-->

الفصل الثاني عشر - وكر الأبالسة - Den of Devils

 



 الفصل الثاني عشر 


❈-❈-❈


"شجاعة بـلا حذر .. حصان اعـمى "

مثل فارسي


❈-❈-❈


حمحم مُنظفًا حلقه بعد عدة لحظات تذكر فيها أول مرة وبل وآخر مرة يشعر بالعشق في حياته بأكملها.. هو لا يُريد إيذاء هذه الفتاة، هو فقط كان يُريد التخلص من شخصان لا يعرفهما قد آتيا لمنزلهم بين ليلة وضحاها.. 


نهى نفسه عن ظلمها، ولكن هذا المسمى بـ "جاد" لا يروقه ولا يُعجبه طريقته الرجعية في الحديث ونطقه لكلمات لا تليق بخلفيتهم الإجتماعية، كلًا من "رُفيدة" و "راغب" عليهما التدخل بأي حل لإصلاح هذا الوضع الغريب.. إمّا بإعطاءه دروسًا تُعلمه كيف يتناقش ويتعامل معهم بما يليق وإما بإقصاءه من منزلهم!


لا يستطيع أبدًا السماح بالفرصة لإختلاطهما على مرآى ومسمع من الجميع، ولكن حتى لو أنه لا يريد إلحاق الأذى بأحد، لن تنجح البداية لرجل مثل "جاد"  وهو لا يزال يختلط بطبقة أقل منه ويتحدث مع أُناس من ماضيه!


التفت مُحاولًا أن يتمالك مشاعر ندمه على الوقوع في العشق من الأساس التي جعلته يلين تجاهها وتفقدها بملامح جامدة وهو يضع يديه بجيبيه في شموخ هائل وتعجرف تلقائي اعتاد عليه رغمًا عنه بعد ثماني وثلاثون عامًا في الحياة ليتحدث بنبرة آمرة:

- اسمعي.. أنا ولا هؤذيكي ولا هؤذيه.. كل اللي عايزه إني مشوفكيش في البيت ده ابدًا.. يا إما هيكون ليا تصرف تاني خالص وحتى رُفيدة وراغب نفسهم هيتدخلوا وهيقفوا في صفي وهيتطرد من كل اللي عايش فيه! 


رفعت حاجبيها مدهوشة بما تستمع له وكالعادة انطلق لسانها مُندفعًا دون تروي منها:

- يا جدع أنت متعصبنيش.. أنت أهبل ولا شكلك كده، ما قولت مش داخلة البيت ده تاني ولا عايزاه بكل اللي فيه، سيبني في حالي بقى وخليني امشي اشوف دُنيتي بعيد عن خلقتك! 


أخذ خطوات في اتجاهها بعد أن شعر أن هذه الفتاة الوحيدة التي استطاعت أن تُغضبه بمثل تلك الطريقة لتتوسع عينيها في ارتقاب وهي تبتعد عنه وتأهبت لأي حركة منه يأخذها نحوها ليصيح بها:

- انتي شكلك متعلمتش الأدب ولا ازاي تتكلمي مع الناس.. بس أنا هخليكي تندمي كويس إنك اتكلمتي كده معايا


تباعدت شفتاها وهي تتفقده بإستهجان ثم ردت بسخرية مُعقبة على كلماته:

- حوش يا أخويا الأدب اللي نازل ينقط منك.. عالم بتتنك على خلق الله مش عارفة على ايه يعني عندهم ايد ولا رجل زيادة، روح بص لبيتكو ده كله، لابسين عريان وأنت بتتلزق في واحدة وأمك اللي مش سايبة حد في حاله.. شوف مين بيتكلم صحيح!


مصمصت شفتاها وهي تنظر له بتعجرف مساوٍ لخاصته بينما تجمد في مكانه لوهلة محاولًا استيعاب كلماتها ليتحدث إليها غاضبًا:

- بقى أنا بتلزق في واحدة؟ ليه بتحرش بواحدة بالإجبار ولا ..


توقف من تلقاء نفسه عن الكلام بل وعن الإقتراب منها عندما وجد أنه يبرر لها أفعاله ليتراجع عن ما أوشك على قوله ليستهجن منها:

- ما طبعًا واحدة جاية من تحت خط الفقر زيك مش هتقدر تفهمنا، رجعية ومتخلفة فعلًا!


امتعضت ملامحها في استنكار قالبة عينيها ثم تفوهت بمحاكاة وكأن هو من يتحدث:

- رجعية ومتخلفة وخط الفقر!!


اعتدلت بوقفتها وهي تشد من عقدة ذراعيها أمامه صدرها ثم صاحت به:

- وهو الفقر ماله؟ كان عيب؟ الرجعية والتخلف اللي بتتكلم عنهم دول هم اللي بيعملوا كرامة للإنسان مش اروح اتشعلق في رقبة واحد واسيبه يحسس على جسمي ولا ألبس عريان واسيب الناس تتفرج عليا.. يا عم بلاش قرف حياة وبيت كلهم غلط في غلط وجاي تقولي متجيش عندنا تاني.. قال يعني هادخل الجنة بلا وكسة! ده أنت اللي كنت ماسكها ونازل فيها تلزيق امبارح لو كانت متربية مكنتش سمحتلك تقرب منها.. فين بقى الأدب؟ وأنت لو كنت راجل محترم مكونتش عملت معاها كده!  


يبدو حقًا أن هناك الكثير من السنوات الضوئية بين خلفيات كلًا منهما الإجتماعية، ولكن هذه الفتاة كل كلمة تقولها تدفعه للغضب بشكل غير مسبوق فأقترب آخذًا خطوات نحوها ثم صاح بها:

- اسمعي يا متخلفة انتي، كلامك ده كله غلط، مش معنى إن الواحدة العاقلة تاخد قرارتها بنفسها يبقى ليها علاقة بالأدب، الهدوم اللي بتتلبس ملهاش علاقة بالأدب وكل واحد حر، هيفرق ايه شكل هدومك وانتي عقلك كله متخلف أصلًا.. وانتي مين انتي علشان تقولي راجل محترم.. ايه شوفتيني بجبر واحدة على حاجة مش عايزاها؟ لو كان اسلوبك في الكلام فيه شوية عقل مكونتش اضطريت اعاملك بالطريقة دي! 


ابتلعت بإرتباك عندما وجدته قد أصبح قريبًا للغاية ونظرت حولها مُتفقدة طريق فرارها وتحدثت لتُنهي هذا النزاع بأي طريقة:

- متحورش الكلام ومليش دعوة محترم ولا مش محترم فهو لنفسك.. بيتك ومش هادخله، وجاد اقسم بالله لو جيت جانبه ما هسيبك يا سلمان يا يكن وهافضحك فضيحة ملهاش أول ولا آخر.. سيبني امشي بقى.. هات تليفوني وخللي كل واحد يتكل على الله!


نظر لها بتقزز وغطرسته المُشمئزة من كلماتها لا تنفك تتعالى على ملامحه وأدرك أنه أخطأ للغاية عندما فكر بكل هذا الأمر وأن ما فعله كان تافهًا وربما كان عليه التصرف دون أن يتحدث مع هذه العقلية الغبية ليبتعد عنها وهو يُشير بيده:

- امشي..


التفت هو في اتجاه الباب كي يُغادر بينما قلبت عينيها وهي تغمغم:

- اللهم طولك يا روح!


تبعته لتصرخ به:

- ما تجيبلي تليفوني وأنا اغور من هنا.. أنت باينك غبي ومبتفهمش عربي و..


التفت مقتربًا منها وأمسك بذراعها ليهدر بغضب:

- ما تتلمي وتحترمي نفسك! هتتزفتي ازاي تطلعي من هنا وهو مفيش أي مواصلات! ما تبطلي غباء بقى.. ادي الزفت موبايلك وهرميكي في الطريق أي مصيبة زي ما جبتك! اياكي اسمع منك كلمة لغاية ما اخلص منك! كل ده كلام وصوت عالي علشان كل اللي عايزه اتكلم معاكي! ولا انتي لازم تتؤذي علشان تحترمي نفسك معايا؟


ابتلعت بتوتر وهي تنظر لملامحه وأنفاسه الغاضبة باتت تشعر بإنعكاسها لتجذب ذراعها من قبضته ثم تناولت هاتفها منه عنما القاه إليها ليصطدم بجسدها وتفقدت ما تراه لتشعر أن هذا الرجل مُرعبًا وربما عليها الصمت حتى تتخلص منه وتفقدته وهو يُلقيها بنظرة مشمئزة أخيرة وبعدها اتجه نحو الباب لتتبعه في صمت وهي تلعن بداخلها ذلك اليوم الذي رآت به وجهه!


❈-❈-❈



فرغ "سعد" من تبديل ملابسه وهو بداخله يحاول أن يُقنع نفسه بالتريث من أجل معرفة ما يدور بعقل "جاد" فهو أكثر من يعرفه ويعلم جيدًا أن إندفاعه وتهوره قد يلقوا به للتهلكة دون أن يلاحظ أفعاله! 


قرر بداخله أن يوافق أولًا على كل ما يقوله، بالرغم من أنه ليس بالدراية الكافية وليس لديه سوى خبرة قليلة للغاية تلقاها يومًا ما بأحدى مكاتب المُحاسبة أثناء دراسته الجامعية التي لم تكتمل بسبب سجنه ولكنه فقط يريد رؤية أخته وأخيه، هو لا يطمئن أبدًا لهم.. 


إندفاعه سريعًا في مساعدتهم ظنًا منه أنه يكسبهما لصفه لا يجده منطقيًا ولا يظن أن سيُسفر له عن شيء في النهاية.. فلو كان أخيه أو حتى أخته يكترثا لما كانا بادرا بمعاملتهم السيئة له في البداية.. وهما في النهاية أبناء ذلك الرجل الظالم الذي لا يزال يتذكره إلي الآن بملامحه المتعجرفة وهو يهدده بالخلاص منه! لا يزال يتذكر ما حدث من سنوات عديدة وكأنه البارحة.. يبدو أنهما لا يختلفا عنه في شيء! وود "جاد" معهما لن يُلحقه سوى بالأذى!


فكر فيما قصه عليه بشأن أخته، مروءته بداخله ستجعله يُساعد أي إمرأة حدث لها مثل ما حدث لأخته ولكن هو لا يضمن بعد تنفيذ هذه الخطة المجنونة التي فكر بها "جاد" حتى يفرغ أخيه من إنهاء انتخابات مجلس النواب، هل بعدها لن يتعرض للأذى على يديهما؟ 


عليه الإنتظار، فعناده الذي يعرفه منذ أن كان طفلًا صغيرًا لن يتغير، ولا إندفاعه وتهوره، ولكن ربما عليه الترقب حتى يستطيع أن يقنعه بالإبتعاد عنهما بعد أن نال كل أمواله وحقه وكل ما يُريده.. وهو في النهاية ليس بحاجة للإقتراب من هذه العائلة ويكفي ما حدث منذ سنوات من والدهم الظالم وهما ليسا في حاجة أن يُصعبا الأمر على حياتهما بعد الآن!


- ما يالا يا سعد باشا! ورانا مصايب يا اخويا..


استمع لصوته من خارج غرفة تبديل الملابس، فلقد فعل معه مثل ما فعلت "إيناس" يوم أمس.. وهذه الفتاة هي الأخرى لا يشعر بالراحة تجاهها من تلك الكلمات التي تحدث بها عنها.. 


تنهد ليخرج وهو ينظر له شاعرًا بإختلاف ملامحه كثيرًا وبداخله لا يوافق على كل ما يحدث ولكنه ينتظر فقط إمساك الخيط لإقناعه بالإبتعاد عن هذا العالم بكل ما فيه فهو لا يُناسبهما!


اتسعت ابتسامته ناظرًا له ثم أطرى على مظهره قائلًا:

- ورب الكعبة بيه ابن بيه وحاجة آخر الاجة!


أطلق ضحكة خافتة بسخرية وعقب بإقتضاب:

- ماشي يا أخويا.. خلينا نشوف اخرتها معاك!


توجه كلاهما للخارج بعد أن قاما بدفع تلك لكل تلك المتعلقات الجديدة التي ابتاعها إلي "سعد" وبداخله يشعر بالغضاضة تجاه كل ما يفعله معه فحدثه مؤكدًا مرة أخرى على كلماته:

- جاد، خد بالك.. أنا يمكن معرفش حاجات كتيرة في الحسابات والدنيا اختلفت عن زمان.. متتخيلش اني وحش الكون يعني وهاعرف ادخل في كل كبيرة وصغيرة وهاعرف كل حاجة..


رمقه مُضيقًا عينيه نحوه ونظر له نظرة تحمل بطياتها الكثير من الكلمات غير المنطوقة ثم حدثه بنبرة خبيثة:

- عليا أنا.. هو ولامؤاخذة الدحيح اللي جواك اللي مكنش بيسيب الكتب من ايده السنين اللي فاتت دي هيجي يصيع عليا بالكلمتين دول!!


زفر بضيق وهو يعقد حاجباه بينما تحدث رافضًا:

- الكتب حاجة والدخول في وسط تفاصيل كتيرة حاجة تانية.. وبعدين يا جاد خد فلوسك منهم وروح افتحلك مشروع ومش ناقصة خناق على الفاضي! 


زم شفتاه غاضبًا كما انفعلت ملامحه وتسائل بلهجة شديدة الإنزعاج:

- وأنا ليه ميبقاش ليا زي اللي ليهم؟ ليه كل الشركات دي بدل ما ابيع نصيبي مكسبش منها؟ وليه احرم نفسي من الحياة اللي كانت من حقي من زمان؟


تبادلا النظرات لوهلة ليتصاعد غضب أحدهما بينما الآخر أدرك أنه لا يريد التنازل عن الأمر فقال الأول:

- اسمع يا سعد يا أخويا.. لو مش عايزني اضايقك يبقى خلاص سيبني اكمل لواحدي وانا هتصرف!


تنهد وهو يومأ له ثم همس معقبًا:

- اسيبك ازاي بس بفتحة صدرك على كل حاجة كده.. اديني معاك لما اشوف اخرتها يا جاد.. 


هدأت ملامحه قليلًا بينما توجه نحو السيارة ليتبعه بملامح معترضة ثم هتف به متسائلًا قبل أن يدخل أي منهما السيارة:

- أنت لسه مصمم على اللي عايز تعمله مع جوز أختك؟


التفت له رافعًا حاجباه ثم اجابه:

- مظنش فيه حل تاني غير اننا نلمه لغاية ما انتخابات راغب تخلص.. وبعدها نشوف ناخد الفيديو ده منه ازاي ولا نمشي بإجراء قانوني معاه علشان متحصلهاش فضيحة! عندك حل تاني غير ده؟


تنهد وهو يتفقده بملامح رافضة بينما اجابه:

- انا مكونتش عايز رحمة تدخل في الحوار.. ولا عايزها تقعد في بيت ناس غريبة!


شعر بالإمتعاض مما استمع له وحاول مرة اخرى أن يُقنعه:

- يا عم ده مش هتعمل حاجة غير هتجبلنا بس اي اسم حاجة نطفحاله تدوخه، وبعدين دول يومين تلاتة يا سعد.. وهو البيت ده يعني فاكره اوضة وصالة، وأنا هبقى معاها وهي بتروح شغلها مجتش على الساعتين اللي هتقضيهم في البيت.. وكلها بس اسبوع افوق من الكلام ده ونروح نشوفلنا حتة حلوة نقعد فيها! وراغب يمكن ينفعنا في الحوار ده.. لازم نحافظ عليه!


هو ببساطة لا يقبل، إن كانت هي أمواله فهو لن يقبل أن يدعه يتحكم بحياته وحياة أخته، وبنفس الوقت هو يشعر بالخوف الشديد عليه من كل ما يفعله، هو فقط لا يدري ما هو مُقبل عليه.. وفي خضم كل ما يمر هو يريد إمساك طرف الخيط الذي سيجبره بمنتهى المنطق أن يبتعد ويتوقف عن التفكير في كل ما يمر به! 


قرر ترك رفضه جانبًا الذي سيوضحه له عما قريب ثم عقب على كلماته بإقتضاب:

- ربك يسهلها! 


تنهد بينما أخبره:

- يالا علشان ضيعنا وقت بما فيه الكفاية..


اتجه كلاهما للسيارة التي انطلق سائقها ليصلا إلي مقر الشركات الرئيسي وكل منهما بداخل رأسه دوامة من الأفكار.. "سعد" يرى أن أخيه لا يريد التعقل أبدًا.. بينما "جاد" يرى أن أخيه لا يزال يعامله كطفل صغير!! ويبدو أن هذا الأمر لن يتغير ولن يختلف طوال حياتهما.. 


مهما مرت السنوات هناك أمور لا تتغير، لا تتغير الطباع، ولا تتغير الشخصيات ولا حتى تتغير المعتقدات التي يعتنقها البشر! 


وصلا ليترجل كلاهما بالمرأب الخاص للشركة بينما "سعد" يُوزع نظراته المترقبة هنا وهناك وهو يتفقد كل هذا بعينيه ليتيقن أن كل ما لفت نظر "جاد" هو الحياة المرموقة التي حُرم منها، وهذا المكان، الذي يعتبر مجرد صرح واحد فقط مما يمتلكه اخويه كان كفيلًا بجعله يريد الإستماتة من أجل كل ذلك.. 


توجه كلاهما في صمت ولم يُرد "سعد" إثارة جدال جديد وينتظر هذه اللحظة التي سيعرف بها كلا أخويه بينما توجه "جاد" حيث مكتب "راغب" وتركه منتظرًا لدى مديرة مكتبه بينما دخل هو حيث مواجهة أخيه.. 


ظل يتفقد بتريث دون اندهاش كل التفاصيل حوله وهو جالسًا يُفكر بعمق شديد في كل ما يفعله أخيه بل وطريقة لإقناعه بالتراجع بينما دخلت إمرأة جعلته ينهض واقفًا وكأنما هناك من يزلزل الأرض أسفله.. وبعده أجبرته بكل ما فيها أن يتفقدها في حالة شلل تام!


حسنًا، لم يكن يومًا ذلك الرجل ولا الشاب الذي يتفقد النساء، لم يحدث حتى وهو بالجامعة أن ينظر لكل فتاة تمر ويُقيمها، ولكن هذه المرأة، بكل ما تملكه من حُسن آخاذ، بملامحها التي تبدو أجنبية، جعلته يفقد النطق حتمًا.. لو كان هناك مسمى للمثالية لكانت هي.. تبدو كواحدة من آلهة الإغريق الأسطورية التي يُكتب عن حُسنها.. ربما مع قليل من النحافة المُزعجة.. ولكن سوى ذلك فهي تبدو كاملة بكل شيء!


اقتربت من تلك الفتاة الجالسة ثم سألتها بغطرسة:

- راغب جوا ولا مشي؟ ومعاه حد ولا لأ؟


اجابتها الفتاة برسمية:

- جوا حضرتك.. و Mr جاد لسه جاي من خمس دقايق!


رفعت حاجبيها ثم اخفضتهما مستنكرة، أهو يُلقب الآن بالسيد جاد؟! يا له من انجاز عظيم بالنسبة له.. من كان ليظن أن هذا سيحدث في خلال أيام قليلة! 


أومأت للفتاة ولم تلتفت لمن ينظر لها بأنفاس مسلوبة تمامًا ثم توجهت حيث الداخل لتجد ملامح "راغب" قاربت على الإنفجار لتضحك بنفسها في شماتة وهي تُفكر، عليه أن يتحمله مثل ما تحملته هي بالأيام الماضية! 


- ماهو انت لازم تشخلل علشان تعدي.. وبعدين في ايدك ولامؤاخذة حاجات كتيرة تسهلك الموضوع واي قناة مش هترفضلك طلب برشة حلوة منك.. سيبك بس من تناكتك دي اللي مش هتأكلك عيش ولسه عندك فرصة تاكل عقل الناس بكلمتين حلوين.. يطمنولك ويدوك صوتهم بدل ما انت عمال مقضيها اكلك منين يا بطة وساند على فريق ولا اللي جايبهم دول وملهومش لازمة!


امتعضت ملامحها وهي تستمع لكلماته التي يبدو وأنها لن تتغير مهما حاول كل من حوله أن يُغيرها بينما انتبها كلاهما لها ليبادرها "جاد" بإبتسامة مرحة ثم حدثها قائلًا:

- يا أهلًا بالعقل والنصاحة كلها، اهي ست العاقلين كلهم جات.. اسألها كده وشوف هتقولك كلامي صح ولا لأ.. وانتي شوفي اخوكي الأهطل اللي عايز يتغابى لغاية ما هيخسر الإنتخابات.. وعلى العموم لو محتاجيني أنا موجود! 


حقًا عليه أن يكُف عن استخدام حركات يديه وهو يتحدث وكأنه يتراقص وليس يتحدث فقط، هل يتكلم بحاجبيه كذلك دون فمه؟ إلي متى عليها تحمُله؟ وهي لا تكترث بلعنة انتخابات أو غيرها، لقد آتت من أجل أمر آخر تمامًا.. إذا كان "راغب" يريد الربح بشدة فليعمل وحده، هي لا تهتم!


زمت شفتاها بتلقائية بينما تحدثت إلي "راغب" دون أن تكترث لأخيها الآخر بمنتهى الهدوء:

- أنا عملت meeting (اجتماع) مهم لمدير المالية! الـ reports (تقارير) إن كل الـ cash (سيولة يعني بتتقال كده في الشركات) بيروح أول بأول وبتخلص على مجموعة الـ real estate (العقارات).. لازم نشوف حل للموضوع ده!


بالرغم من عدم فهمه للكثير من المصطلحات ولكنه ابتسم برضاء ليُعقب:

- والله انتي بنت حلال.. شوفي.. اهو لسه أنا كنت عايزنا نتكلم في الحوار ده.. كلامك كله صح!


❈-❈-❈



وضع مفاتيحه، وهاتفه وكذلك حافظة نقوده على هذه المائدة الخاصة بواحدًا من المطاعم الفندقية الشهيرة حيث سيتناول العشاء بصحبة "رغدة" التي أوشكت على الإنضمام له ليتنهد منتظرًا وهو يدلك مقدمة رأسه في ارهاق فلقد كان يومًا مُتعبًا للغاية!


بداية بتلك الفتاة التي لا تتوقف عن الصراخ بصوتها المرتفع المزعج، مرورًا بما اخبرته به، ثم بعدها تلك الاعمال العالقة التي تأجلت أثناء سفره، ونهاية بإرادة "رغدة" بلقاءه، جعلته كل هذه الأحداث يود أن يُصفي رأسه عما يدور بها..


لوهلة تذكر كلمات تلك الفتاة، قصتها الغريبة بذلك الرجل المزعج الذي ظهر بمنزلهم فجأة، جعله الأمر يشرد فيما مر منذ سنواتٍ كثيرة.. 


أغلق عينيه وهو يتذكر تلك اللحظة التي عاد منها للتو من سفره الذي استغرق سنوات بين دراسته، وبين متعته التي امتلكها وحده بعيدًا عن المنزل ووالدته وعمل والده وزوج خالته.. كان يشعر وكأنه يتنفس وقتها.. العديد من الصور والومضات مرت برأسه مُتذكرًا الكثير من الذكريات وهو بالخارج، يتذكر كام كان شابًا مندفعًا رافضًا تمامًا للعودة حتى بفترات الراحة التي تخللت الدراسة.. والوحيدة التي كانت تدعمه هي والدته.. لم تُفرض عليه شيئًا قط بل وكانت تُسعده بكل الطرق!


ولكن هو كان يعلم جيدًا أن لكل ذلك نهاية.. كان عليه العودة يومًا ما والتخلص من صبيانيته الهمجية.. ويا ليته لم يفعل!! 


لم يُصدق عندما وقعت عينيه على "رُفيدة" التي كان ينظر لها على أنها ابنة خالته السمينة ليس إلا، ليعود بعد خمس سنوات ويجدها بنهاية المرحلة الثانوية أصبحت فتاة نحيلة، جميلة، فاتنة للغاية.. ولكن وقتها بالطبع لم يكن من الجيد الإفصاح عن إعجابه كانت ربما بالسابعة عشر أو الثامنة عشر.. بالطبع لن تقبل "رُفيدة الشهابي" بأي علاقة تحت أي مسمى خاصةً وهي كانت تُعد أوراقها للسفر إلي الخارج لتفعل مثل ما فعل هو منذ سنوات.. 


نما الإعجاب ليُصبح أكثر، وبدأ يفتقدها ويشتاق إليها، يترصد صورها هُنا وهُناك على جميع حساباتها المتواجدة بمواقع التواصل الإجتماعي، وكان ينتظر بفارغ الصبر أن تُنهي دراستها وتعود ليُصبح بقائها دائم ويستطيع أن يُفصح عن مشاعره.. 


ولكن تلك الفتاة الحاذقة كان لديها خطط أخرى بالمزيد من الدراسة، لم تغب اربع أو خمس سنوات.. بل سبع سنوات.. وآتت بملامحها وشخصيتها الذكية الهادئة وابتسامتها لتجعله يعشقها أكثر، الأمر لم يعد إعجاب.. بل ازداد ليُصبح عِشقًا بكل اجازة قصيرة قضتها معهم.. ولم يُفاتحها في الأمر لأنه غبي وقد أضاع الكثير من الفرص وقتها.. وكان يُفني وقته بالعمل.. في انتظار لحظة واحدة وهي الإنضمام له.. 


الجميع يعرف أن "رُفيدة" هي عبارة عن نسخة مُصغرة من والدتها "ناريمان" ، خالته هو نفسه، بالطبع كانت ستتحكم في كل شيء مثلها وانتظر هو بفارغ الصبر أن تكون بجانبه هو ووالده ووالدها ووالدتها.. جميعهم بالعمل الذي لا يتوقف ولا ينتهي..


كان ونيسه الوحيد بتلك السنوات هو تخيله لها وهي بجانبه بالعمل، يتشاركا الكثير من اللحظات، ثم يعود كلاهما إلي المنزل، أو يذهبا لقضاء أمسية سويًا.. لقد خلق ذكريات تجمعهما بالفعل، لقد آتى لها بالهدايا وفاجئها بالكثر من المفاجئات السارة، وسبع سنوات كانت كافية لصُنع تاريخ كامل بينهما وعلاقة راسخة.. ستتقبلها والدته ووالده كذلك ولن يرفض زوج خالته ولا خالته نفسها.. كان كل شيء يُخبره أنه بمجرد عودتها أخيرًا سيستطيع أن يُصارحها بكل ما يحمله لها من عشق لا ينتهي..


وحدث وعادت وتحدث بما يُكنه من مشاعر لها ثم في لمح البصر، ترفضه، تقترب من صديقه، يتزوجا، والده يموت، يترك العمل بالمجموعة بأكملها، وفجأة تنقلب حياته رأسًا على عقب.. نهاية ملحمية لعشق دام سبع سنوات! أو أكثر ربما! لُعن كلاهما في الجحيم، سواء هي أو صديقه الخائن الذي لطالما حدثه وصرح له بكل عشقه لها!


- سلمان أنت كويس؟


أفاقه صوت "رغدة" المتسائل من تلك اللحظة التي أغمض بها عينيه مُتذكرًا معاناة العشق السري غير المُصرح به لينهض بإبتسامة هادئة ثم عانقها وهي بادلته أيضًا وقبل وجنتها وكذلك احدى يديها واجابها:

- اه كويس.. وحشتيني..


اتجه ليجذب الكرسي لها لتنظر له بأعين تبتسم وتلتمع بها السعادة ثم سألته بإهتمام:

- امال كنت قاعد وشكلك تعبان كده ليه؟


تنهد وهو يتوجه لمقعده بعد أن جلست هي أولًا ثم اجابها مُحافظًا على ابتسامته إليها:

- لا مفيش ارهاق شُغل بس علشان كنت مسافر وفيه كام حاجة متعطلة.. تحبي تتعشي حاجة معينة ولا نشوف الـ menu؟


بعد أن تفقد كلاهما قائمة الطعام بدأت "رغدة" بالثرثرة في كل ما لا يُفكر به هو حقًا فهو يلعن بداخله تلك الفتاة التي ذكرته بجرحه القديم ولا يزال أسيرًا لتلك الذكريات التي يكره كم أضاع من عمره كالأبله بين نساء وصداقات وانتظار إمرأة واحدة كي يُعطيها كيانه بالكامل ولكنها أفسدت حياته بجملتين:

- النهاردة كان عندي break في التصوير، مكونتش بصراحة مصدقة إن طنط سوزان هتبقى معايا كده زي ما أكون اعرفها من سنين.. خرجنا وفضلت تعرفني على اصحابها.. بجد كنت مبسوطة جدًا.. وفضلت تقولي لازم نعمل حفلة أو خطوبة وكل الناس تعرف، أنت ايه رأيك؟


اتسعت ابتسامته لها ولكنها لم تلمس عينيه لتشعر وكأنما هناك شيئًا غريبًا به ورد بهدوءه المعهود مجيبًا:

- اللي يريحك يا حبيبتي.. شوفي عايزة تعملي ايه وفين وأنا موافق..


تعجبت قليلًا من رده ولكن هذا هو "سلمان" كل الأمور معه سهلة وبسيطة منذ أن عرفته، ولكن هناك شيئًا غريبًا بملامحه اليوم، هل هو الإرهاق مثل ما ادعى أم هناك أمرًا آخر؟


فاجئها بسؤاله غير المتوقع تمامًا:

- رغدة، انتي عمرك حبيتي؟


عقدت حاجبيها بإستغراب لتُجيبه بتردد:

- سلمان انت تعرفني من زمان اوي.. وعارف عني كل حاجة تقريبًا.. أنت فاهم إن التمثيل أهم حاجة عندي وهو كل حياتي.. يمكن قربت من واحد ولا اتنين، بس حب.. حبي بجد هو التمثيل، أنا قاطعت اهلي علشانه ما أنت عارف..


أومأ لها وكاد أن يقول شيئًا بينما اصدر هاتفه اهتزازًا لينبثق اسم "نانسي" على شاشته ليغمغم:

- اوف.. دي كلمتني اربع مرات وأنا نسيت اكلمها.. ثواني يا رغدة pardon me..


أجاب في ثوانٍ وحدثها معتذرًا:

- نانسي بجد أنا كنت مشغول متزعليش مني..


همهمت مُطنبة بهمهمة متريثة لتقول في النهاية:

- أوك.. بس كده ولا كده you'll pay it back (هتردهالي يعني قصاد انه مردش عليها) .. أنا عندي فكرة كده لـ business جديد هاعمله وأنت الوحيد اللي ممكن تساعدني.. ومش هترفض يا سلمان!

❈-❈-❈

أطلق تلك الأنفاس التي كان يحبسها طوال مُدة الإجتماع الذي انتهى للتو وخلاله استطاع بمنتهى السهولة إدراك أن كل من حضر به ببساطة لا يتحمل "جاد" وأنه يجبر نفسه عليهم!


ولكن ما لا يتقبله هو أن المرأة التي انجذب لها بشدة هي بعيدة للغاية عنه، ربما هي حتى لا تلاحظه، ورغمًا عن أنفه بكل ما استطاع من قوة وجد نفسه يشرد بها أكثر من مرة! لماذا كان ينتظره هذا المصير الأخرق؟ ينجذب لإمرأة فاتنة مغرورة تملك أموالًا طائلة وفي الحقيقة هي أخت من يعتبره أخيه! 


تفقدت الجميع بنظراتها الفاتنة ليحاول "سعد" ألا ينظر مباشرةً لها ونهضت بينما أجاب "راغب" هاتفه:

- أيوة يا طنط.. معلش كنت في meeting..


أشارت له "رُفيدة" التي كانت تود قضاء بعض الوقت بصحبة صديقتها ثم همست:

- مش هتعشى في البيت النهاردة..


أومأ لها دون اكتراث ثم توجه حيث مكتبه ليتحدث "جاد" بتلقائية متسائلًا بعد اقترابه منها وهمس لها:

- ياسر كلمك؟


ابتلعت ثم نظرت نحو "سعد" بأعين مُرتبكة وهي تتفقد هذا الغريب الصامت الذي بالكاد نطق حرفًا واحدًا طيلة الساعات الماضية لتتعجب منه ومن ملامحه الجامدة ليبادرها اخيها قائلًا:

- متخافيش مسمعناش..


أومأت له بالإنكار فرفع يده بعفوية وربت على ذراعها بينما ابتعد "سعد" الذي فهم من نظراتها عدم راحتها وترك لهم المساحة الكافية ثم قال الأول:

- متقلقيش.. خليه زي ما هو مش فاهم حاجة ولما يكلمني أنا هاخلصك منه خالص.. ولا راغب يعرف ولا أي حد وهجيبلك التسجيل منه كمان.. متخافيش..


رمقته بتردد لتتنهد بآلم اتضح على ملامحها لعدة ثوانٍ وسرعان ما استلهمت رباطة جأشها وقالت:

- طيب.. ابقى عرفني بس هتعمل ايه علشان لو حصل حاجة اعرف اتصرف! أنا لازم امشي دلوقتي.. bye..


عقد حاجباه مُتعجبًا وتسائل بعفوية:

- رايحة فين؟ تحبي أوصلك؟


أطلقت ضحكة خافتة وهي لا تبتاع كل ذلك الإهتمام منه ثم ردت قائلة:

- لا متقلقش.. عندي خمس عربيات بتلت سواقين.. هاعرف اروح مكان ما احب..


التفتت بغطرسة وتركته بينما امتعض مغمغمًا في محاكاة:

- عندي خمس عربيات بتلت سواقين وبرج القاهرة والهرم الكبير! اخوات تشرح القلب!


تابعها بعينيه وهي تغادر مبتلعًا ولم ينجح في الإشاحة بنظره عنها ليوقظه "جاد" الذي حاوط منكبيه وقال:

- نروح بقى ونتكلم مع الغلبانة اللي مستنيانا في البيت دي وزمانها نفسها تشوفك.. دي كلمتني يجي عشرين مرة؟ 


أومأ له بالموافقة واتجها للخارج وهو لا ينفك يُفكر بها، وبملامحها، وبما مرت به مع هذا الحقير الذي باتت إرادته الآن أقوى في أن يراه! إمرأة مثلها تُعرض لإبتزاز كهذا؟ كيف له أن يفعل ذلك بها؟ يقسم أنه لو كان امتلك مثلها بكل ما هي عليه لكان وضعها بأحدى الصناديق خوفًا من أن يمسها نسمة هواء تُزعجها!


على كلٍ، لا هي تليق به والعكس صحيح، وهناك فرقًا شاسعًا بينهما فهي تُحلق في السماء وهو بأغور اعماق المُحيطات.. وهي كذلك أخت "جاد" بالنهاية وعليه التفكير في الأمر وكأنها مجرد إمرأة أُخذ بحسنها لمجرد عدة ساعات ليس إلا!


❈-❈-❈

 اطمئنت كثيرًا بعد أن تيقنت أن أخيها لا يعلم ما حدث بينها وبين "جاد" .. شعرت بالإمتنان الشديد لذلك.. ولكن تلك الخُطة المجنونة بأن تعود مرة أخرى لذلك المنزل لعدة أيام حتى يتخلص من زوج أخته الذي يبدو وأنه سيكون زائرًا دائم لمنزلهم المتواضع بالأيام القادمة لم يجعلها كل ذلك أن تُفكر سوى بشيء واحد فقط أو لتكون دقيقة للغاية، شخص واحد فقط.. "سلمان يكن" وما قد يفعله لو رآها..


حاولت ترك خوفها جانبًا وهي لا تزال سعيدة بتواجد أخيها معها وابتسمت لكلاهما ثم عانقته مرة أخرى بحفاوة وحدثته بود:

- حمد الله على سلامتك يا سعد ونورت البيت يا حبيبي.. ربنا ميحرمنيش تاني أبدًا من وجودك جانبي.. 


بادلها "سعد" العناق ثم زجرها بمرح:

- ما خلاص ياختي انتي وجاد قالبينها نكد.. ما خرجنا وادينا قاعدين سوا اهو.. قومي يا بت اعمليلنا شاي..


أومأت له بالموافقة ونهضت لتتلاشى ابتسامتها بمجرد وصولها لمطبخ شقتهما الصغيرة ولا تزال تستمع لثرثرة كلاهما وكل ما يأتي على عقلها حدوث شجار جديد مع هذا المتعجرف! هي حقًا لا تُصدق أنها قد تواجهه..


ربما بالإستيقاظ مُبكرًا وملازمتها لأي من الغرف ستنتهي تلك الأيام، ولكن هل حقًا زوج "رُفيدة" يقوم بتهديدها بتسجيل مرئي غير حقيقي كما أخبرها "جاد" و "سعد"؟ لا تدري.. هذا أمر غريب خصوصًا وأن هذا الرجل لطالما كان لبقًا ولا ينظر للجميع إلا بطريقة جيدة! 


على كل حال.. جميعهم قد يفعلوا أسوأ الأمور.. فلو كان "أنور الشهابي" هو من سجن أخيها وكذلك "جاد" ظُلمًا يومًا ما، قد يفعل أبناءه أو حتى زوج ابنته المزيد.. حتى ولو سيفضح زوجته!!


تنهدت وهي تحاول أن تُطمئن نفسها أنه لن يحدث شيئًا وستحاول تفادي هذا المتغطرس وستمر الأمور على خير هي فقط أيام قليلة، وما تعرفه جيدًا أن "سلمان يكن" دائمًا هو أكثر من يغيب عن هذا المنزل وكذلك "راغب"..


حملت كوبي الشاي الساخن ثم خرجت لتضعه على منضدة جانبية وبمجرد تقابل عينيها هي و "جاد" أشاحت بنظرها بعيدًا كي تتفادى ذلك الضغط الذي تشعر به منذ ليلة أمس إلي الآن ووجدته يتحدث مقترحًا:

- بقولك.. تيجي تشرب معايا الشاي في الدكان تحت.. واهو نقعد قدامها ونشم شوية هوا.. ورحمة تجهز هدومها علشان هتقعدلها يومين تلاتة لغاية ما ربنا يحلها


أومأ له بالموافقة ليحمل كل منهما كوبه ثم تكلم "جاد" بإمتنان:

- تسلم ايديكي على الشاي..


أومأت له بإقتضاب وهي لا تريد حتى النظر إليه وتوجه كلاهما ليغادرا للأسفل ثم فتح "سعد" البوابة لأعلى بذراعه المفتول ليتحدث بنبرة تحمل الكثير من الماضي:

- يااه.. فاكر ياض لعبنا هنا جنب أبونا الله يرحمه وهو قاعد فيها.. 


ابتسم بإقتضاب وعقب متنهدًا:

- ودي حاجة تتنسي يا سعد.. بس برضو مش ناسيلك يوم ما زقتني وفتحتلي دراعي.. طول عمر ايدك طارشة مبتتفاهمش..


رمقه بقليل من الإنزعاج وأخبره بلوم:

- انت هتفضل كده قلبك اسود.. صفي نيتك يا اخويا شوية علشان ربك يوقفلك ولاد الحلال في الحرب اللي انت داخلها دي! 


جلس كلاهما على مقاعد خشبية وأخذ "سعد" كوبه ليرتشف منه بينما اعتلت ملامح الآخر الجدية الشديدة وحمحم بقليل من التردد ولكنه سرعان ما تخلص من تردده وقال مندفعًا دون أن يترك له فرصة في مقاطعته:

- أنا قاصد اننا منتكلمش قصاد رحمة.. رزق ابن الحج صلاح عينه منها وعايز يتجوزها.. وهي رفضته بدل المرة اكتر من مرة.. وانت عارف إن أبوك وابويا كان سره مع عم محروس والحج صلاح.. شكل كده ابنه يعرف الحكاية بتاعتي أنا وأمي وإني مش ابن عطا الله.. لسن بالكلام بس وعهد الله ما سيبته! اديتله علقة موت ومن ساعتها وهو لامم نفسه..


احتقن وجهه بدماء الغضب ولكنه كالعادة مختلفًا كثيرًا عن "جاد" ليتسائل بين أسنانه التي اطبقها غيظًا:

- الكلب ده قال ايه! ولخص يا جاد وقول اللي حصل بدل ما اطلع اجيبه من وسط بيته واخليه فُرجة الحتة الليلادي..


عقد الآخر حاجباه وأمسك بقدمه كي لا ينهض فلو كان "سعد" يمتاز بهدوءه فغضبه لا يحمد عقباه أبدًا ولقد رآى هذا بعينيه طوال سنوات عديدة:

- صلي بس على النبي.. ده بيرطرط زي النسوان بكلمتين واخوكي واخوكي مش اكتر يعني.. ومن ساعتها ملموم وبيعملنا آلف حساب وكانت وداد اخته جات تتصافى مع رحمة علشان النفوس متبقاش شايلة من بعض.. واديها خلصت.. أنا بس بعرفك علشان أنت دلوقتي خرجت بالسلامة ومش بعيد يجي يطلبها منك فتبقى راسي على الحوار! أنا مرضتش انكد اول ما دخلت وسلمت على الناس وقولت اسيب الحوار لغاية ما تاخد نفسك..


لهث أنفاس غضبه وأسنانه تستغيث وفكيه بالفعل قد قاربا على أن يُصابا بالضرر الشديد من كثرة قسوته عليهما ليحمحم الآخر مرة أخرى مما لفت نظره ليصيح به:

- هتفضل تتنحنحلي.. فيه مصيبة ايه تاني حصلت وأنا معرفهاش؟ اقصر واتكلم!


ولو بعد سنوات يستطيع الإفلات من أي أحد في الحياة حتى لو الشيطان الأعظم وأبناءه وكل من بوكره، ولكن مجرد نظرة "سعد" بوجهه يعلم جيدًا ما يدور في عقله أكثر منه هو نفسه فقال متأهبًا في مكانه:

- بص.. أنا اللي جاي اقولك اهو علشان ابقى سبقت.. وهو بصراحة يعني كان الحوار كله غلط في غلط بس مكنش قدامي غير إني اعمل كده..


زفر بضيق شديد ثم صرخ به:

- انت لسه هتقولي كاني وماني.. ما تخلص يا جاد فيه ايه..


ابتلع رامقًا اياه بأعين تحمل الندم ثم تحدث بإندفاع وأنفاسٍ مكتومة:

- رحمة كانت بتحبني وانا سايرتها لغاية ما ساعدتني مع أنور الشهابي وجبت حقي! ولسه متواجهين ليلة امبارح وهي ورب الكعبة اختي وعمري ما هشوفها غير اختي! 


تسمر بمكانه متفقدًا اياه للحظات مما جعل "جاد" يتوجس خيفة من ملامحه ليحاول شرح المزيد قائلًا:

- والله العظيم لو كنت فهمتها من زمان مكونتش هلاقي اللي سياعدني.. وأنا اهو جاي اقولك بنفسي علشـ..


اوقفته لكمة قوية عن التحدث بالمزيد مما جعل جلسته تختل بمكانها ليصيح مرة ثانية:

- يعني ده جزاتي اني جاي اقولك!


نهض ممسكًا بتلابيبه وصرخ به:

- ده انت ليلتك سودا، بقى بتضحك على البت علشان مصلحتك!! فرقت ايه عن اللي رماني ورماك في السجن!


من جديد لكمه وإلي الآن "جاد" يحاول فقط التحمل كي لا يثير المزيد من غضبه فهو لا يأمنه وآسر الصمت ليُلاقيه ببصاق ونظرات مُشمئزة وكلمه لائمًا:

- أخرج وعايزني اساعدك علشان اختك وأول ما اطلع الاقيك كنت مستغفلني وبتكدب على رحمة.. لولا اللي رباك ورباني واحد مكونتش سيبتك تطلع من تحت ايدي سليم!


دفعه للخلف بشدة ليتهاوى جسده مُختلًا وهو ينظر له بندم بينما ولى الآخر له ظهره وهو يحاول كبح ذلك الغضب الذي يصرخ به أن يذهب وينال بالمزيد منه بينما صدح هاتف "جاد" بالرنين ليزم شفتاه بضيق وتفقد الهاتف الذي جعل جسده يُشل تمامًا ثم هتف في احتياج:

- ياسر بيكلمني! 


التفت له بملامح محتقرة له وكلمه بإقتضاب:

- أنا مش قلة وراجل.. رد عليه خلينا نخلص!

❈-❈-❈

بعد مرور خمس أيام..


قد يبدو للرائي وكرًا ممتلئ بالشياطين.. ولكن ما سُتر خلف الأبواب لا يعلم عنه أحد.. كل واحدًا به شاردًا في معاناته الخاصة التي لا يُشاركه بها أحد..


ها هو "راغب" قد انتهى أخيرًا من حصوله على مقعده بمجلس النواب، ولن يُنكر أن اخيه ساعده كثيرًا بما اقترحه عليه، كان من المفترض أن يكون سعيدًا بتحقيقه لغايته ولكن ما لا يُغير تعاسته ونزاعه الدائم بالحياة هو غياب "نانسي" عنه وعدم قبولها أي من اتصالاته نهائيًا.. ربما حان الوقت لمواجهتها، لا يدري كيف علمت خالته بمكان ابنتها وما الذي تفعله بالأسكندرية ولكن هو لن يتركها.. لن يستطيع تخيل الأمر ولا الحياة دونها.. 

يعلم أنه أخطأ كثيرًا، يعلم أنه قد اضاع الكثير من الفرص والأوقات بل وبالفترة الأخيرة كان أسوأ ما يكون.. عله عند ذهابه إليها قد تعود معه.. ست أيام دون وجودها حتى ولو بالصباح وبالمساء وتلك الدقائق القليلة معها جعلته يدرك ما معنى أن تكون متواجدة دائمًا.. وكذلك دورها كان عظيمًا في درأ "سوزان بدوي" عنه وعن الجميع..


تتأهب وتجهز هذا وذاك وصوتها لا يتوقف عن اعطاء الأوامر، وكل هذا لتجعل الجميع يظن أنها سعيدة وتستعد للإعلان عن خطبة ابنها الذي قد اتفق كلًا من "سلمان" و "رغدة" على جعله احتفالًا صغيرًا بالمنزل ولن يضم سوى اقرب الاصدقاء لكلاهما.. 

ولكن بالرغم من كل ما يراه الجميع، وبل ما تراه "رغدة" نفسها من معاملة حسنة منها وتلك الصداقة الزائفة التي تحاول أن تخدعها بها تتيقن بداخلها أن هذه العلاقة لن تكتمل.. إما هذه العلاقة وإما "سوزان بدوي" التي لن تُفرط بإبنها لإمرأة لا تُعجبها.. يكفي فقط أنها لا تملك عائلة، ويستحيل أن تترك ابنها لفتاة لا تعرف عنها شيئًا ولا ترتقي للإرتباط به..



وأمّا عن ابنها هو نفسه فهو يشعر بالتيه، هائمًا في خضم كل ما يحدث، الجميع حوله يستعد لهذه الخِطبة بينما هو نفسه صاحب الإحتفال لا يشعر بأي مظهر من مظاهر الفرح! 

لا يدري أهذا بسبب كلمات تلك الفتاة التي جعلته يتذكر الماضي.. أم بسبب أنه لم يختر اختيارًا صائبًا.. أم لأنه بقرارة نفسه يعلم أنه ود أن يتزوج إمرأة يعشقها أولًا قبل أي شيء.. 

شرد بخطواته واضعًا يديه بجيبيه وهو يُفكر، يستطيع التراجع الآن، وستتفهم "رغدة" هذا.. ويستطيع أن ينتظر قليلًا إلي أن يمر المزيد من الوقت لينظر بوجهه بالمرآة ويجد نفسه بالخامسة والأربعين ويحاول من جديد مع إمرأة أخرى وينجب بسن السادسة والأربعين.. وعندما ينتهي ابنه من مرحلته الجامعية عليه أن يضعه بقبره! يا لها من حياة سعيدة!

سار متجولًا لينعطف أينما أخذته قدماه ليلمح تلك الأقدام النحيفة التي يظن أنه رآها بمكان ما.. نعم.. هي هذه الفتاة سليطة اللسان، ما لعنتها مع القدوم إلي منزلهم؟ ألن تكترث لما حذرها منه؟ لترى من هو "سلمان يكن" الذي لن يترك هذا الأمر ليمر مرور الكرام!



لم يكن يعلم أنه اقترب من الخلاص.. اقترب من نهاية ما يشعر به كلما ذكرته كلمه أو ذكره موقف بالعشق الذي يحمله لإبنة خالته! لأن "رحمة" لن تجد سوى قول الحقيقة، فهي لم تكن كاذبة يومًا.. وأخيرًا قد يستطيع الشعور بالرحة من هذا الآلم عندما يشعر أن علاقة "رُفيدة" و "ياسر" ليست بمثل تلك السعادة التي يتخيلها الجميع.. ربما الأمر يبدو شماتة مُطلقة ولكن قد يكون هذا خلاصه عندما يُدرك أنه لم يكن الخاسر الوحيد!!



هي الأخرى خسرت، لقد وضعت كل ما تخيلته في الأب، الأخ، الصديق، الرفيق والحبيب والزوج بـ "ياسر" ونصبته ملكًا متوجًا على حياتها، الآن هي لا تخسر زوج ولا أخ ولا حبيب ولا أب.. بل.. هي خسرت كل شيء..

تشعر بأنها ستفقد عقلها، منذ أن اخفاه "جاد" بعيدًا عن أعين الجميع لعدة أيام ولا يزال يساومه على أن يُعطيه ما صوره لها خلسة دون علمها، لا تُصدق أن الرجل الذي كان يُمثل لها الحياة بأكملها هو في الحقيقة خائن ومُستغل!

لم تستطع أن تتحمل، حاولت لأيام التماسك، حاولت التفكير بأن "رُفيدة الشهابي" لن تقبل الخيانة، أنها غاية في الفتنة والذكاء وآلاف الرجال يتمنوا لو كانت هي زوجتهم.. ولكن قد طفح الكيل.. لابد من وجود حلٍ معه.. ستحدثه، سيحاولا البدأ من جديد.. هي بالرغم من كل ذلك لا تزال تعشقه، هل من الممكن أنه يفعل كل ذلك من أجل أن يستعيدها وحسب.. 

نعم.. هو لا يزال يعشقها مثل ما تفعل هي، لا يزال زوجها، لابد وأن العشق بينهما وتلك الثقة التي دُمرت ستُبنى من جديد.. هي لم تعد تستطيع تحمل الحياة دونه..

جذبت هاتفها لتتحدث إلي "ايناس" التي اجابتها بعد ثواني فهتفت بها وهي تبكي:

- ايناس قوليلي.. انتي تعرفي جاد مقعد ياسر فين.. وارجوكي متخبيش عليا..


تعجبت من صوتها الباكي بينما حاولت أن تُهدئها فهي كانت بأفضل حال صباح اليوم فقالت:

- اهدي بس يا روفي يا حبيبتي.. مالك ايه اللي حصل؟


لم تستجب وتوسلتها مرة ثانية:

- ايناس علشان خاطري.. انا عايزة اروح واتكلم معاه.. ارجوكي قوليلي هو فين! 


تنهدت "إيناس" وشعرت بالتردد من مجرد اخبارها ولكنها تعلم أن صديقتها لن تُنهي هذه المُكالمة إلا وهي تعلم منها أين مكانه وبنفس الوقت تشعر بالشفقة عليها بل والآلم من اجلها وبعد سماعها تبكي بهذه الطريقة لن تستطيع الصمود أمامها لتحاول البحث سريعًا عن أفضل الحلول علها تستطيع إنهائها عما أوشكت على فعله فقالت:

- أنا عارفة هو فين.. بس انتي مش هتعرفي توصلي.. خليني اروح معاكي..


سرعان ما توجهت لتبدل ثيابها وقالت:

- أوك.. هاعدي عليكي حالًا.. 


قبل أن تستطيع "إيناس" التحدث بالمزيد وجدتها قد انهت المكالمة فظنت أنها تستطيع أن تُثنيها عن قرارها خلال طريق ذهابهما ولكن في الحقيقة هذا لم يُفلح، لم تستطع أن تعرف حتى ما يدور بعقلها، وكل ما تُنادي به هي أنها تريد أن تتحدث معه وحسب!

لم تُفلح كل حيلها الواسعة، "رفيدة" لطالما كانت عنيدة وصعبة المراس، ولن تقتنع أبدًا سوى بما تريده.. وهذا تمامًا ما أوقعها في الكثير من الأخطاء بداية بمصارحتها له عما حدث لها وهي مجرد طفلة نهايةً بما توشك على فعله الآن..

لم يكن أمام "إيناس" حلًا سوى ارسال رسالة قصيرة إلي "جاد" كي يُنقذ الموقف برُمته وتوجهت معها حيث ذلك المنزل البسيط وهي لا تزال تحاول السيطرة على دموعها بين الحين والآخر والتهمت تلك الدرجات لتطرق على الباب بهمجية فهي كل ما تريده هو رؤيته والتحدث معه ليس إلا ولا يزال بداخلها ثقة أنهما سيستعيدا كل ما كان بينهما في يومٍ وبمجدر أن فُتح الباب وجدت هذا الرجل يُحدق بها في صمتٍ من جديد ولم يستطع صوغ ولو كلمة واحدة!!


يُتبع..