الفصل السادس عشر - وكر الأبالسة - Den of Devils
الفصل السادس عشر
❈-❈-❈
" تتكئ الشجرة على الشجرة، والإنسان على أخيه "
مثل يوغوسلافي
❈-❈-❈
احتدم وجهه بنظرات الملل من عدم تقبله أن يُنبس ببنت شفة منذ مشاجرته هو وزوجته ليحاول معه من جديد فبالرغم من كل ما يفعله من أجل "رُفيدة" لن يشفع له مع أخيه الذي يعلم أن هدوئه وصمته لا يأمن لهما إلا الساذج!
اقترب ليجلس على مقعد أمام المكتب ثم حدثه للمرة المائة:
- صلي على النبي كده يا أبو سيلا واحكيلي.. حوارك أنت ومراتك ده فيه ايه! عيب يعني ميصحش ده أنا اخوك الكبير..
أغلق عينيه يعتصرهما بعد تصميمه على محاولاته التي لا تنتهي وقد نفذ كل صبره على هذا الفضولي ليتحدث بلهاث من غضبه المكتوم ناطقًا الكلمات من بين أسنانه المُطبقة بمنتهى الإستهزاء:
- بقولك ايه، بطل تدخل في اللي ميخصكش.. مش علشان رفيدة سامحة إنك تقعد معانا يبقى هسمحلك تدخل في خصوصياتي أنا ومراتي.. أظن أنت حسيت إنك مرفوض بما فيه الكفاية وشخص غير مرغوب فيه.. اتفضل اطلع وسيبني اخلص شغلي..
ابتلع تلك الإهانة التي صفعها به وابتسم بغيظٍ هائل ثم اخبره محافظًا على ملامحه:
- وساعة الإنتخابات كنت اخوك حبيبك.. ساعة المصالح بتتصالح عادي!
نهض وهو ينظر له بملامح تلقائية فهو لم يعد يستبعد كراهيته الشديدة له التي من شأنها تؤذيه هو و "سعد" و "رحمة" وكل من يكترث لهم، أو ربما هما الاثنان لا يملك سواهما ليقول بصرامة:
- بنتك اللي كسرت بخاطرها قدامي ابقى اندهها واحنا بنتعشى وكبرها وقولها كلمتين حلوين، ولو عايزني مالعبش معاها ولا أقرب منها ماشي، بس البنت ملهاش ذنب تزعقلها ومش هي اللي غلطانة، الغلط غلطي.. تيجي تكلمني! هي معملتش حاجة! انت قولها تعمل اللي هي عايزاه وأنا مش هاجي ناحيتها!
ابتسم ساخرًا ثم أضاف:
- ومراتك المحترمة اللي حاولت اعرف منها مالكوا، وهي مرضيتش تقول واضح انها ست بتحافظ على اسرار بيتها.. صالحها ولا اجبر بخاطرها! اخرجوا ولا اتفسحوا ولا اعملها اي حاجة حلوة بدل ما انت عامل زي اللي مش موجود في حياتها..
احتدت ملامحه بغضبٍ لاذع ولكن بالرغم من كل ما يشعر به ابتسم من جديد وحدثه بصوت خافت لا يدل سوى على التحدي:
- وأنا مش هنا علشان أنت أو رفيدة سامحين.. ده علشان البيت ده أنور الشهابي ليه فيه، ومن سوء حظي وحظك هو أبويا وأبوك! هفضلك هنا زي اللقمة في الزور! يا إما بيع البيت وكل واحد ياخد حقه.. مقدامكش حل تاني!
رفع حاجباه ليُغيظه بنظراته بينما الآخر يشعر بإستفزاز هائل منه ليجده يهمس له بتشفي:
- لما تحل مشاكلك ابقى تعالى هتلاقيني مستنيك علشان أنا اللي رباني علمني الرجولة وإني اساعد اخويا، سواء من أبويا ولا مش منه! واحنا كلنا عيش وملح في بيت واحد يا راغب، كون اللي رباك معلمكش يعني ايه رجولة فدي تقلل منك مش مني أنا!
رفع يده بإستسلام وهو يفتعل تلك الملامح التي جعلته يود أن ينهض للكمه لكمات عديدة متتالية ثم توجه لخارج مكتبه ليُفكر بكلماته التي القاها عليه منذ عدة ثوانٍ وقرر بداخله أنه حان الوقت للإنتهاء منه، سواء ستوافق "رفيدة" على قراره أم لا!
❈-❈-❈
اتجه نحو ذلك الكرسي المُرتفع الخاص بأحدى البارات التي يحتويها واحدًا من الفنادق ذات الصيت المشهور حيث وجدها تنتظر جالسة وهي تعبث بهاتفها فأقترب منها بإبتسامة وقبل وجنتها ثم حدثها متسائلًا بإرهاق:
- إيه الموضوع المهم اللي مقدرتيش تستني عليه وكان لازم اجي ونتقابل علشانه؟
توسعت أعينها بترددٍ ثم ابتسمت بعصبية لتقول بشفتين زمت كلتاهما بآسف:
- طيب.. ممكن تشوف الأول هتشرب ايه؟
عقد حاجباه لوهلة وهو يتفقد ملامحها التي لا تدل على الخير ليُخرج حافظة نقوده وهاتفه من جيوب بنطاله ووضعهما بجانب مفاتيح سيارته ثم اشار لعامل البار بإصبعه لتجده أنه قد طلب بعض الويسكي بدون أية اضافات أخرى لترفع حاجبيها مُتعجبة وغمغمت:
- ناوي تسكر النهاردة ولا ايه؟
أومأ بالإنكار ثم رمقها بطرف عينه وهو يجلس بجانبها متجيبًا بتنهيدة:
- اليوم النهاردة كان صعب اوي، مش فاهم فيه ايه..
خلل شعره وهو يلتفت لها وأردف متسائلًا قبل أن يرفع كوبه للإحتساء منها:
- فيه ايه يا رغدة قلقتيني! ايه اللي حصل؟
زفرت متلمسة سطح البار أمامها بكلتا يداها ثم التفتت له بكامل جسدها ثم تحدثت مُجيبة:
- سلمان، انت عارف قد ايه فضلنا قريبين من بعض، ونعرف بعض من سنين، بس أنا.. بص بصراحة..
نظفت حلقها وامتنت لتلك الموسيقى التي صدح صوتها دون مبالغة لتقاطعها فالساعة عبرت السادسة بقليل ولم تبدأ الليلة بعد فاقتربت منه قليلًا وهي تُمسك بهاتفها ثم اشارت له عليه بينما تعجب هو لتلك المُقدمة الغريبة ليتجرع ما تبقى بكوبه واشار للعامل أن يحضر المزيد بينما امسك هو الهاتف الذي استمع فيه لعدة رسائل صوتية بينها وبين والدته وبدأ في تشغيلها:
- صباح الخير يا دودو.. عاملة ايه طمنيني عليكي.. متنسيش بقى النهاردة وقت الـ break بتاعك عايزين نتقابل، و please please بلاش سلمان يعرف..
شعر بإرتياب شديد وهو يحتسي المزيد متذوقًا شرابه وقام بتشغيل بقية الرسائل الصوتية:
- صباح الخير يا طنط، أنا تمام، كفاية بس الـ party امبارح كانت تحفة.. أنا هكون فاضية كده على الساعة واحدة الضهر، يكون مناسب مع حضرتك..
اشار للنادل ليُحضر أخرى وقام بتشغيل الرسالة الواردة من والدته:
- خلاص تمام.. تعالي نتقابل الساعة واحدة في المكان اللي تحبيه..
رمق بقية الرسائل ليجد ارسال "رغدة" لأحدى المواقع على تطبيق الخرائط ثم تبين وقت الرسائل ليجدها كانت بين التاسعة والعاشرة صباحًا فأغلق الهاتف وشرب نصف الكمية التي بكوبه ثم سألها بهدوء:
- وحصل ايه بعد كده؟
تفقدته وبدأت في رؤية ملامح الإنزعاج ترتسم على وجهه بينما نظرات زرقاويتيه الهادئتين اصابتها بقليل من الإرتباك فتحاملت على كل ما تشعر به واستلهمت الشجاعة فهي يستحيل أن تقبل بوالدته أبدًا، لو عليه فهو رجل مثالي، أمّا ما رآته من والدته اليوم كان رسالة شديدة اللهجة لها أن تبتعد، وهي ليست بالمرأة التي تود خوض الحروب سوى من أجل عملها ولديها بالفعل ما يكفيها:
- سلمان.. مكونتش اتوقع كده بس مامتك واضح انها over protective اوي من ناحيتك، بتحبك جدًا.. بس I'm sorry مش هاقدر اكمل..
قلب شفتاه وهو يومأ لها وارتشف بهدوء بعض الويسكي ليبتلع مذاقه القوي قائلًا:
- أنا عمري ما هاجبرك على حاجة، انتي عارفاني كويس، بس walk me through the details..
نظفت حلقها وهي يصعب عليها ما طالب به من أن تخبره بمزيد من التفاصيل فحدثته قائلة:
- قالت إنك بتدور على بيت تاني ليا وليك، زي ما تكون كده بتقولي انتي جيتي تاخدي سلمان وهتغيري حياته، وجابت سيرة بنت اسمها رحمة وانك طول الوقت معاها وكنت شايلها رايح بيها اوضتك، بص أنا واثقة فيك إنك مش من نوع الرجالة اللي بيخبي حاجة ولا ده سبب اصلًا اننا نبعد عن بعض، بس طنط سوزان كانت بتقولي بشياكة انتي ملكيش عيلة ومنعرفش حاجة عن اهلك، وزي ما تكون بتحاول توصلي إني مش في دماغك أصلًا فكانت رسالة منها اني ابعد.. وبصراحة أنا مش هاقدر استحمل المواضيع دي، مش بتاعتي خالص!
ضحك بخفوت على تلك الأسباب الواهية التي استخدمتها والدته ليقول مُعقبًا بإستفهام ساخر بعض الشيء:
- ومفكرتيش تقوليلي انكو هتتقابلوا قبل ما تروحيلها!
ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر له لتقول بتنهيدة:
- مرضتش اضايقها.. يعني بعد كل اللي عملته معايا امبارح، وكمان بتقول انها قلقانة عليك.. وبعدين مظنش أصلًا إنك تضايق لو اتقابلنا ما احنا اتقابلنا قبل كده..
أومأ وتجرع كوبه دُفعة واحدة ليُتمتم بإستنكار:
- لكن تضايقيني عادي.. تمام..
هي حقًا لم تستمع لما يقوله ولكنها تلمست كتفه في دعم وقالت بإلحاح:
- سلمان أنا آسفة بجد بس مامتك شكلها controlling اوي، وأنت فاهم إني عانيت في حياتي بما فيه الكفاية علشان اوصل للي وصلتله ومعنديش استعداد اخسر كل ده علشان مشاكل اكتر.. رفض اهلي للتمثيل واني اسيبهم وابعد عنهم.. دلوقتي أنا مش مستعدة يبقى فيه ما بيني وبين حماتي مشاكل، وكمان مش عايزة علاقتكم تتوتر بسببي.. أنا متأكدة إن مليون واحدة تتمناك لأنك فعلًا انسان كويس.. وهنفضل اصحاب طول عمرنا.. بس بجد مش هاقدر، اعذرني!
أومأ لها بالتفهم ورآت أن هذا ربما كوبه الخامس أو السادس لتنبهه:
- سلمان أنت بتشرب كتير.. مش هاينفع كده وأنت هتسوق كمان شوية..
هز رأسه مرة ثانية بالموافقة ثم امسك بهاتفه قبل أن يغيب عقله وراسل السائق أن يحضر للفندق كي يقود بدلًا منه بعد أن قرر أن يترك نفسه ليقع ببراثن المزيد من الشراب بعد هذه الأخبار التي ليست بمُفرحة أبدًا والتفت لها بإبتسامة فهذه ليست مرته الأولى كي يتم رفضه، لقد بات ذو خبرة ليست بقليلة فحدثها بمنتهى التقبل:
- أوك يا رغدة.. ده قرارك وانا هحترمة وعمومًا good luck في حياتك، واكيد هنفضل اصحاب!
ضيقت ما بين حاجبيها لتسأله بإهتمام وتلمست كتفه من جديد:
- أنت متأكد إنك كويس؟
أومأ لها ثم قال مُغيرًا مجرى الحديث:
- تمام، أنا تمام.. يالا تقدري تمشي وتسيبيني، أنا عارف إنك مشغولة.. وأنا كويس فعلًا
هتفت به متسائلة وهي تتمعن وجهه بحرص:
- سلمان!!
توسعت ابتسامته ثم اقترب ليُقبل وجنتها وعانقها بحفاوة وقال:
- صدقيني انا تمام ومش زعلان ولا متضايق.. تحبي نتقابل في الويك اند تطمني عليا؟
ضيقت عينيها لتهمهم بتريث وأومأت له لتجيبه:
- أوك.. نتقابل.. بس ابقى طمني عليك..
ربت على يدها وهو يهز رأسه كتعقيب بينما بداخله السخرية تجاه الأمر برُمته آخذة في التصاعد لينظر إلي "رغدة" التي بدأت في جمع أشيائها وهي توشك على المغادرة وتعلقت عينيه بها ثم ودعته ليُبادلها ليقوم بطلب المزيد من المشروب وقد نوى بداخله أن ينسى عدد ما سيُطالب به.. هل هذا كوبه التاسع! ربما يستطيع التذكر.. عليه المطالبة بالعديد.. ولا يزال السائق لم يحضر.. لذا.. هذا وقت ليُلقي بكل ما برأسه بين طيات هذا الكحول!
❈-❈-❈
توجه محمحمًا حيث وجدها جالسة بالحديقة ونظف حلقه من جديد كي تنتبه له وبمجرد رفعها لرأسها من على الحاسوب حدثها بنبرة استفهامية:
- لا مؤاخذة يا أم سيلا لو دقيقتين بس اتكلم معاكي؟
ضحكت رغمًا عنها من طريقته التي يتحدث بها فهي لأول مرة يلقبها أحد بهذا اللقب لتقول ببقايا ضحكتها الصادقة:
- قولي نانسي بس يا جاد.. وطبعًا تعالى اتفضل..
اتجه ليجلس امامها ثم تكلم ليقول:
- أنا لسه كنت بكلم راغب من شوية يعني وبعد ما زنيت كتير عليه قالي إنك مصممة على الطلاق ومتدخلش بينكم..
سرعان ما تغيرت ملامحها وكادت أن توقفه عن حديثه ولكنه أردف:
- معلش، راغب برضو الأيام اللي فاتت الحِمل عليه كان كتير، وصدقيني لو تشوفيه في شغله زي ما أنا ما شوفته مبيفضاش عشر دقايق على بعض، والإنتخابات كمان بقت مسئولية كبيرة وإنه كسبها بقى عليه مسئوليات اكتر، وعلشان خاطر سيلا حرام في سنها ده اهلها يطلقوا..
ازداد وجهها امتعاضًا من تلك التفاصيل التي تحفظها عن ظهر قلب ولكنه تابع بحنكة:
- الشهادة لله راغب راجل بتاع شغله، مبشوفوش بيوقف مع واحدة كده ولا كده من الستات برا، وشكله بيحبك اوي، أنا دخلت عليه مكتبه النهاردة اكتر من مرة مبلم وشكله متضايق من ساعة الكلمتين بتوع الصبح
ابتلعت ناظرة له بتردد لتزفر بآلم بينما استطرد هو بنبرة لينة:
- الست وجوزها ياما بيحصل ما بينهم، وكمان انتي بنت خالته، ومتقلقيش بعون الله كل حاجة وليها حل.. صلي على النبي كده واغزي الشيطان ولما يجي يكلمك ابقي اتصافي معاه!
هزت رأسها بإستنكار ثم قالت بنبرة متعبة حزينة:
- جاد أنا مقدرة إنك بتحاول تصلح ما بيني وبينه، بس.. أنا وراغب المشاكل دي ما بينا من سنين ومظنش فيه حاجة يمكن تتغير دلوقتي.. شكرًا اوي إنك بتحاول تساعد، بس صدقني أنا جربت كل المحاولات..
نظر رامقًا اياها بدعم ليرفع حاجباه وقال بنبرة مقترحة:
- مش يمكن لما تحاولوا تاني وترمي حمولك على ربنا أيًا كانت ايه مشاكلكم تتحل، وحطي في الحِسبة سيلا برضو.. ربنا يصلحلكوا الحال بس لو جات على مرة محاولة كمان متجراش حاجة!
تنهدت بآلمٍ وهي تتمنى لو تخرج ما يُثقل صدرها من محاولات عِدة جربتها ولم تُفلح لتجده يُضيف غامزًا بمزاح:
- بس بيحبك، ومتعكنن بسببك، ولما اتخانقتوا قدامي فهمت، أصله بقاله كده كام يوم ومكنش حد عارف ماله.. لو يعني عاملك حساب فأكيد هيرضى باللي بتقوليه ويمكن مشاكلكم المرادي تتحل.. حاولي علشان متخسروش بعض، اكيد ليه عندك معزة كبيرة، والراجل ومراته ياما بيحصل ما بينهم وبتعدي وبيرجعوا يبقوا زي الفل!
تفقدته مليًا قبل أن تتفوه ناطقة بأي حرف وكلماته جعلتها تتردد بداخلها بين الآلاف من المواقف التي مرت بينها وبين زوجها يومًا ما لتسقط في صمتٍ لا نهائي وخاضت حربًا مؤلمة بعقلها يبدو أنها لن تنتهي عن قريب!
❈-❈-❈
زفر متحملًا ذلك الإستفزاز الذي تعج به دماءه من كثرة أفعالها المتتالية التي تبدو خلالها كجبلٍ من جليد، هذه ليست إمرأة كانت تبكي وزواجها على وشك الإنهيار، بل هي مجرد شيطانة متغطرسة لا تلقي بالًا للبشر بأكملهم.. ولسوء حظه كانت شيطانة فاتنة وفتنتها مُهلكة!
لقد تحمل تلك الملامح، الشفتان التي تخيل نفسه لمرات يحصل عليهم بشغفٍ واستسلامٍ منها، وتلك الرمشات كلما التقا جفنيها تهتف به أن يتابع المزيد من تحركاتها الأنثوية التي كلما حدثت منها بتلقائية تُصيبه بأسطورة خيالية تنص على أنها هي المرأة الوحيدة المُتبقية بهذه الحياة.. ولكن عليه أن يُسيطر على هذه الخيلات..
نهض من مقعده الذي جلس عليه منذ دقائق ليست بالقليلة ومن يراه لا يظن أبدًا أن كل ما به يشتهي بنهم الإقتراب من تلك الشيطانة الفاتنة أمامه، فربما الخيالات لا تبارح العقل، ولكن الواقع لطالما كانت له اليد العُليا بمُجريات الأمور!
نظر لها بعينيه الغائرتان وملامحه القاسية وهي تلاحظه بطرف عينيها ولكنها لم ترفع رأسها نحوه أبدًا وكأنه غير متواجد معها بنفس الغرفة ولكنه كبح غضب رجولته التي تتفوق كل مرة في صفعها بمنتهى الكبرياء وتحدث بمنتهى الهدوء والرسمية:
- مدام رفيدة.. حضرتك بتضيعي وقتي ووقتك.. مظنش إن شغلك أهم من طلاقك في الوقت الحالي.. لو مش عايزة الطلاق يخلص أنا ممكن امشي واسيبك تكملي شغلك براحتك!
رفعت وجهها نحوه وهي تزيح خصلتها خلف اذنها ليُصبح له هذا المشهد الخلاب من فتنتها المُهلة ونفخت بتآفف ليبتلع محدقًا بالمزيد من ملامحها التي لا يعلم إلي متى سيستطيع النظر إليها متحملًا عذابه الداخلي وحده دون شفقة ولا هوادة:
- قولتلك مشغولة.. وبعدين بصراحة مش مُقتنعة بموضوع الطلاق اللي بين يوم وليلة ده!
اقتربت وهي تتكأ على يدها بذقنها ليتحرك جسدها بعفوية للأمام ليلعن تحت أنفاسه دون أن تلاحظ تحرك ملامحه القاسية وابتسمت له بإستخفاف لتتابع:
- ايه اللي ممكن يخلي ياسر جوزي يطلق كده بين يوم وليلة من نفسه من غير أي إجراء قانوني بعد كل اللي عملناه معاه!
عقد حاجباه وهو بداخله آخر ذرة من صبر ليُجيبها بلهجة جامدة:
- بعد كل اللي عملناه معاه مسبلناش غير آخر حل، إنه يتعامل بطريقة متنفعش غير مع اللي زيه!
شعرت بالإحتقار يصرخ بعينيه بالرغم من ملامحه الغريبة التي كلما تفقدتها تجد وكأنه رجل باردٍ لا يُظهر وجهه أي مشاعر تُذكر لتجده ينظر بتحذير ونبس بتحذير:
- حضرتك هتتفضلي وتمضي على قسيمة الطلاق ولا تحبي تكملي انتي لواحدك!
رمقت هاتفها وهي تحاول تخفي ملامحها بعيدًا عن عينيه الغائرتان لتحاول مرة ثانية أن تهاتف "إيناس" التي تحاول أن تصل لها منذ الصباح فهي لا تحتاج أكثر من دعمها في هذه اللحظة تحديدًا بينما لم تُجب من جديد بينما وصل هو لحد الكفاية ليقول مباغتًا اياها:
- تمام، مع إن كان عندنا اتفاق من امبارح بس مش هاعطلك اكتر من كده! بعد اذنك..
رمقها للمرة الأخيرة بغضب بينما التفت وهو لا يتقبل كل هذه السخرية وكبريائه يتمزق آلمًا لما تفعله به هذه المرأة التي في واقع الأمر هو من يساعدها وهي من تحتاج له وليس العكس لتهتف به ناهضة بسرعة من على كرسي مكتبها:
- استنى أنا هاجي معاك!
اوقفته كلماتها ولكنه لم يلتفت فلقد اكتفى من التحديق بتلك الملامح التي تؤكد له كل مرة أنه مُحال أن تكون في يومٍ من الأيام هذه الشيطانة الفاتنة ملكٌ له ليبتلع مترقبًا واستمع لخطواتها خلفه وهي تتجه نحو الباب فسبقها مغادرًا للخارج..
دلف كلاهما المصعد ليحاول تحمل تلك الثواني التي تعبر الدقيقة اثناء اتجاههما للأسفل وهو يرى انعكاس جسدها المُهلك بأبواب المصعد الداخلية فأخفض من رأسه وحاول تنظيم تلك الأنفاس التي تُنازل بعضها البعض برئيتيه نزالًا غير عادل بالمرة..
اتجهت هي لتسبقه بعفوية فلم يستطع منع نفسه من نظرة وحيدة متفقدًا قوامها ثم لعن داخل نفسه آلاف المرات فهو يعلم جيدًا أنه رجل يتخد من الماضي حصن مُشيد يأسر به نفسه، وهذه اللحظة ستكون لعينة لن تغادر عقله الأسير!
توجهت نحو سيارتها فهتف هو وهو يحاول التصرف بعفوية مذعورًا أن تظهر عليه أي مشاعر أو حتى رغبة تجاهها حتى لا يُعقد الأمر اكثر مما هو مُعقد بالفعل، فهي أخت صديقه الوحيد، ووالدها هو السبب في لعنته بالسجن، أمّا عنها فهي ليست بالمرأة سلسة المعشر، وتفتقر لكل ذرة من مشاعر قد تشعر بها إمرأة:
- هبعت لحضرتك العنوان علشان نتقابل هناك..
التفتت له بزمردتين تسلط خناجرها بإستهزاء كثيف لتُصيبه بالتسمر بإجبار أن يتفقد المزيد منها:
- ايه شغل الأطفال ده.. اركب العربية خليني اخلص!
كل ما يتمناه الآن هو لكم "جاد" بوجهه حتى يتحول وجهه الوسيم الذي تعذب بسببه في السجن ليتشربه البياض الضئيل بين حمرة الدماء الذي سيتدفق بسبب قبضتاه حتى تخور قواه ويًصاب بالتخير بهما حتى يُصبح لا يشعر بهما! لماذا حاول أن يُساعد هذا الطفل الطائش الذي يظن أن حنانه بمساعدة اخته الشيطانة الفاتنة سيشفع له؟ لماذا عليه تحمل كل تلك الإهانة اللاذعة؟
حسنًا.. عليه التحمل قليلًا فقط، سيضع النهاية لتلك المهزلة القائمة بيديه.. سيطمئن على اخته بمكوثها جانبه بعد أن تغادر هذا الوكر مبتعدة عن كل شياطينه.. ومن ثم، لن يرى أي منهم مجددًا بملامحهم الجذابة حد الهلاك.. لا هي ولا أخويها وليُلقي "جاد" بنفسه أينما شاء، لقد حذره آلاف المرات وهو لا يستمع!!
أطبق أسنانه وهو يحول نظره عنها ليتجه متحاملًا على رجولته التي صُفعت بمنتهى الإهانة نحو السيارة التي دخلها على مضض وتحمل عذاب تلك البوتقة المختلطة بدفء أنفاس كلاهما بالداخل وهو يحاول بضراوة مقاتل شجاع ألا يلمحها ولو بطرف عينيه لأنه لو فعل إما سيتصاعد غضبه وسيصبه عليها وإما سيتصاعد ذلك الشعور بداخله الذي يفتت كل مقدرته على تحمل فتنتها، وعواقب هذا أو ذاك لن تكون جيدة أبدًا على أي منهما..
إررادة الإنسان قد تدفعه لفعل الكثير ولكن مشاعره غلبته أن يلمحها رغمًا عنه ليُلاحظ ملامحها التي غرقت في التفكير ولا يعلم كيف سبح عقلها بأغوار أعماق تلك المواقف التي جمعتهما، لتطرح آلاف التساؤلات على نفسها، أكان عشقهما بأكمله زائف إلي هذه الدرجة؟ هل تم خداعها بهذه البراعة لتتحول بين ليلة وضحاها إلي إمرأة مُهددة تم خيانتها وتقوم بالمساومة على طلاقها؟ هل أخطأت بأنها أرادت رجل تعشقه وتتزوجه كي يُمثل لها كل ما لم تجده في الحياة؟
يا لها من غبية، لا تستطيع إجابة أي من تساؤلاتها، هي الآن مثلها مثل أي إمرأة ساذجة ضعيفة، وما تدركه في هذه اللحظة اكثر من أي شيء آخر هو فداحة ما ارتكبته من خطأ عندما جعلت شخص وحيد، مجرد رجل، زوج وحبيب وعاشق كما ظنته؛ حياة كاملة مثالية! وما لم تعرفه منذ سنوات أن أكبر الذنوب هي أن نتأمل بوضع كل أمالنا على شخص.. قد يُصيب وقد يخطأ.. وما فعله بها ومعها كان خبيثًا وفعل دنيء لا يُغتفر.. ولكن الخاسر الأكبر كانت هي.. فلقد انهارت حياتها بأكملها أمام عينيها وهي لا تستطيع الإصلاح، بل هي لا ترغب أن تُصلح، لأن وببساطة لو كان هو مُخطئًا بنسبة ضئيلة فالخطأ الأكبر من نصيبها هي.. لقد جعلته حياة وتناست أنه مجرد إنسان! مسئولية لا تُحتمل، شيدت جبلًا شاهقًا على أساس خشبي وقد انهار بكل ما فيه! خطيئة مُهلكة ولكنها ستتحمل العواقب!
ابتلعت تلك العبرات المتكومة على مُقلتيها الفاتنتين فهي لن تستطيع أن تبدو ضعيفة أكثر من هذا، كبريائها كان يزجرها بقسوة ألا تفعل فيكفي أنها تضع يدها بيد رجل غريب فقط لتحصل على خلاصها وتهرب من هذه العلاقة المُلفقة بالخداع والأكاذيب بما تبقى لديها من ذرات كرامتها، هذا لو كانت لا تزال متواجدة بداخلها من الأساس!
توقفت السيارة أمام منزل صغير من طابقان بمكانٍ لم تأتِ له قبلًا بعد توجيهات "سعد" للسائق ربما رآته بواحدًا من الحملات الترويجية للمناطق السكنية الجديدة..
ترجلت بعد أن فعل هو لترتاب لوهلة ناظرة له وهو يتوجه نحو المنزل بينما التفت لها متحدثًا ببرود:
- ممكن تاخدي حد من الأمن معاكي لو مش متطمنة!
كرهت واقع كلماته عليها، فما تعرفه عن نفسها أنها إمرأة جريئة لا تهاب شيئًا، وفي واقع الأمر هي ليست خائفة بأن تتبع هذا السجين الغريب ولا تكترث لفهمه أنها خائفة واستطاع قراءة خوفها على ملامحها، هي تشعر بالفزع من توقيعها الذي سينهي علاقتها بزوجها!
تحلت بالبأس والصلابة التي ورثتهما من والدتها وتوجهت للداخل لتُنهي هذا الأمر برُمته، فذلك الرجل المُسمى "ياسر" لم يكن أمامها وأمام الجميع سوى رجل خائن مستغل، أمّا عن العشق الذي تُكنه بقلبها لها فهو مُشكلتها الوحيدة وستنتزع قلبها بيديها لو لزم الأمر!
رآته جالسًا وحوله عدة رجال لم تعرف من هم، ولا ما الذي يفعلوه هُنا، هل هم كانوا سُجناء كالمدعو اخيها، أم مثل صديقه السجين هو الآخر؟ لماذا تتسائل؟ ما يهم هو منفعتها وليحترق الجميع!
خطت مُخلفة اصوات كعبها الأنثوي على الأرضية ثم توقفت أمامهم ومُقلتيها الساحرتان تذرفا خيبة الأمل الممتزجة بالإستحقار التي قابلها زوجها الجالس أمامها بإبتسامة متوعدة لتتسائل بإقتضاب وغطرستها المعهودة دون أن تشيح بنظرها عنه:
- فين المأذون؟
تحدث واحدًا من الرجال مجيبًا بينما "سعد" يتابعها بعينيه في صمت تاركًا اياها تحصل على هذه النظرات الأخيرة واكتفى بهدوءه بأحدى الأركان القريبة:
- اتفضلي امضي..
هبطت بهدوء حيث المنضدة دون أن تُفكر بالجلوس ولو لثانية واحدة أمام تلك الملامح التي تراها الآن على حقيقتها الدنيئة وأخذت توقع بتلك الأماكن التي اشار لها بها المأذون ليتكلم "ياسر" بخفوت متوعدًا وهو يعلم أنها تستمع له:
- مش هاسيب حقي يا رُفيدة! بكرة تندمي على كل اللي بتعمليه فيا!
استمعت له جيدًا وانهت توقيعها ثم ارتفعت بجسدها الفاتن لتنظر له بتوعد وعقبت بنبرة مليئة بالتحدي:
- ولا أنا هاسيب حقي وهندمك على كل اللي انت عملته!
التفتت لتغادر وهي تحاول كبح تلك الدموع التي تحاربها بمنتهى الدناءة أن تتقهقر أمامها كي تحتل وجنتيها أمام الجميع ولكن هناك ما جعلها تتوقف بمنتصف طريقها للخارج بعد أن شعرت بغليان بمنتصف معدتها وكأنها ستنفجر لا محالة!
تعجب "سعد" المُتابع لها عندما توقفت ولم تغادر ثم لاحظ ارتفاع أناملها التي تغطي فمها فاقترب متبينًا ما الذي اصابها بتلك الثواني فهي منذ قليل كانت ترتدي زي المرأة التي لا تقهر بينما سألها بجمود:
- ناسية حاجة يا مدام ولا ايه؟
حاولت أن تكبح شعورها بالغثيان الذي طالما اصابها عند شعورها بالخوف الشديد وعدم راحتها لتهمس بصعوبة خلف يدها متسائلة:
- فين الحمام؟
سرعان ما اختلفت ملامحه للإهتمام عندما شعر بتوعكها الحقيقي ثم قاد الطريق نحوه ولم يدر هل عليه أن يتبعها أم لا لتنطلق هي مسرعة اسفل عينيه واغلقت الباب لتستسلم في النهاية لتجرع ما بمعدتها الذي لم يكن كثيرًا على كل حال، فهي تبتعد بكل ما لديها من قوة عن الطعام ولن تغامر أبدًا بإكتساب ولو جرامًا واحدًا لجسدها الفاتن!
استمع لتلك الأصوات وهي تُفرغ ما بمعدتها ثم لم يأتِ على عقله سوى تخمينًا واحدًا، هي حامل.. ومن هذا الوغد.. الذي سينازعها على الطفل وبالطبع "جاد" لن يتركها بقلبه الحنون الذي لابد له من التعقل، اللعنة على هذه العائلة التي ستصيبه بالجنون!
طرق على الباب وهو يهتف بها اكثر من مرة بينما لم تستجب له ليُعلن بنبرة جادة:
- مدام رفيدة انا هادخل..
فتح الباب ليرى هذا الكيان الشيطاني الفاتن جاثيًا بإرهاق ومن جديد اتتها تلك الرغبة بتجرع المزيد وهي تلعن هذا الفضولي الذي يقف خلفها وتوعكها لم يُعط لها القدرة على الصراخ بوجهه أو حتى زجره فتوجه نحوها ليرق قلبه على ملامحها وساعدها برفع خصلاتها لاعنًا اندفاعه المتلهف عليها وبداخله يُصاب برجفات قلبه المتسارعة كالمراهق الطائش لمجرد لمسة واحدة لخصلاتها التي ازاحها للخلف..
نظف حلقه مندهشًا من فعلته وسرعان ما تراجع ليسألها:
- اتصل بدكتور أو فيه علاج بتاخديه؟
جففت فمها ثم رمقته وبداخلها كل الكراهية لرؤية رجل مثله لها في هذه الحالة من الضعف لتقول بصوت مُرهق:
- اطلع برا..
لن تتغير هذه الشيطانة الفاتنة ذات الغطرسة المنهمرة منها بلا توقف أبدًا!
اشاح بوجهه ليُعطي لها بعض الخصوصية ملتفتًا وولى ظهره لها ثم تكلم بنبرة جادة:
- يا ريت يا مدام لو حضرتك حامل متجبيش سيرة! ده هيخليه يرجع تاني..
ابتسمت هاكمة على عقلية هذا الساذج ولكنها ليست بغبية كي تُنجب طفلًا أو طفلة لتترك أيًا منهما في براثن الوحدة المُهلكة التي كانت نصيبًا لها يومًا من الأيام بكونها ابنة لرجل وسيدة اعمال..
نهضت لتتفقد نفسها سريعًا بالمرآة لتجد أن مظهرها بخير ثم اراقت مياة المرحاض الذي اغلقته وحدثته بلذاعة حادة:
- حامل ولا مش حامل حاجة متخصكش.. بس اللي نفسي افهمه ايه اللي مخليك تساعد اوي كده؟ وبلاش موضوع جاد خط احمر ده علشان مش مصدقاه!
تصلب لوهلة بمكانه ثم التفت لها ليرى ذلك الكيان الشيطاني الفاتن قد نهض الآن واقفًا بمنتهى الوضوح بعقدة ذراعين ونظرات قاتلة مستعدة لخوض حربٍ ولم تعد تلك المتوعكة التي رآها منذ قليل ولان قلبه مشفقًا عليها ولكنه على اتم استعداد أن يتعامل معها كي يدفعها للإحتراس آلف مرة منه:
- عندك حق فعلًا.. استحالة تصدقي خوف الأخ على اخوه.. يمكن علشان انتي متعرفيش يعني ايه أخ وراجل يبقى واقف في ضهرك!
التوت شفتاها بسخرية ظاهرية وقلبت شفتاها لتُكمل استفساراتها الهاكمة:
- وطبعًا اللي انت ماسكه على ياسر مش هلاقيه غير مع جاد علشان افضل طول عمري عملاله اهمية في حياتي! هي دي خطتك الذكية؟
امطرها بنظرات تعج بخيبة الأمل الممتزجة بالحدة وعقب متكلمًا:
- انا مش بتاع الخطط.. أنا مجرد اخ بيساعد اخوه اللي اتربى معاه طول عمره! كملي ومتصدقنيش، ولا تصدقي جاد اللي واقف جنبك قصاد اللي انتي اتجوزتيه، بس بكرة تعرفي انه كان معاه حق.. وأظن انتي خلاص اتطلقتي.. القسيمة وكل التنازلات هتلاقيها مع جاد.. بعد اذنك!
تركها وغادر وهو يلعن نفسه على غبائه الشديد الذي لا يتوقف كلما تفقد ملامحها ذات الحُسن الآخاذ ويتركها لتؤثر به بهذه الطريقة، كل مرة تحدث وتتلاقى اعينهما هو حتى يفقد الشعور بكل ما حوله، ما الذي يظنه، أنه سيحصل على إمرأة تشابهها يومًا ما.. هو يحلم بالتأكيد!
اخرج هاتفه الذي صدح بالرنين ليجيبه بينما هي اوشكت على الإنتهاء من تعديل مظهرها ومحاولة التخلص من هذا المذاق لتقارب على المغادرة ولكنها استمعت له وهو يتحدث:
- ايه يا حبيبتي ايه اللي حصلك؟ اوديكي المستشفى ولا انتي بجد كويسة؟
لوهلة شعرت بالتقزز من تلك المشاعر التي يحاولوا اظهارها وكأنها ستقع فريسة لتلك الطيبة لتجده يُردف بعد جزء من الثانية:
- رحمة انا بتكلم جد! متأكدة إنها اتلوت بس؟
هي الآن تتذكر هذه هي الفتاة الماكثة بمنزلهم إذن! ايريد أن يُسمعها أنه يكترث من أجل اخته كما يفعل "جاد" معها؟ خطة في منتهى الذكاء حقًا!!
وطأت بقدمها للخارج بينما وجدته يُتابع مكالمته:
- انا اصلًا هاجي اخدك ونروح بيتنا كمان شوية.. مبقاش ليه لزوم تقعدي خلاص عندهم.. وأنا بصراحة لا طايقهم ولا حاسس إن فيه خير ممكن يجي من ناس زي دي، ادينا ساعدنا جاد في مشكلة اخته وخلاص ومش هبقى مطمن عليكي غير لما تبقي قدامي.. قلتهم من حياتنا احسن..
ضيقت ما بين حاجبيها وهي تنظر نحوه لتشعر بالإنزعاج بداخلها وتوجهت نحو الخارج ليلتفت هو عندما استمع صوت حذائها وسرعان ما انهى مكالمته واكتفى بالنظر لها وهي تغادر المنزل الذي للتو ابتاعه "جاد"..
❈-❈-❈
اجتمع الجميع على هذه المائدة التي تأففت "سوزان" من تواجد هذا اللقيط عليها بينما تصنع "راغب" العبث بصحنه وهو يحاول الحصول على مُقلتي زوجته الغاضبة ليحول غضبه تجاه اخيه الذي يمازح طفلته ليقبض على سكينه بغلٍ شديد فهو ليس بغبي ليكرر فعلته مرة ثانية أمام "نانسي" التي تبدو وأنها لن تتوقف عن الشجار معه طوال السنوات القادمة كتعويض على تلك السنوات التي صمتت بها!
ابتلعت والدتها الطعام بملامحها الدبلوماسية ثم سألتها:
- متعرفيش فين سلمان مجاش ليه على العشا النهاردة؟
اكتفت بالرد مجيبة بإقتضاب دون أن تنظر لها:
- مش عارفة يا مامي بصراحة مش سايبلي الـ schedule بتاعه!
ابتسمت بداخلها على هذا الغيظ الذي تتيقن أنه سرى بدماء والدتها التي لا تترك احدًا وشأنه ليلتفت الجميع نحو "سيلا" التي نهضت من جانب "جاد" فجأة ثم توجهت نحو والدها لتتحدث له:
- بابي انا خوفت منك الصبح.. please don't yell at me again (من فضلك لا تصرخ في وجهي مرة أخرى)
ترك أدوات المائدة من يديه ثم قربها له ليعانقها ثم تفقدها بإبتسامة وهمس لها معتذرًا:
- أنا آسف..
بادلته العناق ثم هتفت بطفولية:
- جاد قالي إنك مش هتخوفني تاني because you love me.. ممكن ابقى العب معاه؟
رمقه بغيظ حاول أن يُخيفه وابتسم مُجبرًا لإبنته ثم اجابها:
- العبي زي ما تحبي..
عانقها من جديد وفرق عناقهما ليشعر بأعين "نانسي" تتفقدهما ببعض الرضاء لتذهب ابنته نحو والدتها ثم تحدثت لها بالإنجليزية:
- اشعر بالإمتلاء.. أريد النوم..
قبتلها على وجنتها ثم نادت على مربيتها التي كانت بالجوار لتتحدث لها بالإنجليزية:
- ليندا، رجاءًا بدلي ملابسها وساعديها على تفريش اسنانها ومصاحبتها للفراش..
التفتت نحو ابنتها ثم اخبرتها بإبتسامة:
- احلام سعيدة حلوتي..
تحركت بخفة لتُقبل "جاد" على وجنته ثم اخبرته:
- تصبح على خير..
عانقها بقوة شديدة ثم قبلها كثيرًا مُعقبًا:
- وانتي من اهله يا حبيبة عمو..
رمقهما "راغب" بغيظ ثم توجهت ابنته بصحبة المُربية للأعلى لينظر له "جاد" بتشفي رافعًا حاجباه للأعلى وسرعان ما اخفضهما بحركة شديدة ليُسلط لوهلة نظره على زوجته ثم نظر إليه ليتصنع الآخر أنه لا يفهمه ليتنهد الآخر بإرهاق ولم يستطع أن يكف نفسه عن التدخل في ما لا يعنيه عله يأتي بفوائده مع هؤلاء الأبالسة:
- أم سيلا.. لا مؤاخذة.. هو راغب مقالكيش على موضوع السفر وإني أنا اللي هاخد سيلا من المدرسة كل يوم مع السواق؟
تعجبت "نانسي" مما تستمع له ليلعن "راغب" أسفل انفاسه بينما شُدهت خالته الجالسة بجانبه التي سرعان ما شهقت متعجبة وتكلمت مستفسرة بنبرتها الدبلوماسية:
- سفر ايه يا ولاد؟
رمق أخيه متوعدًا ليُعيد حركة حاجباه تلك له مُضيفًا ابتسامة شامتة لينظف حلقه ثم نهض وحاول أن يتدارك الموقف أمامهم جميعًا:
- نانسي.. تعالي ثواني لو سمحتي!
زفرت بتآفف وهي تشعر وكأنما اخيه من يحاول أن يدفعه للينه المفاجئ معها ومع ابنتها منذ أن بدأ العشاء ونهضت لتتبع زوجها نحو غرفة المكتب ليمتلئ فمه بإبتسامة غاية في الود وتحدث قائلًا:
- منورة يا حاجة..
سرعان ما رمقته متقززة قالبة شفتيها لتهمس بإقتضاب:
- شكرًا.. مسمهاش حاجة !
نهضت لتشير إلي واحدة من المساعدات بالمنزل أن تحمل بقايا الطعام فلقد غابت شهيتها لتلاحظ بنفس الوقت ولوج "سلمان" الذي وصل لتوه لتتوقف متفقده ابنها الذي ترنح بخطواته والإبتسامة لا تغادر وجهه لترتاب بثمالته ثم هتفت به:
- سلمان، انت كويس؟؟
همهم لها بالموافقة ثم غمغم:
- طبعًا كويس.. مامي بتحبني.. بيزنس ناجح.. مشهور.. هحتاج ايه تاني! everything is more than perfect in my life (كل شيء أكثر من كامل في حياتي)
ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتفقده ليلاحظ "جاد" سريعًا ما يحدث وأدرك أنه ثمل ليلعن بداخله على هؤلاء القوم الذين يصابوا بالحمى لو حافظوا على التحدث بالعربية وحدها وتوجه نحوه ليقوم بإسناده كي لا يُقلل من شأنه أمام والدته التي لا تتوقف عن اعتراضتها اللاذعة:
- ايه يا سلمان ده انا نفسي اقعد معاك من زمان يا راجل حمد الله على السلامة، ما تيجي نشرب فنجان قهوة كده حلو!
نظرت بتقرف نحو "جاد" واقتربت من ابنها لتتحدث بحزم:
- لو سمحت بعد اذنك أنا محتاجة اتكلم مع سلمان!
انفجر ضاحكًا بعقله المُغيب الذي لم يثمل بأكمله بعد لتعوده على احتساء الخمر ثم نظر نحوها بعلو وقال بنبرة هاكمة:
- محتاجة طبعًا تعرفي النتايج مش كده!! تعرفي يا مامي قد ايه انتي جميلة.. انا بحبك، بس please كفاية بقى.. انا تعبت، ونانسي تعبت، وكل اللي في البيت تعبوا!
تحولت ملامحه للحزن بينما هي تتفقده بقلق ليُضيف بتوسل:
- بطلي تبوظي فرحتنا بسيطرتك! كلنا تعبنا منك ومحدش قادر يصارحك، ارحمينا ارجوكي! احنا مبقيناش صغيرين يا مامي..
كاد أن يقول المزيد ليمنعه "جاد" الذي دفعه نحو المصعد الداخلي وترك هذه المرأة خلفهما كي تقع بصدمتها التي ربما ستمنع النوم أن يجافي اعينها طوال الليلة..
❈-❈-❈
امسك بيدها متوسلًا وعينيه وحدهما كفيلتان بإذابة قلبها الذي ظنت أنه قد تحجر بسبب افعاله منذ سنوات ليضيف بنبرة راجية:
- تعالي نسافر، او نعمل check-in في اي اوتيل ونقعد فيه كام يوم.. أي مكان.. نانسي ارجوكي خلاص.. أوعدك إن كل حاجة هتتغير، كفاية قسوة لغاية كده! انتي محسساني اننا عمرنا ما حبينا بعض في يوم!
همسه بصحبة هذه الملامح تحديدًا ذكرتها بذلك الشاب بالمرحلة الجامعية وهو ينظر إليها مُبتسمًا أو شاردًا بملامح وجهها وهو يتغزل بها، أو حتى حزينًا من وحدته التي يُشكيها لها وكل ما كانت تملكه وقتها هو بعض الكلمات الداعمة ووعودًا عدة بأنهما يومًا ما لن يفترقا أبدًا وأخذت تتذكر المزيد لتختنق بالعبرات وهمست له:
- راغب please.. أنا مبقتش قادرة استحمل.. سكت كتير بس خلاص، لما توصل لدرجة إنك تضربني دي حاجة استحالة اسكت عليها!
تفقدها بندم وحاول البحث عن الكلمات أمام مُقلتيها المانعتان بضراوة أن تذرف دموعها المحتبسة وجذبها كي لا تذهب ثم في النهاية هتف بها:
- اضربيني زي ما ضربتك لو ده هيخليكي تسامحيني!
التوت شفتيها بحسرة لتنفجر بالكلمات والبُكاء على حد سواء:
فاكر لما اضربك إن ده هيبقى الحل، طيب والإهمال، وحقي في جوزي، والأوقات اللي كان نفسي تكون فيها جانبي أنا وسيلا.. صعب كل ده يتعوض يا راغب، مش هاقدر استحمل!
شعر بالآسى الشديد نتاج أفعاله المزرية بالسابق فهتف بها بتوسل:
- صعب بس مش مستحيل.. نانسي ارجوكي لو كان ليا خاطر عندك خلاص بقى.. جربي معايا آخر مرة لو مفيش حاجة اتحسنت يبقى نتطلق زي ما انتي عايزة.. تلت شهور أو اربع شهور، هاعمل كل اللي انتي عايزاه..
اكتثت العبرات لتحجب رؤيتها عنه ثم همس بمشقة وشعرت بضغط يده على خاصتها:
- هاروح لدكتور، وانتي وسيلا هتبقوا رقم واحد عندي.. بس ارجوكي متسبنيش وانتي عارفة إنك الوحيدة القريبة مني!
صرخت به وهي تجهش بالمزيد من البُكاء:
- ولما أنا الوحيدة القريبة منك ليه بقيت بتعاملني كده وبترفض كل مرة بحاول اقرب منك فيها ولو بكلمة ولا مكالمة ولا هدية ولا عيد ميلاد! ليه بوظت كل حاجة يا راغب ما بينا وفضلت تبعدني عنك؟ ليه عملت كل ده؟
انهمرت دموعه وهو يحاول النطق مُنكسًا رأسه للأرضية:
- مستحملتش إني ابقى مكسور اوي قدامك وانتي شايفاني مش راجل، ملقتش حل غير اني اشغل نفسي وابعد على قد ما اقدر!
وكزته بشدة وهي تنهره بزجرٍ ونبرة باكية:
- انت اتجننت يا راغب، مش معنى ان عندك مشكلة يبقى انت مش راجل، وقولتلك مليون مرة اني هساعدك ونروح لدكتور وكل حاجة هتكون كويسة!
رفع نظره إليها لترى تواتر دموعه ليُعقب ساخرًا بصوته الباكي:
- راغب الشهابي ضعيف جنسيًا وبيتعالج! انتي عارفة حاجة زي دي ممكن تعمل فيا ايه قدام الناس! مفكرتش غير كده وكنت خايف تقولي لحد رفيدة او مامتك أو حتى بابا!
مزق قلبها رؤيته يبكي بهذه الطريقة فعانقته إليها لتجده يتشبث بخصرها واجهش بمزيد من البُكاء وهو يغمغم بصعوبة بين بُكاءه:
- بس لو يريحك نروح لدكتور من غير ما حد يعرف هاعمل كده علشانك، بس ارجوكي متسبنيش يا نانسي، أنا ماليش حد في الدنيا غيرك!
حاولت أن تهدأ من بكائه وهي تربت على ظهره بينما اندفعت هي الأخرى ببكاء جارف تريد من يهدئها ليفشل كلاهما بالهدوء وتعالت شهاقاتهما رغمًا عنهما لتحاول التماسك وهمست بصعوبة بأحرف عانت لتتهرب من بين بكائها:
- اهدى طيب وهنجرب سوا.. متعيطش!
ضمها إليه اكثر وهو لا يستطيع التوقف عن بكائه ليتكلم بنحيب:
- مش هاقدر اتخيل اني اخسرك، انا عمري ما شوفت حياتي ولا مستقبلي من غير وجودك جانبي، أنا آسف يا نانسي، بس كل حاجة بتبقى اصعب وحاسس إني فاشل ومش عارف اعمل حاجة لا معاكي ولا في الشغل وموضوع جاد ورفيدة، حاسس اني تعبت!
فرقت عناقهما لتنظر له بمشاعر افتقدها كلاهما منذ سنواتٍ لتقضم شفتاها في محاولة أن تكف عن بكائها وهمست بنبرة تحمل اثار نحيبها:
- قرب مني يا راغب أنا وبنتك وروح لدكتور.. هو ده الحل صدقني! الموضوع كان بسيط اوي من الأول، ودلوقتي أنا مش عارفة هاقدر اكمل ولا لأ، بس هحاول اساعدك.. لأن نفس البنت اللي كانت بتقعد جانبك بالساعات زمان وتقولك كل حاجة هتكون احسن هي نفس الست اللي أنت اتجوزتها، لو على سيلا والدكتور هساعدك.. وبالنسبة ليا أنا وأنت فحقيقي مش عارفة!
حاولت إمرار بعض ذرات الهواء التي حصلت عليها بعنوة لتحضرها لرئيتيها وسط انصهار نظرات اعينهما الباكية وتابعت بصعوبة:
- اعتبرها اخر محاولة بيني وبينك! بس بعد كده مش هاقدر اسامح تاني.. اخر مرة يا راغب، اوعدني انها اخر مرة..
انهمرت دموعه رغمًا عنه وأومأ لها ليجيب بخزي على كل تلك اللحظات الضائعة بينهما:
- آخر مرة.. اوعدك.. مفيش حاجة وحشة هتيجي ما بينا تاني..
جذب رأسها له ليُقبل جبهتها باكيًا ثم ضمها بعناق طويل اجبر كلاهما أن يُغمضا اعينهما وكل يُلقي بهذا الإشتياق بعيدًا، بأعماقها هي تشتاق للرجل الوحيد الذي عشقته منذ الصبا، وهو.. هو لا يدري كيف افسد كل ما بينهما بغبائه! انتبه لكل شيء سواها هي.. ولكنه لن يفعلها مجددًا أبدًا..
تشبث بها أكثر وهو يستنشق تلك الرائحة التي تمتاز بها وحدها.. لقد ادرك الآن ما كان يحتاج إليه.. رائحة الأمان.. ربما فكرة "جاد" لم تكن سيئة بالنهاية!!
عناق واحد معها في خضم هذه المصداقية المؤلمة كان كفيلًا أن يوقظ مشاعر متأججة حاول كلاهما الهرب منها أسفل تحجر ظاهري اصاب اسطح قلبيهما النابضان بعشق أزلي تعاهدا عليه سويًا لبعضهما البعض..
❈-❈-❈
اجلسه على فراشه بعد أن استدعى من يصنع له القهوة وحاول افاقته ببعض المياة التي قد ابتل بسببها قميصه وجعله يحتسي الكثير من المياة كذلك وساعده "جاد" على خلع القميص ونظر له مليًا ثم حدثه هاتفًا:
- ايه يا عم سلمان، اسيبك لواحدك.. امان ولا ايه هتفضحنا قدام الحاجة؟
اشاح له بيده ثم قال بسخرية:
- ما هي اللي فضحتني..
تعجب "جاد" لما يستمع له ثم سأله بفضوله الذي لا يندثر أبدًا بداخله:
- ليه خير؟ ايه اللي حصل؟
زفر وهو يتفقد ملامحه بصعوبة بسبب ثمالته ولكنه لم يكن غائبًا بالقدر الكافي لتعوده على احتساء الكحول فلم يسمح له مقدار ما تناوله بأن يُدلي بالمزيد ليغمغم قائلًا:
- بقولك ايه، انا هنام وهابقى كويس..
استمع لطرقات على باب غرفته ليذهب وتفقد من الطارق ليرى احدى المساعدات تحمل القهوة فتناولها منها واعطاها له وهو يتفقده بحرصٍ بينما سأله:
- هتشربها ولا هتوقعها على السرير ولا إيه حكايتك؟
أومأ له وهو يحتسي منها وآسر الصمت ليشعر الآخر بالغرابة ليتنهد قائلًا:
- طيب، تصبح على خير يا عم!
هز "سلمان" رأسه دون اكتراث بينما غادر "جاد" الذي يعلم أن عليه أن يتفقد "رفيدة" التي ذهب حيث غرفتها ولم يجدها فحاول الإتصال بها ليصل في النهاية إلي الرسالة المُعلنة عن إغلاق هاتفها فسرعان ما هاتف "سعد" الذي قد تعهد بحل الأمر بأكمله! لابد وأنه انتهى من طلاقهما، أو؛ أخته قامت بإختفائها من جديد..
❈-❈-❈
تحاملت على آلمها الذي قل نوعًا ما عن ليلة أمس وهي تتفقد هذا المرأب، لم تستطع منع نفسها أن تودع هذا الركن الذي لجأت له كثيرًا هاربة من كل شيء.. وهذه المقاعد القريبة التي حملت كل لقائتها مع "سلمان" فضلًا عن القُبلات المسروقة بينه وبين خطيبته التي شاهدتها هي في خجلٍ تام ودهشة شديدة..
التفتت لتتفقد كذلك الحديقة التي تراقصا بها أسفل عينيها، رقصة الأمير والأميرة بأحدى أفلام الكارتون الشهيرة التي تتمناها كل الفتيات الصغيرات، لا تستطيع سوى أن تصفها بذلك، ولن تغفل بالطبع عن والدته الفضولية واصدقاء هذه الطبقة المخملية التي لم تكن تتصور في يوم أن تحيا معهم بنفس المنزل.. بعقر دارهم.. ولو لأيام!
من جديد نظرت نحو المرأب وتحديدًا تلك البقعة التي سقطت بها وحملها "سلمان" وقتها وقتها لتزفر وهي ترمق الأنحاء لتشاهدها بنظرة اخيرة.. ربما لم يكن الأمر بأكمله سيئًا، لقد امتلكت بعض اللحظات القليلة الجيدة بهذا المنزل..
لفت نظرها تواجد كل السيارات سوى سيارة "رُفيدة" لتضيق ما بين حاجبيها وجذبت هاتفها لتقوم بالتحدث إلي "سلمان" كوداع ليس إلا ومن جديد وجدت هاتفه مُغلقًا!
ابتعدت قليلًا حتى تُصبح أمام المنزل واشرأبت لأعلى لتجد بعض الأنوار تظهر من نافذة غرفته فقضمت شفتاها لتُفكر سريعًا، فلقد أوشك اخيها على الوصول كما عليها أن تحضر حقيبتها.. ليكون مجرد وداع إذن! بإمتنان، وبعض الثناء للثوب الذي اعطاه لها..
همهت مُفكرة قليلًا، الذريعة الأفضل أن تذهب لتعطي له الثوب وتشكره عليه وتتمنى له حظ سعيد مع "رغدة" وتخبره أنها ستغادر، وداعًا.. ثم هذا كل شيء..
توجهت بصعوبة تتكأ على الجدران حتى وصلت للمصعد ومنه إلي غرفتها لتأخذ الثوب المطوي على فراشها واتجهت للأسفل حيث غرفته لتطرق الباب وانتظرت قليلًا لتشعر بغبائها أنها تفعل ذلك وكان كافيًا أن تُرسل له برسالة نصية أو حتى رسالة مُسجلة بصوتها بينما تحرك الباب لتجده واقفًا، بيده احدى سجائره، مرتديًا منشفة وشعره لا يزال مبتلًا.. و.. حسنًا.. هذه مرتها الأولى ترى رجلًا، نصف عاريًا، جذابًا حد اللعنة..
سرعان ما طأطأت رأسها وهي تعتصر الثوب بين يديها وتفوهت بتلعثم:
- أنا آسفة، مكونتش اعرف.. أنا آسفة.. أنا..
انفجر ضاحكًا على ملامحها وامتن لفعلتها ووجهها المحجوب خلف حُمرة الخجل الشديدة ربما هي التي ستفيقه في النهاية، أو ربما لا يزال ثملًا لذلك هو يضحك.. لا يدري!!
سعل من كثرة ضحكه لترفع نظرها له بغضب ونهرته:
- انت بتضحك على ايه! على فكرة بقى أنا غلطانة، اتفضل فستانك اهو.. متشكرة جدًا عليه.. وآلف مبروك على الـ..
اندفع للخارج واضعًا كف يده على شفتاها والأخرى احاطت خصرها كي لا تتحرك وعينيه متوسعة ناظرًا لها بينما بقايا الحروف التي لا تزال تنطق بها تنعكس على أنامله لتبادله الأنظار الغاضبة لفعلته بينما أدرك أن الخمر تؤثر عليه بشدة وبدأ في الشعور بالصداع، هو في طريقه للإستيقاظ إذن!
حدق بعينيها التي لا يعرف هل هي جريئة للغاية، أم قوية، أم خجولة ثم حدثها بهدوء:
- رحمة، مينفعش بنت زي القمر زيك تتعصب بسرعة كده وتعلي صوتها وتتكلم بالطريقة دي!
ابتلعت وهو يهمس بتلك الكلمات لتستنشق هي هذا المزيج من رائحة سجائره، رائحة مستحضرات الإستحمام، وعلى ما يبدو رائحة أنفاسه الغريبة التي تشتمها بسبب اقترابه منها!
ابتلع وهو يُفكر فيما قاله ليشعر بأنه قد عبر الكثير من الحدود خصوصًا مع فتاة مثلها لن تتقبل الأمر:
- أنا آسف.. مكونتش اقصد اضحك.. أنا سكران وبحاول افوق..
اخفض يده لتتنفس هي الصعداء ليتشبث بسيجارته التي كان يحملها بنفس اليد التي تتلمس خصرها الذي تركه للتو وابتعد للوراء متحدثًا بعقدة حاجبان:
- استني أنا هالبس واجيلك.. ادخلي استنيني في الأوضة أو البلكون!
هز رأسه بإستنكار متجهًا للداخل بينما تسمرت بمكانها وهي تحاول استيعاب ما حدث منذ قليل ولعنت بداخلها أنها آتت إلي هنا لتتوجه سريعًا ووضعت الثوب على فراشه متحاملة على آلم قدميها والتفتت لتتجه للخارج بينما آتى هو ممسكًا بقميصه القطني وقد ارتدى بنطالًا ليوقفها:
- استني يا رحمة رايحة فين؟
التفتت نحوه بأعين لائمة تعج بالإنزعاج ثم اخبرته بإقتضاب:
- ماشية..
أخذت خطوة نحو باب غرفته ليزفر بعمق لدرجة سماعها صدى زفرته ثم تحدث بإرهاق لإزدياد صداع رأسه:
- ارجوكي مش ناقص اختم يومي بخناقة.. بالذات معاكي انتي يا رحمة!
اشرأبت بعنقها نحوه ليرتدي قميصه سريعًا ثم توجه نحو فراشه ممسكًا بالثوب وناولها اياه:
- خليه معاكي، ده بتاعك!
لم تتناوله ليُغمض عينيه بإرهاق وغمغم بعدة أحرف لم تفسرها بينما ذهب ليجلس وهو يُلقي الثوب جانبًا وتنهد بآسى بينما كادت هي أن تُغادر ليُعلن بنبرة حزينة موقفًا اياها:
- أنا ورغدة سبنا بعض!
ماذا؟ حفل خطبة ليلة أمس ثم انفصال؟ هل هذه اسرع خطبة بالتاريخ؟! ما الذي حدث؟ كيف حدث ذلك؟ ما لعنته مع النساء؟ وكيف تركته هي؟ أم هو من فعل؟ لقد كانا يقبلا بعضهما البعض أمام عينيها، كيف ومتى حدث كل ذلك!
نظفت حلقها بعد استيقاظها من صدمتها بينما هو امسك بأحدى سجائره من جديد التي قد اشعلها بالفعل لتتسائل:
- ازاي؟ ايه اللي حصل؟
ضحك هاكمًا ثم نفث تلك الأدخنة المعبئة برئيتيه التي قاربت على الهلاك لكثرة تدخينه بالآونة الأخيرة بطريقة مُضحكة والتفت ليُجيبها:
- تخيلي كده.. ماما.. سوزان هانم.. اللي كانت بتحاول تسعدنا امبارح بوظت كل حاجة النهاردة الصبح، مستنتش حتى إني افرح شوية!
تحاملت على آلم قدميها بينما هو يُحدق بالأرضية في صمت وهو يتجرع فشله بالعلاقات وكادت هي أن تتسائل بالمزيد لتجده يتحدث بخفوت:
- تعرفي.. أنا عمري ما حبيت رغدة، يمكن علاقتنا قايمة على الشكل الإجتماعي والتفاهم وتوافق الخلفيات الإجتماعية نوعًا ما، بس جوايا حتة زعلانة إننا سبنا بعض!
قلب شفتاه ليستنشق المزيد من تلك السموم التي تعانقها اصابعه لينفثها وهو يتابع:
- مش عارف.. حاسس بزعل ولا حاسس اني متعصب أو مخنوق أو يمكن مكونتش متوقع رد فعلها ورد فعل ماما!
رفع وجهه ناظرًا لها وأكمل بأعين لا تعبر سوى عن الحُزن والشتات:
- كل حاجة جوايا متلخبطة.. حتى رفيدة لما عرفت إن فيه ما بينها وبين ياسر مشاكل وانها خلاص هتطلق مرتحتش.. أو بمعنى اصح محستش بحاجة.. والنهاردة لما شوفت رغدة معترضة ازاي على تحكمات ماما، حسستني اني حد ميستاهلش انها تستحمل علشانه.. وكمان المُشكلة إن مفيش واحدة فيهم فكرت تعرفني انها هتقابل التانية.. حسيت ان لا دي ولا دي فارق معاهم سلمان نفسه!
ابتسم بحسرة وانكسار وهو يرمقها ليهمس بنبرة استفهامية:
- للدرجة دي انا مستاهلش؟ لا أم سعيدة علشاني ولا واحدة ست اخترتها تحاول علشاني! هو ليه دايمًا بيحصلي كده؟ ليه كل اللي بفتكر إنهم بيحبوني بيطلعوا في الآخر مش فارق معاهم اصلًا؟ المشكلة فيا ولا فيهم ولا في ايه؟ أنا مبقتش عارف!
تعجبت مما تفوه به ولاحظت اختلاف نبرته وحاولت أن تحصل على بعض التفاصيل من حديثه لتُخمن ما حدث بسبب والدته وخطيبته كما بدا من حديثه فكلتاهما التقيتا اليوم ودار بينهما حديث لتحاول اختيار كلماتها واتجهت لتجلس على مقعد قريب منه فهي لم تعد تتحمل آلم قدميها ونظرت نحوه بدعم ثم قالت:
- اهدى وبطل تفكير كتير.. مشكلتك يا سلمان إنك بتفكر كتير اوي، والحاجات اللي بتحسها وبتفكر فيها وبتتخيل نتايجها بتفتكر إنها هي دي الصح وهو ده اللي هيحصل.. بس هي مبتبقاش كده، ولا عمرها هتبقى..
ابتسمت له بلين وهي تتنهد واكملت:
- انت كنت فاكر إن مامتك عايزالك السعادة وبس، وكنت فاكر إن رفيدة هتحبك، وكنت متوقع إن التفاهم اللي بينك وبين رغدة هو ده اللي هينجح.. فكرت كتير في كل واحدة فيهم واستنتجت إنهم هيعملوا كل حاجة زي ما فكرت فيها، بس الحقيقة غير كده!
توقفت لوهلة وهي تنتقي المزيد من الكلمات الداعمة وازاحت خصلاتها الطويلة خلف اذنيها ثم اخبرته متابعة بمصداقية:
- الحقيقة اللي دايمًا مش بتاخد بالها منك في المرتين اللي اخترت فيهم بنت ترتبط بيها هي إنك بتنشى المشاعر، الراحة، زي ما فيه تفاهم بيتحسب بالعقل، فيه كمان تفاهم بتحسه بمشاعرك، يمكن يكون بيبان على إنه..
توقفت لجزء من الثانية باحثة عن التعبير الصائب ثم ابتسمت لتقول ما تشعر به دون حدود أو تفكير:
- بيبان إنه لخبطة بتحس بيها، أو بتحس بسعادة وأنت قاعد ساكت جنب حد معين، أو بتتكلموا في مواضيع تافهة جدًا بس مبسوطين انكوا مع بعض ومش عايزين الكلام يخلص، ولو حتى بتتخانقوا بتحس بزعل جواك بس في نفس الوقت مش عايز تبعد عن اللي بتتخانق معاه، وممكن يبقى انبهار بمجرد ما تشوفه بيعدي قدامك أو بيتحرك أو بيعمل أي حاجة بياكل ولا بيغني ولا بيرقص، وفي نفس الوقت لازم تشوف كل ده من الإنسان اللي قدامك، ميبقاش احساسك لواحدك وبس! يبقى بيبادلك نفس احساسك..
ضيقت ما بين حاجبيها وهي لا ترى أمام عينيها سوى زرقة عينيه التي تتفقدها بإهتمام وعدة لحظات لا تدري لماذا تتذكرها الآن مثل حديثهما سويًا كل ليلة، وعندما رقص مع "رغدة" وهي تشاهده، وكذلك عندما تشاجرا، لتنظف حلقها وحاولت تحاشي زرقة عينيه وتابعت بجدية وانفاس مُرتبكة:
- علشان بتفرط في المشاعر ومش بتحسب حسابها بتختار اختيار غلط وفي الآخر بتلاقي نفسك تايه! عارف يا سلمان المشكلة مش زي ما انت ما بتقول انك متستاهلش او محدش بيعملك حساب أو تقدير، وصدقني مكونتش اتوقع إنك حد بسيط اوي بس..
رطبت شفتاها وتنهدت لتعود ناظرة لزرقاويتيه مُجددًا وهي تكاد تُجن بداخلها على ما قاربت أن تدركه بينها وبين نفسها:
- انت كل اللي عايزه هو حياة بسيطة، واحدة ترتاح معاها، تبادلك نفس مشاعرك ويكون بينكم حب وتفاهم بالعقل وكمان بالمشاعر.. من الآخر واحدة تحبك زي ما أنت ما بتحبها وترتاحلك زي ما أنت مرتاحلها، تتكلم معاها من غير حدود وتحس زي احساسك!
ابتسمت له بهدوء ثم أطلقت أنفاس محتبسة بصدرها وهي تقارب على ظن أن كل ما يحدث لها مع هذا الرجل يولد بداخلها مشاعر نحوه لتقول بهدوء:
- متضايقش، أنت بس اخترت اتنين مش متفاهم معاهم غير اجتماعيا وفكريًا.. لكن مشاعرك ومشاعرهم مكنش فيها تفاهم!
نهضت بإبتسامة ساخرة بينما هو شعر بسكينة غريبة بالرغم من صداع رأسه الذي لا يتوقف ولكن هذه الفتاة مجرد الحديث معها يجعله أفضل بسنوات ضوئية مما كان عليه، في البداية تجعله يشعر بالراحة لتحدثه معها عن ماضيه مع "رفيدة" ثم التحدث عن "رغدة" .. كيف تفعلها؟! ما الذي تملكه بنطقها لعدة حروف ولا تملكه سواها؟
- بالنسبة بقى لموضوع مامتك!
عقدت ذراعيها وهي تزفر لتُنبهه من صوت افكاره الذي يصرخ بعقلها بآلاف علامات الإستفهام حولها وتريث ليستمع للمزيد:
- مامتك بتتحكم في كل حاجة.. وأظنك إنسان واعي وكبير كفاية إنها تقولها متدخلش في حياتك ولا خصوصياتك! أنت اللي قدك عندهم تلت أطفال! واللي قدها جدة.. وهي فعلًا جدة.. ياريت تحاول تفهمها ده لأنها مبتسبش حد في حاله!
انزعج عاقدًا حاجباه من تغافله عن تلك الحقيقة التي نطقت بها بمنتهى السهولة وقد ظن أنه سيُفلت من تحكمها بينما وجدها تتابع:
- متضايقش نفسك.. نصيبك مش معاها.. بكرة ربنا يرزقك بحد يقدرك ويحبك زي ما أنت.. زي ما بكرة ربنا يبعتلي اللي يحبني ويحس بيا! كل حد بياخد نصيبه في الآخر..
ابتسمت له بدعم دون مبالغة وتنهدت وهي تنظر له بطريقة غريبة لم يعهدها منها:
- عمومًا أنا كنت جاية اسلم عليك علشان ماشية!
نهض مفجوعًا بقولها وعلم الآن أن نظراتها كانت نظرات وداع له ليسألها متعجبًا:
- ماشية ازاي؟ رايحة فين اصلًا؟
توسعت عيناها وهي ترمقه بإستغراب وكذلك لانت شفتاها لتجيبه:
- سعد هيجي ياخدني وهروح بيتي.. سلمان أنا ضيفة هنا.. لازم اروح في الآخر يعني..
حسنًا، لم يتوقع أنها ستذهب بعد كل هذا الحديث الطويل الذي اراحه كثيرًا، أو بعد الاحاديث الطويلة كل ليلة، أو تعوده على تواجدها كل يوم هنا بالقرب منه ليجلسا ويثرثرا بكل شيء، وهي تضحكه كذلك، وتسترق النظرات من خلف السيارات، وتصطدم به، ويتشاجرا سويًا، ويخبرها كل اسراره بأريحية، وتشاركه التدخين السلبي، اللعنة!! هو لا يريدها أن تذهب! تبًا.. هو لا يدري بأي حق يوقفها عن الذهاب!
ابتسمت له لتودعه قائلة:
- سلام، تصبح على خير..
سرعان ما اوقفها مانعًا اياها عن المغادرة بصوته المهتز:
- يعني هتمشي، خلاص يعني؟
ضيقت ما بين حاجبيها لتومأ له بإبتسامة ليتسائل من جديد:
- ممكن يعني نبقى نتكلم في الموبايل نطمن على بعض؟
احتارت مُقلتيها الدافئتين أو كما يراهما هو، عسليتيها تُصيبه بالدفء والسكينة، والراحة على حد سواء وأما عن ابتسامتها واهتزاز خصلاتها وهي تومأ بالموافقة له كانت مزيجًا يجعله مستسلمًا للمزيد من الرغبة بقضائه الوقت معها!
- وممكن نتقابل، نخرج مثلًا؟
غمزت بأحدى عينيها بمزاح ثم همست بملامح متجعدة بصعوبة زائفة:
- أنا مبخرجش مع حد يا سلمان.. ممكن اصحابي البنات او زمايلي البنات..
أومأ بتفهم وهو يزفر بإحباط ليقاطعهما رنين هاتفها لتجده أخيها الذي يتصل بها لتشير له:
- شكل سعد وصل، تصبح على خير، سلام!
سرعان ما غادرت وكأن تواجدها تلاشى بالفراغ كما تلاشى الدفء الذي ينبعث من ملامحها وعينيها وتلك الطاقة التي لا تتوقف عن نثرها حوله، وفجأة شعر بالوحشة، والبرودة!
❈-❈-❈
جففت دموعها التي لم تتوقف عن ذرفها منذ أن غادرت هذا المنزل الغريب الذي تم به طلاقها بمساعدة رجل غريب لا تعرفه ولا تأمن مساعدته لا هو ولا الذي يدعو نفسه اخيها!
متى شعرت بالأمان؟! لم يحدث هذا أبدًا.. دوامة من خوف متواصل تحاول أن تخفيه خلف انوثتها الفاتنة وكفائتها بالعمل!
ترجلت من السيارة وهي تشعر بالإرهاق الشديد والإحباط بعدم اجابة "إيناس" على مكالمتها منذ أن آتى "سعد" واخبرها أنها أخيرًا ستحصل على طلاقها وتنازل كامل من زوجها السابق على كل ما منحته له يومًا.. لا تُصدق حقًا أنها تُلقبه بزوجها السابق!
ترجلت للخارج وكادت أن تنعطف لإستنشاق احدى سجائرها بهذا الهدوء فيبدو أن الجميع ذهبوا للنوم لتستمع لحديث يدور بين صوت رجل مألوف وفتاة لم تستطع تذكر نبرتها:
- علشان كده خلصت معاه قبل ما تنزلي.. وكلمتك لما خلصنا.. ليه يا رحمة مقولتليش!
- أنا آسفة يا سعد، بس.. أنا..
- أنا مش بقولك كده علشان تقولي آسفة، انتي معملتيش حاجة غلط يوم ما حبيتي إنسان، الحب لا عيب ولا هو حرام، أنا بس كنت مستني اختي الصغيرة تصارحني وتشكيلي همها!
أدركت أنه يتحدث مع اخته تلك الفتاة الممرضة، نعم هي تتذكر الآن، ولكنها لن تكترث، ستتابع طريقها، اخذت خطوة واوقفها صوت "رحمة" التي اجهشت بالبكاء وتابعت حديثها:
- يا ريتني حكيتلك يا سعد كل حاجة، يا ريتك كنت جنبي، ملعون ابو الظلم والسجن اللي خدك مني.. بس غصب عني والله حبيته اوي، وهو طلع بيعمل كل حاجة لمصلحته!
تلك الكلمات وحدها دفعت العبرات لأعين "رفيدة" التي تساقطت رغمًا عنها وكأن تلك الفتاة تقص تمامًا ببضع كلمات كل ما حدث بينها وبين زوجها الخائن لتستمع لمزيدًا من البُكاء جعلها تبكي هي الأخرى بقهر:
- لو كونتي قولتي لأخوكي كان قالك على كل عيوبه ومميزاته من البداية، كنت لحقتك قبل ما تحبيه، او على الأقل كنت فهمتك هتحبي مين، جاد راجل وجدع وغلاوته من غلاوتك بس مشكلته إنه دايمًا مصلحته فوق أي حاجة! اهدي وبطلي عياط.. بكرة اجوزك اللي احسن منه مليون مرة!
اكملت خطواتها متحاملة على بكائها وحاولت أن تخفي ملامحها كي لا يراها أيًا منهما لتجده يعانقها ويربت عليها محاولًا أن يُهدأ منها وكم حسدتهما بشدة على ما يتشاركاه بهذه الأريحية بينما هي في أمس الحاجة لعناق مثل هذا..
تصلب جسده وهو يراها تسير بالقرب منهما ليزجره عقله مُنبهًا أن شاب مثله فقد سنوات عمره بالسجن لن يرتقي أبدًا لشيطانة فاتنة مثلها! عليه أن يقتل هذا الشعور الذي يُصاعد خفقات قلبه كلما لمحها!
❈-❈-❈
ارتفعت اصوات الموسيقي اكثر ولكن عقلها لا يتوقف عن الصراخ، هذه الأغنيات التي يتصاعد صوتها بصحبة ثمالتها لا يوقف افكارها.. هي سلة للقاذورات، وستظل هكذا، ولن يتغير الأمر!
لماذا لا تملك أخًا كالذي ظهر فجأة بحياة صديقتها "رُفيدة" كي يُساعدها على ما يحدث لها؟ لماذا اخيها عبارة عن وغد حقير لا يستمع سوى لصوت زوجته الطماعة التي بسببها غادرت منزل اسرتها؟ لماذا عليها أن تواجه كل هذا بمفردها؟
ولماذا تنظر لنفسها بهذه النظرة؟ أهي السبب أنها أخطأت، أم أخيها ووالدتها هما السبب؟ أم أن والدها هو الذي أخطأ بموته عندما تركها وذهب لتبقى هي مترنحة بين أخٍ ضعيف الشخصية ووالدة سلبية، وعدة ملاهي ليلة بصحبة كؤوس لا تنتهي؟!
هذه هي الخمر بكل ما تحتويه بذرات كحول دفعت رجلًا حقيرًا أن يقيم معها علاقة جسدية مرات ومرات إلي أن شعر بالملل واختفى من حياتها! حسنًا ستهشم هذه الزجاجة التي تحتوي على سبب من اسباب حزنها الأبدي الذي لا ينتهي!
أمسكت بها لتلقيها أرضًا لينظر لها عامل البار بإستغراب لتصرخ به بنبرة غاضبة ثملة:
- متبصليش كده، هدفع حقها وحق عشرة كمان.. هاتلي عشر ازايز غيرها!
رمقها الرجل بريبة ثم اشار لعاملوا الأمن خلفها لتصرخ به من جديد:
- اهي الكريدت كارد.. خدها وهاتلي عشر ازايز غيرها!
اقترب منها رجال الأمن بعد أن اخرجت ببطاقة ائتمانها والقتها بوجه العامل بينما امسك بها الرجال ليخرجوها فصرخت بهم:
- ابعدوا عني.. انا بدفعلكم قد كده كل يوم، ايه زعلانين اني كسرت الإزازة، طب ادي كمان الكوباية..
دفعت الكوب بيدها لتسقط ارضًا وبدأت في لفت الانظار ليبدأ الرجال في دفعها للخارج وهي تُصيح أمام الجميع وقد بدأ البعض في تسجيل لقطات لها وسط سخريتهم اللاذعة وتعليقات عدة لم تستمع لها بأكملها لتجد نفسها في النهاية جالسة بجانب البوابة الخارجية ارضًا وتبكي بقهر!
نظرت حولها لتجد رجل أمن واقفًا كالجبل الشامخ وبالطبع لن يملك شفقة عليها ليتعالى بُكائها وأخذت هاتفها لتأتي برقمه متناسية كل ما حدث بينهما وكل كلماته وشرقيته بإعتبارها فتاة دون شرف وبمجرد اجابته عليها همست له باكية:
- جاد أنا في الشارع تعالى خدني ارجوك! أنا مش عارفة أنا فين!
يُتبع..