NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل السابع عشر
الفصل السابع عشر
_____________________________________
في لحظة نادرة من الثقة
تخلت عن جدرانها المنيعة
نظرت في عُمق روحه
رأت ما كانت تحاول أن تتجاهله طويلًا
ودون أن تعرف ما يحمله لها المستقبل
استسلمت واستعدت لسقوط حر
ببطء مدت ذراعيها وبين يديها قلبها المحطم:
"ها هو.. كله لك"
-سيندي شيري-
•¤•¤•¤•
شاهدها وهي تجتر ما بمعدتها للمرة الثانية في اليوم، لكن هذه المرة في المحيط .. منذ أن أخبرها بما حدث، لم تتحمل التكملة وأصوات توعكها التي يتخللها شهقات بكاء حادة صارت كل ما يسمعه .. بدت في حالة مريعة خاصة وهي تمسك بدعامات السياج الحديدية، وتطيح بنصفها للخارج بعدم اتزان .. فلم يكن منه سوى أن يدعم جسدها بخفه حتى انتهت، وكمادة جيلاتين تساقط جسدها ليفترش الأرضية ولم يتبق منها سوى دموع تهطل بصمت..
كانت شاردة تمامًا في نقطة وهمية حينما قاطعها بيده التي مُدت لها بمنشفه وزجاجة ماء صغيرة .. بآلية شديدة أخذتهما منه، وقد فقدت ملامحها أي تعبير .. نظفت فمها بعدم اهتمام لتبقى على هذا الحال بضع دقائق، حتى سمعت صوته يخاطبها:
- تقرفتِ؟؟
التفتت له ببطيء، نبرة الاستنكار والتهكم استفزتها، ملامحه حالكة أكثر من ذي قبل، وعينه كانت تلمع على غير العادة .. وللحظة خُيّل لها أنها تلمع بالحسرة!! .. أضاف بالنبرة المتهكمة ذاتها وهو يجعد فمه ببسمة عصبية:
- لأيام بعدها، لم أفعل شيء سوى التقيؤ .. صوت صراخاته، بكاؤه بالغرفة كل ليلة، ودماءه التي صبغت الفناء، كل هذا لم يفارقني ابدًا لفترة .. أما نظرة عينه الأخيرة، فرافقتني مدى الحياة!!
انحسرت انفاسها فبدت كمن يعاني أزمة قلبية .. ملامحها تقتتل ألمًا .. وهو مازال يبتسم لها تلك الابتسامة المستفزة .. قذفته بزجاجة الماء دون أن تشعر، لم تحرم نفسها من هذا وكل جسدها أصبح ينتفض غضبًا وجنونًا:
- واللعنة توقف عن الابتسام!! .. تبا لتلك الابتسامة .. لا شيء لطيف فيما قلت!!
ثم أضافت بصوتٍ يتلاشى وهي تخبئ وجهها وتجهش ببكاء غريب على مسامعه:
- أنها فاجعة!!
نهض من أمامها دون حديث، وكان خير ما فعل مع حالتها التي تتردى مع الوقت .. هو أيضًا شَعُرَ بالتخبط، واللوعة -ليس علما فات- إنما لأجلها .. لتأثرها بما تسمع .. شيئًا في عينها أخبره أنها باتت تنظر الأمر من زاوية شخصية، وهذا ليس جيد!! .. وقد تأكد ظنه حينما سمعها تردف بعد أن نشجت ما بصدرها تتوسله اجابه بعينها:
- أخبرني أن أولئك الملاعين قد أخذوا جزائهم!!
كان يوليها ظهره مستندًا على السياج المقابل لها .. رمق حالتها السيئة من خلف كتفه، وأراد أن يخبرها أن كل هذا حدث وانقضى منذ سنوات، فليس عليها التأثر والنحيب بهذا الشكل!! .. لكن بالنهاية ارتأى أن يعطيها ما تريد ربما تسكن وتخبو نارها .. هز رأسه نافيًا بملامح جادة هذه المرة:
- لم يكن هناك جريمة بالأساس ليُعاقبوا عليها، فريدة!! .. فبطريقة ما تمّ طيّ الحادثة .. لم يعلم أحد شيئًا عن تلك الليلة اللعينة .. فقط حادثة انتحار تمّ التكتم عليها، كما هو الحال في أي مؤسسة كتلك!! .. ففي ظرف عدة ساعات تولّت إدارة المدرسة محو أي أثر للحادث قبل أن يصل للمسؤولين ويُتَهموا جميعهم بالإهمال والتعنيف .. وقبل أن تسألي، جميع الأطراف قد أجمعوا على هذا، وعلى رأسهم والده نفسه!! .. لم يفعل شيء، فهكذا أمور من المحظور تداولها أو الاعتراف والافصاح عنها .. الانتحار بذلك المجتمع يُعد فعل مُشين .. يمثل شهادة بالجُبْن والضعف .. وبالتأكيد، الرجل العسكري، خشيَّ أن تتلطخ مسيرته المشرفة بهكذا سيرة .. وبهدوء حضر ليستلم أغراض ابنه وجثته، مع شهادة وفاة إثر هبوط في الدورة الدموية!!
التفت ليواجه البحر بظهره، يعقد ذراعيه معًا بلغة جسد متأثرة تمامًا كما أرادت أن تراه:
- يومها .. كان الذنب ينهشني .. حتى أني بِتُ أردد كالمُغيب أني قتلته .. لم أكن أرى سوى هذا وأنه لولا مطاردتي وترهيبي له ما كان اُضطر لرمي نفسه!! .. افقتُ من غفلتي بذلك الوقت وعينه اللعينة لم ترحمني، حتى لم اتحمل هذا وأردتُ أن اخبر والده بما حدث حينما أتى .. كسرت أمر القائد بالتزام غرفتي كالبقية حتى يأتي في طلبنا، وفور أن فُتح الباب وجدت عسكري يقف ليضمن تنفيذي للأمر .. كان طبيعيًا بعد الجَلّبة التي افتعلتها أن يتم حبسي للمرة الثانية بغرفة التأديب، لحين انتهاء كل شيء .. حتى بعد أن سأل والد "أحمد رفعت" عني وهو يضب أغراض ابنه من الغرفة بنفسه، اخبروه كذبًا أن حالتي النفسية بعد الحادث استدعت عناية طبية لذلك لن يستطيع رؤيتي!!
تجعد جانب عينه اليمنى بسخرية وبصعوبة حجب ابتسامته كيلا يستفزها مجددًا:
- وبالفعل، بعد انتهاء كل شيء جاءني بغرفة التأديب .. كأول يوم لي .. أتى ليُعلمني درسًا جديد من دروسه، ولكن هذه المرة كان درس العمر .. النهج الذي سِرتُ عليه ما تبقى من حياتي!!
❈-❈-❈
- هل سأخرج؟؟ .. أنا لم أفعل شيء!!
هتف أدهم بتلهف ما إن لمح القائد يدخل من الغرفة، إلا إنه لم يجيبه وبهدوء أنتظر أن يجلب له أحد العساكر كرسيًا، وجلس ليأمره بأن يفعل كذلك بعد أن اُغلق الباب عليهما وعمّ الظلام .. لكن ذلك لم يَزد أدهم إلا إصرارًا:
- أريد الخروج!!
- قُلت أجلس!!
أمره بنبرة خشنة ليجمع شُتاته ويستجيب في ثانية .. وعلى طرف الفراش الصغير جلس لترتخي نبرة القائد:
- أعدّ علي ما كنت تردده صباحًا .. انا أسمعك!!
بتردد شديد أجابه أدهم لما وجد التصميم بعينه:
- أنا مَن قتل أحمد رفعت!!
افرج القائد عن تنهيدة سأم:
- أعرف .. نبيل والبقية شهدوا بأنهم رأوك وأنت تدفعه من فوق السور!!
فور أن أنهى جملته حتى انتفض الفتى من موضعه كمَن لسعه عقرب:
- ماذا؟! .. كلا، هم كاذبون .. لم أدفعه، أقسم!!
- ألم تقل الآن أنك قتله؟!
واجهه القائد بنبرة أرهبته، ليتخبط أدهم وقد تحجرت الكلمات في حلقه وصار عاجزًا عن التفسير .. ليعود ويسأله مجددًا:
- أجلس .. وقص عليّ ما صار بالتفصيل!!
ابتلع ما في صدره ليسرد من جديد على نفسه قبل الآخر أحداث الليلة المنكوبة:
- طاردته لأضربه فألقى بنفسه من فوق السور..
باقتضاب شديد حكي ما صار ليستغرب القائد:
- ولما كنت تضربه من الأساس؟؟
- لأنه .. لأنه ضربني، وأراد إهانتي .. خانني وتآمر مع أولئك الأوساخ..!!
نهج صدر الصغير من تكدس الأحداث بحلقه وثِقلها عليه .. لِيَليّن القائد معه في الحديث:
- أهدأ .. أخبرني ماذا فعل بالتحديد؟! .. أريد أن أسمع منك ربما كذبوا عليّ بشيء!!
- كنت أنقذه منهم .. اقسم كنت أنقذه .. لقد كانوا يفعلون أشياء قذره له وانا فقط أردت انقاذه!!
ببراءة طفل ظل يقسم ليُبرئ نيته من القصد .. توقف الآخر عند جملة بعينها واستفسر:
- ماذا تعني بأشياء قذره؟؟
- كان يجردونه من ملابسه واا...
بتحرج شديد أجابه أدهم وهو يفرك رقبته بحركة عصبية، ففهم القائد ما فيها ومن بين شفاهه الغليظة أردف:
- أكمل..
- كنتُ أرتب للهرب من المدرسة..
اعترف دون استباق أو اجبار وهو يواري وجهه وكأن الآخر يستطيع رؤيته في الظلام .. لكن داخله متيقن من هذا، فبعد لحظات من اعتياد الأعين على الظُلمة تتكيف عليها .. كما حدث معه .. استأنف بنفس النبرة المختنقة والدموع الحبيسة:
- أعترف لقد أخطأت .. وأخطأت أيضًا في ثقتي به .. أخبرته مخططي وهو بدوره باعني لهم .. أرادوا إيذائي على ذات النحو المقرف، وهو كان معهم، بل هو مَن عزم فعل هذا بي!! .. وانا..
- وأنت بالتأكيد لم ترضى بهذا ثم نشب العراك!!
أكمل القائد بدلًا منه ليجعل الآخر يشعر برنين عدم التصديق بنبرته .. فراح يُسرف في القسم من جديد:
- أجل .. اقسم كنت أدافع عن نفسي، لم أكن لأقبل قط أن يُفعل بي هذا!! .. لكني أبدًا لم أرد قتله!! .. أقصد لم أعرف أنه سيلقي بنفسه ليتجنبني!!
بهدوء ونبرة جليدية تساءل القائد وهو يرتجع بظهره في الكرسي:
- وما يدريني أن ما تقوله هو الحقيقة؟؟ .. هناك شهود .. قد رأوك وأنت تدفعه .. وأنت بنفسك اعترفت .. وأردت أن تُعرّف والده أيضًا!!
انطفأت كل الأنوار بعين الصغير وأصبح يدرك الخطر الذي يحيط به .. والذي تبدى أكثر حينما أتبع القائد القول بما جمدَّ دمائه:
- دعني أخبرك بما سيحدث بعدها .. ستُودع بإحدى مؤسسات الإصلاح، مكان أشبه بالسجن لحديثي السِن مثلك، والذي صدقني سيكون أسوأ كوابيس حياتك .. هذا إذا خرجت من حيًا!!
بزغت بعينه الدموع وأَرْبَدَ وجهه بالفزع:
- لا لا .. هذا ظُلم أنا لم أفعل شيء!!
- ماذا توقعت؟؟ .. أن والده سيأخذك بالأحضان لو أخبرته ما حدث؟! .. تكن أحمق إن ظننت هذا!! .. سيستغل الوضع ويبني على مستقبلك قصة يكن ابنه فيها البطل!! .. ليداري بها على خيبته الحقيقية!! .. هل هذا ما تريد؟؟
حاجاه القائد بعبارات مثلت كابوس كان الأسوأ على مستوى الأدراك والواقع حتى وصل لأقصى فزعه الذي جعله يهذي كمَن يعاني من حمى:
- كلا كلا!!
- إذًا تخرس تمامًا ولا تتفوه بهذا الهراء مجددًا، إذا لم تكن قدره!!
وارت الظُلمة تلك الدموع الصامتة التي انهارت أمام نوبة الترهيب الماضية، لينكس رأسه خوفًا من أن ينتبه الآخر لذلك فتزداد نكبته .. وبصوتٍ جريح أشبه بالهمس برر:
- أنا آسف .. لم أقل هذا إلا لظني بأنني فعلتُ شيئًا سيء يُشعرني بالذنب .. بأنني السبب في موته!! .. خِيفت!!
فقط قالها هكذا .. معبئة بهذا الكم من البراءة وكأنها كل مبرراته في هذه الحياة .. أجل، الخوف .. هو كل ما حاصر صدره آنذاك .. كان صغير جدًا على كل ما يحدث، رغم هذا عرف جيدًا ما يعنيه الموت .. فاجعة الدماء والموت لم تكن بتجربة جديدة عليه .. يألف ألمها، ويدرك أثرها الموحش بالنفس، لذلك أن يكون جزء من هذا الشيء الموحش كان أبشع من أبشع تصوراته، كأرض قاحلة حط عليها بعد طول تيّه!!
النبرة المتألمة في صوته نجحت في تحريك مشاعر الآخر له .. ليدنو عليه بجزعه يمسك بجسده الصغير بين يديه فأصبح أكثر قربًا منه .. ثم حدثه بلهجة اب لابنه:
- أعرف أن مشاعرك قوية الآن، وأن ما مررت به كان صعب .. لكنها فيما بعد ستنخفض وتتركك شخصًا جديد .. أنضج وأقوى .. الخير يمكن أن يأتي من أكثر الأفعال سوءًا يا بني!! .. هذا ما تعنيه قاعدة السيء جيد!! .. لكن إذا سِرت خلف مشاعرك وجلست تبكي مثل الفتيات ستخلق لنفسك المعاناة الحقيقية .. هناك فرق بين ما تشعر به والمعاناة .. الألم بطبيعته حتمي، لا عيب في أن نتألم، نحن بشر .. أما المعاناة فهي اختيارية!! .. ولا يختارها عادةً سوى مُدمنيها من الضعفاء!! .. فلا تخيب ظني وتكون منهم!!
كان في حالة دهشة من النبرة الحانية، النصيحة وكل شيء يحدث .. وكأنه لا يصدق أن مَن يحدثه الآن هو الرجل العسكري الصارم الذي حلم طويلًا بالانتقام منه رفقة مَن آذوه .. توقع أن يطلع من قشرته قريبًا كما سبق وفعل معه .. لكنه صدمه أكثر حينما تابع بذات النبرة المحملة بالعاطفة وكأن بينهما ألفة من نوعًا ما:
- هل تعرف مَن قتلته، أدهم؟؟
تابع القائد حينما حصل على الأثر المطلوب من صمت الصغير:
- ضعفه .. جُبنْهُ وخوفه هم مَن قتلوه .. دفعوه لإلقاء نفسه، فضلًا عن الدفاع!!
لقن له الكلمات متتبعًا في ذلك خيطًا رفيعًا لتحقيق غاية ما، واستشف أنه في حالة ذهول، يجد صعوبة في تحليل المعلومات، ربما لصغر سِنه .. لذا سلك الطريق المباشر معه في الحديث، يمسك ذقنه بقوة .. عينه الزجاجية -رغم الظلام- كانت ذات بريقٍ مُرهب اضفى على نفسية الصغير التهيؤ الكامل لما سيُلقيه:
- أنظر لي أدهم وانصت جيدًا .. هل تعرف ماذا فعل والده الذي تريد اخباره بأنك قاتل ابنه؟؟
بالكاد حرك أدهم رأسه بإشارة كان ينتظرها الآخر:
- هو مَن ناشدنا بالتكتمّ على الحادثة .. لم يهتم لما أصاب ابنه قدر اهتمامه بسُمعته!! .. هل تعرف ما يعنيه هذا؟؟
سأله مجددًا ولم يكن يبحث عن إجابه لأن إجابته كانت أكثر من كافية:
- إنها وصمة عار!! .. أن يعرف أحدهم أن ابنه كان ضعيفًا لهذا الحد، لم يتحمل حياة الرجال بالعسكرية!! .. رضيّ بالمهانة ولم يقوى حتى على الدفاع عن عِرضه .. ذلك يُسمى بالعِرض، عندما تسمح بأن يستبيح أحدًا جسدك بأي طريقة، فهو يستبيح عِرضك وذلك أسوأ ما يحدث لرجل!! .. تمامًا كاعتداء العدو على وطننا، هل نقف مكتوفي الأيدي ونسمح له بتدنيس أرضنا؟؟ .. نشفق عليه حينما يموت؟؟ .. أم جديرًا بنا قتله بالمقام الأول؟؟
- نقتله..
بعينًا مأخوذة بما تسمع جاوبه دون تردد، وقد سكتت داخله كل الأصوات فجأة .. الأصوات القاسية التي كانت تعنفه علما حدث، انعدمت!! .. لتزداد بعدها انفاسه على نحو متسارع لتجاري معالجة الموقف بالكامل من جديد وبطريقة مغايرة .. هنا فقط، أفرج القائد عن ذقنه ليعود لكرسيه وعلى وجهه ابتسامة متهكمة، ليختبر نتيجة صنيعته:
- وأنت نادمًا على دفاعك عن عرض؟!
اُخشوشنت نبرة الصبي لينفي الجُرم عنه:
- كلا، لستُ نادمًا!!
- كُنتَ تُفضل القبول بالمهانة عن موته؟!
- كلا!!
تَضَوَّعْ غضبه وتأجج على الأخير حينما تجلّت له الأحداث من جديد، وعاودته نفس المشاعر حينها .. تجربة الخزي والخذلان ذاتها، وجد نفسه داخلها مجددًا .. لتجرف في ثانية ما عداها من أحداث، وتستبقي فقط ذلك الشعور القاسي والمصير المنكوب الذي كان ليصيبه!! .. لو لم يفعل ما فعله!!
”كان يستحق ..
بل كان يستحق أكثر من هذا!!“
تلك الكلمات لم تتأخر ثانية عن النقر برأسه تراقصًا على نبضات قلبه المستعرة، لتُحيّ بداخله النشوة التي أصابته في ذروة انتصاره، وقوته .. فيشعر بها تتنفس من جديد وهي تستعيد أمجادها آنذاك، لتنفي أي عارٍ عنه قد يلحق به، ولتثبت له أنه لم يتقاعس عن الدفاع عن عِرضه، ولم يكن مخنث كغيره!! .. هذا كان صحيح، وكان على حق، لا داعي للشعور بالخوف، ولا مكان للخزي هنا!!
ليختمها القائد ويحسم المعركة داخله:
- هل ترضى التضحية بنفسك لأجل الشخص الذي للتو أخبرتني أنه باعك؟! ولم يكن ليتردد لحظه لفعل هذا بك!! .. ظُلمًا، وليس عن حق مثلك!!
تابع القائد استجوابه متعمدًا الضغط على شيئًا بعينه داخله .. وبالفعل، آتته النتيجة سريعًا في تزايد انفعال أدهم حتى احتنقت عروق نحره وهاج من موضعه مجددًا لمجرد تخيل ما كان سيحدث، مكررًا بصوت يُسمعه لنفسه قبل الآخر:
- كلا يستحيل!!
وكان هذا أكثر من كافيًا لترتسم ابتسامة رضى على وجه القائد برقت من أجلها عينه:
- هذا هو الصواب!! .. هناك نوعان بهذه الحياة، لا ثالث لهما .. نوع يأكل، ونوع خُلق ليُؤكل!! .. فإذا لم تكن قوي كفاية لتأكل مَن أمامك، لن يتردد هو في آكلك ولن يُذكر لك اسم .. انظر حولك، أسماء الأقوياء هي فقط مَن تُخلّد!!
- يأكل؟! .. هل نحن في غابة؟!
- بلى هي كذلك بالفعل .. وطالما كانت!! .. الكائنات التي تكن أكثر فطنة بها وتنتبه لمَن يتربص لها وتفترسه أولًا، هي مَن تمتلك فرص أكبر في البقاء!! .. هل تعلم لمّ على ألفا قطيع الذئاب بالبرية أن يبقى طول الوقت قويًا ومتيقظًا؟؟ .. لأنه في اللحظة التي تتبدى عليه علامات التعب والضعف، لن يتردد أفراد قطيعه -المقربون أولًا- في مهاجمته للاستيلاء على منصبه!! .. أفق من أحلام الطفولة الوردية تلك، فإذا لم تصمد هنا، لن تصمد بالخارج يا فتي، كن واثقًا من هذا!! .. المدرسة ما هي إلا نموذج مُصغر للعالم الحقيقي!! .. وهذا ما يصنع منك رجلًا، فالرجل عن حق لا يكن رجلًا من فراغ .. لا يُسبك الحديد إلا بإحمائه بالنار!!
الكلمات .. كان لها وَقعًا غريب ومُرهب على نفسيته .. الحقيقة كان مُنبهر بكل ما يسمعه وكأنه أبصر العالم للتو، رَغبَ بأن ينهل منه كطالب في محراب علمٍ جديد .. أن يعرف قدر ما استطاع حتى يتمكن من البقاء .. لأن مِثله لا ينبغي له الضعف، ولا يليق به أن يكن فريسة لغيره ويؤكل!! .. كما الألفا لا ينبغي الضعف!! .. هذا ما ردده عميقًا لنفسه لتلتحم الكلمات بأُلفه مع بقية أجزائه، وتُشكل مدركاته عما يدور حوله ..
لتُشكل أدهم الشاذلي!!
وعلى هذا النحو .. قضيَ سنواته الطويلة متجاوزًا ما كان، يكثف كل جهوده صوب هدفٍ واحد؛ كيف يكون قوي .. بل كيف يكون الأقوى!! .. وشعور القرف الذي رافقه بعد ذاك الحادث كان أكبر دافعًا ومُحركًا للنجاة .. تمامًا كما تُنجيّ غريزة القرف الانسان من جرثوم مميت أو ميكروب لا يُرى بالعين المجردة، ساعده تَقرّفه من الضعف وأيما على شاكلته، في أن يُنجيه وسط الغابة التي نشأ بها!!
لذا لو كان مدينًا لشخصًا لفترة طويلة من حياته .. فيكون للقائد!!
فبفضل تلك السياسة التي علّمه إياها، صار يرى العالم من هذا المنظور؛ إما قوي أو ضعيف .. وأن الضعيف ضعيف برغبته لذلك يستحق التنكيّل به، لا الرحمة!! .. أما القوى فقد خُلق للقيادة والتمتع بكل امتيازاتها .. ولم يبخل على نفسه في التمتع بامتيازاتها بعد أن أصبح الأقوى، وحقق تميزًا على مستوى الفرق التدريبية، وأصبح الأشهر لدى القادة .. خاصة لدى القائد الأول، فقد كان قريبًا منه للدرجة التي مكنته في وقتًا ما من معرفة كواليس الإدارة..
وتحديدًا ذلك السر الذي تعلق بحادثته فيما مضى .. عَرِفَهُ من القائد نفسه، بعد مِضيّ سنين، عرف أنه لم يكن بالأساس حادث!! .. بل ثأر شخصي، وعداء قديم بين القائد ووالد "أحمد"، أبيَّ أن يخبره تفاصيله .. فقط اخبره ان الايام قد دارت ليأتي بابنه لديه، في المدرسة العسكرية التي ترأس عليها، ودون أن يتعرّف عليه، سلمه إياه ليصنع له منه رجلًا .. وهو لم يُقصر في الأمر!!
أوكل تلك المهمة للشباب الأربعة، الذين كانوا -رغم سِنهم الصغير- من صفوة رجاله وعيونه بالمدرسة، فبعض المهام لا تحتاج لتدخله المباشر .. وتلك كانت من بينهم!!
عرف أنه قد تعمد تأخير اجراءات "أحمد رفعت" بأول يومٍ له، حتى يخوّل لهم فرصة اصطياده دون أن يلتفت أحد .. لم يكن ليجرأ أحد على فعلها من خلف ظهره!! .. بالأساس لم يكن ليجرأ أحد على رفع اصبع دون علمه .. فما بال امتلاك أشياء كالكاميرا، الراديو، سجائر .. وغيرها من الامتيازات بما فيها الانفراد بسطح مبنى بأكمله، في حين أن الخروج من الغرفة بعد النوم يعد جريمة تتوجب العقاب!!
أجل، كل ذلك تمّ بِعلمه، وأمرًا شخصي منه .. الهدف كان بسيط، فرصته التي آتت لحد عنده .. وهي قهر رفعت على ابنه الوحيد .. أما الصور كانت وسيلة ضغط، لا أكثر ليستعملها في حال كُشف الأمر .. وتحقيق بعض المصالح في المستقبل!!
حتى وَضْعِهِ بذات الغرفة مع أدهم، إلا ِلانطوائية أدهم الزائدة التي كانت أكبر ضمان لعدم انكشاف السر!! .. لكن ما لم يضعه في الحسبان أن الانطوائي، لم يكن انطوائي بالأساس!! .. وحقًا تفاجئ حينما وقع الحادث!! .. فقد تطور الأحداث بعيدًا عن معرفته، وتصرف نبيل والباقية من تلقاء رأسهم دون الرجوع له، معتقدين بغبائهم أنهم ينقذون الموقف .. لا يعلمون أنها ليست طريقته الوحيدة في حل الأمور .. ولا يعلمون أن تلك الطريقة لا تصلح مع الجميع!!
خاصة أدهم، الذي أثبت ذلك بجدارة!!
واثبته أكثر بعدما عرف كل هذا .. ذلك لأنه قد صار واحدًا من رجاله المخلصين .. له نفس التوجه والرؤية ذاتها، التي لم تعطيه الفرصة ِلأن يراجعه نفسه ولو ثانية فيما اكتسبه بعد الحادث .. مَن الجاني، ومَن السبب، كل هذا لن يُغيّر من حقيقة أن أحمد رفعت كان يستحق ضِعفيّ ما حدث!! .. مرة لأنه كان أضعف من أن يدافع عن نفسه .. والثانية لأنه حينما جرب يبدل الأدوار ويكن قويًا .. خان الشخص الوحيد الذي سانده وحماه!!
لذلك، مجددًا، لم تجلب ذِكراه بنفسه سوى شعور التقرف من تلك الفئة الطفيلية المقززة .. اعتقد طويلًا في هذا، وأنه لا بد من تحجيمها ووضعها عند حدّها في نطاق الخدمة والطاعة إذا أرادت العيش بسلام .. وإلا بدعسة قدم سيتم إبادتها!!
❈-❈-❈
للحظات، توقف فيها عن السرد وصار منحصرًا على نفسه ولم يعد يشعر بوجودها معه .. لازال واقفًا يستند بذراعيه على السياج، عينه غارقه في البحر، بل غارقه في تلك النقطة من حياته .. هكذا طُويّت صفحات الأمر بعقله آنذاك وتمّ تسطير الجديد على نهجها ..
يتأمل، ويرى نظرة مسافر وصل لنهاية الطريق، كيف رتبت بعضها البعض، وكيف أوصلته خطوة لأخرى .. فتلك الوساوس التي تراكمت بداخله بعدها أضيف لما كان لديه من الأساس عن الخيانة والغدر لم تمكنه أبدًا بأن يكوّن صداقات طويلة الأمد ولا حتى بأن يثق بأحد .. طالما بقيَ لديه الشك في الطرف الآخر، متيقظًا ومتوقعًا للطعن في أي وقت .. فلا مزيد من كشف الأوراق والأسرار!! .. وعززت تلك الأفكار والمشاعر نمط الحياة التي عاشها خلف أسوار المدرسة، حياة شبة مقيدة ومنعدم الخصوصية في ابسط الأشياء؛ كحقه في غلق باب غرفته بالقفل!! .. لم تطوّر فقط اضطراب المسلك الذي كان لديه، ليأخذ طور شخصية سيكوباتية (شخصية مضادة للمجتمع)، بل شكلّت المادة الخام من اضطراب الشخصية البارانويد!!
جعلته يُفرط بعد ذلك في فرض مساحات شخصية كبيرة حول منه، وأصبح لديه هاجس دائما بالأقفال والمفاتيح .. جعلت منه شخص لا يقبل المشاركة، لديه تملك شديد تجاه أشياءه الخاصة التي من المحظور لأحد المساس بها، والتي غالبًا تكون فريدة، وليست شيئًا متاحًا في أيدي العامة!! .. شيئًا كـ..
فريدة..!!
وعلى ورودها بعقله، تنبه لوجودها معه، فتابع بتعابير لاتزال تحمل غبار الماضي:
- ولم يكن من الصعب بعدها أن انضم للمافيا حينما عُرض عليّ الأمر .. العائلة، الواحد للجميع، البقاء للأقوى .. جميعها مفاهيم لم تكن غريبة البتة عليّ، بل العكس، قبل انضمامي لهم، الغربة هي كل ما شعرت به في الفترة التي تلت خروجي من المدرسة وعيشتها وحيدًا!! .. كل ما كان هنالك، أن كل وحوشي أخذت فرصتها في التحرر على نطاقٍ واسع .. أفكار الشك والمؤامرة استفحلت بعقلي وأصبحت مدعومة ومؤيدة بدل الدليل بمئات الأدلة التي تتراكم بذهني يومي .. معهم لم يكن هناك قوانين، وعندما يكون كل شيء مباح، تكن فرصة مميزة لتحرير غرائز التدمير والموت، وتحرر معهم وحش السادية!! .. وأنا رجل تربى على نهم القوة، لذلك أجل، كنتُ رجلهم المناسب!! .. ولذلك ايضًا عندما قابلتك لم أكن أنظر للبشر وقتها كبشر، بل كتهديدات أو أهداف، وأنتِ..
- وأنا كنتُ أهداف بالطبع..!!
التفت لها، وكان من الصعب أن يذكر كل هذا وهو يحدق بعينها .. تحديدًا ليتلافى تلك النظرة التي تنظره بها الآن .. نظرة طالما مزقته نصفين، ذلك لأنها كانت تشبه نظرة الصبي قبل أن ينتحر .. نظرة مُزجت فيها كل المشاعر القاسية من لوم وانهزام وخذلان!!
نظرة من أجلها أعتاد أن يَعصِب أعين ضحاياه وقت تعذيبهم، كي يحمي نفسه من مطاردة تلك النظرة له فيما بعد .. وبسببها، استطاع ذلك الحقير "جاستن" أن يستخدمه كـبيدق يضربها به .. فريدة .. تلك التي لم تكن واحدة من بين ضحاياه فحسب، بل صاحبت النصيب الأكبر من كل عُقدِهِ واضطراباته .. لم تسلم قط من شكوكه، اتهاماته، وسوء تأويله لكل كلمة أو فعل يصدر منها .. محاصرته لها بالفخاخ والاختبارات، بدايةً من تتبع هاتفها وحتى الرمق الأخير من حكايتهما معًا، امتحان حبهما بمسدس خزنته فارغة!! .. أقنع نفسه أنها أرادت قتله، ليطلق العنان لساديته التي طالما ناشدته بالفتك بها .. لذلك عمد إلى دمغ جسدها بـختمه كما اعتداد ختم حيواناته، لتكن بعينه حيوان، لا قيمة له .. ليستثير بذلك شعور القرف داخله فيقضي على ما عداه من مشاعر، حتى لو كانت الحب!!
أجل، فعل كل ما فعل ليتخلص من حبها داخله، وليته نجح!!
والآن، عليه أن يواجه تلك الأعين ليرى بقرارتها بشاعة جُرمه .. عض على شفته بحسرة، وتداعت عينه بالدموع، ما يموج داخله من مشاعر كان أعتى من أن يترجمه لكلمات، لكنه حاول:
- من الجائز كنتُ أراكِ هكذا في بادئ الأمر، لكني ما لبثتُ أن تبينت العكس .. أنكِ تمثلين أحد أكبر التهديدات عليّ، على حياتي بأكملها التي ألفتها واعتدتها .. المشكلة أنكِ كنتِ تحركين فيّ كل ما كرهت أن أتذكره .. كل ما آمنت أنني قد تجاوزته .. كنتِ تشعلين الحرب برأسي .. كالزلزال، تَهديّن أعمدة كياني وهويتي التي بنيتها على مدار سنوات الواحد تلو الآخر .. والمشكلة الأكبر أنكِ كنتِ تفعلين هذا دون قصد، فقط بابتسامة، بكلمة أو نظرة من ذهبيتك .. بمحض تصرف عفويّ تهددين عالمي، وكم كنتِ تفيضين بالعفوية!! .. لذلك كما سبق وأخبرتك، كان هذا أول شيء أردت السيطرة عليه بداخلك .. فمعك، كنتُ أشعر بأنني أضعف، يومٍ عن يوم أتخلى عن مبادئ، وأخضع لهالة النور التي تحاوطك .. أتنازل عن قناعتي، واستسلم لتأثيرك، أصدق أنني أستحق الحب وأنه بالإمكان خلق مكانًا وسط بين الأبيض والأسود لنعيش به معًا!! .. وحينما انقلب كل شيئًا بعيني، وسمحت لوساوسي بالتمكن مني، كان أول شيء عمدتُ للنيل منه هو تلك القوة التي تمتلكيها، اقتداءً بقانون الفايكينج الذي كان جزءًا مني .. فإذا أرادت القوة عليّ هزم الأقوى لأحصل على قوته .. ولأثبت لنفسي أولًا أنني بخير!! .. لكن.. لكنني تعبت!!..
وبكى .. ربما الحديث عما فات كان سهلًا عليه، لكنه هنا الآن .. في الحاضر .. صُحب معضلته الأبدية معها .. والتي كانت الشيء الوحيد الذي يستحق أن يبذل من أجله الدموع، فتلك كل ما يمكنه فعله الآن، وقد تركته ذلك الطفل ذو السبعة أعوام!!
تابع بصوتٍ مختنق بالعبرات أوجع حلقه، بعد أن سقط يتكأ على عاقبيه خالي الوفاض أمامها، وقد فقد السيطرة تمامًا على انفعالاته مثلها:
- من بعدك لم أكن يومًا بخير .. ليتنا ما تقابلنا فريدة!! .. كنتُ بخير قبلك، راضٍ بعالمي ومتلاحم معه!! .. لكن كل هذا تغير بوجودك.. فوضى .. أنتِ تركتني بفوضى، أتخبط بين العالمين!! .. لا أنا بقادرٍ على الرجوع لما كنتُ عليه .. ولا أستطيع البقاء معك!! .. لذلك ارتأيت حتمية ابتعادي عنكِ، كي لا أتمادى في إيذاءك .. وقد اكتشفت أن معركتي لم تكن بالأساس معك، ولا مع أي عدوٍ .. بل كانت مع نفسي .. كنتُ أحارب فيكِ نفسي طول الوقت وانا لا أدرى .. ولا أدري حتى كيف بإمكاني التكفير عن هذا..!!
قالها وسقط تمامًا على ركبتيه أمام جسدها كجريح حرب، كتفيه متهدلان يثقلهما الخزي والخذلان.. شعر بها، جسدها الصغير كان ينتفض بخفة وهي تحتضنه كما تفعل عادةً، مع ذلك، لم ترفع رأسها عن ركبتيها، ولم تواجهه .. أراد أن يلمسها، أن يحتضنها، لكن مجددًا لم يستطع، ولا شيء يُقال .. لذا انتهت القصة!!
وبهذا نهض بصعوبة، يمسح دموعه التي تعيق رؤيته .. كان مخدر تمامًا بكل تلك الأحاسيس الذي جاهد لحبسها طوال جلسته معها .. وطوال حياته .. والآن فقط، قد انفك أسرها .. من الواضح أن ليلته لم تنتهى هنا!!
وبالفعل هذا تأكد له .. خاصة حينما تناهى إلى سمعه صوت مروحية قادم من بعيد .. بل أكثر من واحدة .. وما لبثوا أن أصبحوا مرمى البصر أمامه، ويتبدى له الأعلام الصغيرة التي لم يُخفى عليه لمَن كانت تابعه .. لم يفكر مرتين وهو يهرع لفريدة التي كانت لاتزال على حالها، رفعها من ذراعيها ليوقفها، بينما بدت كـالمنفصلة عن الواقع .. عينها، نعم مفتوحة ونديه بالدموع، لكنها لم تكن تنظر له أو حتى يبدو أنها تراه .. حالتها ذكرته باليوم الذي كسرت به الكوب بالمطبخ .. لذلك بهدوء تولى إيصالها غرفته وهو يسحبها خطوة بخطوة قبل أن يصلوا الآخرون.
أدخلها الحمام وفتح لها صنبور الماء وبلل وجهها مرتين لتبدو عليها علامات الانتباه والاستغراب .. فأردف على عجالة وهو يتركها:
- حاولي أن تفيقي .. وأبدلي ملابسك ولا تخرجي من الغرفة إلا حين آتي لك!!
على صوت إغلاق الباب، عادت كل حواسها للعمل من جديد .. وعاد معها السبب في دخولها بحالة الشرود تلك، والتي لم تكن إلا عرض من أعراض مرضها .. نظرت حولها بغرابة ولكن لم تفوق غرابة ما راود ذاكرتها منذ قليل .. خاصةً ما قاله بالنهاية .. لم يكن غريبًا .. وكأنها قد سمعته من جديد .. بل والاكثر من هذا، تتذكر ملامسات للظرف الذي قِيّل له فيه .. حتى أنها تتذكر الطريقة التي كان يحتضن بها يدها حينها!!
تلك المرة لم تستخدم الماء رغم سريانه أمام عينها .. بل سمحت لأفكارها بأن تسري!! .. تنجرف برأسها كالسيل فتعيد عليها ما كان، مستوقفة كلمات بعينها.. أمسكت رأسها بعنف لا تعرف ما يحدث معها بالتحديد..
"اعتذر على هذا فريدة، ولا انتظر أن تقبلي اعتذاري، اعرف هو غفران محال .. ولكن كوني واثقة بأن كل مَن تسبب بأذيتك رُدت عليه أضعاف، وخاصة أنا .. حظي بينهم كان الأوفر .. وكوني واثقة أنني استخلصت لنفسي النهاية الأسوأ .. لذلك .. أنتِ لستِ مضطرة للهرب بعد اليوم فريدة ، لستِ مضطرة لمفارقة هذا العالم لتعيشي مغيبة عن الوعي، لستِ مضطرة ﻷيٍ من هذا، لأنكِ لن تريني مرة اخرى .. أضمن لكي هذا واعدك به!! .. أتسمعيني فريدة؟؟ .. فقط عودي!!"
❈-❈-❈
- وعرفتُ أيضًا مَن كان وراء حادثة المطار!!
تأهبت فرائص أدهم حينما نطق ماتيو بهذا .. فبعد أن حطت الطائرات على مهبط مخطط على سطح المركب، اطمأن منه على سائر الأمور وعرف تفاصيل عما حدث، ليسأله بعدها عن سبب ذلك كله من الأساس .. لكن قبل أن يعرف هوية الفاعل، دخل والده للمقصورة، وبحركة فهمها أمر ماتيو:
- أذهب وجهز لرحلة الإقلاع .. وقبل هذا، أختر من طاقمك فردين ليلازما المركب لحين وصول دعم الصيانة!!
أومأ له ماتيو قبل أن ينصرف ويتركهما عل انفراد .. ولم يتأخر مصطفى في التحدث بعصبية:
- أنا لن أسألك عما فعلت لأنه ليس الوقت المناسب لهذا .. لكن فضلًا أخبرني أن لديك خطة للتعامل مع المنظمة بعد أن نعود!!
زفر أدهم ولم يكن في مستعدًا بأي حال من الأحوال للحديث حول هذا الأمر أو التفكير فيه .. خاصة وآخر شخص يمكنه مناقشة هذا معه هو والده!! .. لذلك أدار وجهه ينوي تركه والانضمام للفريق بالخارج:
- هذا أيضًا ليس وقته .. لما نعود سأتصرف، لم أعجز بعد لأحتاج مَن يحل لي مشاكلي!!
- المشكلة أنه لم يبق حل!! .. لقد أخليت بوعدك معهم، وضيعت الفرصة التي اعطوها لك ولم تصلح الأمور أو حتى استطعت تهدئة طليقتك عن إثارة الفوضى .. بل أنت من قمت بافتعال الفوضى بخطفك لها وقلبت العالم أجمع ضدك .. سيقتلونك، هل تفهم، إذا عُدت وأنت كما أنت، لم تجد حل معها ولم تضمن سكوتها، لن يمنعهم شيء عن قتلك، وأنت تعلم هذا أكثر مني!! .. والآن تخبرني بأنك ستتدبر الأمر، كيف؟! .. افق أدهم، لقد خَرّبت كل شيء بأفعالك المتهورة .. ألم تدري بهذا، أم مغامراتك العاطفية ألّهتك!!
- إياكِ وأن تأتي بذكرها بسوء، فليست كل النساء كـسمر هانم!!
فتح مصطفي فمه ليرد وقد تصبغ وجهه بالحمرة من فرط الانفعال والخوف من القادم، لكنه فوجئ بفريدة التي تقف متسمرة على عتبة الباب، بذات هيئتها المتبعثرة .. لم تبدل ملابسها، ولم تغسل حتى وجهها .. وتبا، لوجهها .. ذُهل أدهم حينما رآه، وكل الدلائل تقول أن تلك الليلة لن تنتهي على خير!!
لذلك سارع ليخرجها من هنا، ويحاول دفعها بروية متمتمًا من بين أسنانه بينما يجوب وجهها الشاحب بقلق:
- ما الذي أتى بكِ فريدة هنا، ألم أخبرك ألا تخرجي من الغرفة؟؟
بمشقة تفرقت شفتيها المتشققة وعينها الزائغة تدور بينه وبين والده الذي يراقب المشهد من خلفه:
- ما الذي يحدث هنا؟؟
- سنعود .. هيا تجهزي قبل موعد الإقلاع!!
بهذا حاول إثناءها ودفعها من جديد إلا أنها كالغراء، لم تتزحزح، وأبت أن تفارق الباب وهي تهمهم بكلام بدى له كالتخاريف:
- هناك لبس في الموضوع، سيد مصطفى اا .. آه دعني، ماذا تفعل؟!
لم تتمكن من إكمال جملتها ليدفعها بقوة هذه المرة وهو يفصل جسدها عن أعين والده قدر الإمكان، وقد خمن أن تكون قد سمعت كلماته الأخيرة عنها وستشتبك معه!! .. ورغم أن الدفعة لم تكن قوية بالقدر المؤلم، لكن في حالتها تسببت لها بدوار جعله يمسك بجسدها قبل أن تسقط ويُجلسها على مقعد قريب .. سألها بقلق بالغ:
- فريدة، كيف تشعرين .. هل أنتِ بخير؟؟
كانت تكمش عينها بقوة دلالة على الألم الذي يعتريها، ولم يمنعها هذا من أن تغمغم قبل أن تستلم وتفقد وعيها .. مع ذلك كان صوتها واضح هذه المرة، واضحًا حتى لذلك الواقف بالخلف:
- لماذا لم تخبره أننا قد عُدنا معًا؟!
A dark room we fight,
في غرفة مظلمة نتقاتل
make up for our love
للتفاوض عن حبنا
I’ve been thinking, thinking about you, about us
لقد كنت أفكر أفكر فيك، وفينا
And we’re moving slow, our hearts beat so fast
وحركتنا بطيئة، قلوبنا اصبحت سريعة جدًا
I’ve been dreaming, dreaming about you, about us
لقد حلمت حلمت بك، وبنا
My head is a jungle, jungle,
رأسي كالغابة .. كالغابة (مضطرب)
I was speaking soft, see the pain in your eyes
كنت أتكلم بلطف، أرى الألم في عينيك
I’ve been feeling, feeling for you, my love
كانت لدي مشاعر نحوك حبيبي
And our bodies are tired, our shadows will dance
وأجسادنا تعبت، وظلالنا سترقص (تتلاشى)
I’ve been aching, aching for you, my love
كنت أتألم .. أتألم لأجلك حبيبي
My head is a jungle, jungle,
رأسي كالغابة .. كالغابة (مضطرب)
My love is wasted, sorry for this,
حبي قد ضاع وانا آسفة لهذا
I never meant to be, hurting ourselves, hurting ourselves
لكنني أبدًا لم أقصد أذية لأنفسنا
يتبع