من العصير ودخلت بملامحها الحماسية دائمًا لتقول:

- من شوية بتتخانقوا ودلوقتي نازلين رغي مع بعض!! من الواضح إن جنانكم واحد.. انتو اخوات فعلًا..

تحدثت اثناء اعطاء كلًا منهما طبقه وكوبه ثم جلست على فراش صديقتها التي تناولت ما اعطته منها على مضض ووضعته جانبًا وهتفت بها بنبرة اعتراضية:

- ايه ده؟ انتي هتاكلي على السرير؟

أومأت لها بينما "جاد" لا يزال يُحدق تلك المرأة الغريبة بعينيه ولم يبدأ حتى في تناول ما قدمته له فأومأت إلي "رفيدة" أي انها ستفعل بينما وزعت نظراتها بينهما وقالت بإستغراب:

- انتو الاتنين مكلتوش من الصبح.. اعتبروه عشا.. فيه ايه بتبوصولي كده ليه؟

رمق هو صحنه بينما اجابتها صديقتها بعفوية كالمعتاد:

- لا مش قادرة..

لم يجد مساحة ليجلس سوى بجانب اخته أو على الفراش بجانب "إيناس" فكان اختياره هو الأول بالتأكيد وجلس ليتناول ما بطبقه بشهية شديدة فهو قد نسى تمامًا تناول الطعام أو ربما فعل ونسى، لا يهُم، ولكن الطعام يبدو شهيًا وهو لن يمانع!

امتعضت ملامح "إيناس" وهي تنظر لها بلمحات مُرهقة من استمرار صديقتها لرفض الطعام ثم زجرتها بلهجة متحفزة:

- ما تاكلي بقى ومتتعبنيش.. هو لازم كل مرة تيجي تاكلي اتحايل عليكي.. وبعدين شايفة الناس اللي تفتح النِفس!

رفعت حاجبيها وهي تُشير بإتجاه "جاد" لتلتفت له أخته بغطرستها المعهودة لتجده يتناول طعامه في نهم تام وكأنه لم يتناول طعامًا منذ أيام كثيرة لتمتعض ملامحها بينما نظر هو إلي "إيناس" وحاول كتم ابتسامته التي أظهرت غمازتيه بجانب وجنتيه ولكنه فشل تمامًا وكان الحل الوحيد لديه أن يلتفت نحو أخته ثم حدثها متسائلًا بنبرة مُعترضة:

- خير يا ست رفيدة هانم، إيه ولامؤاخذة أول مرة تشوفي حد بياكل؟ وألاه، هو ايه حوار إنها بتتحايل عليكي في الأكل ده؟

وزع نظراته المتعجبة بينهما لتنهض "إيناس" بإبتسامة انتصار لتأييده لها ثم اتجهت نحوها بملامح متحفزة وسألتها بلهجة مُهددة:

- هتاكلي ولا أشوف شُغلي معاكي؟

اقتربت ممسكة بإحدى الشطائر وهي تُقربها من فمها رغمًا عنها بنظرات تحذيرية وبدأت في ارغام الطعام أمام فمها لترفع الأخرى يديها في استسلام وهتفت بها:

- خلاص حاضر حاضر هاكل!

أمسكت الطعام منها وبدأت في تناوله لتزفر صديقتها في راحة واتجهت من جديد حيث آتت وهي تُغمغم في طريقها:

- لازم تتعبونا بقى.. دول ساندوتشين مفيش غيرهم!

اتسعت ابتسامته على ما استمع له منها لتلمحه أخته بطرف عينيها في تعجب وهي تمضغ طعامها على مهل لتلك الإبتسامة والأعين المُسلطة تمامًا نحو صديقتها لتأسر هذا بينها وبين  نفسها وتابعته لتجده قد انتهى بالفعل من مكونات طبقه بسرعة وكذلك فعل بالعصير لتقلب شفتاها في تعجب ليستمع كلاهما لتلك النبرة المُعلِنة:

- أنا هاعمل شاي احبس.. حد عايز اعمله معايا؟

تطايرت نظرتها المشمئزة نحو صديقتها لتلك الطريقة التي تتحدث بها لتجيبها بشفتان مقلوبتان:

- ايه تحبسي دي يا ايناس مش كده watch your language شوية.. وبعدين ازاي شاي بعد العضير.. أنا هنام طبعًا علشان الوقت أتأخر اوي، وأصلًا مبشربش شاي لأنه مُضر! 

كان يُراقبها بحاجبان مرتفعان لغرورها الشديد بالحديث ليغمغم:

- أنا مش عارف دي عندها إيه زيادة عن البشر علشان تتنك كده على خلق الله!

ضحكت "إيناس" على ما تراه بينما التفتت له أخته لتعقب بإشمئزاز:

- بتقول حاجة؟

أومأ بالإنكار وهو يقلب عينيه هاكمًا ثم اجاب وهو ينهض:

- بقول إني هشرب شاي! 

لانت ضحكة الأخرى وهي تراقبهما، يبدو أن صديقتها وأخيها الذي دخل للتو حياة الجميع سيُمثلا لها الكثير من التسلية بالأيام القادة، خاصة وأنها بالأعوام الأخيرة ماثلت البيداء المُقفرة لا يُعبر على وجودها بالحياة سوى الملاهي الليلة، الرجال، والفضائح!

❈-❈-❈

مشى كلاهما نحو الخارج بعد أن حدثته عن رغبتها في تدخين احدى سجائرها وهي تشعر من تلك النظرات الجريئة ذات الخجل والإبتسامات المفتونة بها التي لا تنفك تتضح على وجهه بين الحين والآخر أنها تروقه! هي خبيرة للغاية بعالم الرجال.. تعلم أنه يحاول أن يُزيد من وقت بقائهما معًا بأي طريقة ممكنة.. ولكن أحدث هذا بتلك السُرعة؟! 

وضعت كوبها جانبًا كي تُشعل احدى سجائرها ونسائم الفجر تداعب شعرها ولم تغفل تلك الرياح اللينة أن تمرح بشعره الأشقر وهو يتناول من كوبه الذي صنعته منذ قليل، يبدو أن تلك العائلة بكل من فيها لم يتتعتع أحدهم عن التنازل عن هذا الجين المتوارث بالوسامة! يا لتلك الجاذبية التي يمتلكوها جميعهم، ولكن ما أختبئ خلف وجه كلًا منهم يجعلك تريد الفرار! 

كسرت تلك النظرات والصمت الذي يهب مع الهواء الشتوي ثم سألته:

- عملت إيه مع روفي؟ 

قلب شفتاه ليتنهد وملامحه تشربت بالإنزعاج لتذكيرها اياه بالأمر واجاب بإقتضاب:

- أنا هتصرف مع جوزها الكلب ده! وأهو زي ما بنقول أنا وأخويا على ابن عمي..

أومأت في صمت بإبتسامة جانبية مُقتضبة ثم ارتشفت من كوبها بالتناوب مع استنشاق سيجارتها ليطيل هو من تفحصه إياها ثم عقد حاجباه متعجبًا:

- انتي تعرفي كل ده عنها؟ أقصد من زمان؟

أومأت بالموافقة دون أن تنظر له ثم همست مُجيبة بنبرة مُرهقة:

- من أيام ما كنا في المدرسة في ثانوي.. قولتلك إنها محتاجة حد جنبها!

همهم بالتفهم وشعر بالإحراج من مجرد التحدث في الأمر، فهي حتى لو تعلم، تبقى الأخرى أخته! 

لم يجد مفرًا من الصمت وتناول المزيد من كوبه الذي بدأ في التخلص من سخونته بسبب برودة الجو حولهما ولكنه لم يشعر بالإحراج من اكتساب المزيد من النظرات إليها ليزداد تعجبه منها أكثر ليندفع بتساؤله:

- أنا بصراحة مستغربك.. هتباتي هنا، وسايبة البيت بتاعك، مش فاهم يعني ولامؤاخذة ايه المغزى من عمايلك؟ مش المفروض برضو كنتي تـ..

التفتت لتقاطعه بإبتسامة ساحرة جعلته يتوقف عن الحديث كما فعلت كلماتها:

- المغزى يا عم جاد إن الوقت أتأخر ويادوبك أنام.. تصبح على خير..

تركته دون إعطاءه أي تفسيرات، دون مبررات، ودون إجابة توضح له شيئًا.. ربما هو فضولي، أو ربما هي الغريبة لذا تدفع كل من يراها للفضول، ولكن في النهاية تحاول بكل ما لديها من قوة أن تبقى لغزًا للجميع.. هذا أفضل على كل حال، أن تبقى لُغزًا يدفع من حولها للحيرة، لأن الحقيقة البسيطة ستؤلمها وستؤلم أعين الناظرين!

❈-❈-❈

يا له من يوم ظن أنه لن ينتهي أبدًا! أخته وزوجها، "رحمة" وحديثه معها، تلك المرأة التي لا يعرف هي مثل من؟ لقد ذهبت بعقله تمامًا ولم يسعه النوم سوى ثلاثا ساعات منذ فجر اليوم! 

تلك المرأة الشيطانة التي تحدثت بالباطل عنه، ابنها الشيطان الآخر ذو الغطرسة المنيعة، عليه أن يذهب لإصطحاب "سعد" اليوم! لا يدري كيف مرت كل تلك التفاصيل بعدة ساعات فقط؟

نهض من سريره وهو يذهب لذلك الحمام المُلحق بالغرفة ليتجهز لهذا اليوم فهو لن يستطيع تحمل توتر بينه وبين "رحمة" للكثير من الأسباب، ولكن أهمها أنه لن يسعد بهذا الأمر، أن يكونا على غير وفاق لمدة.. هو لا يُحبذ ذلك، والحقيقة أنها اخته بالنهاية! 

فرغ من إرتداءه بعضًا من الملابس التي ابتاعها بالأمس هو و "إيناس" ليتذكر تعليقاتها عليها لتلين ملامحه لجزء من الثانية ثم توجه لينتظر خروج "رحمة" من غرفتها بفارغ الصبر ليتجول بخطوات متعجلة أمام غرفتها إلي أن ظهرت لترمقه هي بنظرات منزعجة وسرعان ما انفعلت بسؤالها وهو يتفقدها بنظراتٍ نادمة:

- افندم، عايز إيه؟

عقد ذراعيها في تحفز وهي تنتظر لسماعها الإجابة بينما وجد أن هذا الغضب مبالغ به قليلًا ولكنه حاول أن يدفع ببعض المرح وهو يقول:

- ما تقولي صباح الخير كده ولا أي حاجة عِدلة، مش هيبقى انتي والعالم الأبالسة اللي في البيت ده، خِفي على أخوكي شوية يعني مش كده! 

رمقته بإشمئزاز بطرف عينيها ولم تتقبل لا إبتسامته ولا كلماته وتوجهت لتغادره فأوقفها بنبرته المتعجبه وصوته ذو التردد المرتفع دائمًا:

- ألاه ولامؤاخذة هو إيه المغزى؟ ما خلاص يا رحمة!

التفتت له بملامح ممتزجة بين الغضب والحُزن بل والإحتقار فهي لا تزال تتذكر تلك المرأة التي غادرت غرفته في وقتٍ متأخر من الليل لتزجره بلوم:

- هو إيه اللي خلاص! أنت بتستعبط يا جاد.. عايزني بين يوم وليلة ارجع رحمة الجدعة اللي ضحكتها منورة وشها وهي بتبصلك بعد ما عرفت إنك بتستغل اللي حاسة بيه ليك.. تعرف إيه أسوأ حاجة، إن واحدة يبقى عندها أمل في واحد وهو ببجاحة يعلقها وبعدين يجي يِهد كل أملها فيه!

رمقها بملامح غاضبة وهو يزُم شفتاه وعينيه اتسعت بمُعاتبة غير منطوقة لترمقه بحسرة وهي على مشارف البكاء ثم اتجهت لتغادره من جديد فأوقفها مجددًا بعد أن آخذ خطوة نحوها كي يقترب منها وقال بجدية:

- وهو بذمتك، ورحمة ابوكي وأمك اللي ربوني ووقفوا جانبي، لو كنت من ساعة ما فهمت قولتلك يا رحمة انتي اختي كنتي ساعدتيني ولا وقفتي جانبي؟ ولا كنتي هتاخدي في وشك وهتعامليني بقرف لغاية بقى يا عالم هتفُكيها معايا امتى! اديكي اهو شوفي بتعملي دلوقتي، لو كنت لسه مسجون وعملت معاكي كده وكنت حقاني معاكي، كنتي هتعمليلي أي حاجة أصلًا؟

التفتت نحوه بمقلتين توارتا خلف عبراتها المكتومة ليُردف بالمزيد في منتهى اليقين ونبرته آتت صادقة بما يحمله لها من مشاعر:

- انتي اختي، وهتفضلي اختي، ولو عايزاني اترجاكي كل يوم علشان نرجع كويسين مع بعض هاعملها، بس أنا وانتي عارفين كويس إن لو اللي قولتهولك امبارح كنت قولته قبل كده كنتي هتبعدي عني ومش هلاقي اللي يساعدني! 

ازداد حُزنها وهي تستمع لتلك الكلمات واندفعت آخذة خطواتها كي تغادر متنقلة للأسفل عبر تلك الطوابق وحاولت التركيز بالطريق أمامها للخارج وهي بالكاد ترى إلي أين تتجه قدميها وانسابت دموعها من جديد مثل الليلة الماضية التي لم تكف بها عن البُكاء ولم تكترث أنه ناداها لأكثر من مرة ولم يُشفق عليها حظها اللعين بإرتطامها من جديد بنفس هذا المتغطرس!

انزعجت ملامح "سلمان" لإرتطامها به من جديد ثم تحدث بنفس طريقته التي يبدو وأنها قد وُلدَت معه وليست فقط مُكتسبة:

- بقولك إيه، أنا مش كل ما امشي في البيت الاقيكي قدامي!

رفعت وجهها له بغضب شديد تحاول كظمه خلال أنفاسها وهي تنظر له بين تلك الدموع المنهمرة على وجهها لينظر لها بتعجب وكاد أن يسألها ما الذي يدفعها للبكاء وسرعان ما تذكر أنها كانت تبكي بالأمس كذلك وهو يودع خطيبته ولكنها سبقته وصاحت به:

- يا أخي بقى ارحمني.. قال يعني أنا اللي عايزة اتصبح واتمسى بخِلقتك العِكرة! حِل عني ده أنت مُقرف! أنا ناقصة أصلًا مشاكل لما اروح للمشاكل برجليا!

اتخذت اتجاهًا غير الذي يقف به كي تستطيع المغادرة ليجذبها من يدها موقفًا اياها بجرأة وهو يُحدثها بلذاعة وغرور:

- بقى انتي بتقولي لسلمان عدلي يكن كده؟ انتي اتجننتي ولا إيه؟!

لم يترك لها الفرصة أن يندفع لسانها المسموم الذي كلما شاءت الأقدار أن يتلاقيا وهو لا يتوقف عن إطلاق الكلمات المُزعجة وتابع بلهجة مُهددة:

- بقى انتي.. شغالة في البيت ده عندنا وتيجي تتكلمي معايا بالإسلوب ده! وكل شوية الاقيكي ماشية في البيت بتتصنتي علينا!

اتسعت عيناها وقد استطاعت كلماته دون إدراك منه أو منها أن توقفها عن البُكاء لتصيح به بصوتٍ مرتفع:

- مين دي اللي بتتصنت! ولا مين دي اللي شغالة عندك.. لا تتعدل في الكلام واوعى ايدك دي لأقطعهالك..

سرعان ما جذبها لغرفته التي كانت على بعد خطوتان منهما فهو لن يتقبل أبدًا أن يُشاهد من قِبَل الجميع وهو يتجادل مع مجرد عاملة بمنزله ودفع باب الغُرفة ليُغلق، ولو أن هذه ليست الطريقة التي يتبعها مع النساء ولكن سليطة اللسان تلك لم تترك له حلًا آخر!

صاحت به بمجرد دخولها غرفته:

- أنت مجنون أنت ولا متخلف انت ازاي تشدني كده.. إيه بقرة وبتجرها.. ما تخلي عندك دم ولا هو أنت دايمًا بِجح كده مع الكل!

اتسعت عينيه وهو ينظر لها وقد تملكه المزيد من الغضب بينما سألها بأنفاس لاهثة:

- بقى انتي بتقوليلي بجح! أنتي عارفة انتي بتكلمي مين؟ هو علشان مرضتش أؤذي واحدة شغالة في بيتنا من الأول يبقى تتكلمي بأسلوبك ده! 

ارتفع احدى حاجباها في اعتراض وكادت أن تتكلم بينما لاحقها بسؤال:

- وبعدين تعالي هنا، انتي ايه اللي مقعدك في البيت ده لغاية دلوقت بعد ما أنور بيه مات؟ إيه اللي مخليكي هنا وكمان بتتصنتي على غيرك! 

وضع يديه بجيبيه وهو يتفحصها في تعالى لاذع لا يليق سوى به لتندفع هي مُجيبة بتلقائية:

- مين دي اللي بتشتغل.. ما هو اللي أنت متعرفهوش إني ضيفة في البيت ده وجاد يبقى اخويا!

أدركت ما انطلق من لسانها دون تركيز منها لتتوقف من تلقاء نفسها عن الحديث بينما بدأت ملامح الإدراك في السيطرة عليه ولكنها لم تنس ما رآته ليلة أمس لتعود من جديد لإندفاعها الهاكم:

- وبعدين مين دي اللي تتصنت! هتصنت على إيه؟ على وساختك وقلة أدبك وأنت بتتلزق في الستات الشِمال؟!

للتو كان قد بدأ في ايجاده للهدوء اللحظي ولكن تلك الفتاة تصيبه بالجنون بفعل كلماتها ليهمس بين أسنانه المُطبقة بنبرة اخافتها لن تُكر هذا:

- وساختي وقلة أدبي وستات شِمال! طب اتفضلي امشي اطلعي برا! أنا هاخرجك من هنا واستحالة رجليكي تاخد خطوة تاني جوا البيت ده! 

امتعضت ملامحها وهي لا تتقبل غطرسته وثقته الزائدة لتشيه بيدها وارتفعت احدى شفتاها وهي تحاكيه:

- يا اخويا بلا نيلة، قال يعني الجنة ونعيمها.. سايبهالك من نفسي مخضرة.. ابقى اشبع بحيطان البيت جتك وكسة!

اندهش أكثر بينما توجهت هي للخارج وبداخلها غضب جم من مواجهة هذا الكريه ذو الأنفة والرياء الشديدان وتعجلت بخطواتها للخارج واتجهت صوب البوابة لتغادر فوجدت من جديد "جاد" ينتظرها لتلعن بداخلها، لم يمر ساعة واحدة منذ استيقاظها وها هي تُلاقى بوجه رجُلان لا يختلف احدهما عن الآخر لتصرخ به:

- ما خلصنا بقى.. هو انت هتفضل تطلعلي كل ساعة والتانية! 

أطرق برأسه لأحدى الجوانب وهو يتفقدها بحزن ولكن هدر صوته:

- ما تلمي الدور يا رحمة يا بنت عطا الله! هو يعني ما طول عمرنا متربين اخوات، وأنا لما احتاج اختي تساعدني اعمل ايه يعني؟ 

زم شفتاه في غضب بينما نظرت هي له وكأنما النيران تجري بعروقها وليست الدماء ولكنه أردف:

- سعد خارج النهاردة.. عايزاه بعد السنين دي كلها يخرج يلاقينا ماسكين في بعض علشان خاطر انتي بتبصيلي بصة الحَبِيب ونسيتي في يوم وليلة إن اخوكي اللي ابوكي رباني!

لم تعد تتحمل ذلك الغيظ بداخلها لتصرخ به ولم تكترث إذا كان هناك من يستمع أم لا فهما بالقرب من البوابة الخارجية المحاطة بأفراد الأمن وأي سيارة لا تمر سوى عبر هذه البوابة:

- يا سيدي بقى خلاص.. خلصنا.. أنا البنت الهبلة المجنونة اللي فهمتك غلط ومكونتش هبقى جدعة غير لما تضحك عليا.. أنا ستين غلطانة إني وثقت فيك وانت كنت بتستغلني.. خلاص! أنا المتخلفة اللي بتفهم غلط وبتبص لحاجة هي مش قدها.. لامؤاخذة يا جاد بيه، من هنا ورايح رحمة اللي طول عمرها اختك بنت عطا الله اللي رباك مش هتقرفك تاني..

وجدت دموعها تنهمر وقد لفتت بعض الأنظار بالفعل ولكنها لم تر وظل هو ناظرًا لها بحزن اختلط بالغضب ولم يلحظ أي منهما ذلك الذي أوشك على الإنفجار غضبًا منذ قليل ولولا أن هناك الكثير من العمل ينتظره لكان بطش بكل من بهذا المنزل وكنه توقف بسيارته على صوت صراخها واستمع لتلك الكلمات التي تحدث بها ذلك الفتى الذي لم ينس بعد حديثه مع والدته ليلة أمس ثم لم يستمع لهمسها وهي تقول:

- ولو على سعد متقلقش.. أنا بنت أصول زي ما أبويا رباني.. مش هيعرف حاجة وأنا وأنت قدامه اخوات زي ما احنا.. بس علله أنت متتسحبش من لسانك وتبعبعله باللي حصل!

رمقته في احتقار ثم توجهت للخارج وتبعها "سلمان" بسيارته عبر البوابة الرئيسية للمنزل ولوهلة فكر في تلك الكلمات التي سمعها وأخذ عقله يُترجم الآن بُكائها الذي رآه صباح اليوم وليلة أمسٍ بالمرأب ليقرر أن يستغل تلك الكلمات التي استمع لها لمصلحته كي يُبعد تلك سليطة اللسان عن منزلهم هي وذلك المُسمى بـ "جاد" بآن واحد!

❈-❈-❈

وضعت بفرشاة أحمر الخدود اللمسات الأخيرة على وجنتها بينما هو لا يزال يُناديها ويحاول التحدث لها دون أن تُجيبه ولا ينفك عن متابعته لها أثناء ذلك الوقت الذي كانت ترتدي به ملابسها ليهتف بها من جديد:

- مش ناوية تقولي يا نانسي محضرة شنطتك ورايحة على فين؟

تنهدت وهو تطأطأ برأسها للأسفل ثم تركت الفرشاة مُلقية اياها بإنزعاج ثم رفعت نظرها له واجابته أخيرًا:

- غريبة! النهاردة بالذات عايز تعرف أنا محضرة شنطتي ورايحة فين؟ ما أنا كنت كل يوم في مكان بعمل اللي بعمله وأنت معندكش فكرة أنا فين ولا بعمل إيه ولا حتى مع مين! اعتبره زيه زي أي يوم عادي..

نهضت ثم توجهت حيث رُصت احذيتها الأنثوية للغاية وتناولت زوجًا منهم لترتديه برقتها المعهودة ولم تلق بالًا له ليستشيط هو غضبًا ثم صاح بها:

- نانسي، أنا من امبارح وأنا عمال اعتذرلك واللي حصل كان غصب عـ..

التفتت وهي تقاطعه بملامح مُندهشة لتُفجعه بكلماتها التي تكلمت بها بمنتهى الهدوء:

- اللي حصل ده مش مستنية بعده اعتذار.. أنا مستنية بعده إنفصال!!

اختلفت ملامحه وهو يقع في صدمته الشديدة بسماعه لتلك الكلمات التي غادرت شفتاها لتُردف عاقدة ذراعيها بإبتسامة متحسرة:

- بس متقلقش.. بعد الإنتخابات طبعًا نقدر نبدأ في الموضوع، أنا عارفة إنك مشغول ومش عايزة اعملك مشاكل.. 

اتجهت لتغادر الغرفة تحت نظراته المصدومة وكادت أن تجهش هي بالبُكاء ولكنها تمالكت نفسها فيكفي ليلة أمس التي لم تغادر دموعها كلتا وجنتيها ولكنها قد حسمت أمرها لن تقبل بالمزيد من التُراهات بحياتها بعد الآن..

توجهت للأسفل وأخبرت احدى العاملين أن يحضر حقيبتها من غرفتها لتُلاقيها والدتها بإبتسامتها الدبلوماسية المعهودة ولكنها لا تريد أكثر من أن تبتعد عن والدتها الآن وإلا فهي لا تضمن أي كلمة قد تُغادر شفتاها في مثل الحالة التي تحاول أن تواجهها منذ ليلة أمس.. ولكن لتحاول البدأ وسترى ما ستُلاقيه فلقد اكتفت منها ومن زوجها ومن هذه الحياة البائسة!

زفرت تلك الزفرة المصحوبة بصوت ينُم عن السعادة الزائفة وهي تقول بإبتسامة:

- بونجور يا نانسي يا حبيبتي.. متعرفيش سلمان هيفطر معانا النهاردة ولا لأ؟

حسنًا.. هي تحفظ هذه التساؤلات الصباحية عن ظهر قلب، في هذه اللحظة تسألها عن أخيها، ومن ثم ستسألها عن المزيد من اخبار الجميع.. من سيتناول الطعام على تلك المائدة التي يجلس عليها عائلة كل من بها لا يكترث للآخر، من سيذهب لعمله، من سيفعل أي لعنة.. ولكن يكفي.. يكفي محاولاتها التي لا تكل ولا تمل في جعلها مجرد إمرأة فضولية تُشبهها! فهي لن تكون مثلها أبدًا..

رطبت شفتاها ثم اجابت بنبرة حازمة:

- معرفش.. شوفيه انتي يا مامي..

اختلفت ملامحها وهي تتفقد حال ابنتها ولهجتها الشرسة التي لم تعتدها منها أبدًا بينما تفاجئت عندما استمعت لأحدى العاملات بعد أن دنت بالقرب من كلتاهما:

- مدام نانسي الشنطة في العربية والسواق مستني، حضرتك محتاجة حاجة تانية؟

أومأت لها بالنهي وإبتسامة مقتضبة وقالت:

- مُتشكرة!

ضيقت والدتها ما بين حاجبيها في تعجب وسألتها:

- رايحة فين يا نانسي الصبح كده؟

التفتت نحوها بإبتسامة مغتاظة ثم اجابتها قائلة:

- رايحة مكان ما رايحة..

تباعدت شفتاها لتضع يدها عليها بينما أردفت ابنتها:

- عادي يا مامي، اعتبريني سلمان! ما هو بيروح وبيجي من غير ما بتسأليه!

كادت والدتها أن تصيح بها ولكن ما جعل كلتاهما تهرعا للخارج هو صوت "سيلا" الصارخ لتتجمدا بمكانهما عندما وقعت اعينهما عليها وهي تُقذف في الهواء للأعلى مرات ومرات لتسقط بين يدي "جاد" وأكملت الصغيرة صراخها الضاحك في سعادة لم ترها والدتها أبدًا تعتلي وجهها لتبتسم بفرحة لرؤية ابنتها تمرح أخيرًا كالأطفال بمثل عمرها بينما تشنج جسد جدتها بالغضب لتلك السوقية التي تراها! 

اتجهت نحوهما لتنهاه عما يفعله مع حفيدتها لتقول بنبرة حادة:

- أنت ازاي تعمل كده مع البنت.. حالًا تبطلوا اللي أنـ..

سرعان ما تدخلت "نانسي" بعد أن آتت من خلفها كالرصاصة التي غادرت فوهة السلاح للتو وصاحت مُقاطعة اياها أمام الجميع:

- سيبي البنت تلعب مع عمها براحتها.. مالكيش دعوة بيها! دي بنتي وأنا اقول تعمل إيه ومتعملش ايه!

التفتت لها بصدمة من تلك الإهانة التي لم تتعرض لها يومًا لتلتفت لها الأخرى بشراسة ضارية لم تكن عليها يومًا ما بينما فجأة ابتلع الجميع فهذه هي المرة الأولى التي تتحدث "نانسي" إلي والدتها بمثل هذه الطريقة، وأخيرًا هناك من سيتصدى لتلك المرأة الآمرة التي لا تتوقف عن إزعاج الجميع!


يُتبع..