الحلقة الثالثة ج ١ - صائد المراهقات
صائد المراهقات
القلب كالوردة الفاتنة؛ لا تجعليها تذبل بين يدي من لا يستحق.
°°~°°~°°
وقف "ناير" يعدل من هندامه للمرة الثالثة و من خصلات شعره الأسود المصبوغ للمرة التي لا يعرف عددها ،ثم توقف ينظر إلي انعكاس عينيه في المرآة؛ لا يريد أن يقر بما يري.. ثم تحركت عينيه ببطيء في ملامح وجهه فبرغم ما يبذله من جهد و مال في ملابس و صبغات لإظهار شباب انتهت فترته من حياته، لم تخفي علامات الشيب عن وجهه، علامات نضجه العمري تظهر من بين ثنايا تجاعيد وجهه و أسفل عينيه يظهر سنين قدرها حوالي ستة و أربعون سنة بحُلوها و مُرها ،بمرحها و شقائها، بمراهقتها و نضوجها.. لكن لا يهم العمر فهو مجرد رقم و هو سيظل شاب رغم ذلك الرقم التافه، هو جذاب ومازال مطلوب و سيثبت ذلك لنفسه بطريقته.
قاطع تأمله نفسه في المرآة دخول زوجته "دلال" و التي وقفت تتأمله و الحسرة تطل من مقلتيها، تريد أن تبكي و تصرخ علي حال زوجها الذي لا تفهمه ولا تعرف له تفسير، فقد أصبح يتصرف بصبيانيه و كأنه فتي في السادسة عشر من عمره يتعب والدته التي تصيح به باستمرار كي يذاكر و ينتبه لدروسه و مستقبله.. أصبح لا يراعي سنه، لا يراعي ان هناك فتاتان في طوله مسئولتان منه و تشعران بالخزي من تصرفاته تلك.. لقد ارهقها محاولة معرفة سبب ما به و لن تبحث مجددا فليفعل ما يشاء
قالت "دلال" و هي تقيمه بنظراتها من أعلاه لاسفله :
- بناتك برا خلصوا لبس و فطار و مستنيين.. هتروح معاهم النهاردة ولا يروحوا لوحدهم زي كل يوم.
تحمحم "ناير" و قال مصطنعًا حُجه جديدة ككل يوم :
- لا خليهم ينزلوا.. انا لسه هفطر و ورايا شوية حاجات.
ضحكة بسخرية و لم تعلق علي كلامه الذي تتيقن من كذبه و ذهبت في حسرة.. أما هو فكان يشغل عقله كيف سيستمر في كذبه طويلا، حسنا المشكلة هي انه لديه فتاتان في الصف الثاني و الثالث الثانوي و كلتاهما في طوله او تعدوه بالفعل و هذا يعطيه سنًا يجعله في عيون الناس رجل غَزا روحه و جسده الشَيْب و لديه عروستان كالورود؛ لذلك هو يتهرب من وجود ثلاثتهم في صورة واحدة، يحاول طردهم من حياته كي يستعيد شباباً لم يعِشه، و يجدده.. وجود بناته حوله يمنع عنه نظرات الإعجاب و لم يعلم انها نظرات استنكار و نفور و تعجب من حال ذلك الرجل الناضج المتصابي.
انتظر نزول الفتاتين "لوچين" و "لورا" لكي يخرج من غرفته يحمل حقيبته السوداء التي بها ما يحتاجه من دفاتر تحضير و أقلام نظراً لامتهانه تدريس اللغة الفرنسية بمدرسة ابنتيه الثانوية.. جلس علي رأس منضدة الطعام يتناول فطوره و جلست زوجته علي يمينه و بدأوا الأكل في صمت أصبح ثالثهما منذ فترة طويلة و شرد كلا منهما في عالمه فهي تفكر في مصير زواجها الذي أصبح علي المحّك، بينما هو ممسكًا بهاتفه يتصفح الرائج بين الشباب هذه الأيام و علي شفتيه بسمة صغيرة جانبيه.. يريد أن يستبدل روحه العجوز بأخري يافعة يحبها كل من يخالطها و يتعامل معاها.. يريد استبدال غلظة و ثخانة النضج بمرح و خفة و رونق الشباب.
قطعت "دلال" الصمت كالعادة و هي تطلع به بحسرة و قالت بملامح تنهل منها الكآبة :
- اه علي فكرة لوچين جايلها عريس.. محمود ابن أستاذ جمال اللي في السابع.
زفر في ملل لا يعلم ماذا تنتظر منه، أتريده أن يزوج فتاه في السابعة عشر لرجل في بداية الثلاثينات مثلا؟! أم تريد إفتعال شجار؟!، لماذا تتفنن دائما في استفزازه و تحريضه علي كره هذا المنزل الذي أصبح لا يتحمله بالفعل من تصرفاتها الغير مفهومة بالنسبة له.. ما المشكلة في أن يعيش في ثوب الشباب و يستمتع بحياته و يترك لها ولأمثالها تلبُس ثوب العجزة؟.. قال دون أن يرفع نظره عن شاشة هاتفه :
- والمطلوب؟
اغمضت عينيها في يأس و فركت وجهها بكفيها ثم اعادت للخلف شعرها الاسود الناعم الذي تتخلله خُصل بيضاء تكاد لا تري من قِلتها و نفت برأسها و قالت بابتسامة منهكة كاذبة تخفي بها ما يشتعل داخل صدرها من نيران غاضبة :
- ولا حاجة.. مش مطلوب حاجة.
❈-❈-❈
استيقظت "تولين" صباحا علي صوت المنبه المزعج و دخلت لتأخذ حمامها و عندما انتهت منه ارتدت ذهبت لمشغل الموسيقي تشغله فارتفع صوت عزف موسيقار مشهور بلحنها المفضل فظهر علي فمها شبح ابتسامه، ثم تحركت للمطبخ تحضر فطورها و قاطعها رنين هاتفها فاقتربت من المنضدة التي يُوضع عليها الهاتف و نظرت بشاشته فكانت المتصلة والدتها فمطت شفتيها بامتعاض ثم زفرت و أجابت :
- الو.. صباح النور يا ماما.. اه صحيت خلاص.. ايوه بعمل الفطار اهو و هنزل.. قولتلك قبل كدة مفيش داعي لمكالمتك دي متتعبيش نفسك.. خلاص يا ماما متعتذريش ملوش لزوم.. طب سلام عشان متأخرش.
اغلقت الهاتف ثم اغلقت عينيها بشدة و فركت وجهها بكفيها لدرجة تكاد أن تجرحه ثم اسندت جبهتها علي يديها القابعتين علي المنضدة تحاول الهروب من عقلها و افكاره التي تقتلها.. تحاول إيقافه.. تتمني الفرار بروحها من ذلك العالم إلي حيث لا يعرفها احد.. حيث لا يوجد ابيها و امها ولا أخيها.. حيث تبقي بمفردها بدون أحكام أو قواعد
"تولين عزيز البدري" فتاة في السابعة عشر من العمر، انفصل والداها و هي في سن الثانية عشر و تزوج كلاً منهما و عاشت هي مع والدتها حتي بلغت السادسة عشر و بعدها أصر زوج والدتها أن ترحل عنهم و تستقل بمفردها أو تعيش مع والدها و لكن كان اختيارها بالطبع هو الاستقلال فأخذت لها والدتها شقة مجهزة فاخرة بأحد الاحياء الراقية لتستقر بها.. و ها هي تعيش بمفردها بالرغم من وجود كليهما علي قيد الحياة لكنهما عبارة عن حساب مصرفي بالنسبة لها لا أكثر.. و برغم من أن أخيها "تامر" اكبر منها سنًا إلا أنه لا يُعتمد عليه أيضًا
من قال أن السعادة في امتلاك المال بالطبع لم يقابلها، فبالرغم من امتلاكها لمصروف شهري ضخم و كل ما تحتاجه حولها ماعدا شيئا ثمينًا لم تستطع شرائه بالمال و هو الأمان.. ذلك الشعور الدافيء الذي لا تفقه عنه شيء. فقط لازمتها الوحدة طوال حياتها.. ذلك الشعور الصقيعي الذي بمجرد التفكير به يصيب بالقشعريرة.. لم تعتبر أسرتها ابدا مصدرًا للأمان فقط مصدر للمال.. اللعنة علي أسرتها و علي المال و علي كل شيء، كل ذلك لا يهم، هي فقط المهمة هي فقط من تستحق، العيب بهم هم ليس بها.
❈-❈-❈
ابتسمت "لوچين" عندما قرأت اسم المتصل.. اخفضت صوتها و ردت علي الهاتف ببسمة خجولة فبادر المتحدث بالسلام :
- صباح الفل و الياسمين علي احلي لوچي فالدنيا.
ضحكت بخفوت و هي تخبيء فمها بيدها و ردت بصوتها العذب المُلحن :
- صباح النور
تنهد "علي" بهيام لسماع صوتها و قال :
- وحشتيني.
عضت علي شفتها السفلي و أجابت بعشق :
- و أنت كمان أوي.
- أوي أوي يعني.
ضحكت و اومأت كأنه يراها و قالت :
- اه
فابتسم و سألها :
- و لما هو اوي ليه مردتيش عليا امبارح و قلقتيني عليكي كدة؟
- اسفة والله ماهو انا قولتلك في المسدچ كان عندنا ضيوف و منتشرين في البيت فمعرفتش اكلمك خالص.. متزعلش مني بقي.
أومأ بتفهم و قال :
- لا مش زعلان ولا حاجة يا روحي انا بس قلقت عليكي.. المهم باباكي عامل ايه؟
فابتسمت بسخرية و قالت بنبرة تهكمية :
- لسه زي ما هو عايش في سن مش بتاعه.. ده بقي شكله اصغر مني.
- هو انتو رايحين المدرسة لوحدكو مع السواق برضو؟
- اه زي كل يوم و اتلكك كالعادة عشان ميمشيش جمبنا و هيروح لوحده.
زفر "علي" بقلة حيلة و قال محاولا رفع معنوياتها قليلا :
- متقلقش يا حبيبي كلها سنة و تدخلي الكلية و اتقدملك و نتجوز.
فعادت ابتسامتها تمليء وجهها و دار في خُلدها حياتها بعيدًا عن السجن الذي تسكنه حاليًا مع حبيبها "علي" و هو شاب في الثالثة و العشرين من العمر تعرفت عليه من خلال صديقة مشتركة بينهما و بعد فترة من التعارف اعترف لها بإعجابه بها و زاد تقاربهم و كان السند الوحيد لها في ظل ما يفعله والدها من تصرفات مُنفرة لا تفَسر
- يلا هقفل معاكي دلوقتي و لما تروحي هكلمك.
- ماشي.. باي
❈-❈-❈
استيقظت "ندي" متأخرة عن موعدها و بعد ممارسة طقوسها الصباحيه من الاستحمام و تمارين اليوجا و الصلاة حتي تقضي يومها بشكل جيد خرجت من غرفتها تتحرك مسرعة و هي تضع علي عجلة بعض الكتب في حقيبتها و ترتدي ملابسها في نفس الوقت و كادت ان تصطدم بالحائط و هي تسير لكنها انتبهت في اللحظة الاخيرة.. و بعد أن انتهت من جمع اشيائها قالت بسرعة و هي تجري لخارج المنزل
- باي يا مامي.. باي يا اونكل
ردت السيدة "أنچيل" عليها
- باي يا قلب مامي.. خدتي كل حاجتك؟
فردت "ندي" بصوت عالي بالإيجاب
"ندي سامي جرجس" فتاة في السادسة عشر من العمر تعيش مع أمها و زوجها السيد "عزمي".. تزوجته امها بعد وفاة ابيها و كان لها أب ثاني يحبها و يعاملها باحترام ليس كما تسمع هي عن أزواج الأمهات الآخرين
ركبت "ندي" مع السائق في سيارة السيد "عزمي" الخاصة ليوصلها لمدرستها، مدرسة" الأمل " الدولية.
بعد ثلث ساعة وصلت "ندي" و تقابلت مع الاختين "لوچين" و "لورا" أبناء المعلم غريب الأطوار - كما يلقبونه في المدرسة - و لكن ابنتيه مختلفتان عن تماما ف"لوچين" في الصف الثالث الثانوي و مرحه و تحب المزاح و ذات مزاج رائق معظم الوقت بينما "لورا" والتي تشبه "ندي" كثيرا في الصف الثاني الثانوي هادئة رزينة تشغل وقتها كله بالمذاكرة و تحصد ذلك فهي مجتهدة و من المتفوقين دائما.. يتعامل ابيهما معهما بغرابة شديدة كأنهم ليسوا ابنائه او لا توجد صلة بينهم و هم أيضا يتعاملوا معه كذلك.. و لحساسية هذا الأمر بالنسبة لهما لا تتحدث معهما بشأنه نهائيا.
قالت "ندي" بوجه بشوش :
- عاملين ايه؟
فحمد الاختين الله ببسمة جميلة.. فضيقت "لوچين" عينيها و أخذت تنتقل بحدقتيها بين الفتاتين ثم قالت :
- يعني انا مش مجنونة عشان لما اقول شبه بعض بتكدبوني.
فابتسم كلتا الفتاتين ثم قالت "ندي" باستخفاف :
- يعني هي اختك انتي و شبهي انا.. تيجي ازاي دي؟
مطت "لوچين" شفتيها بامتعاض و قالت كما هي معتادة بعدم تحفظ :
- وانا إش عرفني بقي ده اختلاط أنساب ده ولا ايه.
فاقتربت منها "لورا" بسرعة بعد توسع عينيها و كتمت فمها بكفها توقف حديثها فهمهمت" لوچين" همهمات اعتراض بينما "ندي" سقطت في نوبة ضحك من شكلهما.
بعد محاولات" لوچين" في رفع كف اختها عنها نجحت اخيرًا فزجرتها "لورا" بعينيها و همست :
- خدي بالك من كلامك أنتي مش صغيرة.
فأشاحت" لوچين" بيدها بعدم اهتمام و اكملت سيرها فزفرت "لورا" بيأس و هي تنظر في اتجاه أختها فربتت "ندي" علي كتفها تدعمها قليلا
❈-❈-❈
نزلت "زينب" من باص المدرسة و إنزوت ككل يوم في ركن بعيد و تعطي ظهرها للجميع حتي تسيل دموع عينيها علنًا و دموع قلبها سرًا.. ما هو الحل؟ كيف توقف هذا الأمر؟ كيف تتخلص مما هي فيه؟ كيف تطلب المساعدة و الجاني من دمها؟ كيف و الجاني هو أخيها؟!..
"زينب محمد سالم" فتاة في الخامسة عشر من العمر، تتصف بالأدب و الأخلاق و كانت تمتاز ايضًا بإجتهادها الدراسي و لكن مؤخرًا فقدت هذه الميزة نظرًا لتشتت تركيزها الدائم.
❈-❈-❈
بعد وصول الخمس فتيات للمدرسة و إقامة طابور الصباح ذهبت كلا منهن لفصلها. و كان الوضع هاديء إلي أن جاء خبر عن وقوع حادث سيارة لأحد معلمي اللغة الفرنسية بالمدرسة و سيأخذ مكانه في فصول الصفوف الأول و الثاني و الثالث الثانوي أستاذ "ناير الوكيل" مؤقتًا و استمر اليوم الدراسي بشكل عادي
في الحصة الخامسة صعد "ناير" لاحد فصول الصف الثالث كبديل للمعلم الغائب بسبب الحادث.. دخل الصف فقام الطلاب احتراما له يحيونه بالفرنسية و بين همسات و غمزات من الطلاب عن شكله الذي لا يلائم سنه ولا تجاعيد وجهه وقعت عينيه عليها.. لون عينيها يشبه الغيوم الرمادية الداكنة المعبأة بالأمطار ،أو ربما الدموع! تبدو كالوردة التي علي وشك الذبول و مع ذلك جميلة بل هي فاتنة بخديها الحمرواين و رغم الهالات التي تدور حول عينيها الواسعتين إلا أن لون غيومها الممطرة و خصلات شعرها السوداء اللامعة الخالي من التموجات علي جانب وجهها و ينسدل علي كتفها طغي علي المشهد
لاحظت "تولين" تحديق هذا المعلم غريب الأطوار فيها و رغم ان التصرف الطبيعي لأي فتاة هو إنزال بصرها خجلاً إلا أنها نظرت له بل حدقت به بشراسة نَمرة تهاجم أحد الأسود لحماية غذائها.. و كأنها تحصن نفسها و قلبها بجمودها و برودها ذلك.. لكنه لم يخف و ابتسم لها ابتسامة جذابة كأنه يخبرها نعم أنا احدق بكِ، ثم أمر الطلاب بالجلوس و بدأ بشرح درسه و كلما كان يلتفت كان يتعمد النظر لها فيجد نفس النظرة الحادة منها فتتوسع ابتسامته كأنه يتحداها غير مهتم برأي من حوله من طلاب فيما يحدث كما لم يهتم برأي أحد عندما كان يختار ملابسه الشبابيه و تصفيفة شعره.. بعد دق جرس انتهاء الحصة و بداية الاستراحة خرج الجميع بينما تعمدت "تولين" التلكُع حتي تخرج بعده و لكنه تأخر مثلها و تحجج بجمع اشيائه فنظرت له ثم علقت حقيبتها علي كتف واحد و قامت متجهه للخارج فترك اشيائه و تحرك خلفها بسرعة ثم سحب مرفقها من الخلف فألتفتت له و نفضت يده عنها بحِدة فضحك ضحكة عالية و قال بعد أن هدأت ضحكته :
- مالك حامية كدة ليه.
فزفرت و تكلمت برسمية محاولة الحفاظ علي هدوئها و احترام مكانته :
- حضرتك عايز مني حاجة يا مسيو.
فنظر لها نظرة شملتها من أعلاها لأسفلها و حك ذقنه ثم قال :
- لا مش عايز
- طيب عن اذنك
و التفتت مرة ثانية للمغادرة فجذبها من مرفقها مجددا فنفضت يده و قالت بنبرة عصبية مرتفعة تزجره :
- لو سمحت!
فضحك مجددا و سألها :
- اسمك ايه؟
فرطبت شفتيها و اغمضت عينيها تحاول الهدوء و تذكر نفسها ان هذا معلم أولًا و أخيرًا، تململت في وقفتها ثم أجابت و هي تعرز اظافرها في يد حقيبتها :
- تولين
فابتسم ابتسامة يعتبرها هو ساحرة بينما هي لم تكن إلا ابتسامه سخيفة مستفزة و قال و هو يمط حروف اسمها :
- اسمك جميل يا.. تولين.
شكرته ثم تركته و ذهبت بسرعة فابتسم و حك ذقنه و قد اعجبته اللعبة كثيرا.
اتجهت "تولين" للحديقة و جلست علي احد الكراسي و وضعت سماعات اذنها و اعادت رأسها للخلف مغمضة عينيها تحاول أن تفرغ ذهنها من تلك التفاهات التي تمر بها كل يوم، بداية من عائلتها و مشاكلهم المستمرة كأن كان زواجهما معاهدة صُلح بين جيشين و بمجرد طلاقهما كُسرت المعاهدة و بدأت الحروب من جديد، من سيسافر في مكان أفضل، من سينفق أكثر، من سيشتري كميات اكبر من اي شيء عديم الفائدة!.. مرورًا بأخيها الذي يضيع مستقبله ولا تراه إلا من أجل المال الذي سيودي به قريبًا.. نهاية بهذا المعلم و تصرفاته الغريبة التي لا طاقة لها لتفسيرها..هي تعلم أنها جميلة، فربما هو معجب لا أكثر كباقي بني جنسه؛ يلهثون خلف الإناث الجميلات كما فعل والدها و تركها هي و والدتها لأجل انثي اخري.. هي ليست حزينة فعلي كل حال كانت نهاية هذا الزواج الفشل بالطبع فهما غير متوافقين بالمرة حتي انها فكرت اكثر من مرة كيف تحمل كلا منهما الاخر لمدة خمسة عشر عامًا.
لا يهم لن تفكر مطلقًا فلتبقي هكذا مُحلقة في عالمها الخيالي الخاص الذي انشئته بمخيلتها الخصبة و ساعدتها أيضا مهاراتها في التأليف و كتابة
القصص الخيالية.. تلك الموهبة التي لا يعلم عنها احد من أهلها.. فقد بدأ الأمر من انغماسها في قراءة الروايات و القصص ثم اكتشفت موهبتها و بدأت تنميها.. عوضتها الموسيقي و الروايات عن خذلان الكثير و بَنَت عالمها الخاص الذي تعيش فيه بأمان في دفيء في أرض ليست صقيعية كأرض بيتها الذي تعيش فيه ملازمة للوحدة.. لماذا لا يفكر الأهل بأطفالهم و قلوبهم، لماذا لا يوجد مراعاة لمشاعر الأبناء؟ لماذا ينجبوا إذا؟ أم هي فقط من تمتلك اهلًا بهذا الإهمال؟ ما هذه التافهه لا هي أصبحت حساسة قليلا من الروايات الرومانسية بالتأكيد.
فتحت هاتفها و علي احد برامج التواصل الاجتماعي من حساب مزيف تنشر عليه كتاباتها كتبت :
- "صُن قلبي لعل آلامه تسأم و تغادره"
❈-❈-❈
في الطرقة تحرك "ناير" اتجاه فتاة مختمرة تجلس بظهرها في ركن وحدها. لمس كتفها فصرخت و هي ترتجف آثر لمسته ثم التفت له و دموعها شقت طريقها علي وجنتيها، تعتذر بخفوت و هي تبكي فأشفق عليها "ناير" الذي كاد يقع من صرختها بالفعل فأشار لها بيده أن تهدأ و هو يهمس لها :
- بس بس اهدي.. اهدي خلاص محصلش حاجة.. انتي اسمك ايه؟
سرت رجفة سريعة من أسفل جسدها إلى رأسها ولكنها تغاضت عنها و عدلت خمارها بتوتر ثم رطبت شفتيها و اخفضت نظرها تجيبه :
- زينب
فابتسم و هو يقول و يمد يده بالسلام :
- طيب ازيك يا زينب؟
نظرت ليده بتشتت و تعرقت جبهتها ثم رفعت يد مرتعشة لمست اطراف اصابعه فقط ثم سحبت يدها بسرعة و هي تومأ له و تقول بخفوت :
- الحمدلله
- في سنة كام يا زينب؟
ابتلعت ريقها و شعرت بعدم ارتياح فقالت و هي تتململ في وقفتها :
- أولي
- أنتي في فصل مسيو عاطف؟
فأومأت بسرعة و هي تنظر في الأرض. بينما أحدهم استغل الفرصة و بنظرة ذكورية حاول تقييم ما يتضح من تفاصيل جسدها المخفية خلف خمارها فكانت قصيرة، خمرية البشرة تضاهي ذهبية لون رمال الصحراء، لقطت عينيها لون سواد الجياد العربية الأصيلة، و تفاصيلها صغيرة الحجم مثلها و لكن بها شيء جذاب.. قطع تفكيره بتعريف نفسه لها و أنه معلمها الجديد فأومأت له و استأذنته و رحلت و قد تم اختيارها الفريسة الثانية.
❈-❈-❈
في اليوم التالي..
وقفت "تولين" نفس وقفتها المعتادة تعلق حقيبتها علي كتف واحد و تكلم احد زميلاتها في نفس وقت دخول "ناير" المدرسة فلمحها بحدقتي نمرٍ واثق من هدفه تعطي ظهرها له و تتحدث مع احد الفتيات، ابتسم ابتسامة جانبية بزهوٍ من الأفكار التي تأتي برأسه لمناغشة تلك الفتاة ذات الدِرع الحديدي الذي سيسحبه منها عن قريب.. سار بجوارها من خلفها و علي حين غُرة شد اليد الاخري من الحقيبة المعلقة علي كتفها، لأسفل بخفة فانتبهت هي للحقيبة و قد ظنتها علي وشك السقوط و لكن عندما لفت رقبتها و رأت ظهره و بعدها التفاته لها برأسه فقط ليغمز لها بأحدي عينيه و هو يبتسم، فنظرت له و غيوم عينيها تبرِق و يكاد يسمع رعدها أيضًا.
لماذا لا يتركها الجميع بسلام؟! لماذا يدخل حياتها المتطفلين دائما؟! زفرت بسُأم فسألتها زميلتها :
- ماله بيكي ده؟
فرفعت كتفيها علامة علي جهلها الجواب و قالت و هي شاردة في نقطة ما :
- مش عارفة
❈-❈-❈
في الاستراحة جلست تولين في ركنها المفضل في الحديقة تستمع إلي موسيقي هادئة بسماعات اذنها و تنشر فصل جديد من روايتها علي احد تطبيقات الهاتف.. كم تشعر بالامتنان اتجاه معجبيها و معجبي روايتها.. كم تحب الشعور الدافيء الذي يتملكها عندما تقرأ إطراء أحدهم علي روايتها.. كم تتسرب إليها السعادة عندما يخبرها أحدهم أن الرواية اشعرته بالسعادة في حالة حزنه او بالامل في لحظة يأسه.. تمتن لله كثيرًا علي هذه الهبة منه و تعلمت أن تحمده في كل حال رغم أن حالها ليس رائع كما يظن البعض و لكن اختلاطها بطبقات مختلفة من البشر و قراءتها عنهم و عن أحوالهم جعلها تدرك أنها افضل من غيرها و ان عوضها محفوظ عند الله يبعثه لها متي يشاء.
قطع شرودها تطفل ذلك المعلم مجددا عندما سحب كشكولها من جانبها يفتحه و يقرأ ما فيه فانتبهت هي و خلعت سماعات اذنها بسرعة و قامت من مجلسها تهتف و هي تحاول سحبه منه :
- ايه قلة الذوق دي؟ لو سمحت هاته.
ففتحه و هو يبعد يدها و قرأ بصوت مسموع جملة كانت قد كتبتها في مقدمته قبلًا :
- "عيناك علمتني أصول السلام، و عندما أحصَيت نبضات قلبك تَحَّفظت أبجدية العشق".. ايه ده انتي بتكتبي؟
زفرت في ملل و قالت و هي تحاول كبح رغبتها في نتف شعره الذي يصففه بطريقة غريبة :
- اه.. ممكن ترجعلي حاجتي بقي؟
فرفع حاجبا من عصبيتها و ابتسم و اومأ برأسه ثم مد يده بالكشكول و بمجرد وضع يدها عليه سحبه مرة اخري و قال و هو يشير بسبابته انه سيشترط عليه شيئا أولا :
- ممكن.. لا ثانية هنتفق علي حاجة الاول؟
فقالت بنفاذ صبر و قبضت علي يديها حتي جرحت باطن كفها بأظافرها و كل ما يأتي في ذهنها هو تطبيق دروس الملاكمة علي وجهه.
- اتفضل.
ضحك ضحكة قصيرة من منظرها وهي تجز علي اسنانها و كم بدت فاتنة في عصبيتها ثم قال :
- مالك؟ انتي عصبية اوي علي فكرة و انا مبحبش كدة.
فردت بتلقائية بما جاء في ذهنها و هي تتململ في وقفتها :
- خلاص حضرتك ممكن متتعاملش تاني معايا.. سهلة و بسيطة.
فابتسم ببرود و قال و هو يرفع صوته محاولا تقليد صوتها
- بس انا عايز اتعامل مع حضرتك تاني.
- ممكن حضرتك تقول ايه الاتفاق بسرعة.
- نبقي صحاب.
حركت رأسها بتحاول ان تستفهم عن ماذا يتحدث هذا المخبول.. أي صداقة يمكن أن تجمع فتاة في السابعة عشر و رجل اربعيني؟!.. قالت بعدم فهم :
- مش فاهمه حضرتك.. صحاب ازاي؟
جلس و اشار بيده ان تجلس بجانبه و لكنها ظلت واقفة علي وجهها علامات استفهام كثيرة فتنهد و قال :
- طب ممكن تقعدي و انا هفهمك.
- لا مش عايزة اقعد.. عايزة افهم.
- طيب براحتك بس انا مش هتكلم غير لما تقعدي جمبي.
قالت و هي تلملم حاجياتها و تسحب منه كشكولها :
- تمام براحتك متتكلمش و انا كمان ماشية.
قال و هو يجذبها من مرفقها بسرعة فنفضت يده من عليها :
خلاص خلاص هتكلم.
قالت في عصبية :
-قبل اي حاجة ممنوع اللمس نهائي في التعامل ما بينا.
- ده انتي معقدة بقي.
- مسمهاش معقدة اسمها حرية شخصية.. و اتفضل قول عايز ايه لان فاضل علي ال Break عشر دقايق و تخلص.
- تمام.. بكل بساطة انا معنديش صحاب و شوفتك و عجبتيني.. بس عايزك صاحبتي.. متعرفيش يعني ايه صحاب؟
رطبت شفتاها و زفرت تحاول الهدوء و قالت متخصرة :
- لا عارفة يعني ايه صحاب كويس... بس عايزة اعرف حضرتك مفهومك ايه عن الصُحوبية.. و بعدين يعني ايه عجبتك ؟
- أولا عشان نبقي صحاب مينفعش كلمة حضرتك اللي لازقه في كل جملة دي.. قوليلي يا ناير عادي و انا هقولك يا تولين عادي برضو.. ثانيا صحاب بمفهومي يعني نتكلم مع بعض نخرج مع بعض نحكي و نتشارك تفاصيل يومنا احكيلك عن حياتي تحكيلي عن حياتك.
استوقفته بيدها و قالت باستخفاف :
- ثانية بس مين قال لحضرتك اني عايزة اعرف تفاصيل عن زوجة و اولاد و بيت و مسئوليات.
فوضع قدمًا علي اخري و اسند عليها كوع احد يديه و اسند ذقنه علي يده و قال :
- و مين قال اني هحكي علي اللي انتي قولتيه ده.
- حضرتك.
- لا انا مقولتش كدة خالص.
- اومال ايه هي تفاصيل حياة واحد في سن حضرتك غير زوجة و بيت و أولاد.. ولا حضرتك مش متجوز.
فابتسم و ذقنه و قال و هو يومأ غامزًا :
- لا متجوز طبعًا.. هو ينفع راجل زيي يعيش من غير جواز.
تغاضت عن تلميحه و قالت تحاول انهاء هذا الحوار عديم الفائدة :
-خلاص انا مش بجد متعة في التفاصيل دي بصراحة فأسفة عرضك مرفوض.
- و مين قالك اني معنديش تفاصيل تانيه احكي عنها؟
- السؤال المفروض يكون اشمعنا انا اللي هتحكيلي.
- عجبتيني زي ما قولتلك.
- دي مش إجابة كافيه.. يعني ايه عجبتك ؟
- يعني حسيت بحاجة ناحيتك.. حسيت اني عايز اتكلم معاكي انتي.. فيكي شيء جذاب
فقالت بنبرة تهكمية :
- أُعجبت بيا مثلا.
- تنكري انك جميلة و زي القمر.
فرفعت حاجبًا جميلًا و قالت بنبرة مفعمة بالثقة :
- لا انا متأكدة اني جميلة.
فضحك ضحكة عالية و صفق بيده و هو يطري عليها :
- لا براڤو.. ايه الثقة فالنفس دي كلها.
كانت ستتحدث و لكن دق الجرس معلنًا انتهاء الاستراحة فلحقها هو و قال :
- نكمل كلامنا بكرة.. ولا اقولك بلاش بكرة نخليها بليل.
و سحب دفترها مجددا يخط به رقم هاتفه ثم اعاده لها و غمز بابتسامة و رحل فتأفأفت و حدثت نفسها بصوت مسموع :
- هي نقصاك انت كمان.
❈-❈-❈
بعد انتهاء الحصة الاخيرة في اليوم الدراسي ل"ناير" في احدي فصول الصف الثاني الثانوي نادته "ندي" و علي وجهها ابتسامة تستأذنه في ان يشرح لها جزئية ما فأومأ بتلك البسمة الخاصة بفرائسه و بدأ يشرح لها باستفاضة و يطنب في الشرح حتي تقف معه وقت أطول و يسألها و تجاوبه فيستغل فترة إجابتها في فحصها فحص شامل بعينيه البنيتان الخبيرتان.. فتاة متوسطة الجمال ببشرة بيضاء، لديها أنف صغير جميل يشبه الدمي، و حدقتان بُنيتان محببتان للنفس.
بعد ربع ساعة تقريبا قال "ناير" :
- ها فهمتي؟
فأومات بابتسامة حلوة و قالت :
- اه يا مسيو.. الحقيقة طلع اسهل مما انا متخيلة.. شكرا لوقت حضرتك.
اقتبس من حديثها و قال بمرح :
العفو لحضرتك.
فضحكت بخجل و إستذنت و رحلت فاستطاعت عيناه تقييم باقي قوامها الذي كان مبهر للغاية.
❈-❈-❈
نزلت زينب من باص المدرسة أمام مبني منزلهم و نظرت لاعلي اتجاه نافذة شقتهم تتمني ألا تصعد، ثم نظرت للسماء تدعو الله أن ينجدها، ثم دخلت المبني و من المدخل للمصعد الذي استقر أمام شقتهم فتحت الباب و دخلت و ألقت السلام علي أمها ثم جرت إلي غرفتها بسرعة رافضة تناول الغداء لأنها مرهقه و تريد النوم.. دخلت غرفتها و وضعت حقيبتها أرضاً و اخذت ملابس بيتية طويلة واسعة من خزانة الملابس و خرجت من الغرفة لتذهب للحمام.. بعد قليل عادت و دخلت غرفتها و أغلقت قفل الغرفة من الداخل و بمجرد استدارتها رأت اخيها "حمزة" الاكبر منها بستة سنوات، فصرخت من المفاجأة فاقترب منها قبل أن تخرج صرختها يكتم فمها و هو يهمس.
- اهدي اهدي ده انا.
تعالت أنفاسها و تعالي صوت دقات قلبها و كم تريد أن تخبره أن المشكلة هو أنك أنت من بالغرفة.. انتظر قليلا حتي تهدأ أنفاسها ولكن هيهات. رفع يده عن فمها ببطيء و كوب وجهها بين كفيه يمسد وجنتيها بإبهاميه.. ثم مرر إبهامه علي شفتيها و همس بحرارة :
- كنتي بتبقي صاحية بليل صح.
فارتجف جسدها و نزلت دموعها قهرًا فتأتأ بفمه ثم اكمل همسه و هو يمسح دموعها بأصابعه :
- بتعيطي ليه بس.. بصي هننبسط سوا تمام.. متعيطيش بقي.. اه صح لو قولتي لحد محدش هيصدقك فياريت تفضلي حلوة كدة و ساكتة.. انا جبت حاجة حلوة نقعد نتفرج عليها سوا.. ماشي.
فتركها و ابتعد قليلا فوجدت حاسوبه المحمول مفتوح و موضوع علي سريرها و يوجد مقطع فيديو متوقف فنظرت في الشريط الممتد أعلي الشاشة لتري اسمه.. فوجدته احد المقاطع المحرمة محتواها عن المحارم..
يتبع.