-->

الفصل الأول- أشواك وحرير

 



الفصل الأول 

_الحياة قد تصبح رائعة إذا تركك الناس وشأنك 

      "شارلي شابلن"


❈-❈-❈




دقت عقارب الساعة لتعلن عن الخامسة فجراً..تململت في فراشها بكسل لتلعن بداخلها تلك الوظائف البغيضة التي لاتسمح لها بالنوم الهانئ وتسألت في نفسها لماذا لا تكون أوقات العمل بالثامنة مساءاً مثلاً..؟! لطالما بغضت الإستقاظ باكراً ..هذا الأمر يشعرها وكأنها طفلة بالعاشرة من عمرها وليست شابه في السابعة والعشرين.

اطفئت ذلك المنبه لتعاود ضم الوسادة داخل أحضانها وتغطية نفسها من جديد حتي يكاد لا يظهر منها شعره واحده ...ولم تلبث سوي بضع دقائق حتي تعالي رنينه المزعج بالضجيج .

تثأبت عدة مرات ونهضت متمتمه بضيق ببعض الكلمات التي لعنت بها المصالح الحكومية التي لاتسمح لموظفيها بالنوم الهانئ ! 

اتجهت صوب الحمام لتنعم بحمام بارد علها تستفيق من ذلك النعاس ..الذي وإن لم تتخلص منه ستعاود النوم وليذهب عملها للجحيم ! 

❈-❈-❈

الثامنة صباحاً بأحدي الجامعات الخاصة بمدينة القاهرة

دلفت إلي الحرام الجامعي ولم ينتبه لوجودها أحد بسبب انشغالهم بالتعرف ببعضهم البعض ...طرقت بيديها عدة مرات أعلي المكتب ليعم الصمت أرجاء المكان .

رسمت إبتسامة صغيرة زينت ثغرها وأظهرت صفاء أسنانها وابتدأت حديثها :

_ أولاً صباح الخير عليكم جميعاً .. ثانياً أحب أعرفكم بنفسي أنا الباشمهندسة روان المهدي وهجاوب علي السؤال اللي نفسكم تسألوه.. ازاي معيدة وداخله لكم أول يوم ...أنا هدرس لكم مادة التصميم المعماري لغاية ما دكتور محمد كمال يرجع من السفر وهو اللي هيمسك المادة أنا بحب الإلتزام بالمواعيد أهم حاجة وأحب إن اللي مش فاهم يسألني وأنا بعيد عادي جداً اهم حاجه المعلومة توصل بشكل كبير ، قبل ما أبدأ فيه حد عاوز ...

قاطع حديثها تلك الضحكة الصاخبة التي تردد صداها في الأنحاء 

طرقعت بأصبعيها ،و أشارت لتلك الشقراء للوقوف

_ اتفضلي اخرجي كملي كلام في الموبايل و ضحك بره لأن إحنا هنا مش بنقول نكت ودمنا هيكون تقيل اوي عليكي .

سادت الهمسات واللمزات بين الطلبة بعضها الساخر والبعض الآخر الشامت ، ولمَ لا وهي ميرا المحمدي تلك التي اشتُهرت بين الجميع بالغرور والكبرياء 

تلفتت حولها بملامح منصدمة تري نظرات الفتيات الشامتة ونظرات الفتيان الساخرة فقد جُرح كبرياؤها للتو أمام هولاء الرعاع كما كانت تسميهم عادت بنظرها مرة أخرى لتلك الواقفة بثبات وعنجهيه وسألتها صائحة بإستنكار :

_ أنتي بتقوليلي أنا الكلام ده ؟! أنتي مش عارفه أنا مين واقدر اعمل فيكي إيه ؟!

لم يرف لها جفن ولم تهتز بها شعره واحده واستمرت في التحديق بها ولم تفارقها نظراتها الساخرة والمتثلية :

_ لا حابه إني اعرف منك بس في مكتب العميد ،ويلا اتفضلي بره 

اختطفت ميرا حقيبتها بغيظ واسرعت في خُطاها للخارج متوجهه إلي وجهتها المنشودة

❈-❈-❈

_الحقني يا خالو أنا اتهانت جامد 

قالتها ميرا بعدما اقتحمت المكتب لترتمي بين ذراعي ذلك الرجل الوقور ذو الشعر الأشيب ومن ثَم أجهشت بالبكاء .

_مالك بس يا حبيبتي إيه اللي حصل ؟!

سردت عليه ما دار منذ قليل في الحرم الجامعي بالإضافة إلى بعض الإدعاءات الكاذبة في حق المدعوه روان :

"طب اقعدي اشربي حاجه وأنا هبعت اجيبها افهم منها بعد ما تخلص المحاضرة "

قالها بحكمة وتريث لتُصدم ميرا من ردة فعل خالها فـ هاجمته مندفعه 

_ حضرتك تفهم منها يعني إيه مش مصدقني؟! 

_يا بنتي روان إنسانه محترمه و كويسة ازاي يعني هتحرجك من غير سبب وكمان تطردك كده ! ، علشان كده قولتلك هفهم منها و...

قاطع حديثه طرقات هادئة ليسمح للطارق الذي لم يكن سوي شابان طويلا القامة ذا أجسام رياضية بملامح وسيمه بشوشه تحمل أثار الضحك !

_صباح الخير يا اونكل 

_صباح النور تعالي يا مازن أنت ومالك ...خير هي لحقت تقلقكم عليها ؟!

قالها بمرح ليلتفتت إلي إبنه أخته التي هزت رأسها إليه نافية مستنكرة سبب علمها بوجودهم .

_لا ما أنا حضرت كسفتها لايف كانت بتكلمني فعرفت إنها هتعمل مشكله فقولت لمازن وجينا ، نشوف البنت اللي شردتك دي ...كل الدعم ليها والله .

قالها مالك بمرح لينفجر ثلاثتهم في الضحك علي ملامح تلك الشقراء التي قاربت أن تلفظ الدخان من أُذناها .

طرقت روان طرقه خافته علي الباب لتدلف مباشرة للداخل متجه صوب المكتب في خطي ثابته واثقه ليلتفتت إليها أربعة أزواج من العيون تمتزج نظراتهم من الحنان الأبوي واللامبالاة ،والحقد والنظره الأخيرة مزيج بين الأهتمام و الأعجاب وقد كانت تلك الأخيرة لمالك التي لم تفارق عيناه تفاصيلها.

_صباح الخير يا دكتور ...قالولي إن حضرتك طلبتني. 

قالتها بهدوء لتلمح بطرف عينها تلك التي ترمقها بغضب ممزوج بأستعلاء وتحدي.

_أنتي عارفه يا روان أنا طلبتك ليه ..يلا قوليلي إيه اللي حصل يخليكي تطردي ميرا وتعامليها كده قدام الطلبة ؟ 

_يا فندم الباشمهندسة بتتكلم في الموبايل وبتضحك بشكل مقرف وفي الأخر بتقولي قدام الطلبة أنتي مش عارفه أنا مين ؟!

واستطردت حديثها بتساؤل "ده يرضي حضرتك ؟! " 

وجه أنظاره إلي إبنه أخته يرمقها بنظرات اللوم والعتاب لتشيح ميرا بنظرها بعيداً عنه .

_ميرا غلطت طبعاً ولازم تعتذر وأنا بعتذر لك كمان يا روان بالنيابة عن بنت أختي بسبب الأسلوب الهمجي اللي كلمتك بيه .

_العفو يا فندم حضرتك مينفعش تعتذرلي خلاص.. حصل خير.

_حصل خير يا بنتي ..المهم الكلام خدنا ونسيت اعرفكم ببعض وأشار بيده نحوها قائلاً

" دي يا شباب باشمهندسة روان معيده في قسم معماري ،و اللي مش مبطل ضحك من أول ما دخل ده يا روان يبقي مازن وابن عم ميرا ، أما العاقل الهادي ده يبقي مالك صاحب ميرا ومازن والتلاته متربيين مع بعض وزي ولادي "

_اتشرفت بمعرفتكم 

قالتها روان ببسمة هادئة زينت ثغرها ثم اشاحت بوجهها سريعاً عنهم علها تتفادي نظرات ذلك الوقح الذي لم يكُف عن تسليط أنظاره عليها منذ أن دخلت وكأنه تصنم كتمثال حجري ! ..بالطبع هي ليست بكل هذا الغباء حتي لا تلاحظ.. ذلك هذا ما اشعرها قليلاً بالتوتر وكأن نظراته كالسهم التي تخترقها بقوة ..لتنظر في ساعتها ثم حمحمت وتحدثت بجديه قائلة :

_أنا لازم استأذن دلوقتي لأني لسه هروح الشركة وقدامي يوم طويل بعد إذنكم .

_اتفضلي يا بنتي ربنا معاكي .

بعد خروجها أجلي مالك صوته قائلاً :

_شكلها منضبطة روان .

لينظر إليه دكتور مصطفى موضحاً بكل جدية 

_منضبطة جداً و جدعه اوي . 

_ينفع نقفل الكلام عليها بقي ونشوف موضوع تاني غير ست روان دي ؟! 

كان هذا الصوت لميرا التي رمقت مالك بإنزعاج و الغيرة تنهش قلبها من أن يتطلع إلى إمرأة أخري فهي إلي الآن تكاد لا تصدق بأن معذب فؤادها أصبح وحيد ولم يعد مرتبط بأي رابط بأمرأة لهذا قطعت حديثهم بإنزعاج تام لينظر إليها مازن بصمت و ابتلع غصة مسننه في حلقه و أضمر شعوراً داخلياً بات أن يقضي عليه ! .

❈-❈-❈

وصلت روان إلي مقر الشركة ،واستقرت في المكتب بضع دقائق ليقطع خلوتها دلوف السكرتيرة التي رحبت بها بعملية بحته .

_حمد الله علي السلامه يا فندم .

تنهدت روان بعمق لترد عليها بينما لازالت تنظم أشيائها 

_الله يسلمك يا دنيا .

لتعقب مستفسرة وقد تركت ما بيدها وصبت كامل تركيزها مع الأخري.

_قوليلي يا دنيا إيه اللي في الجدول النهارده ؟

_باشمهندس مجد طلب مني أجهز الـ meeting علي ما توصلي وهو هيتابع معانا online علشان نجهز للصفقة الجديدة ونشوف الميزانية المتوفرة ،وبعد ما الـ meeting يخلص هتنزلي المواقع تشوفي أخر التطورات وهيكون معاكي المهندس المسئول عن المشروع .

_تمام أوي ... اتفضلي دلوقتي على شغلك وأنا قدامي ربع ساعة وهنبدأ الإجتماع .

❈-❈-❈

فتحت باب شقتها لتدلف للداخل بخطوات بطيئة متعبه ،فلقد أرهقها كثرة التنقل والترحال اليوم كما تشعر بالصداع الذي يكاد يفتك برأسها فالشمس في القاهرة لا تستوصي خيراً أبداً بأحد وكأنها أقسمت يميناً لتذيق الناس أشد العذاب ...أخذت ملابس نظيفة واتجهت للحمام لتنعم بحمام بارد علها تستعيد نشاطها الذي بددته كثرة الأشغال ..حتى تقدر علي مواصلة اليوم ! 

❈-❈-❈

بينما كانت تتناول طعامها استمعت لضجيج هاتفها لُيعلن عن مكالمة مرئية صادرة... شعرت قليلاً بالتوتر ثم ضغطت علي زر الإجابة ليظهر الطرف الآخر التي لم تكن سوي سيدة بشوش بملامح مصرية أصليه بمجرد رؤيتها قابلتها روان بإبتسامة واسعه !

_ عاملة إيه يا ماما وحشتيني اوي 

عاتبتها والدتها قائلة بسخرية 

_وحشتك بجد ؟...وحشتك لدرجة أقعد شهرين مشوفكيش !...ليه يا بنتي كده ..ليه مش عاوزه تشوفينا .

أجابتها روان بثبات 

_ما أنتي عارفه يا ماما الشغل واخد كل وقتي لدرجة لدرجة إني لسه بتغدي اهو حتي شوفي .

رفعت ذراعها بأحد الوجبات السريعة أمام الكاميرا ..لتوبخها والدتها بصوت منزعج من تصرفات إبنتها الهوجاء :

_ كمان أكل من بره ! ...مش هتبطلي أبداً العك ده وفي الأخر إيه يا بنتي ؟ ..ما أنتي هتتعبي ..ليه مش بتطبخي خلاص خدتي .....

قاطعتها روان بنفاذ صبر حتي تمنع توبيخ والدتها لأنها إن تركتها لن تُكف حتي تشرق الشمس .

_يا ماما لسه داخله البيت وراجعه مش قادره وواقعه من الجوع فملحقتش اعمل .

قالت جملتها الأخيرة رافعه كتفيها لأعلي ولأسفل بعفوية فكان ذلك بمثابة سكب البنزين علي النار لتشعل والدتها من جديد قائلة بهجوم :

_وكان عملك إيه الشغل يا بنتي ،وخدتي منه إيه غير بُعدك عننا وقعادك لغاية دلوقتي من غير جواز ...كل اللي في سنك دلوقتي معاهم عيلين وتلاته ... فرحانه كده لما خيبتي نفسك ؟! ...ردي انطقي!

كانت تنصت لحديث والدتها والغضب يتعالي بداخلها مع كل كلمة تصدر منها فكأن اليوم ينقصه أن تستمع لذلك الحوار الذي لم ولن ينتهي أبداً ! 

_عوزاني أرد عليكي ؟!..هرد عليكي حاضر .

قالتها روان بغل والشرار يتطاير من عيناها لتستكمل حديثها بنبرة حادة 

_أيوه عاجبني حالي ...ماله يعني مش أحسن ما اتجوز واحد نطع يبيع ويشتري فيا وكأني مجرد آله أو خدامه فلبينيه جابتهاله أمه علشان تخدمه ويا سلام بقي لو كانت بتشتغل لازم ياخد مرتبها ولو اعترضت تاخد بالجزمه ويتقال عليها قويه وناشز! ووقت بقي ما تتعب يرميها ويتجوز عليها صح مش كده عوزاني أتجوز علشان كده صح ؟!

قالتها بصراخ وقد تعالي نحيبها وانهمرت دموعها علي وجنتيها وعادت لإستكمال حديثها بتحشرج 

"طظ في الناس..ايه ؟! ..صعبان عليكم يعني إني بشتري راحتي ؟..أنا مش عجوزه ولا سناني وقعت علشان يتقال عليا كبيرة أنا عندي سبعة وعشرين سنة أنا مش عانس !.

رق قلب سهير علي ما آلت إليه حالة وحيدتها 

شكلك كان مبسوط والظاهر أنا اللي نكدت عليك ... 

_آسفه يا بنتي حقك عليا ..بس قدري إني أم ونفسي أفرح بيكي وأشوف عيالك .

هدأت قليلاً بعدما استمعت لآسف والدتها فلقد أشفقت عليها حقاً...تعلم إنها تتحمل الكثير بسببها...يكفي أنها تعيش بمفردها في بيت خالها الوحيد الذي لم يسمح بوحدتها بعد سفر إبنتها والذي أعقبه إنفصالها عن زوجها بعد زواج أشبه بالوباء دام لما يُقارب الثلاثين عام !

أجلت صوتها لتهون علي أمها فلا يرضيها أبداً أن تكون سبب تعاسة والدتها الحبيبة 

_أنا اللي آسفه يا ماما ....تنهدت بقوة وعادت للحديث مجدداً "حقك عليا بس مش هقدر اتجوز من البلد واتعامل وحش ...مش هقدر نفسي هتصعب عليا ..انا كده عايشه مرتاحه ولسه نصيبي مجاش .

_نصيبنا يا بنتي كده ! ...ومش كل الرجالة وحشة فيه رجاله كويسه بصي لخالك كده وأعمامك برضه كويسين مع مراتتهم .

_ خلاص سبيها لله ....بصي انا الفترة دي مشغولة شويه هحاول أفضي نفسي يومين واجي البلد علشان خالي وأخويا وحشوني جداً .

ثم عقبت بقولها

_بس أعملي حسابك لو سمعت كلمة مش كويسة من أي واحده من الستات دول أنا همسح بيها الأرض.

لاحظت إبتسامة والدتها التي بدأت في الإنكماش تدريجياً مع كل كلمة تفوهت بها ...فسألتها سهير بإستنكار 

_هنمسك في الناس يا بنتي ؟! 

هزت كتفيها لأعلي ولأسفل لتقول ببساطة 

_وأنا مالي ما اللي تقل أدبها تستحق تاخد بالجزمه .

_طيب يا بنتي اللي يريحك المهم إنك ترجعي قريب...اسيبك بقي تكملي أكلك تصبحي علي خير أنا هنام علشان أقوم أصلي التهجد ، ومتسهريش كتير علشان تعرفي تصحي بدري . 

أنهت ذلك الحديث المستنزف ، عادت لطعامها من جديد ثم أنخرطت في وصلة تفكير في حديث والدتها التي لا تزال تذكرها بأنها وصلت لسن اليأس كما يعتقد أهالي بلدتهم ولا يكفون يتسامرون عليها بالحديث اللاذع بأنها أرض بور لا تصلح لشئ !!..كما يروها تلك الفتاة الرعناء التي خلعت بُرقع الفضيله وتحلت بالأخلاق الفاسدة أو بتعبير أصح لم تعد تتحلي بالأخلاق من الأساس!...فقد أصبحت تشبه الذكور تعيش بمفردها في بلد غريب بمفردها وتتعامل مع الرجال يالها حقاً من عاهرة !...عاهرة يخافون على بناتهم من رؤيتها أو التعامل معها حتي لا تُدنسهم فـ يصابوا بمرضها المميت .

عادت من شرودها لتجد الساعة أصبحت الثانية عشر بعد منتصف الليل لتلعن عقلها الذي يستغرق كل هذا الوقت في التفكير ..ثم أتجهت نحو سريرها تضرب بعرض الحائط كل ما عليها أن تنهيه فلقد تعبت كثيراً اليوم ولتكمل عملها في الصباح الباكر!

#يتبع