NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل السادس عشر (الجزء الثاني)
-
الفصل السادس عشر ج2
-- إلى أين أيتها الأميرة؟؟ .. لازال الوقت مبكرًا على
المغادرة!!
على أسطح أحد البنايات
في ذلك المربع السكني من المدرسة، وقف "إيهاب" بسخرية يُحَجِز بذراعه
دون مغادرة "رفعت" .. لينضم له كلًا من "طارق"، و
"إيهاب"، في حين مكث "نبيل" على مجموعة من قوالب الطوب يحتضن (الكاسيت / المذياع)
الخاص به، يحاول تشغيل ألبوم الأغاني الجديد الذي ابتاعه لـ(مايكل جاكسون) ولكنه
لا يعمل .. فضرب (الكاسيت) بعصبية وهو يسبه بانفعال ليفلح هذا بالفعل، لكن ليس في تشغيل
الشريط، بل في تشغيل الكشاف المرفق به .. ليلعن حياته وهو يُزيحه جانبًا قبل أن
يتهور ويهشمه، واكتفى بتركه يُنير لهم، ثم نهض لينضم للبقية ويرى ماذا هم فاعلون
مع هذا الأخرق.
ارتجف "رفعت" عندما وجد نفسه في ثانية محاصر
منهم في دائرة لعينة كالعادة، وعيونهم الخبيثة تضمر له الشر .. كانوا لعنة حياته
الذي اُبتُليَ بها منذ الليلة الأولى بهذه المدرسة، وجميعهم في السنة النهائية
بالمدرسة، عدا "طارق"، الذي يصغرهم بسنة، ويعتبر أضعفهم وأكثرهم حماقة واندفاعية
.. لذلك لا عجب في انه استطاع دَفعُه والتغلب عليه عندما همّ بمضايقته بمفرده
بعيدًا الثلاثة الآخرون؛ حيث كانوا بالخارج، يمثلون المدرسة في أحد العروض القتالية
السنوية التي تُعقد لمدة أسبوعين، على اعتبار أنهم من أشهر الفرق القتالية بهذه
المرحلة العمرية .. فريق (الشُعلة) .. واليوم، ها هم قد عادوا، مع رغبة واضحة فالاقتناص
لرفيقهم!!
رغم هذا،
تشجع وعزم أن يُنهي الأمر كما سبق وأعدّ له .. دفع يد "إيهاب" التي
تحتجزه:
-
دعني أذهب .. لقد أتيت فقط لأخبركم أنني لن أفعل هذا القرف
ثانيةً!!
هلل "عمرو" بسخرية ضاحكًا ثم نفث آخر
ما في سيجارته في وجه "رفعت" ليمنحه بعدها ضربه بكتفه هزت جسده بقوة:
-
أووه .. أنظروا يا جماعة .. "فروتي" صار
لديها صوت وتتحدث!!
-
بلى ..
وأرى أيضًا أنه صار لديها عضلات تدافع بها عن نفسها .. أتساءل هل يجب أن نتوقف عن مناداتها
بـ "فروتي" بعد اليوم؟؟
تسلم منه "إيهاب" راية السخرية وهو يعتصر
بأصابعه الغليظة عضد الصغير ليصدر منه أنين صامت، وتابع متسليًا:
-
لا
ألومها إذا كانت تلك رغبتها بعد أن تغلبت على "طارق" ذلك اليوم!! .. ولهذا
تدلل علينا اليوم في اللعب!!
ما إن سمع هذا اللقب
البغيض، حتى علم أن الأمر لن ينتهي بشكلٍ جيد .. علم أنه لن ينتهي إلا بالطريقة
المعتادة .. واعتياده لما سيحدث لا يعني أنه يتقبله ويوافق عليه .. بالعكس، فمنذ
أول ليلة له هنا تعرض فيها لهذه الأفعال القذرة وكل ما فكر فيه هو الانتحار، بسبب
الأذى النفسي والجسدي الذي لحقه .. لكن مع وجود أدهم بدأ يرى حلًا ثالث غير البكاء
أو الانتحار .. بدأ يرى أملًا في الحياة، عرف المقاومة وذاق طعم القوة .. تعلم منه
القانون الذي يسري به كل شيء، والذي لطالما لعب فيه الدور الأضعف .. لكن هذا لن
يكون بعد الآن!!
أوليس من أجل هذا الهدف
ألقاه والده هنا؟!
صرخ بهم المدعو
"طارق" بحنق:
-
كفى
مزاح يا شباب، دعونا نعيّد تأديبه وننتهي!!
أومأ له الأخرون بموافقة،
ليتراجع رفعت وقد بدأ دبيب الخوف يتعالى داخله .. ولكن أين سيذهب منهم، لو كان
هناك من البداية مخرج، ما وصل لهذه اللحظة من الأساس!! .. أنقذه من فتكهم، رابعهم
الذي تحدث وقد كان صامتًا من البداية، بدى وكأنه الرأس المدبر:
-
قبل
هذا، لا بد أن نعرف مَن جرّأه علينا وعلّمه كل هذا ونحن لا ندري؟؟
-
ليس
هناك سوى الولد الذي يشاركه الغرفة، "نبيل"!!
أجابه "عمرو"، ليستغرب:
-
مَن؟!
.. ذلك الولد غريب الأطوار .. هل انفكت عقدته وصار اجتماعي يكوّن الصداقات؟؟
-
بلى،
يبدو كذلك .. هيا أخبرنا "رفعت"، هل علمك فقط تلك الحركات أم علمك ألعاب
أخرى أكثر متعة من ألعابنا؟!
رمى "إيهاب" هذا السؤال بنبرة خبيثة
موحية، ليقهقه "نبيل" هازئًا :
-
آه، يا
لئيم .. ألهذا لا تريد اللعب معنا؟؟ .. لا بد أنكم تقضيان طول الليل في اللعب!!
-
والإجازات
أيضًا، "نبيل" .. طوال
فترة غيابكم ولم أراهما إلا معًا، وليس هذا فقط، بل يلصقون رؤوسهما ببعض ولا
يتحدثون إلا همسًا!!
اضاف طارق بغيظ ليوغر
صدر البقية .. فهتف عمرو كمَن جاء بالتائهة:
-
مهلًا
يا شباب .. لدينا سر هنا!!
-
بالتأكيد
.. ذلك الولد لا يريحني بتاتًا، منذ متى وهو يُصاحب أحد!!
تمتم نبيل بتحليل للوضع بينما
يشعل لنفسه سيجارة ويتبادل أنفاسها مع إيهاب الذي خاطب رفعت مجددًا وهو يجلس
القرفصاء أرضًا:
-
هيا "رفعت"،
تحدث، ماذا تخبئون؟؟
-
لازلت تحدثه
باللين؟! .. "إيهاب"، هذه الطريقة لن تنفع معه، كما رأيت، هذا الصرصور يظن
نفسه يستطيع أن يرفع عينه بنا!! .. وهذا ليس في صالحنا!!
هاج طارق لينهض نبيل ويكمم فمه زاجرًا بغضب:
-
أخفض صوتك، واللعنة هل جُننت؟!
ثم دفعه في صدره بنفور
قبل أن يلتفت لـ "رفعت" متحدثًا بوعيد وعينٍ يملأها الشر:
-
وأنت
.. هل ستخبرنا الحكاية كاملة أم أجعل عمرو يُحضر الكاميرا لنأخذ بعض الصور
التذكارية؟!
على الفور شحب وجه الصغير وبهت لونه ومعنى الجملة
المبهم يستحضر بذاكرته ما مرّ به بليلته الأولى، ليندفع برأسه كإعصار مُدمر لكل
ذره شجاعة كان يمتلكها .. وله كل الحق، فما حدث كان سيء بالنسبة لطفلٍ بالحادية
عشر من عمره!! .. ما حدث كان مُريّع بمطلق الأحوال!!
❈-❈-❈
تلك الليلة، لم يكن نائمًا بالفعل حينما سمع
خطوات رفعت الحثيثة تغادر الفراش المجاور له .. بالكاد منع أدهم نفسه من أن يُوقفه
أو يسأله إلى أين سيذهب بهذا الوقت .. لا، لم يستطع فعل هذا، وذلك ليس لأن الأمر
برمته لا يعنيه، بل لأن فضوله قد بلغ من الحد عنانه .. شعر بالغيظ كون الآخر يُخفي
عنه سرًا وهو الذي شاركه أعظم أسراره، فأنّى له يفعل هذا؟! .. لقد فضله، وفعل من
أجله الكثير، اعتبره صديقه الوحيد، ليقابل كل هذا بتلك الطريقة اللئيمة .. حينها
أقسم أن أيًا كان ما يفعله بالليل سيكون لدى القائد علمًا عنه بالنهار .. وليحدث
ما يحدث بعدها!!
وعلى هذا، تحرك في أثره دون أن ينتعل شيء .. وأول
ما أثار انتباهه، أن رفعت كان يسير على وتيرة مَن يعرف طريقه، دون رهبة من أن
يلمحه أحد، على خلافه هو آنذاك؛ فرغم من أنه أمضى بالمدرسة أكثر منه إلا أنه لم يقدم
على مثل هذه الحماقة من قبل .. وبسببه فعلها الآن!!
صعد خلف الآخر ذلك الدرج المؤدي للطابق السطحي،
وهو في أوج استغرابه حول ما يفعله هناك، ومن المفترض أن الأسطح من الاماكن
المحظورة والموصودة بأقفال، فكيف له العبور الآن بألفه ودون حاجز وكأنه يعبر باب
بيته، ليدب الخوف بقلبه لأول مرة وقد استشعر الخطر الذي يحف المكان .. وشيئًا
بصدره ناشده بالرجوع، إلا أن هرمونات الاندفاعية وحب المخاطرة المميزة لاضطراب
المسلك كانت ذو سلطة أشد عليه ..
انتظر على مسافة منه لأكثر من دقيقة بعد أن فات
يراجع بها كل التكهنات حول ما يحدث بالناحية الأخرى من الباب، إلى أن تمالك ذاته
وقرر أن يتبين ذلك بنفسه!! .. تغلب على الصوت الذي ينهاه وتجاوز الدرجات المعدودة
التي تفصله عن الباب الخشبي القديم .. وما إن صار على مقربة حتى تناهى إلى سمعه همهمات
غير واضحة بالكامل نظرًا لبُعد موقعهم عن الباب .. أما الواضح وضوح النهار، أن تلك
الهمهمات لم تكن لِـرفعت ولم تكن مفرده من الأساس، لذلك تجمد بموضعه علّه يفهم ما
يحدث ثم عاد خطوتين تحسبًا وبات يسمع دقات قلبه التي ارتفعت فزعًا .. وانتظر مجددًا حتى هدأ كيانه ثم بخطوات تكاد
لا تلمس الأرض من حذرها، دنى وألصق أذنه بالباب لمدة خالَ فيها أنه لن يسمع الليلة
سوى تلك الهمهمات اللغطة حتى باغتته تلك الجملة التي تجاوزت كل الحواجز ورشقت بأُذنه...
”ألازلت تكلمه باللين؟! ..
"إيهاب"، هذه الطريقة لن تنفع معه، كما رأيت، هذا الصرصور يظن نفسه
يستطيع أن يرفع عينه بنا!! .. وهذا لن يكن في صالحنا!!“
أي هراء يحدث بالداخل؟!
هذا ما تمتم به عقله فور أن تمركزت بعقله تلك
الكلمات المبهمة ليستشف مدى خطورتها .. وهنا بدأ ناقوس الخطر يدوى داخله خاصة بعد
أن عادت الهمهمات من جديد ولم يسمع بعدها شيء سوى صرخة .. على الأدق بادرة صرخة
تمّ تحجيمها سريعًا قبل أن تأخذ فرصتها في الصخب، وتبعها صدى حركات معافرة .. ولم يكن من الصعب عليه التعرف لمن تكون!!
كقطارٍ غاشم فـقـد سائقه البشري والآلي معًا، اندفع
أدهم كعادته بجنوح أحمق متجاهلًا كل الخطط والوعود التي أعدّها وقطعها على نفسه،
ليصبح في ثانية بالداخل ويفجع بالمنظر الذي رآه ..
"نبيل"
و "عمرو" كانا يقفا بالجوار وكأنهم يناقشان أمرًا جليل .. أما الآخران فكانا
كذلك يناقشان أمرًا ولكنه مختلف مع "رفعت"!! .. بالأرض، تمركز أحدهما بركبتيه
على كلتا ذراعي الأخير الممددة لأعلى، ليتفرغ لتكميم فمه .. أما الآخر فبكل إخلاص
وسرعة أداء كان يجرّده من سرواله السفلى..
اللعنة على حياته اللعينة!!
❈-❈-❈
فقط ثانية، كانت ثانية
واحدة اُعيّد فيها شريط حياته متوقفًا عند ذلك المشهد اللعين، الذي أعاده بدوره
لمشهد آخر بدئت عنده سلسلة لعناته، ليرى على يد اللعينة زوجة أبيه، الحياة على
وجهها اللعين!!
كمية اللّعن التي غزت
عقله كانت غير طبيعية، وهو ينتبه الآن لكم كان لعين محظوظ، تُعاد عليه الأحداث مرة
تلو الأخرى علّه يتعظ، إلا إنه كان كالبقرة، لا يفقه شيء عن الدائرة التي يدور
فيها مهما رُبط في ساقيتِها لسنوات .. والدليل ما فعله بعدها..
-
كان يُعرّض للاغتصاب طوال هذه المدة؟!
بهمسٍ خائف بالكاد يُسمع
عقبت فريدة علما تلاه وهي تخبئ ارتجاف شفتيها خلف أصابعها .. تبا للرعب الذي أربد
جسدها مجرد تخيل هذا فقط!! .. وتبا للرعب القادم في الطريق فإذا كانت تلك مطلع
القصة، فما بال الخاتمة؟!
أومأ له أدهم بملامح
خالية، لتنفعل ملامحها المتيبسة وكأنها كانت في انظار أن يسحب حديثه أو يُكذب استنتاجها:
-
فقط لا أفهم!! .. لماذا لم يفكر في أن يشكو عليهم؟! أو..
أو كيف من الأساس تحوي مدرسة بهذا الانضباط خلف أسوارها جرائم بشعة كتلك؟!
كعادته، حك أسفل شفتيه
التي انبسطت في خط مستقيم، لأن الأمر كان بديهيًا جدًا في نظره .. لذلك لم يُخفي
نبرة الاستياء في اجابته:
-
سأجيبك على الشق الأول من سؤالك، أما بخصوص الثاني فدعيه
للآخر، لأنه بيت القصيد!! .. لمّ لم يشتكِ؟؟ .. لأنه كان طفل فريدة، والأطفال لا تفصح
عادةً عن الاعتداءات، خاصة إذا نشأوا كما نشأ هذا الولد .. كما أخبرتك كان مدلل جدًا،
مُحاط بحماية زائدة من والدته، حتى من شقيقاته اللاتي كن يضايقونه غيرةً، كان (ابن
امه) بصحيح .. وبسبب هذا تعرض بمدرسته الأولى للتنمر والضرب الذي وصل حد تقطيع
الثياب والكُتب .. وحسبما أتذكر كان هذا سبب مجيئه المدرسة العسكرية .. بعد أن فشل
والده في تعليمه أساليب الدفاع عن النفس بسبب تدخل والدته الزائد وخوفها عليه .. مما
جعل والده يثور وطَلعَ بعدها بقرار إيداعه بالمدرسة العسكرية علّه ينجح في تصليح
ما أفسدته، ليشب وحيده على الصلابة والرجولة كي يليق بحمل اسمه وإرثه العسكري من بعده،
بدل أن يلوث سِيرته المشرفة بالخَراعَة والرعونة!! .. ومن هنا كانت أسوأ كوابيس رفعت،
أن يشتم والده خبر بما يعانيه داخل المدرسة .. وبعقله الصغير حسبها، إذا كان والده
قد نفاه بتلك المدرسة لأنه لا يستطع الدفاع عن نفسه وهدد والدته بالطلاق والحرمان
من أولادها إذا حاولت التدخل، فماذا سيفعل حينما يعرف أنه لم يتقوى كما أراد ولم يختلف
شيء، سوى أن نوع التنمر الذي يتعرض له صار من العيار الثقيل .. وفوق كل هذا، تمّ
هتك عورته!! .. فكان طبيعيًا فريدة أن يستسلم لوساختهم كحل أسهل من الدفاع عن
النفس!!
-
وأنت .. ماذا فعلت؟؟ .. لدي شعور أن الموقف قد انقلب
عليك بالنهاية .. فهل دافعت عن نفسك حينما أصبحت مكانه؟؟
لحظتها، ضمّ أدهم بسَكينه
أصابعه أسفل ذقنه، ليبتسم بعدها ابتسامة الجوكر المرعبة حتى ظهرت غمازته اليمنى
التي -وعلى غير العادة- بدت قبيحة!! .. قبيحة بحجم قُبح ما حدث!!
❈-❈-❈
كالصنم، تخشب أدهم موضعه
على المنظر الذي رآه لفترة لا يعلم أمدها، لم يكن من الصعب عليه أن يفقه ماهية ما
يحدث بالضبط، ودونًا عنه قدماه تحركت وصدره ينتفخ على أوجه معبئ بالغضب والحقد .. التقط
"إيهاب" ورغم كِبر حجمه مقارنه بسِنه إلا أنه استطاع سحَله للخلف من
ياقته، بعد أن كان يجلس عند قدمي "رفعت"، ليقطع بذلك وصلة الضحك
الهستيري عن "طارق" التي كان منغمسًا فيها .. وعندها أفاق الجميع على تصاعد
صوته صائحًا وهو يضرب بقدمه صدره إيهاب بكل غِلّ ليتكوم أرضًا بعد أن شاهد سحاب
سرواله مفتوح:
-
يا أبناء العاهرة!!
ثم بحركة سريعة انتشل
ذلك الراقد بعد أن تحرر من "طارق"، الذي هب واقفًا غير منتبهًا لأي شيء
غير ذلك الدخيل الذي فضح أمرهم .. وبالفعل كاد أن يفلت من الباب بصحبة رفعت ذو
الحركة الثقيلة نوعًا ما نظرًا لرعبه وتفاجئه كالجميع .. إلا أنه وجد كلًا من عمرو
ونبيل بالمرصاد يغلقون الطريق عليه وعيونهم تتوعد بكل شر .. حاول تفاديهم وإيجاد
مخرج آخر لتغلق عليه الدائرة بـ "طارق" وإيهاب الذي كان يقف بنصف
استقامة ويحتضن صدره بألم .. تبا، لهذا!!
رمق رفعت من خلف كتفه
الذي لازال يبكي ويتوارى جزئيًا بجسده خلفه يحتمي به وكأنه أمه، لا أمل منه ولا
رجاء، فكما رأى من ثواني، قد كان مستسلمًا لاستباحتهم لجسده، بل هو مَن آتى لهم بقدمه
كعاهرة أصيلة .. وبحِسبة بسيطة عرف كيف ستنتهي الليلة .. المعادلة
لم تكن عادلة أبدًا، هم بالسنوات الأخيرة من المراهقة، وهو لتوه دخلها، ونذكر هنا
أن مراهقين العسكرية ليسوا كأقرانهم بالخارج .. فارق بنية جسدية، وخبرة قتالية، ذكاء
وقدرة تخطيطية .. لذلك نعم، الاشتباك في عراك شوارع معهم كان فكرة غبية جدًا،
فبالنسبة لهم هو طفل سيدعسون عظامه ولن يهتم أحد .. وهذا ما رآه جليًا في الإيماءات
التي تبادلوها سريعًا وما إن همّوا به حتى صرخ بتهديد يغالب به خوفه وهو يبدل عينه
بينهم:
-
حذاري أن يقترب منا أحد وإلا سأخبر القائد عنكم!!
تابع بجرأة أكبر حينما تجمدت
خطواتهم وانجلى التوتر وبوادر الخوف على هيئتهم:
-
لقد رأيت ما كنتم تفعلونه منذ قليل، وأعرف أنها ليست أول
مرة .. وإن كان رفعت سكت لجُبنه فانا لست مثله .. فإذا لم تتركوني أعبر هذا الباب
الآن، استعدوا لعقاب القائد!!
هكذا تحداهم أدهم بعينًا
سافرة يراقب خوفهم الذي تصاعد ثم ما لبث أن انتقل لداخله بلحظة، حينما انفجر طارق
بالضحك الساخر ومن تبعه الآخرون وهو يصفقون كف بكف لبعضهم البعض.
-
هيا لنعطيه المزيد كما يشاء ليشتكينا عن سبب!!
ضج إيهاب من جرأته في
الحديث ليفصح عن غضبه، وبالفعل اهتاج كل من "طارق" و "عمرو"
من تحديه المستفز و هَـمّا به، قبل أن يوقفهم "نبيل" بإشارة من ذراعه، ثم
أردف ببرود زائف موجهًا حديثه لـ "أدهم":
-
وأنت؟؟ .. ألن تستعد معنا؟! .. فنحن لن نسكت أيضًا ..
أنت ستخبره بما فعلنا ونحن سنخبره بما كنت ستفعله .. أليس كذلك يا شباب؟؟
همهم الجميع له واشادوا
على فطنته وسرعة بديهته وتجلّت ابتسامة خبيثة على وجوههم، طالما كان نبيل أذكاهم،
العقل المدبر لهم، ورغم قوته البدنية ونبوغه في الفنون القتالية إلا أنه كان يفضل دائمًا
استخدام عقله، وهذا ما ميّزه عن الجميع.
توترت أعضاء أدهم وحاول
أن يستشف إلام يرمون حديثهم:
-
ما هذا الهراء .. هل ستتبلّون عليّ؟؟ .. أنا لم أفعل
شيء!!
-
أنت الآن مَن يتفوه بالهراء!! .. لا نحتاج للتبلّي عليك
ونحن نعرف أنك تخطط للهرب من المدرسة أيها الفاجر؟!
بابتسامة صفراء ألقى
نبيل جملته، وهو يقوم بإشعال سيجارة جديدة بحركة درامية شاهدها بفيلم مؤخرًا،
لتمنحه التأثير المطلوب لهيئة الفتى السيء .. خاصة، وهو يشمر أكمام القميص حتى
عضده لتحدد عضلته هناك .. وبعد أن أخذ أول نفس منها راقب شحوب أدهم وريقه الذي
تحجر بمنتصف حنجرته ليخنقه:
-
شهادة حق، جرذ صغير لكن جبروت!!
استلم طارق منه السيجارة
وهو يرمق أدهم بتشفي:
-
آووه .. انظروا رفاق، لقد صُدم ..
هتف إيهاب مفتعل صوت ماجن:
-
رقيق القلب .. اظنه سيبكي من الصدمة!!
استأنف السخرية بعده عمرو
وهو يقهقه بطريقة مبالغة:
-
مسكين، تعرض للخيانة .. هل ستبكي أيها الصغير؟؟
ومن ثم انتهت وصلة
التهكم حينما تحدث نبيل مجددًا وهو يحاول فرد طوله أقصى ما استطاع مغمغمًا
باستعلاء:
-
غبي!! .. هل خِلته سيعرف شيئًا كهذا ويخفيه عنا؟! .. ليكن
بعلمك، رفعت هذا رَجلنا، وما يحدث بيننا يتم بمزاجه .. ومن الأحسن لك، أن تخرج منها،
وإلا لن تخرج من هنا سَالمًا!!
صوته أتى من بعيد، طوال
تلك الدقائق الطويلة، كان أدهم بمنأى عن الهرج الذي يحدث .. لأول مرة كان يخشى
نفسه وما قد يفعله إن إنساق خلف غضبه الآن .. أصوات السخرية من حوله أججت غضبه،
شعر بأعينهم الشامتة، بينما كانت عينه هو في غير مكان .. عينه التفت للخلف -خلف
ظهره- حيث أتته الضربة ممَن كان يحميه للتو!!
لم يخبر أحد عن سره هذا
سواه .. لم يأتمن لأحد سواه .. لم يُصادق أحد ويسمح له بالاقتراب منه سواه هو .. كور
قبضته ليحتكم غضبه، ولم يجد بداخله القوة ليسأله، كل شيء صار واضحًا عندما ارتجع
الآخر بخوف وأخذ خطوات بعيدًا عنه بعد أن كان يتشبث باحتماء به .. علم أنه قد غدر
به وانتهى الأمر!!
بُهتت ملامح أدهم في
لحظة وجفت جميع دماءه من القنبلة التي فجروها بوجهه لينكر هذا على الفور كأسلم حل
للخروج من براثن هؤلاء الملاعين .. لم يكن أمامه سوى الانكار، ففي كل الأحول هو لم
يترك دليل على نيته بذلك .. استعاد قدر من شجاعته، وذكاءه أيضًا ليلقن هذا
المتعالي درسًا .. ويثبت له، وللكل، أنه لا تنكسر شوكته أبدًا:
-
لم يحدث!!
-
ما هو الذي لم يحدث؟!
استغرب عمرو، خاصةً وأن ملامحه
تبدلت ببلادة ونبرته لا ترتعش .. لتكن هذه فرصة ادهم في الاستمتاع بصدمتهم:
-
لم أكن أخطط للهرب .. فلتثبت هذا إن استطعت!!
رفع نبيل حاجبه، ولا
ينكر، قد أدهشه بتبجحه، لكنه لم يحزر جيدًا .. فبحركة خاطفة، جذب رفعت الذي كان قد
ابتعد بالكامل عن دائرتهم:
-
لا نحتاج لإثبات ومعنا أكبر إثبات .. كما تعلم، شهادة
شريك الغرفة تكن ورقة الجوكر أمام القائد!!
حدق رفعت بغضب ولوم
شديد، لم يبالغوا حينما قالوا أنه صُدم .. نعم، لم يتوقع تلك الضربة، كانت قوية،
بل كانت مُهلكة، هدمت بُنيان الثقة الهشة داخله، واُضيفت لتراكمات الخذلان السابقة
.. عقله صور له أفكار سامة، وَقعِها كان جديدًا عليه، صدق أن الأمر كان اتفاق
بينهم وأن الآخر قد وشى عليه، وكان هنا بإرادته الحُرة .. ولم يكن هناك أخرق
بالحكاية سواه .. أومأ لنفسه ليوافق تلك الأفكار بعقله بينما يتفرس الملامح
المرتعبة لهذا الجبان الخائن وهو يرتجع أكثر باحتراز .. ليحفرها عميقًا في ثنايا
ذاكرته، ويردد جملة أكبر من عمره بكثير، دعمها بما عايشه على يد زوجة أبيه...
"لن يخونك إلا مَن
وثقت به
لن يخونك إلا القريب!!"
وباندفاعية وعناد لا
مثيل له، أردف بعدم اكتراث، يحرك ذقنه باستهانة بينما يشرع في المغادرة:
-
حسنًا .. فلتكن شهادة قصاد شهادة .. أنا كذلك شريك غرفة
وسأشهد بما رأيته الآن .. بالنهاية عقوبة الهرب ليست كمثل عقوبة الشواذ!!
وكان هذا آخر ما قاله،
قبل أن يتكاتلوا عليه في ثانية، وبعد مقاومة لا بأس بها من طفل بعمره ضد أربعة من الفتية
على مشارف دخول الجامعة، انتهى به الحال أسفل أقدامهم يتلقى الضربات في كامل مفترق
جسده عدا وجهه .. أجل، كانوا أذكية كفاية لتجنب إثارة اللغط أو جذب انتباه القادة
لما يحدث، لتقليل احتمالات الشكوى ضدهم .. فكان قانونهم العام؛ أضرب حيثما شئت .. عدا
الوجه!!
-
سؤريك الآن مَن الشواذ فينا أيها الجرذ .. عمرو، بسرعة
هات كاميرتك وتعال!!
بصق نبيل فوق رأسه وهو
يهسهس بوعيد بعد أن لقنه ضربة أخيرة بمعدته جعلته يتلوى من الألم .. ثم تركه وبعقل
أفعى سار ينفذ مخططه، انتشل ذلك الصرصور الذي بسببه جاءهم وجع الرأس هذا، أخذه
أسفل ذراعه ليُجلسه بجانبه على قوالب الطوب التي كانوا يتخذون منها مقاعد، بينما
الاخر كان يرجف بشكل جعله يجد صعوبة في الحديث بجدية معه .. ربت على كتفه بقوة
مشجعة:
-
ما بك؟! .. اثبت هكذا كي نتحدث .. لا تخف، لا أحد سيؤذيك
.. لم أكن أكذب حينما قُلت لذلك الأخرق أنك رَجُلنا وواحد مننا .. لذلك اهدأ،
ودعنا نتحدث صديق لصديق، ها؟؟
توسعت عيني رفعت من
الذهول، ذلك النبيل لم يسبق وأن تحدث معه بهذا القدر من الاحترام!! .. عندما قال
هذا لـأدهم ظنه يُوقع بينهما لا أكثر، لكن الآن كان الأمر مريب للغاية، وأكثر ما
اربكه هو أمر تلك الكاميرا التي أرسل عمرو في طلبها .. الحقيقة، تلك هي الكارثة
التي من أجلها خان صديقه الوحيد، ليتجنب نوع الأذى الذي سبق وتعرض له وكانت تلك
الكاميرا اللعينة شاهده عليه .. لم يكن هناك اختيار في وجودها، بالنسبة له أي شيء
يهون عدا أن يُعرض لما اختبره بأول ليلة هنا .. وهذا بالتحديد ما استحوذ على
تفكيره ليحرك شفتيه بهمسٍ مرتجف يستفهم عن ماهية ما سيجري:
-
إذا كنتُ صديق، فلمّ ستُحضر الكاميرا؟!
اشاح نبيل بوجهه عنه جهة
اليسار، بصعوبة مُهلكة يكبح ضحكة هازئة بينما يعاين ما يفعله أصدقاءه للحفاظ على
وضع أدهم مُسجى على الأرض كي يعدّه للقادم .. عاد للآخر جاد الخلجات لأن اجابته هي
موضع ارتكاز سيتوقف عليها مخططه كله:
-
قُلت لك، أنت واحد مننا، لذا اطمئن، هذه المرة ليست من
أجلك!!
-
ستفعلونها معه؟؟
ذهبت الألوان من وجهه
بالمعنى الحرفي للكلمة، وتلقائيا تحركت عينه لتطالع الأخير وهم يدعسونه بأقدامهم بينما
لا حول له ولا قوة .. تمامًا كحاله تلك الليلة، لتضربه الإجابة بعدها:
-
أنت مَن سيفعلها!!
-
هاه…؟!
سقط فكه من الصدمة
وانتفض واقفًا كالملسوع .. ليشده نبيل مُجلسًا إياه ثانيةً، ليتحدث محايلًا إياه
مستخدمًا جميع مفاتيح عقله التي يعرفها:
-
هل لديك حلًا آخر؟؟ .. أخبرني وسأسمع منك .. هل تعرف لمّ
اخترتك أنت بالذات؟؟ .. لأنك المُضار الوحيد إذا اشتمّ القائد خبر عما حدث!! ..
بمطلق الأحوال لن نتأذى كثيرًا، أعني كما تعلم، كلها خمسة أشهر وسنتخرج من المدرسة
دون رجعه .. أما أنت، فحدث ولا حرج، أولًا سيلاحقك العار طوال سنواتك هنا ..
وبعدها ستحدث الكارثة التي نعرفها أنا وإياك، سيعرف والدك بأنك كُنت...
وسكت تاركًا تكملة الجملة
معلقة لتسري بعقله كأفعى خبيثة، ثم عاود باقي هجماته ليضرب جميع أساسياته وفُرصه
في المقاومة:
-
بالتأكيد لن يروقه الأمر، وإذا كان قرر عدم استقبالك
لستة أشهر فقط كبداية، فما بال قراره حينها؟؟ .. بحِسبتي، وعلى أقل تقدير، سيحرمك
من الاجازات نهائيًا .. تمامًا، كحال شريكك المخنث، أم أنك تصدق حقا أنه مَن يرفض الإجازات؟!
.. كلا صديقي، هذا عقاب من والده وليس اختياره كما يُشاع!! .. وإلا ما كان ليفكر
بالهرب إذا كان أمر الخروج من المدرسة بيده من الأساس!! .. وعلى ذِكره، كل ما سبق بِكفة
وأيامك معه بكفة أخرى .. هل تخيلت أنه سيمرئ ما فعلته هكذا؟! ألم ترى كيف كان يحدجك؟!
.. أجزم بأنه كان ينتظر بفارغ الصبر أن ينفرد بك وسيفعل بك الأفاعيل!! .. وتذكر
أنه سيكون معك ليل نهار بغرفة واحدة، ولسنواتك القادمة فأين ستذهب منه؟! ..
بالتأكيد نحن لن نتركه يقترب من واحدٍ مننا، ولكننا كما قلت للتو .. لن نبقى لنحميك
للأبد!! .. ولأنك لن تصمد معه في قتالٍ واحد، فلابد لك من سلاحًا أقوى بكثير ..
سلاح يجعله يفكر عدة مرات قبل الاقتراب من ظِلك .. صدقني هذا من أجلك أنت .. انت
المستفيد الوحيد به .. لا أحد غيرك!! .. ضع العواطف السخيفة جانبًا، وفكر بعقلية
قائد سيكن خَلَفًا مُشرّف لأبيه البطل فيما بعد!!
ضاع كيانه داخل تلك
الكلمات السامة، وبلحظة انعقد لسانه ولم يقوى على تكوين جملة سليمة، ذلك لأن
بداخله لم يبقى شيئًا بموضعه بعد الآن .. إلا شيئًا واحد ..
والده!!
طالما كان الكابوس
الحاضر بذهنه ليل نهار ومنذ أن خطا بقدمه هذه المدرسة .. لا، بل من قبلها!! .. منذ
أن وعيَّ على العالم، ولم يمنحه شيء سوى الشدة والتعنيف حتى أنبت بداخله الخوف
والرهبة من كل شيء، وكبر وتلك المشاعر رفيقته .. بدون سبب كما تراءى له .. بدون
سبب كان يرفض له كل طلب، بدون سبب كان يسمّه بالكلام وأنه لم ينجب سوى خمسة فتيات
.. أجل، اعتاد على سماع تلك الكلمة منه كلما وجده يَلقى معاملة حسنة من والدته، أو
تهديه لعبة أرادها .. هكذا كان يبدأ الأمر، يوبخها، يوبخه، وأخيرًا يحرمه مما
منحته إياه، حتى صارا -هو ووالدته- يتجنبا إظهار هذا أمامه، تحاشيًا لبطشه الذي
يصل في بعض الأحيان للضرب .. ولم يفهم يومًا لمّ بالأساس يُضرب!! .. ولمّ هو بالتحديد
دونًا عن إخوته البنات، اللاتي يلقين معاملة سوية خلافه، لذلك رغمًا عنه كان يحقد
عليهن، ويستغل حب والدته له في الحصول على كان ما يملكونه حتى وإن كان لن ينفعه
بشيء!! .. عشق نظرة الحسد بعيونهن حينما تقول والدته جملتها المعتادة وهي تحتضنه
بقوة: "عيبًا عليكن، أخوكن الصغير، أعطوه ما يريد!!"
لا ينكر أنه كان يتمادى
أحيانًا، ربما بمعرفة بأن والده سيأتي بالنهاية ويسلبه سعادته بالمقابل!! .. تلك
كانت حياته التي ألفها مع الوقت، ويومًا عن يوم كان يزداد تعلقه بوالدته كطوق
النجاة الوحيد بعد أن صارت كل ما له بالبيت .. فإخوته ووالده يكرهونه بوضوح، ولم
يجد سواها توازن ذلك الكره بحنانها، وتغرقه بحبها، لكن هذا لم يمنعه أبدًا من تمني
الحصول عليه من أبيه .. خاصة حينما يرى أباء رفقاءه وكيف يعاملونهم .. والأغرب أنه
كلما سأل والدته هذا السؤال، لم يلق إلا إجابة واحدة .. "بابا يُجهد في
العمل، لذلك لا تحزن منه" .. لكن أليس بقية الاباء تعمل وتتعب، ولمً يُنفث عن
تعبه فيه هو، هو فقط، أما إخوته فلا؟!
مع الأسف لم يجد إجابة
تفسر هذا سوى أنه يكرهه عن حق، وقد ترسخ هذا الإحساس بعد ما فعله ذلك اليوم الذي
تعرض فيه للضرب من زملاءه بمدرسته .. تأمل من والده أن يأخذ له بحقه كأي طفل
بموضعه، لكنه لم يفعل .. لم يفعل سوى العكس!! .. وبدلًا أن يدافع عنه، ضربه هو أيضًا،
وأعاد على مسامعه أنه لم ينجب رجل، وأنه ليس ابنه مَن يُضرب كالفتيات .. ورماه
بعدها بتلك المدرسة ليتعلم الدفاع عن النفس، وتقوى شخصيته المهزوزة .. رماه لتزداد
نكبته مكيالين!! .. ليتعرض -ومن يومه الأول- ليس فقط للضرب، بل للاغتصاب أيضًا وغيره
من الممارسات الشاذة!! .. أراد أن يصنع منه رجلًا على حد قوله، وكيف هو الحال
الآن؟!
لم يجرّ
عليه سوى المزيد من البؤس والشقاء، وندبة أزلية من الألم سترافقه حتى الممات!!
طالع بعينه ذو الدموع
الحبيسة، اضجاع أدهم دون حراك بالأرض وقد انهكه العراك، بينما كان عمرو يُفَنّد
الفيلم الخاص بالكاميرا، ويُفرغ داخلها مساحة استعدادًا لفيلم السهرة .. ليتذكر
هذا اللعين وهو يقف فوق رأس رفاقه يلتقط صورة تلو الأخرى وسط ضحكاته التي لم تنتهي
.. فقط هذا كان كافيًا لإثارة غثيانه، وليتراءى له كل ما حدث تلك الليلة .. هنا،
بذات المكان أيضًا!!
يومها، وبعد أن تسلم
أغراضه التي من المفترض أن يعيش بها هنا، شق عليه الاستدلال على غرفته، وقد تأخر
عليه الليل بعد يومٍ طويل قضاه في انتظار انتهاء تسجيله وإجراءاته .. لم يصدق
عندما عثر على فتى مستيقظًا بهذا الوقت، فوافق عندما عرض عليه المساعدة، وهو لا
يصدق أن تلك الليلة السيئة قد انتهت .. لم يعرف أنها من هنا وقد بدأت .. ولم يعرف
أنها ستزداد سوءًا!!
ذلك لأن السيء ليس له
حدود!!
حدق بوجه "نبيل"
على قدر الضوء الذي ينير لهم، تلك الليلة كان يرتدي أيضًا نفس الوجه اللطيف حينما وعده
أنه سيرشده لغرفته، وإذا به يطرحه بالنهاية داخل هذا السطح .. وقبل أن تصدر منه
حركة، بادر آخر بتكميمه وبعدها سارع البقية بتقييد حركته، لتسقط أغراضه بالأرض
المليئة بالغبار .. كانوا أقوياء كثيرًا عنه، فدون أن يفعل شئ، تلقى عدة لكمات في
معدته لتشل حركته، ومن ثم شعر بملابسه التي يتم تجريده منها، وليست ملابسه بالكامل
على وجه التحديد، بل فقط سرواله، ليحدث بعدها أبشع ما يمكن أن يصيب صبي بالحادية
عشر من عمره!!
بعد أن انتهى كل شيء،
كان في حالة مريعة من الألم والذهول والخزي .. مزيج قاتل للبراءة .. والروح قبلها
.. وبوسط هذا، بَرعوا في تهديده وإرهابه بما سيحدث له إذا شكى عليهم أو أخبر أحد
بما صار، خاصة والده.. وبالأساس هذا ما كان يدور بذهنه لحظتها .. والده سيقتله هذه
المرة إذا عرف بما حدث .. فهو لم يتم ضربه هذه المرة فحسب!!
كان يعرف، رغم صغر سِنه
وقلة معلوماته- كان يعرف مدى دناءة ما أصابه وأنه سيء بدرجة مخزية .. مخزية أكثر
منها كونها مؤلم .. لدرجة غطت فيها مشاعر التحطم والإنطفاء على النزيف التحتي الذي
أصابه من بعدها!! .. ولأيام انشغل بتصنع أن لا شيء حدث، والتصرف بطبيعية كي لا
ينتبه أحد لما يُعانيه حتى مات كل ألم بداخله ولم يبق سوى مشاعر الخزي التي لم
تفارقه أبدًا .. لم يكن يعرفه بالمسمى الحرفي -الاغتصاب- إلا إنه فطن بفطرته
لحقيقة الأذى الذي أصابه .. فطالما حذرته والدته بإلحاف من أن يسمح لغريب بلمس
جسده أو رؤية عورته .. وليت ما حدث انطوى على هذا وحسب!!
لذلك مجددًا لم يكن يقوى
على الاستغاثة بأحد، وللأسف هذا ما شجعهم على الاستمرار في إيذاءه على ذلك النحو
.. ليس تمامًا، فقط بعض الممارسات الشاذة التي هدفها الوحيد إمتاعهم وتفريغ الطاقة
الجنسية التي ترافق مرحلة بلوغهم، ومع ذلك، كانت بعيده عن إيذاءه الجسدي المباشر
.. لكن هذا لا يعني أنه لم يتأذى مطلقًا .. كيف، وهم لم يتركوه يهنأ لحظة، بالنهار
كانوا يتسلون بجعله اُضحوكة للجميع وبالليل كانوا يُنكلون بما تبقى من نفسيته..
حتى وإن كانوا لا يفعلوها كل ليلة!!
ولأجل هذا، طوال الفترة
التي قضاها هنا، كان يأتي لهم طواعية، ما إن يشيروا له فقط بذلك، ما كان يمكنه
الرفض تحاشيًا لغضبهم الذي جربه بأول ليلة .. كانوا شياطين بعينه لا يمكنه هزمهم،
ليس فقط لفارق العمر والقوة، بل لسُلطتهم الغريبة داخل المدرسة .. لقد رأى هذا
بنفسه، يمكنهم كسر القوانين دون أن يعاقبهم أحد ويمكنهم الحصول على أي شيء بسهولة،
وأكبر دليل استباحتهم لهذا المكان .. لذلك لم يكن غريبًا وصولهم إلى هذا الحد من
الشر!!
لم يقوى على منعهم يوم، واليوم الذي تجرأ وفعل،
ها هي النتيجة!! .. يعترف، بكاؤه كل ليلة لم يكن لشيء إلا لعجزه عن تخليص نفسه ..
بكاؤه كان لقهره لأنه كان فاشلًا حتى في الدفاع عن نفسه .. وكل يوم يمضي كان يتأكد
بأن والده كان لديه كل الحق في تلك النقطة، هو ليس سوى ابنة خامسة أخيرة قد
أنجبها!!
-
الكاميرا أصبحت جاهزة، كما أحضرت ما طلبت!!
أردف عمرو بابتسامة
ماجنة وهو يلوح بالكاميرا التي بيده لتدب بجسد "رفعت" رعشة حسية وقد
فُجع من منظر الكاميرا وما ارتبطت به من أحداث سوداء .. وقبل أن يُبدي أي انفعال
عاجلة "نبيل" بما لم يدع له فرصة للرفض:
-
عظيم .. وأنت؟؟ .. ماذا قُلت؟؟
-
أنا...
-
انت ماذا ولا تُتَأتأ هكذا عليك اللعنة، تصرف كرجل!!
نبرته الخشنة تلك المرة أعطته
تحذير شديد من أي اجابة غبية .. فوجد نفسه محاصرًا، ليكمش أصابعه معًا بتوتر مفرط
ويضغط على كل عضلة لسانه كي لا تخونه ثانيةً:
-
أقصد أنا لا أعرف .. لا أعرف كيف أفعلها .. أنت…
ضيق نبيل عينه بعدم
استيعاب حتى فطن لمّ يقصده:
-
فهمت فهمت!!
لعن وهو يحرك رأسه
بعيدًا كي لا يسخر منه ويفسد الأمر بعد أن فطن لما يقصده ذلك الصغير وأنه لن
يستطيع إتمام عملية الاعتداء من الأساس نظرًا لكونه لم يبلغ بعد!! .. فأنّى له هذا
حتى إذا وافق .. وباستعلاء وتقرف لم يستطع أن يخفيه اضاف:
-
بالتأكيد لا أأمل هذا منك!! .. المهم، أفهم هكذا أنك
موافق؟!
أومأ له دون حيلة في كل
ما مرّ به حتى وقتهِ الراهن .. وبثواني اختنقت انفاسه بلهيب الذنب حينما سرحت عينه
مجددًا تجاه ليفكر بما هو مُقدِم عليه في حقه .. صدقًا لم يختر أيٍ من هذا، ولم
يرد له هكذا مصير!!
فبلحظة لعينة وجد نفسه مُخيّر بين اختيار أفضل
الأسوأ، فبكل الاحتمالات لم يكن هناك متسع للتفكير سوى بتجنب التعرض لمثل ذلك
الإيذاء .. تبا، جسده ينتفض بمجرد تذكر أنه كان على وشك خوضه منذ قليل رغم أنه قد
اعطاه ما أرادوا .. فَشَيَّ السر الذي ائتمنه عليه صديقه الوحيد وسلمه لهم كي يفلت
هو منهم .. مع ذلك، كانوا أوغاد خسيسين، فور أن أخبرهم بمخطط هروب أدهم، غدروا به
وكادوا ينفذوا تهديدهم ويُعيدوا ما كان .. غدر بصديقه معتقدًا انه ينجو بنفسه،
ليلقى الغدر بالمقابل حاضرًا!!
لولا وجوده هو -أدهم-
أنقذه كما اعتاد منه منذ عرفه .. لولا وجوده، لكنه لا يستحق أن يكون موجودًا هنا
.. لا يستحق كهذا مصير .. وها هو مجددًا عليه أن يختار أفضل الأسوأ!!
لم يكن الأمر بيده، فعندما تسوء بنا الأحوال، لا
يبق أمامنا اختيار سوى أفضل الأسوأ!!
وأفضل الأسوأ هنا كان
نجاته!!
-
هل يرتعش أم أني أتخيل؟!
سأل إيهاب نفسه بنبرة
شديدة الخطورة بينما يراقب رفعت الساهم تمامًا، ثم أصدر سباب لاذع وهو ينادي على
نبيل الذي كان مشغولًا مع عمرو يشرح له ما سيتم وما هو مطلوبًا منه .. وما إن
اقترب منه حتى هتف دون استباق:
-
بربك أهذا مَن أخبرتنا أنك أنهيت أمره؟! .. أنظر واللعنة
كيف يرتجف كالكتكوت المَبلوّل!! .. برأيك
كيف سيفعلها؟! .. نبيل، أنا لستُ متفائل حيال القادم!!
دفعه باستنكار جانبًا
وتجاوزه قبل أن يشتبك معه .. روحه ستخرج، مستعد لفعل أي شيء كي تنتهي تلك الليلة
اللعينة كما خطط خلاف المتشائم ابن الكئيبة!! .. اتجه لذلك الكتكوت ليعطيه ما يجفف
ريشه من جرعة الشجاعة وما يطوق الاطفال أمثاله لسماعه .. وضع يده على كتفه كالعادة
لينتفض رفعت، فتحدث نبيل قرب أذنه من بين اسنانه التي يكزها وكأنه يسرَّ له الحديث:
-
ما بك، اصلب ظهرك هذا ولا تُقصِر رقبتي بعد أن ضمنتك
أمامهم .. اذا شعروا بضعفك ستسقط من نظرهم، ولن يعترفوا بك واحد مننا، وعندها لن
استطيع منعهم عن إيذائك أنت .. إذا أردت القوة بيننا ودعمنا، لابد أن تصير قويًا
كي تكون جديرًا بها .. ذاك هو القانون السائد إذا لم تلاحظ، الضعيف نَفسه قصير ولا
يعش طويلًا، يُدعس أسفل الأقدام كالحشرة، وانا أظنك قد اكتفيت من الدعس!! .. انظر
لي، لو أثبت شجاعتك هذه الليلة، اعدك ستصلح لحمل (الشُعلة) من بعدنا!!
الشُعلة .. الفرقة
القتالية الأقوى والأكثر شهرة منذ أن دخل هذه المدرسة .. وأن يكون واحدًا منها هذا
حُلم كل طفل بموضعه، امتيازات لا محدودة، ابسطها الإعفاء من الطابور الصباحي
السخيف .. لكنها كانت حُلمه هو ليس لأي شيئًا من هذا، عدا انها ستمنحه نظرة
التقدير والفخر التي طالما تاق لها من والده .. أن يكون فخورًا به كابنه الذي يحمل
اسمه ويُشرّفه من بعده!! .. أن يُحبه ويعترف به كـابن، وليس ابنة!!
وأجل، اشتد بوقفته بعدها
وبعينه العزم، بعد أن سرت الكلمات كمفعول السحر جارفه في طريقها كل ذرة تردد أو
رهبة كان يحملها، وقد صار لديه من الاعذار والمبررات ما يكفي للقضاء على أي شعور
آخر!!
-
حسنًا، لكني ما زلت لا أعرف ماذا سأفعل بالتحديد!!
ثني نبيل ثغره بابتسامة لئيمة:
-
الأمر بسيط .. كل ما عليك هو أن تخلع له ثيابه، وتجعله
يرتدي هذا!!
تعلقت عينه بترقب بلفة
القماش التي أخرجها من أسفل قميصه، وما إن فردها، اتضح أنها ليس إلا ثوب نوم نسائي
قصير ذو لون قاني وشفاف!!
ماثل وجهه لون القميص
وهو يرجف بعينه من الحرج، فهو يتذكر بعد المرات التي رأى والدته ترتدي كذلك الثوب
.. لذلك لم يكن من الصعب أن يفهم ما يعنيه تصوير أدهم وهو يرتدي ثوبًا كهذا!! ..
لكن الجزء الأصعب عن حق في كل هذا، هو كيف سيجعل أدهم من الأساس أن يرتديه؟!
-
أعرف ما تفكر به، لا تقلق .. الجماعة قد قاموا معه
بالواجب واشبعوه ضربًا حتى بات لا يقوى على رفع إصبع .. وحتى لو وجدت منه مقاومة،
فأنت لها، وإذا خرجت الأمور عن السيطرة ستجدني في ظهرك .. هيا، ولا تخف، أنت
الأقوى!!
حاصره نبيل بكلماته
عندما لاحظ زيغ عينه على أدهم، ثم وضع بيده القميص، وتركه كي يسد عليه أي فرصة
للتفكير أو التردد!!
أوقفه إيهاب الذي كان
يتابع المشهد من قريب بينما يكمل سيجارته الخامسة لهذه الليلة:
-
تبا لي .. من أين أتيت بهذه الفكرة يا رأس إبليس؟!
أخذ منه نبيل السيجارة
ببطيء العالم، قبل أن يجيبه بتفاخر غير عادي:
-
من فيلم فرنسي شاهدته بالإجازة الماضية .. تعرفني، أعشق الأفلام
الفرنسية وإبداعاتهم بها!!
-
شاهدته من ورائنا أيها الماجن؟! .. وهذا القميص؟؟ هل وجدته
بالفيلم أيضًا؟!
سأله إيهاب بسخرية
يشوبها المكر لتتحول ملامح نبيل لضحكات خبيثة وهو يحرك حاجبيه بعبث، فقد كان يهوى
التفاخر بمغامراته الغرامية كثيرًا .. ليسبه ايهاب وقد فهم مباشرةً انه قد أخذه
تذكار من إحداهن:
-
اللعنة عليك، متى فعلت كل هذا من ورائنا .. كلا، ستحكي
لنا كل شيء، تحضر لليلتك بعد ليلة ااا... أظننا نحتاج لأسم يليق بعروسة الليلة؟!
-
ما رأيك بـ(دوللي)، على اسم صاحبة القميص!!
ابتسامة بلهاء ابتلعت
وجه إيهاب ليدنو منه ويسأله بخفوت:
-
قُل لي .. هل هذا فقط برنامج السهرة؟!
-
ماذا تقصد؟!
سأله نبيل ليجيبه بحاجب
مرفوع:
-
أعني، هل قصة القميص كافية لإسكاته؟؟
-
أليس كذلك؟!
عقد نبيل حاجبيه بتفكير
خشية أن يكون قد فاته شيء .. ليردف ايهاب رضا:
-
لا اعتقد هذا .. انت رأيت بعينك كيف هو متبجح ولا يفرق
معه شيء، خلاف ذلك الجبان .. كان كافيًا تخويفه فقط ليخرس، أما هذا فأظنه يحتاج
لجرعة أقوى!!
حك نبيل ذقنه بتفكير
بحديثه، ثم زفر بلامبالاة:
-
حسنا، هو لك ما إن يُنهي عمرو المطلوب .. لكن حذاري أن
تتمادي!! .. لا أريد وجع رأس من القائد ولم يبق على تخرجنا الكثير!!
صفق ايهاب بيده بخفوت قدر المستطاع علامة على
موافقته:
-
إذًا بنا لنزف العروسة دوللي!!
❈-❈-❈
-
ماذا بيبي؟؟ .. هل نحضر ماما لترعاكِ؟؟
كان أدهم في حالة مريعة
من التوجع أعجزته عن فتح عينه ليرى ذلك اللعين الذي آتى على ذكر والدته، حتى أنهم
لم يعودوا يكممون فمه، بل تركوه .. خانته دموع القهر وكل جزء بجسده قد تفكك عن
موضعه .. عقله لا يفكر سوى في أمران اثنان لا غير، الثأر وتلقين هؤلاء المخنثين
درسًا معتبرًا، وقبل هذا لا بد أن ينجو من الخطر الذي سَيلمّ به إذا لم ينهض الآن
ويفلت منهم .. لم يعد يهمه ذلك اللعين ولا أي شيئًا عدا أنه ينجو، ولهذا كانت
محاولاته طوال الدقائق السابقة التي انتهت جميعها بتكسير عظامه حتى اختلط عليه الواقع
بالحُلم، وأصبح مغيب جزئيًا عن الوعي.
تنبه فجأة لحركتهم حوله،
لتسكن جميع حواسه علّه يلتقط أي كلمة من همهماتهم، ولم يكن سوى جرعة مضاعفة من
الهرج والتنمر مجددًا، لكن هذه المرة كانت تحمل مرمى آخر من الإيماءات أنبأه بما
ينتونه:
-
(دوللي) .. استيقظي بيبي وانظري ماذا أحضرنا لكِ!!
-
قميص نوم أحمر ناري .. أظنه سيأتي لما بعد ركبتِك، لكن
لا بأس المرة القادمة سأحرص أن يكون مقاسكِ بالضبط!!
-
هيا (دودو) .. الأحمر سيأكل منكِ قطعة!!
انتفض عقله من سُباته ووعيَّ
لما يدور حوله وما عزموا على فعله .. لم يكن من العسير عليه فهم لغة العاهرات التي
يتحدثون بها، ربما لأنه يومًا ما كان يُصاحب أمثالهم ممَن يفوقنه عمرًا وخبرة خاصة
بأمور القذارة .. وللحظة بزغ سؤال مؤلم
داخله، هل ما يعانيه الآن، بسبب ما اقترفه معهم من قبل برعونة مُخَلّطة بسذاجة؟!
كانوا كغيرهم ممَن على
شاكلتهم، يميلون أحيانًا للمبالغة في المضايقات واعطاءها نكهة جنسية .. ذلك النوع
من السلوكيات المنحرفة، كان علامة تجارية مُشاعة لدى أي رفقة جانحة، ترى فيه وسيلة
للقوة والمتعة معًا .. خاصة وهم يتداولون الحكايات الجنسية، المجلات والأفلام
الإباحية .. هي والمخدرات كالفاكهة لأي تجمع كهذا!!
لكن أبدًا لم يصل بهم الأمر حد الاغتصاب!!
فأقصى ما شَهِده معهم، هو ضربهم لصبي -كان بسِنه
وربما أصغر- وتجريده من ملابسه بساحة خالية في الشارع .. كان هذا قمة العنف،
ولفترة لا بأس بها منحهم سُمعه خطرة في المدرسة .. وأسوأ ما فعله حينها، كان
المشاهدة .. لم يتخطى أبدًا دور المشاهد، يشاهد، يسخر، يُلقي بعض النكات السخيفة
على الضحية .. لكن يقسم لم يتعد هذا الحد، ربما لصغر سِنه وقتها، وربما لأن بداخله
لم يكن يستسيغ فعل هذا كونه يثير داخله تلك الأحاسيس المتناقضة، ويتركه في دوامه
من الحيرة والشعور بالذنب الذي يخبو فقط بوجود رفقته!! .. كل جريمته أنه اعتاد أن
يُجاري الجو العام لأصدقائه، وليس كحال أولئك الحمقى فوق رأسه الآن!!
ومن البداية، هذا كان
أحد مخاوفه، وسببًا آخر لحِديّته مع الجميع منذ أن دخل العسكرية .. خشيَّ أن يُرد
له ما فعله، لذلك فضل ألا يُعطي انطباعًا ودودًا عنه، كيلا يستضعفه أحد، وعمل
بعدها على تقويه خبراته في الدفاع عن النفس تحسبًا لهذا .. فتكفي مرة واحدة كان
بها الضحية وخسر في مقابلها الكثير!!
وذلك ما نخر عقله، هل هو
يُعاقب الآن؟؟ .. يذوق جزاء ما ارتكبه؟؟ .. ألم يكفي ما عايّشه من قبل، ليُجدد
عليه بأثر مضاعف؟! .. ولماذا؟! .. الجميع أخطأ، ويخطئ، لكن لماذا هو مَن يدفع
الثمن؟!
لثقته الغبية .. لتساهله
.. لتوسمه وحسن نيته الذي اتضح أنها التعريف الإجرائي للسذاجة، ولم يَجنِ عليه سوى
المزيد من البؤس!!
لأنه لم يكتفي بعد من
لعب دور الضحية بكل حكاياته .. لم يكتفي من لعب دور الضعيف!!
لكن كلا .. لم يحزروا
جيدًا .. ليس بعد الآن .. وليس هو!!
رأى تلك اللحظة ذلك
الطفل ذو الثامنة وهو يرقد بعجز بين يدي زوجة أبيه وعشيقها .. تنتهك حُرمة جسده
بهذا السن وتعبئ روحه بآثام لم يفعلها .. يرى قطته وهي تُلقى من النافذة أمامه دون أن
يكن بيده شيء يفعله .. كل اللحظات التي عانى فيها مرارة القهر، وهناك مَن هو أكثر
جبروت يسلبه حقه حتى في الحياة .. طفى على سطح الوعي تلك اللقطات وتجلى له الشعور
من جديد ليحاصره ويُهدد بابتلاعه إذا لم يفعل شيء الآن .. الشعور الذي في سبيل التخلص منه، رمى نفسه بكل
شيء سيء .. كل هذا رآه، حتى تلك الليلة التي قضاها كالكلب بغرفة التأديب يتذكرها،
ويتذكر أيضًا العهد الذي أخذه على نفسه .. أنه لن يسمح لأحد أن يهينه أو يُنكل به
على أي نحوٍ كان .. خاصة هذا النحو!!
ألم يكن هذا ما دفعه
للهروب بالأساس؟!
إذًا لمّ الاستسلام
والنوم كالعاهرة الآن في انتظار أن يُلبسونه ثوب النوم، ولا عجب فيما سيفعلونه بعدها؟! .. كلا، ليس بعد الآن،
لقد اكتفى ولن يسمح لأحد بأن يذيقه ذلك الشعور المرير مُجددًا .. لن يسمح لنفسه
أبدًا بأن يرقد رقدة كتلك، حتى وإن كان فعلها بأحدهم من قبل!! .. ماذا قال لهذا
المخنث يومًا؟! ..
”قاتل، أو مُت وأنت تُقاتل!!“
- هيا، رفعت .. اجعلها ترتديه لنأخذ لها بعض الصور
المثيرة!!
سمع صوت عمرو وهو يأمره
مستأنفًا سخريته من خلف كاميرته التي أصبحت جاهزة للحدث .. تخشب جسده وتيبست قبضته
على القميص ينظر للجميع بغرابة، وكأنه لا يستوعب حتى الآن أنه سيفعل هذا حقًا ..
اخرجه من تخشبه صوت نبيل الزاجر:
-
هيا رفعت، تذوق طعم القوة، ودعنا نحصل على بعض المرح!!
القوة .. تبا للقوة ألف
مرة .. أليس أول مرة له يتذوق طعمها كانت مع أدهم .. هو من علّمه أنها القانون
الساري، وعلّمه أيضًا أن الضعف لا يُكبد الواحد سوى الشقاء .. علّمه كل ما قاله
نبيل منذ قليل، كل ما يقوله الجميع هنا .. كن قويا أو لا شيء!!
لذا لا يلومه أحد إذا اتبع القانون كغيره ونفذه
بحذافيره!!
فجأة، سكن الجميع وكلٍ
اتخذ مكانًا له، يرقبون حركة رفعت الشبه منعدمة جهة أدهم، لكن ما لبثت أن أخذت
إيقاع سريع دون استباق .. ايقاع من انفصل عقله عن جسده ليؤدي مهمة واحدة لا غير!! ..
وقد كان بالفعل!!
ارتعشت أصابعه وهو يلمس
جسد أدهم الهامد تمامًا إلا من انفاسه لتقترب كل الأعين من المشهد بحماس شديد وهم
يرمون بعبارات تشجيعية للبطل الذي يؤدي المهمة .. كما تعلم من تجربته، قصدت يده
رُباط السروال القطني، ولكن نبيل منعه وهو يطقطق بفمه بعين يملأها الخبث:
-
لا .. ابدأ من الأعلى .. دع الجزء المثير للنهاية!!
حبس نفس داخله يكمم به
رهبته ومن جديد برر لنفسه أن لا مشكلة فيما يفعله، وقد فُعل به من قبل .. لكن هذه
المرة مختلفة، هذه المرة هو ليس الراقد، إضافة إلى أن ما سيفعله بنظره لا يماثل ما
أصابه قبحًا .. ونوعًا ما برد هذا كل مشاعره، وغطاها بطبقه ثلجية هوّنت عليه
الموقف برمته .. ليتشجع ويُنهي الأمر وما إن مسّ ياقة التيشيرت حتى غزت عينه حفنة
من التراب المتناثر في كل مكان جعلته يرتجع بسرعة للوراء، ليتغير ترتيب الموقف
بثانية بأعين الجميع!!
كان متعب، يتألم
ويعاني، لكن بمجرد التفكير في المعاناة التي تنتظره، دبت فيه قوة المثابرة والعناد
من جديد .. هكذا ألم، لا يضاهه ألم!! .. لم يكن يملك بذلك سوى حفنة التراب، ووضع
كل آماله أن تزيح عنه الأذى .. ومثلما تعود في التدريبات، عاجل بالهجوم على خِصمه
قبل أن يفوق من صدمته، لكن تحرك تلك الأفاعي من حوله جعله يأخذ حذره ويبتعد قبل أن
يسقط في قبضتهم من جديد .. حركته كانت ثقيلة وقد ألحقوا به الأذى بشدة، لكن جرعات (الكورتيزول)
التي اندفعت بدمائه بوحيٍ من الخوف، طغت على أي ألم وجعلته يتحرك ويفكر رغم ما به ..
فكر في مخرج حقيقي وهو يرى الباقية يحملون له الوعيد ويحاصرونه ثانيةً، دون أن
يتوقفوا عن السباب واللعن له وللآخر .. عدا واحدًا فقط .. نبيل .. لم يحرك ساكنًا،
يقف بعيدًا نوعًا يشاهد ما يجري، وكأنه يدرس الوضع .. كل هذا جعله يلتهي عن رفعت
الذي بحركة خاطفه جذبه من طرف بنطاله ليختل توازنه ويسقط ويبدأ العراك بينهما.
الهزال الذي أصاب جسده
جعله يتلقى الضربات الغاشمة بسهولة على إيقاع اهتياج وتشجيع المخنثين الآخرين، وهم
يأمرون رفعت بأن ينتصر ويُلبسه ذلك القميص، ينادونه باللقب العاهر الذي خلعوه عليه
.. ويكررون للآخر أنه الأقوى وحتمًا سينتصر .. تلك الكلمات، تبًا لتلك الكلمات!! ..
أثرها كـإكسير الحياة الذي ضخ بجسده القوى ليثبت كل ما هو عكس ذلك .. ومرة ثانية،
تبدلت الأدوار، ومَن بالأعلى أصبح بالأسفل، ذلك عندما اهتاج جسد أدهم بينما يجأر
بصوت حرق أحباله الصوتية ليعتصر به قوته وهو يجذب أُذنيّ رفعت ويشدها بعنف حتى صرخ
الأخير من الألم يحاول تخليص نفسه وقد تبدى له أنه سيقطع أذنيه .. وكم كان أدهم
قريبًا من هذا!
تدحرجا على الأرض، ليصمت
الجمع ثانيةً، قبل أن يُعاودا التشجيع هذه المرة بحماس زائد ولكن -للسخرية- كان
يقصدون أدهم بالتشجيع .. بعد أن صار واضحًا الآن مَن سيلبس القميص اللعين!!
بقوة لا يعرف من أين
أتته، لم يتوانى لحظة عن تلقين رفعت اللكمة تلوى الأخرى، قاصدًا تشويه وجهه،
مأخوذًا بالهتاف من حوله وقد أُعجب بنفسه كثيرًا تلك اللحظة، أُعجب بقوته وتأثيره
عليهم وانه استطاع قلبهم لصالحه، نجح في ان يوريهم مَن هو الضعيف .. وفجأة انقشع
عنه الألم وغزت جسده نشوة ليس كمثلها شيء!!
ظل يضرب بافتراء حتى بعد
ان خبت أي مقاومة من الآخر، وتحولت الكدمات البسيطة لأخرى دامية .. لم يكن يفكر
تلك اللحظة في شيء سوى الانتقام، الثأر من كل مَن استهان به، عقله توقف بالمعني
الحرفي وشعر بأنه ليس هو ذات الشخص ..
بل أقوى!!
وتلك المرة القوة حقيقة،
وليست مستمدة من الغير .. بانه قد تحرر أخيرًا من الألم، خَلَصَ من ليالي القهر، وفي طريقه
للقضاء على الخذلان الذي رافقه من سنوات، أقسم أن نهايتها ستكون الليلة .. نهايتها
هي آخر ما فعله ذلك المخنث .. كانت تلك الأفكار تشحنه وتفور بعقله حتى بالغ فيما
يفعله، وهو يتركه بنفور ويتحرك بترنح ليبحث بين التراب عن شيء حتى وجده .. ذلك
القميص الذي أراد أن يفتك به ويُعريه ليُلبسه إياه .. هان عليه كل ما فعله لأجله ولم
يكتفي بخيانته، ليعتزم قتله على الأخير .. استهان به كثيرًا ولم يأتي على باله أن مَن
علّمه يكون قويًا، لن يكون ضعيف!!
جذب القميص لتتعالى
العبارات بالمدح والتفاخر، حتى أنه لم ينتبه لأحدهم الذي ربت على كتفه بتشجيع، ولا بـ
عمرو الذي رفع كاميرته من جديد بتشوق لتسجيل اللحظة .. وحين التفت، لم يكن رفعت بمكانه ارضًا، بل قد تمكن من الزحف بعيدًا
بضع خطوات يحاول الاستناد على أي شيء لينهض وينفد من مصيره .. لم يخفي أدهم ذهوله،
أخيرًا الصغير كبر، واصبح لا يستسلم .. لكن بعد ماذا؟! .. لذلك لم يدعه يهنأ بهذا،
وتحرك ليظفر بانتقامه وبلحظه حصل كل شيء سريعًا .. سريعًا جدًا لدرجة أنه تمّ في
أقل من رفة عين وارتدادها!!
في ثانية كانا واقفان ينظرا
لبعضها البعض .. أحدهم بكره وتوعد .. والآخر بألم وتوسل .. نظرة لم ينساه على مدار
حياته، لأنه بالثانية التالية كان يشهد جسده وهو يحلق في الهواء من وراء السور .. السور القصير الذي احتاج منه خطوة واحدها
يرتجعها .. ثم لم يعد له وجود بينهم!!
❈-❈-❈
-
سيدي .. لقد وجدناها!!
نادى الطيار على ماتيو
الذي كان جالسًا بمقعده يحاول شغل ذهنه عن العديد من الأفكار المريعة التي كلها
تتمحور حول مصير أدهم في كل الأحوال .. سواء وجدوا مركبه وواجهه المنظمة أو لم
يتمكنوا من العثور عليهم بعد يومين من المسح للمنطقة التي سبق واعطاه احداثيتها.
نهض بتلهف، يتبعه مصطفى،
ليشير الطيار على بقعه تنير على الردار أمامه:
- أظنها هي حسب
المواصفات .. تبعد عنا ٢٣٤ كم!!
- كم نحتاج لنصل لها؟!
سأل ماتيو ليجيبه
الطيار:
-
نصف ساعة على أقصى تقدير!!