-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل السادس عشر (الجزء الأول)

 


الفصل السادس عشر - ج1


الأسئلة التي لم تطرحها أبدًا،

كانت أمورًا تخشى معرفتها..

كل ما أتى ومرّ،

فسرته بطريقتك..

هناك الكثير من الكلمات التي لم تقلها،

والتي تمنى آخرون لو قلتها يومًا..

على مدى الحياة،

سيعيش كلًا منا،

مُساء فهمه..!!

-لانج ليف-

•¤•¤•¤•



استدعت فريدة انتباهه حينما هسهست:

- دعني أحزر .. رفضت نزوّل الإجازة؟؟

أومأ بابتسامة باهتة وهو لا يستعجب كيف يمكنها استنباط ما حدث:

- ليس بالضبط..!!

فركت وجهها بقوة وفجأة أخبرته سريعّا بينما تنهض:

- أممم توقف هنا .. عفوًا .. سأذهب للمرحاض!!

أراد أن ينهض ورائها فخطواتها غير المتزنة أخبرته أن ما يخشاه يحدث بينما رأسها الصلب يأبى الاعتراف:

- هل أنتِ على ما يرام؟؟

- بلى..

بالكاد ألقت كلمتها قبل أن تختفي خلف الحمام الملحق بالمقصورة .. وقف بموضعه بوجهٍ كالح، رغم كل ما أسرّه لها -ولها فقط- لم يؤثر هذا بفكرتها عنه أبدًا .. لازالت تكرهه، وتمقت لمسته، تفضل المعاناة عن أي شيء من جهته .. وهذا فقط ما يمزقه ثلاثة أنصاف، نصف يعذرها ويخبره أن ما فعله يفوق تلّ من المبررات .. ونصف آخر ينظر بحسرة الآن للباب الموصد دائًما بوجهه رغم التوبة .. والأخير، يمِيّزُ تغيظًا ويسأل الآخران فقط عن فرصة للظهور، يعتبرها إهانة مجحفة، كونه فعل كل ما فعل ولم يكن كافيًا لتعلم أنه لا يُبيّت لها أي نوايا سوداء، فربما الطرق القديمة قد تفلح في إيصال المعلومة!!

زفر بملء جوفه ليفرج عن الحريق بصدره، ثم حرك رأسه بعيدًا عن موضعها، علّ يساعده هذا في تشتيت أفكاره المستعرة عنها .. أتركها أدهم، بحق خالقها فلتتركها، محتمل هذا هو كل ما تحتاجه منك!!

مسح رأسه ببطء وقد بدأ يهدئ، ليتحرك نحو نافذة كبيرة بإحدى جوانب المقصورة ويفتحها على أقصاها ليصدمه هواء البحر فينعش روحه بالسكينة .. أغمض جفنيه يستمتع باللحظة همسًا لنفسه:

- ربما هذا ما تحتاجه أدهم .. تحتاج أن تعرف طريقها وتقرره بنفسها .. دون وصاية من أحد .. لقد علمت الكثير، ولا بد أن هذا صدمها بطريقة ما وتحتاج لوقت كي تعالج تلك المعلومات وتتشكل أفكارها من جديد .. وإلى أن يحدث هذا، أتركها أدهم .. لا تفرض عليها مساعدتك بنفس الطريقة العقيمة التي دمرت كل شيء .. أتركها تختار هذه المرة .. أتركها .. ربما تختارك..!!


❈-❈-❈


اغلقت عليها الباب ودفعت برأسها أسفل الماء لبارد .. فتحت الصنبور على اقصاه، وثانية، وأصبحت تضربه بغضب .. تبًا، تبًا، أليس هناك درجة أكثر برودة من هذه؟؟ .. لا تشعر بالماء من الصهد الذي يتصاعد من رأسها، وينزل على وجهها دافئ .. تمسكت بالحوض بقوة، فبالكاد كانت تصلب جسدها أمامه، منذ ثواني فقط كانت لتفقد وعيها وهي جالسه أمامه، الألم مميت لحد أعجزها عن التوجع .. لمّ بحق الجحيم أعراض الانسحاب غبية هذه المرة؟! .. عفوًا، مَن قال أنها أعراض انسحاب، هي تعرف أنها ليست كذلك .. ما يحدث معها ما هو إلا نتيجة لما تسمعه، فسواء كانت تأخذ دوائها أو لا، المعاناة هي مصيرها .. فالشياطين التي تسكنها لا علاج لها سوى القتل، كما نصحها الوغد من قبل!! .. لكن لا تنكر أن الدواء كان ليفيدها ولو قليلًا، فأقلها، كان ليخفف من فورة مشاعرها الحالية!!

لعنت بسرها وضعها البائس، والآن فقط أدركت شعور مدمن مُجبر على تعاطي مخدر رغم أنه وفي قراره نفسه .. يمقت ما يفعله!!

وهي فقط لا تمقت ما تفعله وحسب، بل تكره كونه يجعلها بهذا الضعف .. وتكره أكثر أن تبدو هكذا أمامه هو!! .. لا مانع لديها مطلقًا في إظهار بعض جنونها، لكن ضعفها، تفضل الموت على أن يراها هكذا .. لذلك ما إن احست انها قد تجاوزت حاجز الخطر في قدرتها على التحمل، رفضت أن يراها هكذا .. إن كانت ستتألم، ستسقط، تنتحب تعبها، لا يجب أن يراها .. شيء عافيّ بنفسها يمنعها من طلب مساعدته مهما تردّى بها الوضع، مهما تألمت وحتى لو كانت نهايتها .. لن تفعل!! .. واللعنة، كيف تطلب مساعدة شخص هو السبب في معاناتها من الأساس؟! .. فبعد كل ما عرفته عنه، كبرياؤها كان ذو بائس وسلطان شديد، يمزقها بسكين تَلّم إن فكرت في هذا فقط، قادر على جعلها تنحر عنقها إن أظهرت ضعفها!!

”يا إلهى، لو صُوّر في هيئة بشرية أعتقد أنه سيكون أكثر إجرامًا من زوجي السابق!!“

سخرت بعقلها رغم وضعها المذري، يبدو أنها بالفعل صارت مختلة .. اللعنة على وضعها بأكمله .. ماذا يحدث لها بحق الجحيم؟! .. ما إن تدفقت بذهنها هذه الأسئلة الواحد تلو الآخر، حتى اطمأنت أنها أصبحت أفضل .. فبعد أكثر من 10 دقائق أسفل الماء اخيرًا بدأت تستشعر برودته النابعة من برودة البحر، وهدأت من ضجيج رأسها .. وهو ليس أي ضجيج ليصمت بسهولة .. ولا، ليس نتاج أعراض الانسحاب!! .. فاللعنة، رأسها كان يصدر ضجيج عالٍ مُتهادر تقسم أن ذلك الأخر سمعه .. وتبًا لهذا الشعور، ظنت أن رأسها ستنفجر كمحركات ماكينة بمصنع عتيق تعمل من أيام الثورة الصناعية وحتى وقتنا هذا!!

بمشقة فارقت صقيع الماء المُحبب، وكأنه أعز ما على قلبها.. أخيرًا شعور جيد يتلبسها .. تعرف أنه مؤقت، وربما يعود الألم بعد دقائق .. لكن لا بأس، استمتعي به قدر ما أمكنك .. هذا شيء لا يعرفه سوى ما أضطر للتعايش مع ألم يسكن جمجمته، لا جسده .. يقدس أي لحظة سكينة تعبره، ولو لحظيًا!! .. ذلك لأنه يعلم أن الألم أمر حتمي .. أما المعاناة فهي اختيار!!

لو فقط تنام؟!

هذا ما فكرت به والماء ينساب من رأسها ليبلل جسدها .. التخدر الحسي بأعصابها كان أكثر شيء مغري في عينها الآن، ليته فقط يدوم لبعض ساعات .. لا، لن تتمنى أن يدوم للابد، هي تعرف أنها أمنية مستحيلة في حالتها تلك، على الأقل ليس وهناك مَن يحشر برأسها أفكار متطرفة ليس لها علاقة بما عرفته .. هناك حرب داخل رأسها .. هذا هو التشبيه الأمثل!!

 مع كل كلمة يقولها، الدماء بأوردة رأسها تتدفق وتهدر لتسبب نبيض قوي مسموع وملموس .. أجل، لم تبالغ حينما قالت أن أدهم بإمكانه سماعه، فقط إذا وضع إحدى اصابعه خلف أذنها سيشعر بسهولة بنبض منتظم وعالي الإيقاع للشريان السباتي يتزامن مع دقات قلبها .. ذلك ما يسمى (بالطنين النابض أو الموضوعي) .. نوع نادر لعين من طنين الأذن لا عجب في أنه يدفع الناس للانتحار .. تداعيات جسدية للألم النفسي كما يسمونها .. طالما مرّر حياتها منذ المراهقة، ولم تعرف له علاج أو مسكن سوى الماء البارد .. فقط الماء البارد قادر على تهدئة اضطراب الأوعية الدموية قرب الأذن وتخفيف التشنج الذي يسببه في فكها .. لكن لا تذكر أنه كان بهذه البشاعة من قبل، منذ أن بدأ أدهم يحكي عن تاريخه الحافل بالسواد، وهي لا يسعها سوى تخيل رأسها كغرفة محركات عملاقة، كل كلمة تسمعها للأسف تكن بمثابة قوة دفع لجعل هذه المحركات تعمل بكفاءة وسرعة جنونية .. بلى، انه تجسيد للجنون!!

لذلك مجددًا، لن تنعم بهذا الخِدر طويلًا إذا تركته متأملة الراحة، فأفكاره صارت مستوطنه برأسها .. إذا صمت هو، لن تصمت هي!! .. كل الاحتمالات تؤدي بها للجنون .. والجنون هنا هو ما تفعله، أن تجالس الضحية الجاني، لتسمع شكواه وكيف صار الجاني!!

بربك فريدة، أين عقلك، ومتى سيستيقظ من سباته؟!

أوصدت عينها بإرهاق، لا، لن تبدأ في جَلّد نفسها الآن!! .. لن تخوض حربان في وقتٍ واحد .. لذلك أخرست كل أفكارها وهي تسحب منشفة وتجفف جسدها من فوق الملابس المبتلة دون اهتمام .. وفي النهاية تركتها حول عنقها وخرجت لتستكمل تلك الليلة التي تأبى أن تنتهى!!


❈-❈-❈


- ما رأيك أن نعود للخارج أفضل؟؟

بهذه الجملة جذبته فريدة من صومعة أفكاره، لينتبه لوقوفها عند عتبة الباب وكأنها تخبره، وليس فقط تسأله .. لم يهتم لهذا، لم يهتم سوى لشيء واحد، وهو ملابسها المبتلة، بشرتها الثلجية وشفاهها البيضاء، وأنها قد جمعت كل هذا برغبتها في الجلوس بالخارج في مهب برودة البحر بهذا الوقت .. هل تخطط للانتحار بطريقة غير مباشرة أم ماذا؟! .. ما بال هذه المرأة لا تكف عن تمرير عِيشته!!

قلب أدهم عينه بتعب حقيقي، والآن ماذا؟! .. سنخوض حربًا بالتأكيد من أجل أن تبدل ملابسها، والأكثر تأكيدًا أنه مَن سيخسر الحرب!! .. فصاحبة الرأس الحجري ستُسيئ تأويل هذا كعادتها وستعتبره محاولة متعمدة منه للسيطرة عليها، ولن يسلم عِندها من مزاجها الناري!! .. إضافة إلى أنه بالأساس مستنفذ الطاقة ليخوض معها هذه المعركة، فصدقًا تلك الليلة قضت على قوته، لذا لم تترك له أي خيار آخر..!!

- هل ستجلسين معي هكذا؟!

سألها بنبرة فضولية أكثر منها استنكارية .. لتقطب فريدة حاجبيها مجيبة على الفور بفظاظة وقد استشعرت نية سيئة خلف السؤال:

- وهل لدي جنابك مانع؟!

حك ذقنه بلؤم وهو يشملها بالكامل بنظرات متفحصة ليست بريئة:

- في الحقيقة، لا، ليس لدي مانع .. من المفترض أن يكون المانع لديكِ أنتِ!!

انزعجت من نظراته أكثر مما قاله لتستعر نبرتها وهي لا تعرف ما مشكلته الآن:

- ما الخرف الذي تقصده؟!

- هيا فريدة، لا تخبريني أنكِ لم تنتبهي أن ملابسك مبلله وتشف أمام عيني جسدك بوضوح.. أستطيع أن أرى أن هناك وزن زائد، أليس كذلك؟؟ .. يبدو أن السمك قد آتى بثماره!!

توقف ليترك اثر الجملة يسري مفعوله بعقلها، قبل أن يطرق على الحديد وهو ساخن متقصدًا أن يحاصرها بنظراته الوقحة ونبرته الموحية:

- ثم تعودين لتصرعي رأسي بصراخك وألا أحدق بكِ؟! .. بربك كيف أفعلها وانتِ تجلسين أمامي هكذا؟! .. اعترفي فريدة، هل تتعمدي فعل هذا؟! .. لأنه إذا كان صحيحًا، فدعيني أخبرك أنها فكرة غبية؛ لأنني رجل لم يمارس الجنس منذ أن انفصل عن زوجته!!

حسنا، هذا فقط كان كافيًا ليوقد الجحيم بعينها لكن النيران هذه المرة لم تقوى على مساسه .. تسمرت أمامه لأكثر من دقيقة، لم يخرج منها حرف، وجهها الشاحب اعتقد أنه سينفجر من الدماء، يديها تشدد على المنشفة لتغطي صدرها، الذي كان يعلو ويهبط بأنفاس حارقة تكاد تحرقه من على بعد هذه المسافة .. وكل ما فكر فيه أنها ستكسر الغرفة فوق رأسه كما فعلت من قبل .. فهذا ما كان يراه واضحًا بعينها .. لكن ما حدث كان العكس، انسحبت مصطحبه حِممها البركانية في الاتجاه الآخر نحو غرفتها، وهي تتشاجر بقدمها الصغيرة مع الأرضية الخشب .. وبالنهاية يبدو أن خُطته قد نجحت!!

”واو .. كان هذا سهل جدًا!!“

غمغم لنفسه وابتسامة لئيمة تداعب ثغره .. ثانية، ولم يتمالك نفسه ضحكًا بينما يتذكر تعابيرها الغاضبة التي يعشقها .. أكثر من أي شيء .. تعطي لحياته نكهة ومتعة مثيرة كالتي تسري بجسده الآن .. اطلق زفير الرغبة ولسانه حاله يلومه:

”تبًا، ألم تستطع اقناعها بالجلوس هنا، بدلًا من تبديل ملابسها أيها الأحمق .. الفرص لا تكرر مرتين!!“

مسد خلف عنقه وهو يستعيد صورتها أمامه، وقد بدأ يقلب الحديث بعقله ويتحسر على ضياع فرصة في تأملها من هذا القرب .. اللعنة، لقد استعرت رغبته بمجرد مسحة سريعة أجراها، فماذا كان ليحدث لو طال الأمر؟! .. كلا، ما فعله كان أفضل شيء، صار يخشى عليها حقا من نفسه!! .. لم يرد أن يخيفها منه، ولكنها كانت أنسب طريقة لتستجيب له .. يتمنى فقط أن تعرف هذا ولا تبالغ في ردة فعلها لاحقا.. اللعنة، الأجدر به الآن أن يذهب ليأخذ حمام بارد بعد أن تصهد الجو من حوله!!

بعد قليل، عادت من جديد وقد غطت جسدها بكنزته الثقيلة حتى لم يظهر منها ولو طرف أصابعها .. لا بأس، هذا أفضل، لابد أن يتذكر إعارتها كل ما لديه من تلك الكنزات .. هذا من الأحسن له ولها، وللمركب أيضًا!! .. فكر وهو يراها تتجاهله وتسند على السياج لترتشف من هواء البحر قليلًا .. من أنفاسها المثقلة التي تطلقها على دفعات، لم يستطع إلا أن يدنو منها ويسألها دون استباق:

- لمّ لا تأخذين من ذلك الدواء ربما يسكن وجعك قليلًا!!

زفرت آخر انفاسها بوجهه وهي ترمقه بنظرة كما لو كانت تحاول فهم كيف يعمل رأسه، أو ماذا تفعل معه؟؟ .. وبعدها أردفت بنبرة يملأها السأم:

- ما لعنتك معي الآن؟؟ .. إذا كنت قد اكتفيت من دور القاص، وتشتهي العراك الآن، فدعني أنام أفضل، لا مزاج لي الليلة!!

”أتعرفين ما أشتهيه حقًا الآن؟؟ .. هو ضرب رأسك الصلب هذا علّه يعمل بشكل صحيح!!“

أراد أن يخبرها هذا، ولكنها بالفعل اندفعت للرحيل .. كعادتها، قطار أهوج ضال عن خط سيره!! .. أوقفها وهو يغمض عينه بقلة حيلة:

- هيا فريدة، لا تتغابي عليّ!! .. لست أعمى، أرى جيدًا أنكِ تتألمين، لكن ما لا أفهمه لمّ تعاندين مع نفسك في هذا!!

تأففت فريدة من إلحاحه لتعود له وتهاجمه بعداء:

- هل نعتني بالغبية الآن؟!

قلب عينه بوجهها وحوله وفي كل مكان .. يا إلهي، هل هذا كل ما جذب عقلها الفارغ؟! .. وقبل ان يبدي منه رد، فوجئ بها تنكزه بصدره وهي تهسهس بغضب كفرصة للتنفيس عن احراجه لها منذ قليل:

- عندما أسئلك تجيبني!!

رمق موضع اصابعها بصدره بحديّة .. ”منذ متى فريدة؟!“ .. للحظات، لم يكن يرى بها سوى ردة فعله التلقائية بالماضي على فعلٍ كهذا، إلا أن جذوة عينه ما لبثت أن خبت وقد انتبه لأصابعها التي تركت أثر بقميصه، تمامًا فوق وشمها بقلبه، بقلبه .. ”لا بأس أدهم، مالكة قلبك ويحق لها التنفيس عن غضبها كيفما شاءت!!“ .. ومن أجل هذا فقط ابتلع هو كامل غضبه وأجابها من بين أسنانه بتأني:

- كلا .. بالطبع لا أقصد مولاتي!!

احتدت عينها بشراسة متابعه هجومها:

- وتسخر مني ايضًا؟!

- أقسم بحبي لا أسخر!!

تحطمت نظرتها الشرسة أمام تلك الشرارة الصادقة المندفعة من عينه ومُحملة بالعاطفة لتذيب كل غضبها .. أدارت وجهها عنه لاعنة بانفعال، بينما هو لم يتوقف أبدًا عن بثها تلك النظرة وابتسامة لعوب تتراقص على شفتيه، وقد أدرك محاولة هروبها منه .. أدرك أنها أدركت صدق قسمه .. وأنها هي قسمه!!

وكانت ثانية، وحطمت كل آماله وهي تغدر به وتعيد الثوران مرة أخرى به إعصار:

- أنظر يا هذا، لا تتمادي معي في الحديث وتظن أنني سأتساهل دومًا!!

- وماذا فعلت لكل هذا؟؟

سألها متفاجئ من تقلبها السريع الذي سيصيبه بجلطة، لتجيبه وهي تُعدد له اخطاءه:

- حديثك منذ قليل، وقبلها لوّحت أنني اتحجج لتلحق بي في غرفتي .. والآن أقسم بحبك تلك؟!

ارتجع براسه يحدقها بنظره تقييمية ولم يستطع أن يقاوم رغبته بقصف غرورها وأن يلقن كبرياؤها القاسي درس:

- ”أقسم بحـبي“ .. وليس ”حبك“ .. لمّ ظننتِ أنكِ المعنيّة، هاه؟؟ .. هل أنتِ حبي؟!

انتفخت أوداجها بالحرج حتى ظن أنها ستختنق به .. الوغد، لتوه بالأمس اخبرها أنه لم يجرب الحب سوى معها، وطبعا إذا أخبرته بهذا لن تخلص من لسانه الوقح!! .. لتزفر بسخط وتخبئ وجهها بالبحر مغمغمه بعد مهلة بنبرة مترفعه تحمي بها كبرياؤها المخدوش:

- هذا جيد .. لا تنسى الحدود بيننا مرة أخرى!!

هز رأسه بلا فائدة، ليسمعها تضيف مشوشة علّما حدث بينما تعقد ذراعيها معًا:

- ثم من أخبرك أنني أعاند أمام نفسي؟؟ .. الأمر فقط أنني لا أحب تأجيل نتيجة حتمية .. لنفترض أنني أخذت منه هذه المرة أيضًا، ماذا سيحدث بعدها؟؟ .. طالما نحن عالقين هنا، سيأتي يوم وتنفذ مني الحبوب، وعِندها سيكن عليّ أن أواجه أعراض الانسحاب بالنهاية .. وانا لا أحب المماطلة، فإذا كنت سأعاني بكل الأحوال، الأفضل أن افعلها لمرة وانتهي!! .. ثم هذا الدواء لا ينفعني بالشكل الذي تتخيله، صحيح يساعد في الألم الجسدي، لكن النفسي فلا .. الحقيقة لا شيء يساعد!! .. والآن دعنا من هذا، ولا تماطل أنت في التكملة!!

ضيق عينه وأراد أن يستفسر عن تلك الجملة الغامضة التي ألقتها، ولكنها لم تدع له الفرصة، فعلى الفور انسحبت بجسدها لتفترش قرب السياج، ورفعت ساقيها لتتوسدهما من جديد، فبدت له من هذا القرب بمظهر صغير، وكأنها ألطف شيء في الكون .. عذرًا، هي بالفعل كذلك بعينه، دائمًا، أما الآن فاقت الكثير .. لو تعرف فقط كم حاربته يداها ليحملها بصغر حجمها المغري هذا ليدسها في حضنه ويدثرها جيدًا بين ضلوعه مثلما اعتاد أن يفعل؟!

لن تنطفئ تلك الرغبة أبدًا، ولن تتوارى عن مراودته ..

كلما رآها،

وطالما كان حيًا!!

مرر أصابعه بين خصلات شعره ليستعيد تركيزه، وعلى الفور كان استعاد معه مزاجه الساخر لما هو على وشك أن يقصّه .. لم يدعي هذا، فهو فعلًا يجد الأمر مضحكًا، فتبا كم كان طفل أحمق ساذج، يرى نفسه أذكى من الجميع، رغم أنه كان أغباهم!! .. جلس أمامها كالسابق، وقهقه متقطعة فلتت منه قبل أن يهز رأسه بيأس من حاله، ومن ثم نظر لها يُشركها معه في المزحة القادمة:

- حسنًا .. دون أن أرهق عليكِ بالتفاصيل، أتى والدي بالفعل، وفعل كل ما ذكرتيه منذ قليل .. تصرف على نحو كما لو لم يرتكب بحقي أي خطأ، احتضنني بعاطفة أُبُوّه ملتهبة تلائم لقاءه الأول بابنه الوحيد بعد مرور شهر ونصف .. أطول مدة بَعدتُّها عنه وبَعدتُّها عن البيت، لكن التصدّع داخلي كان أبعد من هذا بكثير .. أذكر هذا، كنتُ خاويًا لدرجة أنني لم استشعر دفيء حضنه رغم قوة، ولم ابادله إياه حتى .. للمرة الأولى، لم أحمل له أي عاطفة، سوى النفور .. كنتُ معبئ بغضب مستطير تمّ ضغطه على عمق بقرارة نفسي، وهو قابل للانفجار .. إلا أنه لم ينفجر!! .. لأنني كنت قد اتخذت قراري وانتهى الأمر منذ أول ليلة قضيتها بهذا الجحيم!!

تنبهت فريدة، وقد فطنت إلى أن ثمة فعل أحمق قادم في الطريق، وهذا ما تأكد بالفعل حينما لمعت عينه بضحكة حقيقية قبل أن يكمل:

- ذلك اليوم كانت أول مرة أرى بها ابي يُحدثني بهذا الحماس طوال طريقنا للبيت .. تحدث كثيرًا وبين جملة وأخرى كان يرميني بنظرة شوق، يربت على وجهي ورأسي، يخبرني بأنه قد ترك مريم تُعد أصناف طعامي المفضل، وأن ريم قد نبت لها أسنان صغيرة لابد أن اراها، وأنه قد جهز لي مفاجأة مبهجة لن أتصورها .. اخبرني الكثير ولم يسألني قط عن حالي بالمدرسة، أو كيف قضيت وحدي الأيام الخالية .. لم ينتبه حتى للهزال الذي اصابني، ولا لصمتي الزائد عن الحد، كان مخدر تمامًا بنشوة مفرطة بدت لي أغبى ما يكون، وهذا كان كافيًا ليزيدني إصرارًا أكثر علما عزمت!!

ابتلع جزء من ضحكته امتزج بتدفق الأحداث على فمه وتابع:

- ما إن شارفنا على الوصول للقصر، طلبت منه أن يتوقف قرب محل للزهور كي أجلب باقتين، إحداهما لمريم، والأخرى لزوجته كهدية اعتذار بعد أن أدركت خطأي..

- ماذا؟!

لمعت عينه من فرط الضحك لردة فعلها الاستنكارية، وأومأ لها كثيرًا بينما يكافح ليحتوي ضحكاته علّه يكمل ويريحها:

- بلى، فريدة .. طلبت منه، وكنت طفل مهذب كثيرًا لدرجة أنه من غمرة سعادته لم يتردد لحظة في منحي المال كي أسبقه للمحل، على أن يلحق بي بعد أن يصِفّ السيارة..

- لا تخبرني أنك هربت..؟!

أُدمعت عيناه من الضحك هذه المرة، ولم يفعل شيء سوى انه استمر في هز رأسه وقد ارتج صدره في نوبة الضحك تلك .. كانت أول مرة لها منذ أتيا للمركب أن تراه يضحك بهذه التلقائية الشديدة، كأي شاب في سنه لا يحمل هم في الحياة!! .. وكانت أول مرة أيضًا ألا تستاء وتغضب من سعادته .. نظرته بعينٍ مختلفة عن تلك الحاقدة المجروحة .. نظرته كشيء استثنائي، لوحة فنية بألوان زهية تُمتع النظر .. هكذا رأته، ولم تسأل نفسها عن السبب، وضعت كل الأسباب في سلة منزوية من ذكرى جيعقلها..


”لا بأس، فريدة .. دعي عنكِ القتال الليلة .. لليلة فقط، فريدة، دعي ألمك يتحرر .. اسمحي لروحك أن تتنفس .. وأرجئّ كل الأمور لحُجة تعبك .. نعم، لليلة أكذبي على نفسك، أخبريها أن كل ما تشعر به من محض خيالها، لا شيء حقيقي .. اخبريها أنه حُلم ملّبد من أحلامها الغريبة، وأن العقل في فترة كمون وعندما يستعيد عافيته، كل هذا سيذهب بلا راجعة!! .. رددي كل هذا كثيرًا، واستعدي لسقوط حُر داخل هذا الرجل!!“

   ثانية، وكانت قد أخذت قرارها، وانخرطت معه في نوبة الضحك الهستيريا حتى تربد وجهها بالحُمرة ونفرت عروق جبينها، وكل ما تتخيله شكل مصطفى بعد أن اكتشف ما فعله أدهم:

- يا إلهي، ما هذه العقلية!!

تنهد أدهم وقلبه يتسارع من كثرة الضحك، والغبطة التي نَابَـتُه لرؤية فريدة تندمج معه إلى هذه الدرجة.. جاوبها ببساطة:

- اضطراب مسلك..!!

وافقته علما قاله، فهذا هو التصرف الأمثل لطفل لديه اضطراب مسلك .. يكن غريبًا أن يقبل بالرضوخ والإذعان هكذا ببساطة .. عليها أن تعترف، رغم ما مرّ به، كان طفل ذكي، وشجاع، ومثابر، كشعلة لا يمكن اطفائُها .. لكن الخطأ، كل الخطأ، أن تلك الأشياء الجميلة تمّ استغلالها وتسخيرها للجانب المظلم:

- تبا، أجل .. وإلى أين ذهبت؟؟ .. إلى أحد اقاربك؟؟

طقطق أدهم بفمه نافيًا على الفور:

- لا، لم نكن من العائلات وطيدة الصلة، إضافة إلى أن أغلبنا يعيش خارج مصر ولا ينزلها إلا قليلًا .. فقط العمل كل ما يجمعنا .. لذلك حينما وضعت تلك الخطة لم أجد بذهني ملجأ سوى أصدقائي القدامى .. كانوا الأمل بالنسبة لي رغم أنهم مجرد أطفال مثلي .. عقلي المخنث لم يكن يفكر في شيء وقتها سوى الهروب، الخلاص من جحيم المدرسة، ومعاقبة ابي .. نعم، هذا كل ما كنت أراه أمامي ويصبرني على مرارة الايام التي عشتها .. أنني سأنال حريتي، لن ابقى هنا او هناك!! .. سأتخلص من كل قيودي ولا يهم ما سيحدث بعدها .. وكنت شديد اليقين بأن أصدقائي سيدبرون هذا لي، كنا جماعة لا يصعب عليها أمر، أو هكذا كنت أتخيل .. قصدت منزل رفيقي، وبالفعل رحب كثيرا وأظهر تعاطفه حينما قصصت له ما حدث معي، لكن كان هناك مشكلة واحدة كيف سيقنع والده بمكوثي لديهم؟؟ .. بعد أن قضينا النهار في تدبير هذا الأمر، قررنا أن نُخفي إقامتي بالغرفة عنه، وفي كل الاحوال هو لا يعود للبيت كثيرًا .. ونفع هذا ليومين، استعدت فيهم جزء من أنفاسي، وبنهار اليوم الثالث اكتشف والده الأمر حينما اخبرته أحد العاملين أنني أمكث بغرفة ابنه من يومين .. باختصار، كل شيء قد انقلب فوق رأسي، وبلحظة وجدت أبي يطرق البيت ويسحبني من يدي، لتحدث بيننا أول وآخر مواجهة!!

شعرت بهبوط في جسدها وكأن الدماء تنسحب من رأسها، تبًا، لم تتوقع أن يعاودها التعب بهذه السرعة .. لتغمض عينها بسكينة، وأردفت محاولة تشتيت نفسها عما تشعر به:

- يمكنني أن أتصور ما فعله بعد اختفاء يومان..!

- لا فريدة .. لا يمكنك .. فما حدث انا نفسي لم اتوقعه!!


❈-❈-❈


اهتز جسده جزئيًا وكاد أن يسقط لهذه الصفعة القاسية التي نالها من والده، ما إن حاول الفرار منه ومغادرته غرفته في القصر، التي أجبره مصطفى جبرًا على دخولها .. الأمر كله كان فوضى، بالخارج، وقفت كل من سمر، ومريم في ترقب مميت، حتى العاملين تجمعوا بعد أن انقلبت أعقاب البيت في الأيام السابقة من احتفال برجوع السيد الصغير، لكارثة اختفاءه واحتمال تعرضه للخطف.. لا أحد يعلم حقيقة الأمر حتى الآن، لا أحد يعلم ما يحدث بالداخل، ومن الخِلقة التي أتى بها مصطفى من الخارج وهو يعنف أدهم، لا أحد يجرؤ على طرق الباب .. الجميع يقف في ترقب وصمت بانتظار أن يُفتح الباب!!

أما بالداخل، يمكننا القول أن البركان قد انفجر!!

- من أين أتيت بحركات المجانين هذه؟! .. لماذا فعلت هذا؟!! .. أجبني!!

صرخ مصطفى بصوت جهوري غاضب وكأنه فقد عقله .. هو بالفعل كذلك .. طوال اليومين السابقين عانى سكرات الموت وهو يفكر في أنه قد فقده .. لم يكتفي بإبلاغ الشرطة باختفائه، وقام بنفسه بتسخير كل نفوذه للبحث عنه وسؤال حتى ألّـد أعداءه إذا كان له يد في الأمر .. توقع كل السيناريوهات فعلًا، إلا أن يكون أدهم قد هرب بإرادته!! .. هذا فقط، شطر جانب العقل المتبقي لديه، ما إن هاتفه والد هذا الصبي الذي أول مرة يعرف أنه صديق لابنه .. وكانت القاسمة، هي محاولات أدهم المستميتة في رفض دخول البيت، حتى وصل به الأمر حد العراك معه وكأنه خرج عن السيطرة، فلم يدر بنفسه إلا وهو يصفعه للمرة الثانية كي يُوقف هياجه!!

للمرة الثانية .. حَصاها أدهم وأسرّها في نفسه .. لم تكن بنفس مرارة المرة الأولى، لكنها كانت أقسى .. كانت أكثر جفاءً وغضبًا .. والأهم أنها كانت أكثر ترسيخًا لثوابت الكراهية داخله .. أحسنت صنعَا أبي، هذا بالضبط ما كنت أحتاجه!!

هذه المرة لم يكن الطفل الباكي ذاته .. كان أكثر جمود وقدرة على المواجهة، وكأنه تلقى دفعة جرأة اكسبته صلابة .. هكذا هو ضبط النفس الذي تعلمه بالأيام المنصرمة!! .. ليجأر بصوت أكتسب الخشونة من كثرة تأدية التحية العسكرية بصياح جاف:

- لأنني لا أريد العودة هنا!! .. هل عرفت السبب الآن؟!

تجلت ملامح الذهول على وجه والده، فلم يتصور أن يكون هذا هو الرد .. ليس لأنه يجهل السبب، لكن لأنه لا يعرف حقا ماذا عليه ان يفعل!! .. الأمر فقط أنه لم يضع بحسبانه أن يظل أدهم غاضبًا منذ تلك المشكلة .. ظن أن المدة التي غابها، والكثير من الأمور الجديدة التي خاض بها كافية لإذابة أي عوائق بينهما .. ظن أن الشوق بالتأكيد قد سلك طريقه ليحل كل الخلافات، بعد أن افترقا للمرة الأولى، تمامًا كما حدث معه .. أليست تلك هي عادة الأطفال، يروق كدرهم فور أن يشغلهم شيء جديد؟! .. متى أصبح ابنه بهذه الذاكرة الصلبة؟! .. متى تخطى ابنه حاجز الطفولة؟!

نهج لتلك المعضلة التي صارا بها، والتف حول نفسه ليتلافى تلك النظرة الجافة التي يطالعه أدهم بها، قبل أن يعود ليسأله وقد تسرب الارتباك لنبرته:

- أهذا لما حدث آخر مرة؟! .. لازلت تحمل الضغينة من وقتها، أليس كذلك؟؟ .. أهكذا تعاقبني؟! .. بأنك تهرب؟؟ .. وتعاقبني لماذا؟!.. تعاقبني لأنني أردت مصلحتك ولم أتركك لتصبح مدمن؟! .. هل ظننت أنني أعاقبك بإرسالك للمدرسة؟! .. لا أدهم، لقد فعلت هذا لأجعل منك رجلًا وخِلت أنني سأجدك كذلك بعد تلك المدة، لكن ماذا وجدت؟! .. وجدت طفل غـب..

- أنا أكرهك!!

قالها .. أخيرًا استطاع قولها .. مُحملة بدفائن غضبه وقهره وحقده على مدار ثلاث سنوات فأكثر، مُضاف لها ٤٥ يومًا أسودًا .. ما ذكره أبيه أخيرًا كان بمثابة الجُذوة التي أشعلت كل شيء بداخله حتى أحترق على الأخير..!!

"أرسلتك لتصبح رجلًا.."

”القائد كان على حق..!!“

هذا ما طنّ بأذنه قبل أن ينفلت منه زمام الجنون، ويصرخ في وجه أبيه مُعربًا عن تراكمات إبادة طفولته .. ليتسلل داخله جزء من الراحة أخيرًا، فور أن تراءى له الفزع الذي انجلى على وجه أبيه .. كانت لحظة انتصار تنفست بها روحه .. أراد إيلامه بشده .. أراد انتقامًا مُنصِفًا لكبريائه المُهان، ولمخلفات ما أذاقه إياه قصد أو بدون قصد .. وهذا بالضبط ما منحه إياه تأثير كلمة (أكرهك)!!

أجل، كان هذا بالضبط!!

- ماذا قلت؟!

بالكاد تفرقت شفتي مصطفى الجافة لتطرح هذا السؤال بنبرة خطيرة، وكل خطوة يدنوها من أبنه يتأكد من عينيه أن ما قاله كان حقيقة، لكنه أنكر وعاود ليكرر سؤاله بإلحاح مجحف بينما ينحني ليمسك بعضديه ويهزه كي يتراجع عما قاله:

- أجبني!! .. تكره مَن أدهم؟! .. تكرهني أنا؟! .. أبيك؟! .. تكره أبيك!!

لم ينفي الصغير أي كلمه، فقط وقف منتصبًا بين يديه، وحدقته الثابتة بجمود زُرع داخله بأيام التدريب القليلة، أثبتت لمصطفى أنها لم تكن فَلّتة لسان، أو أن لديه حتى النية ليعتذر .. فتجعد جانب فمه بابتسامة تهكمية وقد خفف قبضته على ذراعيه ليبتلع الألم الذي تصاعد لحلقه:

- أتعرف ما المفاجأة التي كنت أعدها لك؟! .. كنت سأعدِلّ عن بقائك بهذه المدرسة!! .. لكنك لم تمهلني الفرصة، أول ما فعلته هو الهروب مني .. والآن تخبرني أنك تكرهني!!

أعتقد أنه بتلك الكلمات الصادقة سيذيب ذلك الجمود بعين أدهم، ويعرف مدى فداحة خطأه بحقه، ويعتذر عما بدر منه، خاصة كلمته الذابحة الأخيرة .. إلا أن ما حدث فاق كل التوقعات، فالولد قد تجهمت ملامحه أكثر كما لو تلبسه عِفريت، ليتبدى له في صورة عدائية لأول مرة .. عدائية شرسة لدرجة أنه لوهله لم يتعرف عليه وهو يهدر حتى احتقن وجه:

- ومَن أخبرك أنني أريد العودة هنا!! .. أنا أكره هذا البيت بكل مَن فيه وأفضل البقاء بالمدرسة على العيش مع زوجتك وابنتك!!

هزه مصطفى بين يديه بعنف وهو يكزّ على أسنانه بغضبه يلتهمه من الداخل:

- أدهم .. حرك لسانك بشكل صحيح!! .. هل تعيّ أنك تتحدث عن عائلتك؟؟ .. ابنتي تلك هي أختك أيها الغبي .. وزوجتي تبقى أمك..!!

نفض أدهم ذراعيه عنه بجفاء وهو يبتعد مصرحًا بشراسة أكثر تخطت حاجز الباب:

- قُلت لك مئة مرة تلك ليست أمي!! .. زوجتك يستحيل أن تكون أمي .. وابنتها لن تكن أختي..!!

- أصمت!!

صاحبت الكلمة صفعة جديدة أنهى بها مصطفى كل شيء .. إلا عِند أدهم!! .. فقد كانت بمثابة المزيد من البنزين المسكوب على نار مشتعلة بالفعل!!

وقف الصبي، لا يبالي بوجهه الذي يتوهج منه أثر الصفعات، ذلك لأن التوهج بصدره وصل أقصاه .. وفكرة واحدة تطوف بعقله كحشرة حبيسه .. يجب أن يرد الصفعة بأقسى منها، والآن!! .. لأجل نفسه المُهانة، لأجل الخذلان الذى أصبح رفيق دربه .. ولأجل الانتقام قالها:

- لن أصمت ثانيةً!! .. أنا أكرهكم جميعًا، ولا أريد البقاء هنا .. لا أشعر أنكم عائلتي .. عائلتي عن حق هي المدرسة!!

ارتجع مصطفى عدة خطوات وهو يدير الكلمات بعقله .. الكلمات، فتكت بعاطفته ونالت من أبوّته .. متى سار ابنه على هذا النحو من الجفاء؟! .. أيعقل أن يكون كل هذا بسبب تلك المشكلة؟! .. حتى وإن كان، فهو أخطأ، وكان عليه كأي أب أن يتخذ التصرف الواجب لردع سلوكه المتهور .. كان عليه أن يُفهمه أن ما فعله كان جُرمًا كبير لا يصح أن يرتكبه .. على الأقل هذا ما توقع أنه يفعله، وليس ما يحدث أمامه الآن!! .. ما وصله بعد تمعن في النظرة الغاضبة لولده، أنها محاولة انتقام لا أكثر .. لقد فهم أخيرًا طريقته في اللعب، يبدو أننا لن ننتهي من الحركات الصبيانية تلك!! .. حسنًا، لنرى إلى متى سيستمر في هذا .. فإذا كان هناك شيء يكرهه مصطفى، هو العِند، لم يعرف مطلقًا كيفية التعامل معه، لا يعرف له علاج سوى التجاهل!! .. وأدهم للأسف لم يكن عنيد فقط، بل أبشع من العِند نفسه، للحد الذي يجعله يرتكب أرطال من الحماقة، ويندم بعدها .. لكن لا بأس، ربما هذا ما يحتاجه لينكسر هذا العِند!!

رغم كل ما خاطره من تفسيرات إلا أنها لم تخفف من الوجع الذي أصابه قلبه من جفاوة الكلمة .. خاصة لو جاءتك من ابنك الوحيد .. تمالك نفسه ورفع حاجبه مخاطبًا أدهم باستياء وانفعال مستطير:

- هكذا إذًا؟! .. تكرهنا جميعًا والمدرسة صارت عائلتك؟! .. حسنًا، لا تغضب، لن أحرمك من عائلتك وسأعيدك لها .. وحالًا!!


❈-❈-❈


”أجل، فريدة .. لستِ وحدك مَن استخدم حِدة نصلها في طعن العدو، والقصاص منه دون مساس!! .. إنها لا تُجدي مع أي عدو معه .. بل حبيب تحوّل عدو!! .. ذلك يكون عقار مُسمّم، ومُصمم لأجله خصيصًا .. ينفذ مباشرةً إلى قلبه، فيظلمه، ويسرق نوره، يتركه فقيرًا مدحورًا من بعدك .. ولأنني فعلتها قبلك، هاج جنوني أن تُفعل بي .. أبيّت أن يُردّ ليَّ الألم .. أن تريّني كما رأيته .. أن تحملي لي الضغينة ذاتها، هذا ما لم استطع تحمله أو مجرد تخيله!!“

ظُلمة السماء كانت تحيطهم من كل مكان، لا شيء ينير الأجواء بينهما سوى شعاع النجم القطبي .. مازال حاضرًا، مازال شاهدًا .. طالما كان كذلك، رفيق دربه منذ البداية، شاهدًا على أهوال حياته، ومرشده الليلة في طريقه إليها .. يتخذ منه وسيطًا بينهما، يحمل لها كل نذور توبته، علّها تقبل رجاءه وتترفق به..!!

”لذا، دعي ما فعلته جانبًا، لكن لا تكرهيني فريدة على هذا النحو المسموم أيما حدث .. لأنني مجددًا أعرف ماهيته!!“

أما هي، فبين بؤسها وبؤسه كانت عالقة .. ثمة أزيز عالٍ ومؤذي يتراقص على أعصاب جسدها بالتناوب فيُتلفها، ويضرب ضَفَّتيّ عينها، فيُزيغ لها الرؤية، ليعزف مقطوعة شنيعة الأداء تواكب طنين أذنها .. وارت عنه وجهها الذي تكمشه من الألم محتضن وسادتها من جديد، لتضغط ألمٍ آخر استوطن صدرها .. وعندما تمكنت منه قليلًا، طالعته .. ألمه هو كان جليًّا عنها تلك اللحظة، كتجليّ النجم القطبي تمامًا هذه الليلة!!

”تبا، لا تنظر لي هكذا، ولا تتصرف على هذا النحو .. لمّ بحق الجحيم استشعر ألمك الآن، وأحاكيه على نفسي؟؟ .. هذا سيء للغاية!!“

تكاد تقسم أنه يفعل هذا عن عمد، لقد عاشت شيئًا يشبه هذا رغم فارق حدة الاحداث .. تلك اللحظة التي تتوقف بها عن توسل الحب وإعلان الاكتفاء، ولو حتى بشكل مزيف، لا تملكه!! .. محضّ كلمة قد يُسيء البعض الفهم بأن الطفل يبالغ في استخدامها .. حسنًا، يمكن لهذا أن يكون صحيحًا، في حال لو لم تكن مدفوعة بهذا الكم من المشاعر المنتهكة لعمر ذلك الطفل!!

- هل كنت تقصدها عن حق؟؟ .. أم قولتها في لحظة اندفاع؟!

لم يفهم أدهم قصدها من للوهلة الأولى حتى أضافت موضحة بكسل شديد كما بدى له:

- أن المدرسة عائلتك أقصد!!

ضحك أدهم ضحكة فاشلة لم تكتمل، ليضم ذراعيه أمام صدره في وضع دفاعي ويتنهد بحيرة:

- صدقيني لا أعرف .. كما أخبرتك، تلك اللحظة كل ما أردته هو أن أؤلمه فقط، كأي طفل فريدة، سلاحه الوحيد هو الكلمات .. لكن أعترف، بقى جزء ضئيل خائب تمنى أن يهلع وتتحرك عواطفه في الاتجاه المعاكس لما فعل .. أما الجزء الأكبر، فقد تكفلت الكراهية بملئه وتثبيت قناعتي بأن أي مكانًا آخر سيكون نعيمًا مقابل العيش مع عاهرته .. كنت مستعد لتقبل أي وضع إلا أن أعود لذلك الطفل اليتيم الذي ينظر لعائلة سعيدة .. هذا ما كنت أفكر فيه، ولأيام لاحقه كلما أعدت حُسبتي، تأكدت بأن مكاني بالمدرسة أفضل كثيرًا .. على الأقل لن أشعر باليتم هناك، ربما لأن الجميع يشاركني هذا الشعور، الجميع هناك يشبه بعضه، لا أحد مميز عن الآخر .. لذلك، أجل، من هنا بدأت أقنع نفسي بحقيقة الانتماء للمدرسة قبل شعور الانتماء للوطن الذي يعزز داخلنا كل صباح .. وأنه إذا كان لي عائلة، فستكون هي .. وساعدني هذا على تخطي محنتي مع أبي، فرويدًا اندثر شعور النفور من داخلي ولم يبقا منه شيء .. لم أعد أحمل له أي شيء .. مع كل اجازة كنت أرفض نزولها، كنت أتخلص من حنيني وتعلقي .. كنت اتخلص من نسختي الضعيفة .. أتغلب على الطفل الساذج المتشبث بطرف أبيه!!

- ووالدك؟؟ .. هل تقبل الأمر بهذه السهولة؟!

اتسعت ابتسامته وكأنه يحكي لها عن أحد انجازاته:

- بالطبع لا .. لقد حاول كثيرًا معي، مرات باللين، ومرات بالشدة .. حتى أنه لجأ بالنهاية لاستخدام مريم للتأثير عليّ، أحضرها في زيارة خاصة لي على أمل أن تقنعني .. وبالفعل حاولت بإلحاح مُضني لكن الأمر كان بمثابة كرامة بالنسبة لي، لا أعرف حتى الآن من أين أتيت بكل هذه الصلابة، ولكني حسمت الأمر حينما هددتها بأنني لن أقابلها إذا تحدثت عن هذا مجددًا .. حتى طفح بأبي الكيل وفي إحدى المرات صعد لي غرفتي وأراد أن يأخذني قسرًا من المدرسة، وكاد أن يفعل هذا لولا تدخل القائد حينها .. هو الوحيد مَن استطاع التعامل معه بكياسة واقنعه بتركي أقرر مصيري، إذا أراد أن يصنع مني رجلًا بالفعل!!

عقبت فريدة بينما تمسد صدغيها لتشوش على الألم هناك:

- ذاك القائد .. كان داهية!!

توسعت عينيه بحركة عابثة كناية على المبالغة في التأكيد على جملتها ولم تختفي تلك الابتسامة من ثغرة:

- دعيني أخبرك أنه لم يفعل هذا إلا لأنني نطقت بالكلمة السحرية أمامه .. ”المدرسة هي عائلتي“ .. كنت أثق أنها ستجدي معه .. بعد كل شيء، كان عليّ أن أتعلم بعض المكر كي أنجو!!

وغمزها في نهاية حديثه، فلم يمكنها مقاومة الاعتراف بهذا:

- آه .. لا تقل هذا .. ما زلت لا اصدق أنك تتحدث بجدية، لكن .. لديك الحق .. هذا ما يُدعى غسيل مخ كما يقول الكتاب!! .. فها أنت، رغم كل شيء، أقررت بنفسك بما أراد أن يزرعه برأسك من أول يوم!!

مط شفتيه مع زفير حار فارق جوفه ليتأخذ نبرته منحنى جاد:

- ربما هذا صحيح، لكنه لم يدم لأمد بعيد .. فما لبث أن عاودتني فكرة الهروب مرة أخرى .. في البداية حاولت اقناع نفسي أنني سأعتاد مع الوقت، ومرت شهور ولم يحدث هذا .. نفس الروتين الخانق، نفس الزيّ الغبي، ونفس الأوامر .. ما اختلف فقط، أنني صِرّت أذكى قليلًا لأتلافى العقوبات، وجسدي الهزيل ٱعيد ترتيب الدهون والعضلات فيه ليصبح الشخص الذي أنظره كل صباح في المرآه أقوى .. غير هذا، الأيام جميعها سِيّام، أسبوع مجهد طويل، ويوميّ إجازة اقضيهما إما هائمًا في أرجاء المدرسة أو محدقًا بالفراغ .. الأمر كله أنني كنت أقترب كل يوم من قتل نفسي وأنا أتخيل سنواتي القادمة أقضيها على هذا المنوال المميت!!

- وطوال هذه المدة .. لم تكوّن أيّة صداقات؟؟

هز رأسه بكسل وبدأت نبرته تأخذ إيقاع أبطأ وكأنه يقترب من منحدر وَعِرّ .. وقد كان بالفعل:

- ولا حتى هذه، فبعد امتناعي المتكرر عن نزول الإجازات، لاحقتني صفة الغرابة مرة أخرى بالمدرسة .. طبيعي، ففي الوقت الذي يتلهف فيه الجميع ليوميّ الخروج من هذا الجحيم، أفضل أنا البقاء!! .. ولأنني كنت أكره الفضول والتطفل فرفضت صداقه كل مَن حاول معرفة السبب، بحجة التسّرية عني، لأبقى مجددًا الطفل المنبوذ .. إضافة إلى لقب (صاحب الغرفة الفردية) الذي لاحقني، فكما أخبرتك كان شيئاً مميزًا، وطلعت معه إشاعة خرقاء وقتها أني جاسوس سري لدى القائد، لذلك اعطاني تلك الغرفة وحدي، ولكِ ان تتخيلي المعاملة من الجميع!!

ضحكت حتى آلمها وجهها فور أن سمعت كلمة "جاسوس" .. تلك الاطفال كانوا كارثة!! .. صدقًا ماذا تتوقع من أطفال بمدرسة عسكرية؟! .. لهثت انفاسها لتكون جملة:

- يا إلهي .. ما هذا البؤس؟! .. عذرًا، الأمر فكاهي للغاية!!

- يسعدني أنكِ تجدينه كذلك!!

أجابها بنبرة ساخرة وهو يمسح جوانب فمه، حركت عينها لهه بحرج طفيف، وقضمت شفتها بتفكير:

- ولكن لم تخبرني، لمّ لا يُسمح لأحد بغرفة فردية؟! .. أليس هذا من المفترض أن يُنمي جانب الاستقلالية والبلابلابلا خاصتهم؟؟

اشار لها بإصبعه دلالة على صوابها:

- تلك هي النقطة .. الاستقلالية تُعارض القواعد الأساسية، فريدة .. الاستقلالية تعني التفرّد، والتفرّد ضد الانتماء .. الاستقلالية تعني أن تحتفظ بأسرارك الخاصة .. تعني الخصوصية، وهذا عكس مبدأ الجماعة، التي تحمي أسرار مشتركة .. لذلك لا يُسمح بغرفة فردية، فبوجود شريك، لن يكون هناك أسرار، ولن يكون هناك استقلالية .. وبالتالي لن يفكر أحد في مستقبله كفرد .. بل كمستقبل جماعة .. ومستقبل دولة ووطن فيما بعد!!

تاهت فريدة في عمق الكلمات، وكيف أن أبسط الأشياء لا تتم لدى البعض عبثًا، إنما على أساس وتخطيط متقن ومحسوب بالميللي .. لا شيء اعتباطي هنا!! .. عادت بتركيزها له وهو يتابع:

- وعلى هذا الأساس تعاملت مع الجميع بفوقية شديدة، ربما لم أرد أن أوطد علاقتي بأحد، لأنني ارتأيت أنني سأرحل على كل حال، فلا فائدة من هذا .. لم يكن هناك، سوى مكالمات مريم القصيرة، هذا كل ما استطاعت أن تفعله، الاطمئنان عليّ كل حين، فهي لم تكن من أقارب الدرجة الأولى ليُسمح لها بزيارتي، إلا إذا جاءت بصحبة أبي، والذي امتنعت بالأساس عن رؤيته!! .. حتى الإجازة الصيفية، قضيتها بين التدريبات المكثفة ومعسكرات الكشافة وفرق التخييم .. لا أنكر، كل هذا أثقلني خبرة وأمل في أنني سأنجو بعد الهروب خارج أسوار المدرسة .. كل يوم كنت اقضيه، أزداد قوة ويقين أنني سأنجح بكل ما أتعلمه، لن احتاج للجوء إلى أحد هذه المرة .. وعِندها سأتخلص من كل قيودي .. حتى انتهت الإجازة، وجاء ذلك اليوم الذي خشيته دائمًا!!

أسكتت أنفاسها، وكممت آلامها ترقبًا للقادم .. وهو لم يكن أقل منها في هذا، نبيض التوتر ضرب أعصابه .. تُرى كيف ستستقبل هذا؟! .. فالقادم سيء، ورغم سوؤه إلا أنه البذرة التي شكلت الشخص الذي عرفته .. أوليس هذا ما أرادت أن تعرفه منذ البداية؟؟ .. لذا، استجمع جأشه وأكمل من حيث توقف:

- بعد الإجازة، ترقيّت للصف الأول الإعدادي، وكان من الطبيعي أن انتقل من غرفتي، فنظام السكن هناك كان مُقسم طبقُا لفئتين، الأولى تضمّ المرحلة الابتدائية، والأخرى مَن هم أكبر من هذا .. وعلى ذلك، تركت غرفتي الوحيدة التي احتميت بها لأشهر، لأتشارك واحدة مع آخر .. وعليّ أن أقول، كان هذا من أسوأ الأوقات التي مرّت عليّ!! .. كان الأسوأ على الإطلاق .. من يعرف، ربما ما تلاه ما كان ليحدث، فقط لو لم اقابل شريكي الجديد...!!

توقف ادهم ليرخي جفنيه ومن ثم جسده بالكامل على جدار السياج خلفه، لعلّ روحه هي الأخرى تستريح وترمي عنه ثقل آثام الماضي:

- يوم التوزيع، وجدت الغرفة فارغة حتى ظننت أن القائد خصني بها مرة أخرى .. لكن أحد العساكر أخبرني أن زميلي بالغرفة لم يُنهي إجراءات قدومه بعد، فعرفت أنه وافد جديد على المدرسة، وأن اسمه "أحمد رفعت" أو "رفعت" كما كان يُنادى فيما بعد .. بقيت طول اليوم في ترقب لوصوله، وارتب بذهني كيف ستكون المعاملة بيننا وأني بالتأكيد لابد أن أتجاهله ريثما أنفذ خطتي وأهرب .. وانقضى اليوم، ولم يصل زميلي هذا، إلا بساعة متأخرة من الليل وبعد نوم الجميع .. فُتح باب الغرفة بحرص شديد ودخل دون صوت، واضجع فراشه .. ومن ثم بدأت المعاناة .. لم ينقطع لحظة تلك الليلة عن البكاء .. بكاء مكتوم مستمر دمر أعصابي وأذهب عني النوم، ذكرني بمعاناتي أول ليلة، وجعلني أفكر إذا كان قد تعرض لنفس المصير أم لا .. ومع ذلك كنت صارمًا مع نفسي ولم أتدخل مطلقًا واستمريت في تنفيذ خطتي القائمة على التجاهل .. حتى طلعت الشمس، ورأيته لأول مرة، كان أصغر هيئة من سِنه مقارنةً بي أو بالأخرين .. ذو شعر بني تمّ حلقه كالجميع، بشرة بيضاء وجسد نحيل .. يومها، ظل يراقبني بعينٍ واسعة دون انقطاع وعندما هممت بنهره، انتبهت انه يفعل هذا ليرى كيف يرتدي زيه وحذاءه، ويستخدم عُهدته .. وعندها عدت لتجاهله من جديد..

اسند أدهم رأسه على الاطار وتابع بينما يرمقها بنظرة فارغة:

- بالأيام اللاحقة، شاهدت تعرضه للتنمر والمضايقات كثيرًا، كان مُسخة الجميع، وتحديدًا مجموعة من طلبة دفعة التخرج .. الحقيقة، كانت هذه الطبيعة التي تحكم الفئة الأكبر، تنمر، مضايقات، سخرية ومقالب سخيفة غرضها الأول والأخير، الأذية.. فئة تستحق القتل كما أطلقتُ عليها حينها!!

- ومع ذلك استمريت في تجاهلك؟؟ .. اعني لم تتدخل وتدافع عنه؟

همهمت فريدة بأداء بطئ محاولة تخفيف الضجيج المستعر برأسها، ليقابلها أدهم بقهقهة عالية وكأنها ألقت عليه أحد النكات:

- أفعل ماذا؟! .. تبا، انا بالكاد كنتُ أصدّ هذا عني، وكل الفضل للتدريبات الصيفية المكثفة، وإلا كنتُ عانيت الأمرين معه!! .. وحتى لو كان بإمكاني، لم لأكن لأفعل .. إذا لم يدافع هو عن نفسه، لن يفعل أحد!! .. ذلك كان القانون السائد هناك .. قانون القوة .. القانون الوحيد الذي لا يُخبرك به أحد، بل تتعلميه وحدك!!

عقبت فريدة بعينٍ ساهمة وكأنها تُجالسه بنصف وعي:

- عندما اسرح في حديثك، أتخيله كسجن، لا كمدرسة!!

جاءتها إجابته القاطعة على الفور:

- أي مكان يحبس حريتك هو سجن، لن يهم الاسم حينها سجن، مدرسة ..

- أو علاقة؟!

ألصقت كلمتها بجملته بنبرة ذات مغزي، ليلتقمّ ما تقصدته بشفاه مزمومه:

- أو علاقة .. أصبتِ!!

تعلقت الأعين لجزء من الثانية، وكان التشكيك بها جليًا .. ثمة حديث يأبى الخروج، ربما أن أوانه لم يحن .. وبصعوبة تجاوز شرار عينها المستتر واستخدم الكلمات ليخرج من الزاوية التي حشرته بها:

- استمر الوضع لأسابيع، في الصباح أعمل بجدية على خطة هروبي، أتعلم من محاولتي الساذجة وأدرس الأمر كما شاهدته في الأفلام .. يعني أحدد نوبات الحراسة، وعددها وأوقات الراحة وتبديل الدوام وأي فرصة تمكنني من الفرار للخارج بسلام .. أما ليلًا، فتبدأ ويلاتي مع وصلة النحيب تبع شريكي العزيز .. البكاء كان وسيلته الوحيدة في تفريغ السخرية التي تتم عليه نهارًا، وتدريجيًا بدأ هذا يستفزني .. لمّ لا يثور ولو لمرة واحدة ويدافع عن نفسه، إذا كان في كل الأحوال سيتم ضربه؟! .. مع ذلك، غضيت النظر عن هذا، ولم يجعلني أخرج عن صوابي، سوى فوضويته واهماله، خاصة حينما تطول حيز حدودي من الغرفة .. فعلا كنت ٱجن فور أن أرى ملابسه وأغراضه ملقاه في الأرض وفي كل مكان، وأبدأ في التشاجر معه بحدة، والأبله لم ينطق بوجهي لمرة!! .. كان هناك ما يسمى بـ(المرور المفاجئ)، يتم فيه التقييم على النظافة الشخصية، ونظافة الغرفة .. وإذا ثبت تقصيرك -ولو في زِر قميص- تتم معاقبتك فورًا!! .. ودعيني أخبرك أنه عملًا بقاعدة المسؤولية هي العقاب، وأن السيئة تعمّ، فبالتالي ستتم معاقبتي معه .. أكثر ما كان يثير غضبي، تشبثه بغباء بعاداته المستهترة، وكأنه لازال بحضن أمه!! .. أثبت لي بالأدلة القاطعة أن ثمة مخنث مدلل أكثر مني حينما دخلت المدرسة!!

جمعت فريدة كل ما بصدرها من تعب امتزج بعبء حديثه لتبلل شفتيها وتطرح السؤال الأشد وطأةً:

- وكيف كانت تلك العقوبات؟؟ .. أعني سبق وذكرت أن حبسك بتلك الغرفة كان ألطف عقاب هناك .. إذًا...؟!

رغم دهشته من سؤالها عن شيئًا كهذا، إلا أنه تقبله بصدرٍ رحب متبسمًا بسخرية كعادته:

- أرى أن لديكِ فضول لتعرفي عن الأسوأ..!! .. حسنًا، باختصار، كان اعتمادهم بشكل أساسي على العقاب النفسي، لأنه الأسوأ، ولأنه الأكثر فعالية .. هذا ما تعنيه قاعدة؛ السيء جيد!! .. وهذا كان غرضًا آخر للعقوبات العلنية، الاهانة، التحقير، التوبيخ، كل ذلك كان نمط مميز للمعيش هناك .. ويكون ذو فاعلية أكثر إذا تمّ مزجه بألم جسدي .. ومجددًا، لا يلمسك أحد .. كان ذلك النوع من التذنّيب لمدد طويلة وفي أوضاع جسدية غير مريحة بالمرة .. حركات جسدية صعبة ومُهلكة، يتم توجيهك لتقومي بها، ثم يُلزمك بالمحافظة على هذا الوضع لأمد غير معلوم .. كأن يأمرك بالوقوف على ساقٍ واحدة وعدم استخدام أي طرف من أطرافك الأخرى ولا حتى تحريكها .. فقط، ويتركك هكذا، بضع دقائق وتبدأ أعصابك في الانهيار .. بل نفسيتك هي التي تنهار .. يُحطم عزيمتك على التمرد أو العصيان أو حتى الميل للإهمال مجددًا .. ذلك لأن مع أبسط أنين أو تعب يصدر منكِ، يتم توبيخك بما لذّ وطاب من العبارات التي تقلل من رجولتك وتنال من كرامتك كمقاتل مستقبلي مسؤول عن حماية الوطن .. أو تقضين ساعة الراحة الوحيدة في مسح الأرضية باستخدام فرشاة أسنان .. أو في نقل حبوب الارز من الشِوال إلى مِرْجَل الطهي بمعلقة صغيرة .. أي عمل حقير يحطم أعصابك قبل عظامك!!.. ودون أن يلمسك أحد!! .. لذلك حبسك بغرفة لا تفعلي بها شيء سوى النوم والراحة كان ألطف عقاب شاهدته هناك!!


❈-❈-❈


- ارفعي يديكِ وضعيهما خلف رأسك .. جيد .. أمسكِ بيدكِ اليمين مفصل كتفك اليسار والعكس .. أحسنتِ صغيرتي .. أفردِ ظهرك تمامًا .. ضمي ساقيكِ لبعضهما .. الآن، ابقِ هكذا واثبتِ ولا تُحدثِ صوت .. وإياكِ أن تهتزي في وقفتك ولو قدر ملليمتر واحد .. ذلك سيُضاعف عقابك!!

تأملها وهي أمامه .. تبًا، تبدو فاتنة، صدرها المكتنز قد ارتفع بفعل ذلك الوضع .. يبدو مثير وهو يرتجف بأنفاس قصير وسريعة .. وجنتها تحترق وتتوهج باحمرار .. تبدو خائفة، وخجلة .. جيد!!

تركها ثم أمسك باللاب توب الخاص به وفتحه يتفحص الرسائل الالكترونية ويرد علي الهام منها، ويطلع علي بعض التقارير المؤجلة، ولكن عينيه مازالت مُعلقه بتلك القطة المخملية القابعة تحت قدميه.

سيعرف جيدًا كيف يُؤدبها علي ما فعلته بالماء .. تعصي أمرًا له وتُعرض حياتها للخطر .. تبا، جسده تشنج بالغضب من تصور ما كان يمكن أن يحدث لها .. لا يجب أن يتهاون معها أبدًا .. لابد أن يتركها هكذا حتي تتكسر عزيمتها ويتفتت كبريائها، وتصبح أي رغبة لديها في التمرد كالرماد..!!

مرت نصف ساعة كاملة وهي علي ذلك الوضع المؤلم .. جسدها أصبح كالهلام يرتعش ويهتز، وكأنها ستفقد اتزانها في أي لحظة .. ركبتيها تخدرت من الألم، الألم بهما لا يُحتمل بسبب الضغط علي تلك الارض الصلبة .. ومفصلي كتفيها تشعر وكأنهما سينخلعان .. ظهرها يؤلمها بشده وكأنها سقطت عليه .. الألم وصل حده برقبتها تشعر وكأنها تعاني من كسرًا بها .. تشنج عام وشد عضلي استوطن منطقة الكتفين والظهر مرورًا بالرقبة..

الوضع حقًا أصبح يضغط علي المراكز العصبية الخاصة بالألم وأصبح يطغي على عقلها .. لا تستطيع أن تفكر بشيء سوي الأجزاء التي تؤلمها .. تكاد تفقد عقلها من ذلك .. كل أوضاع الجسم مؤلمه؛ لذلك يستمر الانسان بالتحرك حتي يخفف من ذلك الالم .. أما الآن، فالوضع يجعل من الصعب عليها الثبات مع هذا الكم من الألم، في أجزاء أساسية بالجسم، بالعادي لا يستطيع الفرد تحمل الالم في أيٍ منهم منفردًا، ما بال بهم جميعًا معًا!! .. الظهر، الرقبة، الكتفين، الركبة..

”اللعنة عليك أدهم وعلى ذلك اليوم الذي صادفتك به .. يا ليتك تركتني أموت!! .. وأنا التي كنتُ أشعر بالامتنان نحوك، وقد اُعجبت بك وبكل ما فعلته معي وبدأت مشاعري تتحرك نحوك... تبا، كم أنا حمقاء حتي أحب وحشًا مثلك!!“

تشنج جسدها في هذا الوضع، وطول هذه المدة يزيد من إفراز حمض (اللاكتيك) بكثافة لعدة أضعافه في الطبيعي؛ مما يؤدي الي ألم بعضلاتها ويسبب لها الحرقة بالعضلات، التشنجات، والشعور بالإعياء .. هو يعلم جيدًا ما يفعله .. يعلم أنه كلما زاد الألم، كلما ضعفت عزيمتها وعندها وكبريائها .. وهذا هو ما يريده تمامًا!!

لاحظ اهتزازها الذي بدأ يزيد، وجسدها الذي يميل للأمام قليلًا، ثم تستعيد وقفتها، وما يلبث أن تميل مرة أخرى .. همهماتها الخافضة المكتومة التي بدأت تتسرب منها .. يديها ترتعش وظهرها ينحني تحاول تخفيف الالم .. تغمض عينيها بإرهاق، شفتيها متفرقة قليلًا ومن الحين لآخر تحاول ترطيبها بلسانها، انفاسها أصبحت ثقيلة وعميقة، وكأنها تواجه صعوبة في التنفس..

”تبًا، هل تعاني من انخفاض في ضغط الدم؟! .. يجب أن أتوقف الآن؛ بالتأكيد عضلات جسدها تؤلمها وتواجه تشنجات بها..“

أغلق اللاب توب وبقيَّ ينظر لها لثواني .. ألن تطلب منه أن يتوقف؟؟ تتوسل العفو؟؟ .. ألن تستخدم كلمة الأمان حتى؟؟ .. هز رأسه بإحباط، تلك المرأة تصيبه بالخيبة:

- فريدة، لقد خالفتي أمري مرة أخرى، ولم تحافظي على ثباتك .. ماذا أفعل بكِ الآن؟؟


❈-❈-❈


” ليتني لم أفعل شيء!! .. ليتني تركتك كما أنتِ .. نقية .. بريئة .. ليتني لم اُقحِمك في ظلامي!!“

افاق من تلك الأيام التي كان فيها تلميذ نجيب، حفظ دروسه بنبوغ حتى أصبح يؤديها بإتقان دون أن يدرك!! .. ومن ثم فلتت منه مطلع ضحكة يقمع بها حسرته، وحك أنفه مضيفًا ليشوش على الأصوات بعقله:

- أذكر في مرة، تأخرت عن الطابور الصباحي لاستغراقي في النوم .. حينها أمرني (القائد) بالركض حول الملعب دورة كاملة على ساقٍ واحدة!! .. ودعيني أخبرك أنها لم تكن بمسافة هينة يسهل ركضها على الساقين معًا!! .. اللعين، جعلني أتذوق طعم التراب في فمي لأول مرة من كثرة السقوط علي وجهي!!

وقهقه بمليء فمه ليمسح جوانب عينه التي اُدمعت .. ولم تستطع فريدة ألا تطالعه بشفقة خالصة، لم يكن هناك ما يدعو للضحك، الأمر مأساوي بحت في حين أن عينه تدمع من الضحك!! .. مازال يرتدي القناع أمامها، وهذا ما حرك شفقتها بجرعات مُضاعفة .. ذلك لأنها علمت أن الألم كان كذلك، مُضاعف!! .. لكن ما كان جيد بالأمر أنه لم ينظرها تلك اللحظة وإلا ما استطاع أن يتماسك ويكمل بعدها:

- لذلك، كنتُ أعاني مع هذا الأخرق لأتحاشى العقاب بدون سبب من وراء رأسه .. حرفيًا فريدة، أحيانًا كنت أشعر أنني أمه، وانا ألملم ورائه الفوضى التي يخلفها .. وبالأخص كارثة تبوله اللاإرادي المباغتة كحالات الطوارئ، والتي رغم انها كانت إحدى كوابيس حياتي إلا أنني لم أبلغ التفتيش عنه .. لا تسأليني عن السبب، ولكني -ودون تبادل أي حديث معه- كنت اُعيره ملائتي البديلة بتلك الأوقات .. لم أرد قط أن يُعاقب، في مخيلتي، كنت أرى أن ما يعانيه يكفيه .. حتى بعد أن وصل به الأمر لتسلله من الفراش في بعض الليالي، وظهوره باليوم التالي بهيئة غير الهيئة، متجاوزًا بذلك القواعد التي كانت تجرّم الخروج من الغرفة بعد موعد النوم!! .. كان بإمكاني أن أشكوه للقائد، وسيلقى هذا استحسانه بالتأكيد، وسأحظى باهتمامه.. لكن للمرة الثانية لم أرد أن أؤذيّه، ربما لأنني لم أراه أكثر مما يراه الجميع .. "رفعت الأخرق"!! .. ولمدة، حاولت السيطرة على فضولي وريّبتي حول هذا الولد والتركيز بهمّي، لكن مع تزايد نحيبه مرة عن مرة، فاق الأمر تحملي ..

- ماذا فعلت؟؟

تلكأ في إجابتها بينما يربت على شفتيه بشرود بائن وكأنه غرق في الذكرى:

- ليلتها، انفجرت به صارخًا بأن يصمت، لكن صراخي جعله ينخرط أكثر في بكاء هستيري، وهذا استفزني أكثر؛ لأنني -ولغبائي- كنت أرى نفسي به .. نفس ضعفي السابق وبكائي .. حرك بداخلي شئ أحاول التغلب عليه .. أردته بشدة أن يصمت ويعرف أن النحيب والضعف ليست وسيلة للعيش هنا!! .. أردت أن اعنفه بشده كي يفيق، وينهي وصلة الدراما تلك .. وفعلت، رحت أصرخ به وأنهره وأوبخه نيابةً على سابق الأيام التي فلّق بها رأسي؛ ونفخ صدري من الهم .. فإذ به يلتصق بزاوية الفراش ويتكوّر على نفسه كفأر مذعور، مرددًا عبارات اعتذار لا نهائية، وكأنني مارد يستعيذ منه!!

خمنت فريدة غلى الفور:

- وهذا الشعور...

- كلا، لم يمنحني أي لذة، إذا كان هذا قصدك .. هذا الشعور اخافني فريدة .. اخافني من نفسي .. أخبرتك أنني كنت أرى نفسي به، وذلك لم يكن جيد .. ارتأيت أنني لا افرق شئ عن الحمقى الذين يتقصدونه بالنهار .. ولا عن رُتب القيادة بالمدرسة .. ولا حتى عن تلك العاهرة التي كانت تعنف طفل بالثامنة على شيء لم يرتكبه!! .. صدقيني فريدة حتى تلك اللحظة، لم أرد دور الجاني ولم أتقبله!!

نفى بالكلمات وبداخله كان الشك بازخًا .. كثف تركيزه على الذكرى لعل يأتيه اليقين بأنه كان برئ من الظلام حتى تلك اللحظة، وأنه رغم السوء الذي ألم به، كان يحافظ على نقاء روحه .. على سجيته .. أنه حتى تلك اللحظة ظل متشبثًا بذاته الحقيقة!!

اجتر ريقه مرتين وتسلح بقناع الجمود ليطمس أي شعور يهدد بالظهور الآن:

- لا أعرف .. بطريقة ما -ومن بعد تلك الليلة- حصلتُ على أول صديق لدي داخل ذلك الجحيم .. عرفت أن أباه ذو رُتبة عُليا بالقوى الحربية بالأساس، ولذلك شاء إلحاقه بها خشية أن تفسده والدته دلالًا، كونه الولد الوحيد لأربعة شقيقات هو أصغرهم .. وأن بكاءه المستمر بسبب اشتياقه لوالدته؛ لأنه لأول مرة يكن بعيدًا عن حضنها .. وما زاد بكاؤه تلك الليلة ما وصله أن والده لن يكون متفرغًا ليستقبله بأول إجازة له .. بعبارة أخرى، رفض استقباله من الأساس، وأخبره بصراحة أنه لن يراهم قبل ٦ أشهر من إعداده في هذه المدرسة، وذلك بالتأكيد لأسباب لوجستية عميقة تخص مصلحته وتربيته، ومستقبله كقائد يرث راية البطولات من بعده!! .. شعرت حينها بأن ثمة أحد يتشارك معي نفس المصير البائس، ولا أنكر أن هذا خفف من وطأة شعوري .. الحقيقة أنني كنت في حاجة لصحبته أكثر منه!! .. فبوجوده صارت الأيام تمضي أسرع، تدريجيًا توقف هو عن البكاء، وقضيت الإجازة في تعليمه أساليب الدفاع التي أعرفها .. نوعًا ما كنت أشعر بالمسؤولية نحوه، وأردته أن يصبح أقوى، ويدافع عن نفسه .. وهذا بالفعل ما حدث، فكانت أول مرة أراه يدافع عنه نفسه أمام أحد أولئك المراهقين الحمقى الذين يتقصدونه .. كانت أول مرة للجميع يراه هكذا .. "رفعت الأخرق"، لم يعد أخرق!! .. حتى أن من دهشة ذلك الولد، لم يستطع أن يرد لـ "رفعت" الدفعة، وظل مفترشًا الأرض بذهول دون أن يحرك ساكن .. ولأيام بعدها ظللنا أنا وهو نعيش لحظة الانتصار .. حتى أنني وفي غمرة سعادتي، أطلعته على خطة هروبي التي تحمس لها جدًا وكأنه وجد طوق النجاة، وراح يشاركني الأفكار لتنفيذها والتي اعترف أنها أظهرت كم أنه يمتلك عقل مبتكر .. كل شيء كان يسير على نحو جيد وبيّدَ أننا سننجح معًا...

- حتى..؟؟

استعجلت فريدة الكارثة التي على وشك أن يلقيها عليها .. فابتسم، وكانت ابتسامته هذه المرة حالكة جعلت قلبها ينقبض بطريقة مؤلمة:

- حتى جاءت نقطة التحول الأخيرة .. الليلة التي استسلمت لفضولي للمرة الثانية وتسللت خلفه لأعرف أين يذهب بتلك الليالي؛ لأنه -ورغم تقربنا- لم يفصح عن هذا واخفاه عني .. للمرة الثانية، كررت الخطأ ولما أتعلم نكبتي الأولى التي جلبت عليّ كل هذا الشقاء!! .. صحيح، الفضول قتل القط .. قتله عن حق، فريدة!!


يتبع