-->

الفصل الثامن عشر NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثامن عشر ج1


 

الفصل الثامن عشر 
(الجزء الأول)



قالت لي أمي ذات يوم:
ثمة نوعان من الرجال سوف تلتقين بهم في حياتك؛
سوف يمنحك النوع الأول الحياة التي ترغبين فيها..
وسيمنحك الثاني الحب الذي تتوقين له..
إذا كنتِ واحدة من المحظوظات ستعثرين على النوعين في رجلٍ واحد..
أما إذا وجدتي نفسك في موضع اختيار..؛
فاختاري الحب..!!
-لانج لييف-
•¤•¤•¤•

- هاي .. صباح الخير.. ما كل هذا النوم أيتها الأميرة؟!
رفرفت فريدة بأهدابها لتنفض عن عينها الضباب الأبيض الذي يُغشيها، حينما سمعت هذا الهمس الأنثوي المألوف من قرب أُذنها .. لتتضح الرؤية بعدها وتستقر على وجه سارة صديقتها .. كانت تمسح على رأسها باستمرار، تسألها عن حالها وتحثها على اليقظة، حاولت الرد لكن لسانها كان ملتصق بسقف حلقها بطريقة مؤلمة، لذا اكتفت بهز رأسها بإيمائه خفيفة جعلت سارة تتنفس براحة .. اتسعت ابتسامتها عندما رأت فريدة تحول رأسها مستغربة الغرفة حولها، وقد بدأت تدرك أنها بالمشفى، ليتشوش كل شيء بذهنها أكثر، خاصة حينما وقعت عينها على مراد الذي يغفو على كرسي بالقرب منها .. مما أثقل جفونها مشجعًا إياها على العودة للنوم، هامسًا بأنها ليست مستعدة لهذا اللقاء..!!
- إنها أول مرة أراه ينام بهذا الشكل منذ اختِطَافك .. يبدو أنه قد يأس من استيقاظك بعد أكثر من ٤٨ ساعة نوم أيتها الجبارة!!
همهمت سارة باغتباط مشيرة لأخيها النائم بالجوار، وكان كافيًا لجفاء النوم عنها، هل نامت حقا كل تلك المدة؟! .. تبًا، ترى ماذا حدث؟؟ .. حاولت فتح شفتيها وكل علامات الاستفهام بادية عليها، لتربت عليها سارة وقد خمنت ما تريد أن تسأله فريدة:
- اطمئني .. ليس بكِ شيء .. الطبيب أخبرنا أنك فقط مجهدة وتحتاجين للراحة .. الحقيقة كلنا نحتاج للراحة بعدما انتهت المحنة أخيرًا!! .. حمدًا لله على عودتك سالمة .. ليس لديكِ فكرة ماذا فعلتِ بنا!! .. ماما وأحمد، كانا هنا عقب خطفك، لكن عندما طال الأمر لم يتمكن أحمد من المكوث لطبيعة عمله، واضطرت أن تلحقه خالتي منى لولادة زوجته؛ لم يمكنها تركها وحدها بتلك الحالة .. وأصر أحمد أن يُسمي المولود "عمر" على أسم والدكما .. مبروك حبيبتي لقد أصبحتِ عمه!!
كانت تسمع كل هذا وهي مدهوشة، وكأنها عاشت بفقاعه زمنية وعادت لعصرها بَغتةً .. لقد أنجب أحمد في غيابها، ومن بين كل الأسماء اختار اسم والدهما، تكرهه الاعتراف بهذا ولكنه نوعًا ما أزعجها .. وبصوتٍ جرح حلقها حاولت استدعاء روح الدعابة التي افتقدتها بصحبة صديقتها:
- يعني أنتِ أخذتِ اسم ابنتي وهو أخذ اسم ابني .. ماذا سأسمي أولادي فيما بعد؟؟
ضحكت سارة وانقشعت تعابير القلق التي ظلت تحملها طوال الفترة العصيبة لتضربها بخفة على كفها قبل أن تهمس لها بمكر:
- هذه مشكلتك أنتِ وخطيبك، ليس لي دخل، حلّوها معًا!! .. لن تصدقي فريدة ماذا فعل لكي يعيدك، انظري، أصبح كالمخبولين الذي ينامون بالطرقات!!
تبسمت فريدة رغم صعوبة الوضع وعقلها يتجنب بشده التدرج لأي من الاحداث السابقة لتراقب سارة وهي تهمس لها بخفوت وعينها البنية تلمع بلؤم:
- انتظري، سأوريكِ بعينك..!!
قالتها ثم تسحبت بعيدًا حتى وصلت للغافي بعمق وكل ملامحه تشكي تعبه .. وبدون سابق انذار صاحت باسمه عاليًا لينتفض فزعًا، فسقطت الوسادة والغطاء الذي كان يحتضنه وقت النوم:
- فريدة .. ماذا حدث؟!
هتف بها مراد وعينه تلقائيًا تحولت تجاه فريدة التي لم تقِل دهشتها عنه، لترتخي بعدها حينما أدرك أنها بخير وصوت قهقهة سارة يصدح بالغرفة وهي تشير عليه لفريدة بمعنى "أرأيتِ؟!" .. ليفور ليستاء من تصرفها الأرعن بينما يسبُها ويقذفها بالوسادة التي تلقفتها بصدر رحب ثم أردفت من بين ضحكاتها:
- سأذهب أنا لأحضر بعض المشروبات، وسأخبر الطبيب بإفاقة فريدة في عودتي.. استغل الفرصة، ها!!
ضربها بوسادة أخرى حتى خرجت، ليتنهد هو ولم تمض ثانية حتى التفت لفريدة لتُشرق ملامحه ويضحك بإرهاق، ثم أقبل عليها .. صدقًا ملامحه كانت أكثر من متعبه، شعره وملابسه عبارة عن فوضى وكأنه كما قالت سارة لم ينم منذ غابت..
سقط على ركبته من الاجهاد قرب الفراش، يمسك بيدها بقوة غريق لترتبك فريدة وحاولت الاعتدال لتوفر له مساحة بجانبها .. ليفاجئها وهو يخرج من جيب سرواله خاتمها ويضعه ببنصرها ثم لثم موضعه، وكأنه يؤكد لنفسه أنها عادت له .. ثم تمتم بينما مازال على هذا الوضع، شفتيه تدغدغ بشرتها:
- منذ غِيبتي وهو لم يفارق جيبي .. كنت أنتظر هذه اللحظة بشدة لأعيده لكِ!!
ثم رفع حدقته الفضية لها وكانت تلسعها الدموع، وبترجي همس لها:
- طَمنيني..!!
كانت كل ما استطاع النطق به لتصف ما عاناه في بُعدها .. لتصف الهواجس التي راودته عنها وعن ما يمكن أنها تعرضت له .. فقط كلمة واحدة .. يتوسل بها الكثير من الأشياء التي يريد أن يسأل عنها، ولكنه يخشى الإجابة .. لذا كل ما يريده هو الاطمئنان .. الاطمئنان أن كل شيء بخير، وانها هي بخير!!
وهذا ما فعلته فريدة حينما ظللت يده بيدها الأخرى وهي تردف بصوت بالكاد يُسمع:
- لا تقلق انا بخير!!
قبلها مجددًا ولكن هذه المرة في جبهتها لينزل بأصابعه على وجهها، ومنها إلى شعرها الثائر حوله .. لتتحرج فريدة وقد تنبهت لحالها:
- يا إلهي .. ابد أن هيئتي كارثية الآن!!
ضحك ولم يتمالك نفسه ليعدل من وضعه ويستند على أمشاط قدميه وقد راق له المزاح معها:
- لا بأس، طالما كان هكذا في فترة الثانوية وكنت أعشقه لأنكِ تعشقيه .. ماذا كنتِ تقولين حينها؟؟ .. اها، الشعر المجعد موضة، أم نسيتِ؟! .. ثم أنتِ لستِ بأسوأ مني .. انظري لحالتي، ولا تنكري لازلت وسيم، أليس كذلك؟!
رغم شفاها المتشققة ضحكت وقد زاد تحرجها فهو بالفعل رغم هذا كان لا يزال وسيم، كل ما هنالك أن شعره الفضي قد استطال قليلًا .. تنهدت وقلبها قد تسارعت دقاتها وهي ترمق الدموع في عينه من جديد تتشكل، بينما لازالت يده تداعب خصلاتها بشرود في وجهها وكأنه يتفحص كل انشٍ منه .. تركزت عينه بعينها وهو يزدرد ريقه لتتحرك تفاحة آدم بحنجرته متحدثٍ بتألم:
- آسف .. سامحيني فريدة، لم أتمكن من حمايتك!!
على الفور هزت رأسها تنفي أي تقصير وحاولت أن تحدثه، لكنه وضع اصبعه على فمها ليكمل بغل هذه المرة:
- لا تقلقي .. هذه المرة لن يُفلت من العقاب .. كل الأدلة ضده، والإعلام مقلوب فوق رأسه هو وعائلته .. الحقير، هو مَن منعكِ من السفر، فريدة تخيلي، تحقيقات النيابة أثبتت هذا!! .. وليس بعيد لأن نثبت أنه مَن حاول قتلك في المطار .. لا تقلقي فريدة، ذلك المجرم سيأخذ جزاءه، هذه المرة انا مستعد له جيدًا، وكمال أيضًا بعث بفريق محامين دوليين ليترافعوا بالقضية، فالسيد مواطن أمريكي، لكن أؤكد لكِ لن ينفد هذه المرة!!
توقف مدار الأرض حولها وكأنه أعاد لها كامل الأحداث صفعةً واحدة، لتتذكر كل ما كان وتم على مدار شهرٍ فائت .. بدى الأمر لها كالحُلم الذي تستغرب أحداثه، خاصة الأيام الأخيرة منه، بعض الأشياء لا تصدق أنها فعلتها أو سمعتها .. خاصة آخر جملة قالتها!! .. انتفضت من موضعها أمامه وهي تسحب يدها منه، وتسحب بعدها الإبرة المُغذية منها، وكل ما يدور بذهنها كلمات والده الأخيرة بأنهم سيقتلونه!!
كل هذا أمام مراد الذي كان في حالة ذهول يسألها دون توقف عما أصابها .. لتعاجله وهي تبحث عن ملابسها:
- هل تعني أنه محتجز الآن ويُحقق معه؟!
اجابها ومازال يحاول فهم ما أصابها:
- أجل، وهم في انتظار استفاقتك ليأخذوا شهادتك..
- حسنا، سأذهب لهم!!
انتصب في وقفته وحاول إثناءها باللين:
- لا داعي لهذا .. هم سيأتون فريدة ولكن فيما بعد .. الطبيب أمر بالراحة لكِ!!
- وها انا بخير، ومن فضلك هاتف سارة لتحضر أغراضي .. لابد أن أذهب الآن!!
عاندت فريدة أكثر بينما تجد صعوبة في استيعاب سرعة الأحداث وربطها بما سمعته اخيرًا .. تبًا، تشعر بالغرابة من نفسها وكأنها شخص غير الشخص الذي كان يُجالسه .. أمسكت رأسها تكثف تركيزها إذا كانت قد ارتكبت أي حماقة أخرى معه عندما سمعت نبرة مراد تحتد، فلازال واقفًا ولم يتصل بسارة بعد:
- أنتِ تشعرين بالتحسن بفعل الأدوية التي أخذتيها فريدة، لكن هذا لا يعني أنكِ بخير!!
- ما الذي تقوله .. اتصل سارة دعني أذهب!!
هتفت وقد توترت من لغة جسده المتأهبة وعناده معها، وزاد هذا أكثر حينما تابع وصوته راح يرتفع:
- لمّ تصرين على الذهاب هكذا فريدة؟!
- هذا ليس وقت الأحاديث، أنت لا تفهم شيء، ينبغي أن أذهب!!
تشعر بالتشوش وصعوبة في ربط الاحداث، ظهور مراد بهذا الإلحاح لا يساعدها، بل يزيدها سوءًا .. حقًا لا تعرف بالتحديد ماذا ستفعل، ولكن تطور الأحداث بهذا الشكل يُشعرها بالخوف ويُلزمها بسرعة التصرف!! .. لذلك لم تهتم كثيرًا لصدمة مراد وحاولت تجاوزه لتنادي عن سارة بنفسها حتى لو اضطرت للخروج من المبنى بملابس المستشفى!!
لكن كان له رأيًا آخر، ووقف لها بالمرصاد وقد صار واضحًا بعين سرارة حقد غريبة عليه:
- هل ما يقوله هذا اللعين هو ووالده صحيح؟! .. أنكِ عدتِ له؟؟ .. خطفه لكِ كان بإرادتك؟!
باغتها، ولم تستطع أن تنكر فهي ذات نفسها لاتزال تستغرب ما قالتها .. ولاتزال أيضًا تتخبط بين إذا كان هذا صواب أو خطأ .. تحتاج وقت لتتبين هذا ولا تجرحه، فمن هيئته العدائية الغريبة، يبدو أنه أيضًا يحتاج ذات الوقت ليهدأ .. تنفست بروية ومن بين اسنانها زفرت بحنق:
- لآخر مرة مراد توقف عن قول الهراء وابتعد عن طريقي!!
دار حاول نفسه قبل أن يلتفت لها بعينه الدامعة وقد أعادت له بفعلها هذا ذكرى رحيلها عنه مفضله السفر والدراسة عن الزواج به .. كان هذا رد فعلها بالحرف، كانت تحاربه لترحل دون تفسير، وذلك ما لم يقبل به هذه المرة أبدًا!! .. وكذلك يوم جاء لها لينقذها من براثن المجرم الذي وقعت منه .. ليضحك باستنكار ناظرًا لها بدهشة وهي تعيد تجسيد الألم له دون حتى أن تتذكر أو تعيّ وقد ظن أنها ترحل عنه:
- يا إلهي .. أنتِ تفعلين هذا بي مرة أخرى!! .. تهجريني مجددًا .. من أجل هذا المجرم؟!
بُهتت ملامح فريدة وقد عادت لها كلمات أدهم سابقًا، وعادت معها لمحات مختلطة لم تستطيع تميز شيء بها سوى أنها كان تواجه مراد بنفس الطريقة .. وبصوت مبحوح ونظرة حذره سألته:
- إذًا قد صدق حينما أنك تقدمت لي سابقًا؟؟ .. ولم تخبرني؟! .. استغليت فقداني للذاكرة وأخفيت الأمر؟!
وما كان من مراد إلا أن اكفهرت ملامحه، وكأنه ليس هو .. ليدنو منها بطريقه خطيرة جعلتها ترتجع للخلف وأكثر ما أخافها .. نظرة عينه .. لم تكن تُنبئ بالخير قط!! .. هدر بسخط وتقرّف، وقد صدق أسوأ كوابيسه الذي أنكره طويلًا:
 - الله .. هو مَن أخبرك؟؟ .. وأنتِ صدقتيه؟؟ .. كنتوا تتسامرون بالحكايات بينما أنا هنا أمزق نفسي من أجل عودتك!! .. أخبريني فريدة، ماذا حدث بينكما أيضًا؟!
تنبهت فرائصها بالكامل بينما تكمل في تراجعها، مع ذلك لم تتوانى عن محاولة ردعه قبل أن يصلوا لنقطة لن يريدها أحد .. في الحقيقة، هي لم تستسيغ أبدًا فكرة تشكيكه بها لتُنبهه بحزم:
- مراد، حاذر من أن تتمادى معي، ليس أنا مَن تخاطبها بهذه اللهجة، ها!!
كل ما كان يفكر فيه الآن هو خطاب أدهم الإعلام الأخير الذي شاهده ملايين وكان حديث الساعة طوال غيابها، كلمات الحب التي قالها آنذاك عرف مراد أنها صادقه .. حدثه أنبأه بهذا لكنه كان شديد التمسك بالرابطة التي جمعته بفريدة .. حتى وهي تُجهز للسفر من جديد كان ينكر أي شكوك ويصدقها هي فقط .. يصدق عينها التي تقسم له باكية، أما الآن فقد بدأ يرى شيء غير الشيء .. هكذا أرادت تجاوزه دون تفسير وكأنه لا يعني لها .. لذلك خاطبها بلهجة تُخفي في طيتها الكثيرة من المعاني السيئة، وقد أصبح في ثانية قاب قوسين أو أدنى من قولها صراحةً:
- أعرف أنه ليس أنتِ، وتلك هي المشكلة .. فريدة التي ربيتها لا تفعل هذا بي!!
- وماذا فعلت بربك؟! ..
صمت ينظر لها بلومٍ شنيع لتصرخ به وقد صار الموقف بأكمله كالزيت الذي كُب على ضَرَمة داخلها لتشعل بداخلها نيران تصل ألسنتُها عنان السماء:
- قُلها .. قُل ماذا فعلت؟؟ .. قُل أنك تشك بخيانتي لك!!
أشاح بوجهه عنها وشعر بأنه ربما قد تمادى حقًا لذا رغب بأن يتراجع عن حديثه ويحاول تهدئتها باللين .. لتصده فريدة في اشارة منها بالاكتفاء، فليس بالسهل أن يوقد صدرها بطرفة عين وباللحظة التالية يُقبل رأسها .. أغمضت عينها تجاهد لتحتوي تلك المشاعر الغريبة الفائرة داخل لأن حرفيًا في تلك اللحظة كانت عاجزة تمامًا عن التعامل مع تلك اللقطات الغريبة التي تعبر ذاكرة بسرعة فائقة محفزة كل مخاوفها .. أردفت بعد صمت بصوتٍ مرتعش ككامل جسدها:
- أتعرف؟؟ .. لا داعي لقولها فأنا أراها بوضوح في عينك .. على ما يبدو ليس أنا فقط من صدقه!! .. والآن حبا بالله ابتعد من طريقي!!
ناشدته ودموعها تلك اللحظة بزغت لشيءٍ في نفسها هي تجهل ماهيته، لكن الشعور الطافي حينها هو الاختناق بفعل مزيج الغضب والقهر معًا .. لكن مراد كان بعيدًا ليفهم هذا، ففور أن عبرت من جانبه حتى انشل ذراعها بغلظه وأعادها أمامه من جديد مُصرحًا بما صدمها:
- أنتِ خنتينِ معه .. ها أنت قد قُلتها كما أردتِ!! .. أليس هذا ما يعنيه "أنكِ عُدتِ له"؟!
نهج أنفاسه المستعرة من الغضب وقاوم أي عاطفة تجاهها ترجوه وأضاف ليُزيد الطيّن بِلّة:
- الآن قُوليها أنتِ أيضًا .. قولي أنكِ قد خنتينِ فريدة .. هيا قوليها!!
لم يكمل جملته وإلا وقد عاجلته فريدة بصفعة قوية تردد صداها داخله منكرًا استحالة أن تكون هي الفاعلة .. كانت فريدة مصدومة مثله، تبلع ريقه وتعض على يدها التي ضربته بخوفه .. لكنه بلحظة جذب يدها مشيرًا إلى الخاتم الذي ألبسه لها منذ قليل:
- هذا هو جزائي بعد كل شيء؟! .. تصفعيني وتركضين خلف طليقكِ وأنتِ تحملين أسمي تقريبًا وهو الذي رماكِ!! .. في السابق خِيفتِ على اسمه وأردتني أن أبتعد كي لا أدمر زواجك، والآن لا أجدك فعلتِ رُبع هذا وأنتِ تستمتعين بوقتك معه!! .. حريًا بكِ أن تخجلي من نفسك!!
في نفس الثانية التي أنهى فيها كلمته، كان خاتمه يتدحرج بين قدميه بعد أن تمكنت من سحب كفها من يده وخلعه بسرعة!!
لم يرى للتردد أو الندم أي أثر بعينها، وبالأساس فريدة لم تمنحه تلك الفرصة، لأنها وللمرة العاشرة أرادت الفرار من أمامها وانهاء هذه المهزلة، لكن يبدو أن مراد قد دخل مرحلة ما بعد العقل وهذه المرة كانت قبضته غليظة خارجة عن طور العقل محملة بثورة رجولته التي تريد الدعس فوقها وتمضي بحياتها كأن لم يكن شيئًا!!
في تلك اللحظة جاهدت فريدة للملاص منه، فقد كان يُحجِّم حركتها بقوة ولمساته لها كالحريق وكأنه يكب عليها من الحميم .. لا تعرف ماذا يحدث لها ولكنها كانت تتألم بشدة تفوق شدة قبضته بمراحل وقد حضرتها حالة اختناق وبوادر نوبة فزع وفي ثانية أصبح جسدها ووجها كالفرن، مما جعلها تصرخ به بمبالغة مع ذلك كان صوته أعلى منها وهو منخرط في تعنيفها:
- أنتِ ماذا تظنيني؟! .. لُعبة في يدك؟! .. مهما فعلت من أجلك لا تريني، فقط هو، رماكِ كالقمامة ولم يلتفت لكِ وها أنتِ تعودين له ثانيةً كالعبيد التي لا تهوى سوى جلاديها!! .. لكن على جثتي لو تركتك تذهبين له مجددًا!! .. أنتِ من حقي أنا فريدة .. أنتِ مِلْكيّ أااا...
توقف عن الحديث بَغتةً وقد سُكبت الدماء فوق عينه اليُسرى من جرح أُحدث في رأسه ليغلقها في ذات اللحظة على صورة فريدة المتخشبة أمامه بدرجة عالية من الفزع، وقد ارتخت قبضتها عن مزهرية صغيرة حاملة دماء مراد!!



❈-❈-❈


تأففت سارة بسأم وهي تمرر المنشورات في هاتفها بينما تحتسي قهوتها في الكافتيريا الخاصة بالمستشفى لتُمهِل أخيها بعض الوقت ليعيش القليل من الرومانسية التي حُرمت منها .. كان يستحقها، لم تر قط شخص يعشق مثله، أحيانًا ينتابها الحقد على تلك الحياة التي حرمتها من تذوق تلك التجربة .. لم تمنحها سوى قصة حُب رتيبة أيام الجامعة كلفتها المزيد من التنازلات لتحمي بيتًا لم يدم أكثر من ستة سنوات وفي الأخير حصلت على خازُوق!!
ففي مقابل كل تضحياتها كان جزاؤها الخيانة .. من بعد ولادتها، بدأت تستشعر الفتور الذي ضرب علاقتها بـ "ياسر" زوجها، كانت تراقب مع الوقت مدى اتساع الفجوة بينهما .. وتفننت حقًا في ملأ تلك الفجوة بالأعذار والتبريرات، ظنت أن ربما كان السبب، شكلها الذي تغير بعد الحمل والولادة، فبذلك أقصى جهدتها في العناية بنفسها ومحاربة المسؤوليات التي حاصرتها.
 تركت عملها كمُدرّسة لسنتان، وتفرغت له ولابنتهما، وفي الوقت الذي كان ينعم فيه بالنوم والهدوء عانت هي الحرمان منه وقضاء الليل تتجول في صالة الشقة كي تُهدئ الطفلة .. وليته كان كافيًا، فما إن يصله صريخ الطفلة يخرج لها شاكيًا من ازعاج نومه وأنه لابد أن يرتاح من أجل العمل صباحًا .. كل هذا قد بلعته بصمت، بل ولغبائها كانت تعذره..
ورغم الإجهاد الذي لحق بها عقب ولادتها، حرصت على صورتها كأنثى بعينه، أكثر من مئة مهمة كانت تُنجزها باليوم، وقبل ميعاد وصوله البيت ليجده هدئًا يملؤه الراحة والمتعة .. كانت تبتسم في وجه وتحاول استعادة علاقتهما ولم تخبره أبدًا عن معانتها خلف تلك الابتسامة .. ذلك لأنها توهمت كمثلها من النساء، أن نجاح العلاقة أن فشلها يكمن بيدها، وصدقًا كانت مستعدة لطحن نفسها في سبيل الحفاظ على ما بينهما .. ولفترة طلت تنكر أن عقد العلاقة يتسرب من بين يديها كالماء!! .. ظلت تنكر ما تراه بعينها حتى رأت ما لا يسرها!!
عام تلو الآخر لحقت بعائلتها الصغيرة النكبات، توفى والدها بعد مرض طويل، وأعقبه شلل والدتها التي كانت تتحمل عنها نصف اعباء تربية ابنتها .. وكان من المستحيل أن تسمح لغريبة برعاية والدتها مهما كانت الظروف، فمكثت قدر ما مكثت في بيتها وبالتأكيد لم يعجب هذا الأمر زوجها الحبيب .. فكثرت بينهما المشاحنات لأول مرة، ولم يكن بيدها شيء حتى جاء اليوم الذي انفصل به مراد عن زوجته وعاد للعيش بمنزل العائلة .. وهنا استطاعت قسيم وقتها بين هنا وهناك .. عادت لتحاول من جديد الحفاظ على بيتها لكن على ما يبدو أنه قد فات الأوان!!
فلم يمضي وقتٍ طويل على اكتشافها خيانة زوجها الوغد .. ولم تعرف بعدها ماذا أصابها، لأنها كل الحب والتفاني في الضحية من أجل تحول لكراهية مطلقة وتفاني أيضًا في الانتقام .. روحها كانت محترقة ومستنزفة، اكتشفت انها باعت نفسها وجهودها بالرخيص .. ارادت انتقام عادل بعد كل شيء أفنته في تلك العلاقة الفاشلة .. لم ترد مواساة، أو شفقة من أحد، كل ما أرادته بشده هو استعادة كرامتها التي أهدرت رغم بذلها لروحها .. فقط هذا ببساطة!!
ولأن المجتمع الذي تحيا به كان ذكوريًا للدرجة التي تستكثر عليها هذا الحق البسيط، كان عليها أن تأخذ هي حقها بنفسها ولا تهاب أحد طالما كان الحق معها، تمامًا كما علمها والدها!!
لذلك لم تندم مطلقًا على ما فعلته، ربما شعرت ببعض الذنب من أجل ابنتها، لكنها عادت وبررت هذا بأنها لم ترد لها أن تكبر وترى بعيون والدتها القهر مما فعله الخسيس والدها .. لذلك أجل، ليس له حق في ابنته، لم يتحمل مسؤوليتها خلال الزواج ورماها عليها، إذًا لا يصطنع دور البريء الآن ويحاول استعادتها وتسوية الخلافات جانبًا؛ لأن مَن يرتضي بصُحبة الرزيلة لا يُؤتمن على صُحبة طفلة!!
وإلى هذه النقطة، وقد اكتفت من ذكرياتُها البائسة ونهضت لتصطحب الطبيب وتعود لغرفة فريدة .. أرسل الطبيب أحد الممرضات معها وأخبره أنه سيلحق بهم، وبينما كانا يعبران طُرقة الغرفة، وصلهم صوت صريخ أفزع كل مَن كان هناك، وأعقبه ضجيج كسر أشياء .. ولم تحتاج لأن تخمن مِن غرفة مَن أتى هذا الضجيج!!
وبسرعة نفاثة اقتحموا الغرفة، وصيغة الجمع هنا تشير للجمهور الذي تزحموا ليروا سبب الضجيج .. وبالفعل لقد تمكنوا من رؤيته جميعًا .. تمكنوا من رؤية الدماء التي أغرقت الأرضية وتحيط برأس مراد المسجى على الأرض .. في حين كانت فريدة تتكور على ذاتها في ركن الغرفة وعينها تحنطت باتساع على موضع مراد!!


❈-❈-❈


- ماذا؟! .. لم تكن تداوم معك في المتابعة؟!
اهتاج جسد مراد من جديد ليشعر بفتق الغرز في جرح رأسه، عندما سمع هذا الحديث من الطبيب النفسي المسؤول عن حالة فريدة منذ أن عادت مصر، والذي كان بالأساس صديقًا لها .. كان أول ما فعله بعد أن استفاق أصابته هو مُهاتفة طبيبها مُدعيًا أنه يستفسر منه عن مستجدات علاجها علّه يجد تفسيرًا لما فعلته معه، إلا أن الآخر صدمه أكثر عندما أخبره أنه لم يراها منذ سنة تقريبًا، تحديدًا بعد فترة قصيرة من خضوعها لجلسات تنظيم إيقاع المخ (ECT) .. ماذا يعني هذا واللعنة؟! .. تساءل بنفسه ليكبت انفعاله قليلًا ثم عاود سؤال الطبيب:
- والأدوية؟؟ .. تلك الأدوية الشديدة التي تُعاقرها فريدة، أخبرني أنك مَن وصفتها لها؟!
- عن أي أدوية تتحدث؟! .. حينما كانت تتابع معي، أذكر أنها قد انّهَت فترة العلاج الدوائي وكان من المفترض أن تبدأ جلسات التأهيل النفسي!!
صمت مضجع كخواء صحراء بالرُبع الخالي!! .. هذا إذا كان له دلالة، فهي خطيرة للغاية!!
- ما الذي يحدث مراد لديكم؟! .. لا أقصد تطفل، ولكني قرأت خبر يتصدر وسائل الإعلام عن طليقها ذلك وأنه..
سأل الطبيب باستغراب ليمسح مراد وجهه بإرهاق شاكيًا:
- لا أعرف ماذا فعل لها طوال المدة التي اختطفها بها، ولكن فريدة بها خطبًا ما متغير!! .. تصور لقد تطاولت علي وفتحت رأسي بمزهرية ..
- ماذا؟!
احتبس الحديث في فمه ولم يستطيع البوح بأكثر من هذا ليغلق الحوار بكلمات مُقننة:
- لن ينفع الحديث بالهاتف، أنا أحتاجك هنا لتتبين حقيقة الأمر بنفسك!!



❈-❈-❈


دماء .. دماء تخضب الارضية وتسبغ اللون الأحمر على كل ما حولها، وأينما أشاحت بعينها .. حتى الخضرة بالحديقة لم تكن ترى عشبها إلا غارقًا في بركة دماء خلفتها رأس كلبتها بيري التي قتلت على مرئ منها .. وزجاج النافذة نفسه كان مُلطخًا بدماء لوكاس الذي تفجرت دماغي خلف المقود .. وعلى ذلك الكرسي البعيد يقبع جسد أنطوان المكبل، ليسقط به غارقًا في بحيرة من دماءه بعد أن فارق الحياة .. وفي تلك الزاوية من الغرفة، وقف بن منتصبًا رغم الاصابة التي تتوسط صدره .. ينظر لها تلك النظرة التي لا تنفك أبدًا وتفارقها نظرة محقونه باللوم والعتاب والخذلان!!
وبالأخير، هناك، على أرضية الغرفة كان جسد مراد الفاقد للوعي بعد أن خبطت رأسه بالمزهرية ليسقط بعدها دون حراك، ودون أن تعرف ماذا دهاها لتفعل هذا..؟!
لا تعرف شئ سوى أن اتهامه لها بالخيانة والهراء الذي تفوهه به .. عنفه ضدها وهيئته المتشنجة .. كل هذا حفز فيها شذرات من ذكرياتها الدموية التي حملتها من الماضي، مختلطة بمشاهد أخرى جعلت جسدها ينتفض دون توقف؛ ذلك لأن الدماء التي رأتها كانت دمائها هي!!
وكان بطلُها شخصًا واحد .. أدهم!!
كان العامل المشترك بين كل تلك المشاهد .. وللحقيقة لم تكن ترى أحدًا سواه!! .. لم ترى مراد بالفعل، بل خُيل لها كأن الكلمات تخرج من فم أدهم، تجسد لها ورأته رؤى العين باختلاف المشاهد التي كان تَتَردد بها تلك الكلمات .. أنتِ ملكي .. كانت تتبدل بسرعة يسعها ععقله، ولوهلة ظنت أنها هناك، أسيرة الماضي من جديد ولا أمل لها في العودة .. خوف شديد حضرها من أن تُصاب بأذى، بشيء داخله ظل يصرخ بأن الأذى هو العاقبة الآتية بعد تلك الكلمات .. وذلك أكثر ما أفزعها لتفعل أي شيء تكسر به أسرها الذي يُهدد بتطويقها .. بل تكسر المُهدد نفسه وتُخلص روحها قبل أن يبتلعها من جديد!!
لتستيقظ تلك المرة وحدها بعد أن حقنوه آنذاك بمهدئ جعل جسدها ثقيل وعقلها أثقل .. بلّادة في التفكير لم تعاني مثلها منذ أن كانت تخضع لجلسات تنظيم إيقاع المخ (ECT)، لكن الفارق أنها بعد تلك الجلسات كانت تتحسن نفسيًا، أما الآن فيراودها شعور مؤذي يجعل الأفكار الانتحارية تَرعَى بعقلها، ويجعلها ترى الموت هو الخيار الأمثل لحياتها البائسة!!
احتاجت أن تبكي حالها بقوة، لم تصدق أنها قد أذت مراد، أذته دون أن تدري حقًا، وذلك ذكرها بالليلة التي كانت تهشم بها وجه أدهم باستخدام صينية خشبية، وذلك أرعبها من نفسها إلى أقصى درجة .. أرادت أن تطمئن عليه لكن مجددًا أعصابها مرتخية بشكلٍ أقرب باللامبالاة، كانت تشعر باليأس وهو يتسرب داخلها من جديد دون أن تملك شيء لتفعله بينما القاع يرحب بعودتها له!!
تلك الذكريات المشؤومة كانت تطاردها كاللعنة سواء كانت غافية أم مستيقظة .. ودت بشده لو يمكنها النهوض ونفض غبارها عنها، فعل أي شيء بعيدًا عن تأثير المؤذي لكن أنّى لها هذا وهي تمكث داخل عقلها، تُعاد مرة تلو الأخرى دون انقطاع، وحالة الكمون التي تستوطن جسدها تجعلها فريسة ممضوغة لتلك الأفكار؛ فعلى عكس ما قد يعتقد البعض عن مفعول العقاقير المهدئة والمضادة للاكتئاب في انها تحسن الحالة المزاجية، حسنًا هي قد تنجح في هذا في بعض الحالات لكنها لا تمحي الأفكار السلبية، أما في البعض الآخر فقد تحول حياتهم لجحيم بينما تكبل جسدهم وتبطئ استجابته، فتنهشهم الأفكار السلبية في صمت!! .. وذلك ما يُفسر لمّ البعض مما يداومون على تناول تلك العقاقير ينتحرون دون انذار بذلك .. ينتحرون في صمت!!
وعلى ما يبدوا أنها ستكون منهم .. فقط لو أمكنها مفارقة السرير الكريه!!
قاطع مسار خواطرها ولوج الطبيب المشرف على حالتها مع أحد الممرضات .. سألها عن بعض المؤشرات العضوية وكانت إجابتها سلبية تنفي بها أي تعب، ليخبرها بعملية أن هناك طبيب آخر بالخارج يرغب برؤيتها .. وقد كان طبيبها النفسي الذي أتى فور أن خاطبها مراد.
اعتدلت في جلستها تراقب دخوله بتوتر وترقب، وفور أن أُغلق الباب عليهما، سحب كرسيًا إلى جوارها ليسألها مباشرةً دون حتى إلقاء التحية:
- متى استعدي ذاكرتك، فريدة؟!


#يتبع