-->

الفصل الرابع - أشواك وحرير




الفصل الرابع


 جدال الرجال لا يُثبت شيئاً إلا أمانيهم

                                             
           
” تشارلز كاليب“
                          
•~•~•~•~•  


بإحدي المناطق الراقية بمدينة القاهرة

تجلس في حديقة المنزل سيده طويلة القامة نوعاً ما في منتصف العقد السادس من العمر تحتسي قهوتها الساخنة بملامح جامده لا يظهر عليها أي مشاعر ...إقتربت منها الخادمة لتقول بتهذيب

_مدام هالة ...مدام ناريمان طالبة تشوف حضرتك

اومأت هالة بالموافقة وتحدثت بنفس جمودها

_دخليها الصالون وشوفيها تشرب إيه وأنا جاية وراك .

هزت الخادمة رأسها بطاعه وأسرعت لتنفيذ أوامر سيدتها .

       ❈-❈-❈            

دلفت هالة إلي الصالون لتتفاجئ بملامح ناريمان المستاءة و التي لا تبشر بالخير فجلست هالة في مقابلتها واضعة قدم فوق أخري وسألتها بإستعلاء :

_خير يا ناريمان؟! ...يا تري إيه هو سبب الزيارة دي ؟

رمقتها الأخري بسخط لترد عليها بسؤال آخر متهكمه

_وهو لازم يكون فيه سبب يا هالة علشان أجي أزور أحفادي!

فطالعتها هالة بإستخفاف وسخرية في آن واحد :

_أحفادك!... دلوقتي افتكرتي إن لكِ أحفاد ؟...مش دول اللي أنتي سبتيهم وقولتي ربوهم أنتو؟!

توسعت أعين ناريمان بذهول وهتفت بعدم تصديق:

_أنا كنت بتعالج بره بقالي سنتين وكان جوزي الدكتور خالد كان معايا ،وده أبداً مش معناه إننا بنرمي ولادنا
ثم سألتها بإستنكار :

_هو أنتي كنتي عاوزاني أخدهم معايا وأنا بتعالج علاج نفسي ؟!

مازالت هالة تطالعها بنفس النظرات المستخفة والغير مصدقه لتشعر الأخري بالضيق يتعالي بداخلها من هذه المرأة المتعجرفة وكادت أن تعنفها علي سخريتها اللاذعة منها لترد هالة ببرود صقيعي :

_والله إحنا اللي وصلنا منكم إنكم مش عاوزين الأولاد ومحدش فيكم قالنا إنك بتتعالجي .

هبت ناريمان واقفه وقد علي صوتها في وجه الأخري بإنفعال

_نقولك إيه يا بني آدمه أنتي ؟..بنتي الوحيدة أتخطفت في عز شبابها وسايبه ولدين لسه في إبتدائي ملحقتش تفرح بيهم عاوزاني أكون فايقه أستأذنك إني مش قادره اتحمل موت بنتي وهتعالج علشان موصلش للإنتحار ؟!

مع كل كلمة كانت تنطق بها كانت تذكرها بمراسم تشييع إبنتها إلي مثواها الأخير ،لتشعر وكأن أحدهم ينحر في قلبها بسكين بارد فلا يتوقف قلبها عن النزيف.. فتجمعت علي عينيها غمامة من الدموع شوهت الرؤية أمامها وتحشرج صوتها...بينما هالة لم يرف جفن ولم يظهر عليها أي شفقة علي تلك المرأة المسكينة التي فقدت وحيدتها فسارعت بتحذيرها بإنفعال مشيره بسبابتها في وجهها :

_أوعك مره تانيه تعلي صوتك أنتي هنا في بيت محترم .

أمسكت ناريمان دموعها بصعوبة وصاحت في وجهها هي الأخري :

_لا أعلي صوتي براحتي...أنا مش جايه أشحت منك..أنا جايه أشوف ولاد بنتي الله يرحمها ولازم أشوف مالك رأيه إيه هو كمان.. يإما ورحمة بنتي لهخدهم وبالقانون .

دلف مالك الغرفة بسرعه حينما سمع صوت والدته تتشاجر ،وسرعان ما تجمد مكانه حينما شاهد والدة زوجته المرحومة والتي أختفت من مصر منذ عامان فأخذ يُطالعها قليلاً بعدم تصديق ،ولكن سرعان ما عاد لوعيه واتجه نحوها يقبل رأسها بحنان :

_ طنط هاله!!..حضرتك عاملة إيه؟..وكنتي مختفيه فين كل ده؟
ربتت علي ذراعه بحنان وقامت بقص عليه كل ما حدث لها من بعد موت إبنتها بشهور ليعلم أنها دخلت في حالة إنكار شديدة كما أُصيبت بالإكتئاب الحاد فقام زوجها خالد بإنجاز أوراقها للسفر إلى إحدى المصحات النفسية في ألمانيا بالإضافة إلى إستأصالها لورمٍ خبيث....فطالعها مالك بشفقه واضحه علي تلك المسكينة التي كانت تعاني وبشدة في نفس الوقت الذي كانت أمه تحرضه ضددها بأنها امرأه ليس لديها أدني شعور بالمسؤولية ،وقامت بالتخلي عن أحفادها حتي كاد أن يصدقها بالفعل..رمق والدته بعتاب واضح فأشاحت بوجهها عنه بخزي بعدما افترت علي الأخري...بينما تحدث إلي السيدة ناريمان بهدوء وهو يحتوي كفيها بين يديه العريضة :

_أنا أولاً مكنتش أعرف بكل ده... ثانياً أنا ميرضنيش إنك تتحرمي من ولاد بنتك الله يرحمها...فهم هيفضلوا عايشين معايا عادي و...

كادت أن تقاطعه ليمنعها بنبرة جادة صارمه لكنها لينه :

_استني لو سمحتي أنا لسه مخلصتش اللي هقوله، وبعدين هسمع شروطك .

فأومات برأسها ليستكمل حديثه بجديه :

_زين وكريم هيفضلوا عايشين هنا ،ووقت ما حضرتك تحتاجي تشوفيهم أنتي أو جدهم أنا مش هعترض أبداً ،وليكِ مطلق الحرية تقابليهم في المكان اللي تحبيه...إيه رأيك ؟

ظهرت عليها معالم التردد لترد عليه بتلعثم :

_بس يا ابني أنا كنت عوزاهم يعيشوا معايا أنا ودكتور خالد .

أجابها معارضاً بإصرار لين :

_بس أنا مش هقدر أسيبهم يعيشوا بعيد عني.... أنا قولت لحضرتك اللي عندي..حتي لو عاوزه يباتوا عندك يومين كل فترة برضه أنا مش هعترض بس يفضلوا هنا معايا أنا موفر لهم كل حاجه بيحتاجوها ده غير إنهم مش هيوافقوا يسيبوني.

ألقت نظراتها بتردد نحو هالة الجالسة في صمت وقد تركت زمام الأمور كاملة تحت تصرف إبنها ، ففهم مالك نظرات ناريمان المتشككة نحو والدته ثم نظر لها بدعم وكأنه يخبرها "لا تقلقي فأنا وعدتك"

أخذت تفكر ناريمان بضع ثواني تحت أنظار كلاً من مالك وهالة فوجدت أن عرضه مغري خاصة إلى أنها لن تستطيع الإلتزام الكامل بالأولاد في ذلك العمر حتي وإن كان لديها مساعدات في المنزل بالإضافة إلى أن الأولاد لن يوافقوا علي مغادرة أبيهم فوافقت على مضض.

             
 ❈-❈-❈         

كعادتها من الصغر تجلس على سطوح منزلها لتطلع للنجوم التي تمثل لها أحياناً الطموح .. فلطالماً أعطتها الأمل بأن غداً أفضل من اليوم وأن ما سيأتي لابد أن يكون أفضل مما مضي وأحياناً أخري تمثل لها  الصديق فـ تشكي إليها بنظرات صامته ما لا تستطيع أن تبوح به حتي بينها وبين نفسها أغمضت عينيها شاردة في أحداث اليوم تتذكر حديثه واستجدائه إليها !

منذ بضع ساعات

خطت خطواتها للخارج بعصبية كعاصفة هوجاء هبت علي إحدي المدن الساحلية في ليالي ديسمبر الغائم يتبعها كلاً من شقيقها ووالدتها بينما أختفت رنا خلف الأبواب تتربص لذلك الإعصار الذي كاد أن يفتك بما حوله...وقفت روان بشموخ وحدقت فيه بنظرات إنزعاج واضحه تماماً ثم كتفت ذراعيها أمام صدرها وسألته بإقتضاب :

_خير ؟

لم تظهر علي والدها أي إشارات بالصدمة فلقد اعتاد على حديثها الجاف معه منذ أن وطأت قدماها مرحلة المراهقة...يعلم جيداً أنها لا تهابه علي العكس تماماً من أمها وأخوتها الذين لا يجرؤ أحد منهم بالنظر في عينيه...لقد كان جفائها معه دائماً ما يشعره بالضيق والغضب لأنه مازال يعتقد أنه كان يعاملها كمدلله علي النقيض تماماً من أخوتها لكن الآن لا ينكر أنه  يُعطيها عذرها فهو لم يترك لها أي ذكري حسنه تشفع له عندها فرد عليها مراوغاً بسؤال آخر يحمل بين طياته الإستنكار :

_وهو يعني لازم يكون فيه سبب علشان أجي أزور بنتي ؟!

انفجرت ضاحكه بقوة وقد تعالي صوتها ليهز أركان البيت بمجرد أن لفظ كلمته الأخيرة تحت أنظار يحيي الذي أخذ يتابع الحوار في صمت شديد أما والدتها فكادت أن ترد عليه لكن سرعان ما قاطعتها روان
وسألته مستنكرة بخفوت وسخرية :

_بنتك؟!...ده بجد ؟

قالتها وعادت للضحك مره أخرى ،لكن تلك المرة ضحكت بوجع مرير ثم سألته بسخرية من جديد :

_هو مش أنت برضه طردتني من سنين واتبريت مني ؟!

رد عليها بنبرة حانيه اعتادت عليها... فلطالماً استخدمها ليحصل علي مراده ،وسرعان ما وأد تلك الحنية بداخله :

_وجيت النهارده امد لك إيدي من تاني ..أنا برضه أبوكي ومهما حصل الضافر عمره ما يطلع من اللحم !

خانتها دموعها هذه المرة وانهمرت على وجنتيها كينبوع من الماء الساخن ولم تستطع أن تتحكم بها فأردفت بجمود من بين دموعها :

_ عمري أبداً ما هنسي لما قولتلي روحي اتعالجي بعيد أنا مش هأكلك وأعالجك كمان...فجو الأب وبنته دي مش لايق علينا ويلا قول جاي ليه ؟

زيف ملامح الإنكسار ببراعة وهتف كالمغلوب علي أمره :

_يابنتي أنتي ليه مش مصدقه إني مكنش معايا فلوس ؟!..هي مرتبات الحكومة هتكفي إيه ولا إيه؟
وبعدين ما أنا عملت كده علشان خالك يساعدنا ،ما هو برضه معاه فلوس كتير .

فنظرت لوالدتها نظرة ذات مغزي وكأنها تخبرها "أرأيتي ؟..إنه يحقد علي أخيكِ الصغير " ...ثم عادوت النظر إليه بتهكم :

اومال إيه أنا مستور وهموت مستور ؟!

ثم أولته ظهرها وأغمضت عينيها تتنفس بعمق في محاولة مستميتة منها للتحكم في دموعها التي تعلم أنها ستهطل مجدداً على حديثها القادم ،ومضت دقيقة وهو مستمر في الإدلاء بأعذاره الواهية فألتفتت إليه لتردف ببرود وكأنها لم تكن حقيقة قاسية عايشتها يوماً ما هي وأخوتها :

_أنا كنت بنام أيام جعانه أنا وأخواتي ومش بنرضي نقولك إن الأكل مكفاش علشان متشيلش هم .

أطلقت ضحكة عاليه ليتعجب هو كيف تضحك في مثل هذا الموقف وقد شعر أنها جُنت بالفعل فرفع يديه ليلوح في وجهها وقطع صوت ضحكاتها بصياح :

_ أنتي اتهبلتي باين كده ...انا عمري ما حرمتكم من حاجه !

فعادت ضحكاتها تتعالي من جديد ليشعر هو بالغيظ من برودها المستحدث فيبدو أنه لن يحصل منها على أي شئ وستبيت زيارته بالفشل ،وأردفت بنفس السخرية والبرود وكأنها تقص عليه حكاية ما قبل النوم  : 

_أب كل كام شهر يدخل شقته المخبرين والعساكر يسحبوه من وسط ولاده في نص الليل ويروح يتسجن ويمرمط مراته وراه في الإقسام والسجون ،وكل ده ليه يا تري ؟... علشان خاطر أخوه نصاب وأنت اللي ضامنه عند الناس فتتسجن أنت وتجيب لنا العار وهو يعيش ملك زمانه والناس يشاوروا علينا إن أبونا نصاب لغاية ما تدبرلهم الفلوس...كان بيكون معاك فلوس وقتها تسددله بس مش معاك لعلاجي صح ؟...ده غير طبعاً دهب أمي اللي خدته اديته لأخواتك...أحب أقولك إن عمري ما كان ليا أب ولا هيكون ليا......

انتفضت من مكانها بعنف بعدما شعرت بتلك اليد التي ربتت علي كتفها لتستيقظ من دوامة شرودها ،وضعت يدها أعلي قلبها حتي تُهدأ من روعها ونظرت إلى أخيها بلوم :

_خضتني يا يحيي .

سألها بإهتمام

_كنتي بتفكري في إيه ؟

عادت للنظر أمامها مرة أخرى لتلمح السيارات من أعلي المبني وتكلمت ببساطة :

_في اللي حصل النهارده...أنت إيه رأيك ؟

ضيق عينيه وسألها مستفسراً :

_عاوزه الحق ولا ابن عمه ؟

فألتفتت إليه بإهتمام وقالت بصدق :

_أكيد الحق طبعاً ،وأنت عارف إني مش بقبل غير بيه!

_بصراحه هو يستاهل بس أنتي برضه كنتي قاسية عليه أوي .

_كنت عاوزني اعمل ايه بعد كل اللي عمله معايا زمان؟...ده طردني في الشارع وهو عارف إني محتاجه علاج ولسه مكملتش دراستي لولا خالك اللي فتحلي بيته وعاملني كأني بنته...متقساش عليا يا يحيي أنت أكتر واحد عارف أنا مريت بإيه علي إيده .

أراد تغيير دفة الحديث لأنه يعلم أنها تتحسس بسهولة وهو لا يريد إزعاجها بالمزيد بعد رؤية والدها اليوم فسألها مراوغاً :

_قوليلي أنتي قاعده فين دلوقتي؟

نظرت إليه متعجبه لسؤاله الساذج ،وابتسمت بعدم تصديق :

_يا بجاحتك والله وأنت مش عارف أختك قاعده فين .

كاد أن يبرر سبب عدم معرفته فرفعت يديها لأعلي ولأسفل بمعني "يكفي" وردت عليه مسرعه :

_قاعده في الزمالك يا سيدي ... شقتي في مدينة نصر فيها تصليحات...فقاعده في الزمالك الفترة دي.

هز رأسه بتفهم ونظر أمامه بشرود تام لتلاحظ هي تبدل حالته فألتفتت إليه وسألته بإهتمام :

_مالك ؟

تردد في إخبارها بما يجيش في صدره ويعكر صفو مزاجه ،لكنها حسته بقوه على مواصلة الحديث فرد بهدوء يناقض تماماً تلك النيران المندلعة بقلبه :

_رنا جاي لها عريس .

فضيقت عينيها وسألته بإهتمام :

_طب وخالك ومراته رأيهم إيه ؟

رفع حاجبيه بجهل وتمتم بقلة حيلة :

_لسه مش عارف .

فعادت تسأله بإهتمام وترقب :

_طب أنت جاهز تخطبها ؟

نكس رأسه لأسفل وشعور بالعجز التام يعتريه بالإضافة إلى شعوره بالخوف من خسارة حبيبة عمره ورفيقة دربه فردت عليه بصدمة :

_أحيه ...اومال فين فلوس الكافيه ؟

صُدم عندما تفوهت شقيقته التي تُعد من الطبقة المخملية بذلك اللفظ البذئ من وجهة نظره والذي يُعد جريمة نكراء في حقه وطعنه قاسية لرجولته من التفوه بتلك الألفاظ فقبض علي ذراعها بقوة وسألها عاقداً حاجبيه :

_أنتي قولتي ايه؟

نقل صدمته إليها للتفاجئ هي من حالته تلك فهي لم تخطئ بشئ وكادت أن تبرر له ولكنها نفضت الفكرة عن رأسها ونفضت ذراعها منه بقوه ،ثم رمقته شزراً ورفعت سبابتها في وجهه وصاحت فيه بتحذير :

_إياك تفكر إنك تمد إيدك عليا ومتنساش إني أنا الكبيرة وعمري أبداً ما هتهان واسكت!

قالتها بنبرة جهوريه وعاودت النظر لإسفل مره أخري وكأنه غير موجود ولم تهتم بنظراته التي تحمل الكثير من الضيق ...وشعر هو بالندم لتسرعه فزفر حانقاً وبرر لها ما يدور بعقله :

_بصي يا روان ..أنا عارف إن الكلمة مفيهاش حاجه وحشه ..بس لو أنتي قاعده مع حد غريب وقولتيها هياخد عنك فكرة مش كويسة لأنها خلاص بقينا بنستعملها إنها وحشه .

ألتفتت إليه ترمقه بصمت ثم تحدثت بعتاب بالغ

_عندك حق واهو أخويا اهو فعلاً خد عني فكرة مش كويسة..

ثم عادت للنظر أمامها بملامح متجهمه فلكذها في ذراعها وتحدث مدعياً الجدية بتهديد :

_لو مفردتيش بوزك ده ...هكسر الشباك الإزاز اللي قدامك ده وهجري وأنتي تلبسيها وشوفي بقي منظرك هيبقي ايه وأنتي في السن ده وبتحدفي طوب علي الجيران!

تطلعت إليه بإستخفاف حقيقي ولكن سرعان ما تملكتها الصدمة وتسمرت في محلها عندما فاجئها بإلقاء حجر علي الشرفة المقابلة لهم وفر هارباً بسرعة البرق الخاطف في ليلة رعدية ...لمحت ظل يقترب خلف الشرفة فهبت مسرعه كمن لدغها عقرباً ساماً فتعثرت قدمها وخرت ساقطة علي وجهها في مياة الطيور المنزلية .

                   
    ❈-❈-❈

يتعالي صوت الموسيقي الصاخبة،يلتصق بعض الشباب بفتيات شبه عاريات أقل ما يقال عنهم عاهرات والبعض الآخر يجلس في ركن هادئ يتعاطي الخمور والمخدرات في سكون شديد ...رفعت ميرا أنظارها إلى مازن ابن عمها وسألته بنبره مرتفعه :

_مالك اتأخر ليه ؟

سأم كثيراً من إهتمامها الظاهر للعيان بصديقه فأخذ بضع رشفات من عصيره البارد وتكلم ببرود صقيعي لم تستسيغه هي :

_زمانه جاي .

رمقته شزراً وعاودت التمايل في كرسيها علي أنغام الموسيقى ،ولكن سرعان ما لوحت للقادم بإتجاههم وهبت واقفه لإستقباله وقامت بتقبيل وجنتيه تحت أنظار مازن الساخطة والذي بدأ يشعر بغليان الدماء في عروقه...فجلس مالك وقام بسرد عليهما مقابلته مع ناريمان والتي أنتهت بحصوله على حضانة أبناءه...فأثني عليه صديقيه وشعوراً بالشفقة يراودهما علي ما حدث لتلك السيدة الحنون...فغير مالك دفة الحديث :

_إيه يا ابني ملقتش غير الأماكن المشبوهة دي ونتقابل فيها ؟!

استفسر مالك بسخريه ،فوجه مازن أنظاره نحو ميرا الجالسة بجانب مالك بمعني هي السبب... فهم مالك بسؤالها عن سبب رغبتها لدخول تلك الأماكن لتتحدث هي بلهفة موزعه نظراتها بينهما :

_أنا هعمل عيد ميلادي هنا الأسبوع الجاي ...إيه رأيكم في المكان يجنن صح ؟

تبادل كلاً من مازن ومالك النظرات المتحيرة فبادر مازن مقترحاً بنبرته الهادئة الرصينه فهو يعلم أن العناد لن يؤتي بثماره معها :

_طب وليه منعملوش في أي فندق seven stars ؟

قامت من مجلسها ووقفت أمامه مباشرة ،ولفت ذراعيها حول عنقه متحدثه بدلال أنثوي يعد جزءاً لا يتجزأ من شخصيتها :

_بس أنا عوزاه هنا ووعدت أصحابي.... علشان خاطري يا مازن أنا بقالي كتير مش بطلب منك حاجه.

نظر لمالك بتردد ليومأ له الآخر بالموافقة فلم يجد مازن بدُ للرفض...فأبتسم لها مازن إبتسامته الساحرة فلفت ذراعيها حول خصره تحتضنه بموده وإمتنان وقبلته برقه علي وجنته...كان تصرفها عفوي حقاً لكنها لم تعلم ذلك المارد الذي أيقظته بداخله من جديد فلقد حارب لسنوات لإخماده قليلاً ،لتأتي تلك المتهورة وتوقذه من جديد فيتجدد أمل بداخله للحصول عليها .

               
    ❈-❈-❈

استيقظت روان بسبب حالة الهرج والمرج في شقة خالها فتأففت بإنزعاج من تلك الضوضاء القادمة من الخارج ....فتحت إحدى عينيها تنظر في الهاتف لتجد أن الساعة أقتربت من الثانية ظهراً ...فأستقامت تحرك جسمها بعض الحركات حتي يدب بها النشاط ثم غيرت ملابس نومها بأخري منزلية مريحة وخرجت لصالة البيت .

كانت والدتها تضرب علي النوافذ الخشبية وجارتهم أم عبده تقوم بمسح الأرضية فبمجرد رؤية روان صاحت الآخيرة تزغرد بفرحه عارمه واقتربت منها تقبل وجنتيها بحرارة :

_صباح الخير يا عروسه...أنتي نموستيك كحلي ولا ايه بقي كل ده نوم بردك ؟

غلب عليها نظرات عدم الفهم ثم أستفهمت من والدتها :

_إيه اللي أنتو بتعملوه ده يا ماما ؟

فردت عليها سهير بتوتر :

_عادي بنضف يا روان...المهم أنتي اجهزي عشان فيه ضيوف جايين هنا بالليل .

فسألتها روان بإرتياب وقد بدأت تتشكك في أمر والدتها :

_ضيوف مين ؟

همت أم عبده بالرد عليها بسعادة غامرة  فأوقفتها سهير مدعيه كثرة إنشغالهم بأعمال التنظيف وردت علي ابنتها بتأفف مزيف :

_يوه عليكي يا روان هو أنتي يعني تعرفي كل اللي في البلد !.. وبعدين سبينا بقي نشوف ورانا.....

قاطعهم دخول خالها محمود والذي كان يحمل كثير من الشنط البلاستيكية من إحدى محلات الحلوي الشهيرة فكان من السهل عليها التعرف عليها...ثم أقترب من روان مقبلاً رأسها بحنان أبوي :

_مبروك يا حبيبة خالك!

وزعت أنظارها بين ثلاثتهم بصدمة وقد بات يتأكد حدسها فسألته بتوتر :

_مبروك علي إيه يا خالو ؟

رأي ملامح الصدمة حقيقية علي معالم وجهها ففهم سريعاً فعلة شقيقته بالتستر علي الخبر وعدم إخبار وحيدتها لتجعلها أمام الأمر الواقع وتجبرها علي مقابلة العريس فسأل شقيقته بإنزعاج :

_برضه عملتي اللي في دماغك ومقولتيلهاش ؟!

فردت سهير بتقطع ونبرة متردده :

_ما هو أأصـ....أصل ...هي مكنتش هتوافق .

_تقومي تتصرفي من دماغك ؟...فكراني إيه عيلة صغيرة تاخد الأوامر وبس!...مليش رأي أنا؟!...

كان هذا صوت روان التي صرخت في والدتها بإنفعال حقيقي.....فأمر محمود أم عبده بالإنصراف وربت علي كتف ابنة أخته بحنان وأخبرها بهدوء :

_أفهمي بس يا روان وبعدين قرري .

خللت شعرها بعنف وقد نفرت عروق جبهتها وردت بقلة حيلة :

_أفهم إيه ؟...إنكم عملتوني زي العروسة الماريونت تحركوها علي مزاجكم ولا كأني بني آدمه؟!...أنا هسافر ودلوقتي حالاً و اتصرفوا أنتو بقي .

ألقت قنبلتها بينهم وأتجهت نحو غرفتها لجمع أشياءها ...فأسرعت والدتها للحاق بها وتوبيخها علي تهورها في إتخاذ قرارها والذي سيضعهم بالتأكيد في موقف لا يحسدوا عليه مع الناس .

  
 ❈-❈-❈
          
          
  

في مساء نفس اليوم...وضعت لمسات بسيطة من مستحضرات التجميل وصففت شعرها بعناية وأخذت تتذكر ما أخبراها به عن ذلك العريس....يدعي المهندس عمرو في الثالثة والثلاثين من عمره ، يعمل خارج البلاد ومُطلق... تتذكر خضوعها في نهاية الأمر لمقابلته حتي لا يتعرض خالها للإحراج والذي وعدها بكل جدية وصرامة إنه لن يُجبرها علي الإرتباط به في حالة عدم موافقتها ولكن الأمر الذي لا يُشعرها
بالراحة حديث والدتها عن أسباب طلاقه :

_ده طيب وغلبان والله يا بنتي ،وطليقته منها لله زنت مع واحد قبل الجواز وخدعته ...فطلقها ليلة الدخلة!..يعني يعتبر متجوزش قبل كده!!

سمعت خالها يُطالبها بالدخول إليهم فدخلت بخطوات واثقه متمهله ،فلاحظت نظرات ذلك الغريب مسلطه عليها...شاب في مقتبل العقد الرابع متوسط القامة ونحيل نوعاً ما ذو بشرة سمراء محببه...لم تكن الدقائق الأولى من اللقاء سوي تبادل السلامات والإطمئنان علي أحوال بعضهم البعض بإهتمام واهي وسرعان ما بادر هو بالدخول في صلب الموضوع :

_أحب أعرفك بنفسي أنا عمرو عندي ٣٣سنه ..بشتغل مهندس مدني في دبي وعندي بيت هنا بتاعي غير بيت أهلي، ولو حصل نصيب أنا هسافر أول ست شهور لوحدي لغاية ما ارتب أموري هناك وأبعت لعمي يكتب الكتاب! ...أنا بس حابب اسألك سؤال قبل ما تكلميني عن نفسك..أنتي ارتبطي قبل كده بأي شكل من الأشكال؟

تعجبت بشدة من حديثه بشأن السفر فهذا يعني أنه لا ينوي إقامة أي من مظاهر الإحتفال ،ولكنها نفضت ذلك جانباً حينماً أستمعت لـ سؤاله الوقح والمتخلف كما وصفته في عقلها فهو لا يحق له أن يسألها عن ماضيها ولا تجاربها السابقة لكنها قررت الإجابة في نهاية الأمر :

_لا أنا عمري ما ارتبطت...بس بتسأل ليه؟

فتكلم بأسي :

_بصي أكيد والدتك قالتلك إني كنت ضحية خيانة!

ادعي التأثر ببراعه وأكمل حديثه تحت أنظارها المترقبة :

_أنا كنت بحب طليقتي جداً ،وعمري ما حرمتها من أي حاجة في فترة الخطوبة لكن أكتشفت إنها خاينه ورخيصة...كانت بتحب واحد قبل الجواز وزنت معاه قبل ما اخطبها...عرفت ده يوم دخلتنا فطلقتها عالطول!

كانت تستمع له بتركيز ولكن سرعان ما شعرت روان بالحرج عندما تطرق إلى هذا الحديث...لم يعجبها وقاحته ولا حديثه بشأن زوجته السابقة فمهما حدث يجب عليه أن لايفضح أمرها بين الناس!..فسألته بجرأة :

_طب ليه مسترتش عليها ؟!..ما ممكن كان غصب عنها أو تا....

قاطعها بنفاذ صبر وسألها بسخرية:

_وهو فيه واحده الأيام دي بتتغصب ؟..دي النسوان بقت **** من ******* .

_ايه الكلام اللي بتقوله ده ؟!

_الله! مش بقولك الحقيقة وبنورك؟!...أنا مش هنكر إني كان ليا تجارب سابقة..بس كل واحده منهم كانت بمزاجها.

يبدو أنه حقاً يوم الصدمات فقررت مجارته في الحديث لتخرج أكبر قدر من شخصيته ..حتي يتقبلوا سبب لرفضها فلا يقال عنها مدلله!

_طب ما أنت كان ليك تجارب سابقة برضه..فليه معذرتهاش ؟

فرد عليها بنبرة وقحة جافة لا تصدر سوي من ذكر شرقي أصيل لا يفقهه أي شئ عن الرجولة سوي أحرف الكلمة ولا يعرف من الدين سوي "مثني وثلاث ورباع " :

_أنا راجل محدش يحاسبني..لكن دي ست فاجرة زيها زي العربية اللي اتفتحت !!

إلي هذا الحد وأكتفت حقاً فقد أصاب حديثه معدتها وقد بدأت تشعر بالغثيان... وقد علمت أي حياة تنتظرها مع ذلك النرجسي الذكوري الحقير ، وانتبهت لنبرته المهتمة :

_أنتي مش هتعرفيني عن نفسك؟!

استقامت واقفه بشموخ ونظرت في عينيه مباشرة للمرة الأولى منذ بدء اللقاء ،وكتفت ذراعيها أمام صدرها :

_لا ما هو إحنا معندناش جواري للجواز...أنت ممكن تسأل سوق عكاظ لسه شغال ولا لا .

لم يصدق حديثها الساخر والمهين لرجولته الواهية فأخبرها بتبجح:

_ ما تقولي بقي إنك من النواشذ بتوع اليومين دول!..لا وكمان بتدافعي عن ****** ما تلاقيك مدور....

قاطعته بصرامه :

_كلمة كمان وهنشر الڤويس ده علي كل موبايلات البلد!
واتبعت تهديدها بإخراج هاتفها المحمول تلوح به أمام وجهه بتشفي ليرمقها بغل وتحدث بفحيح مرعب :

_وكمان بتسجليلي؟!...أنا هندمك علي اللحظة اللي شوفتيني فيها

قهقهت عالياً بإستخفاف ليخرج خالها ووالدتها وأخيها علي صوتها العالي :

_وكمان تهديد مع الفضيحة!

سحب والدته من ذراعها وفر مسرعاً للخارج بدون التفوه بأي كلمة...فأستفسر خالها بقلق عن ما حدث.. لتقص عليه كل حرف دار بينهما منذ قليل...ولم تسلم من نظرات والدتها الساخطة نحوها ولا توبيخها المدقع :

_عجبك اللي عملتيه ده يا ست هانم؟!..هنعمل ايه إحنا لو افتري عليكي بكلام فارغ؟!

حاولت روان تهدئة الأوضاع وطمأنة والدتها :

_متقلقيش يا ماما هيخاف لأني هددته بالتسجيل.

_وهو أنتي كنتي سجلتيله بجد يا شملوله ؟

حاولت تمالك أعصابها حتي لا تنفعل أمام خالها :

_ لا مسجلتش دي كانت حركة بس علشان أخوفه وميتكلمش فمتقلقيش ده جبان ومش راجل أصلاً..فهيخاف يتكلم ليتفضح .

                        
   ❈-❈-❈

لم تنجح محاولات خالها أو أخيها عن إثناءها عن قرار سفرها في الليل بمفردها...فكان من المستحيل عليها البقاء خاصة بعد حديث والدتها الجارح لها ولأنوثتها بأنها أصبحت عانس عبءٍ علي المجتمع...أمامها بضع سنوات فقط وستصبح أرض بور غير صالحة للزواج أو الإنجاب...وصلت أسفل عمارتها القاطنة بها في الزمالك لتجد البواب يسارع نحوها بلهفه :

_علي فين يا ست هانم...مش هينفع تطلعي الشقة .

فسألته بإهتمام :

_ليه يا عم إبراهيم ؟!

_من بعد ما مشيتي امبارح ومواسير المياة ضربت عندك في الشقة والشقة غرقت!

رمشت بأهدابها عدة مرات تحاول إستيعاب الأمر :

_طب وليه مقولتليش؟

فرد عليها بلامبالاة :

_أنا قولت بلاش أقلقك وعلي ما الأسبوع يخلص وترجعي هتكون السباكة اتصلحت .

زفرت بحنق :

_طب وأنا هعمل ايه دلوقتي...ده إحنا بقينا الساعة واحده؟!

_علمي علمك يا بنتي...اتصرفي بقي.

قال جملته الأخيرة بلامبالاة واتجه نحو الداخل تاركها بمفردها...فأستندت بكوعها علي سيارتها ونكست رأسها أعلي كفها تفكر في أي ورطة وضعت نفسها بسفرها في ذلك الوقت المتأخر من الليل ،وفاجئها هاتفها بمكالمة واردة من أخر شخص تتوقع إتصاله الآن!

#يتبع