-->

الحلقة الثالثة جزء ۳ - صائد المراهقات





الحلقة الثالثة - الجزء الثالث - صائد المراهقات 


 لكل فعل رد فعل متساو ومعاكس. هذا هو قانون الكون ولا يدخر شيئا. إذا تم ارتكاب خطأ ، يتم دفع الظلم الواقع بنفس العملة. لم ينجو أحد من عدل الكون. كلها مسألة وقت


أنيل سينها


°°°°°°


بعد إنتهاء اليوم الدراسي و وصول "تولين" للمنزل، تناولت غدائها البسيط الذي حضرته بنفسها من يومٍ ماضٍ ثم جلست علي كرسيها الهزاز المفضل لها تقرأ من الكتب ما يملأ فراغ روحها و يغذي مشاعرها الجائعة النهمة للحب و الدفيء.. قطع خلوتها إتصال تليفوني من رقم تجهله فردت علي الهاتف بنبرة جادة :


- ألو 


فسمعت ضحكة مجلجلة تعرفها فاغمضت عينيها بشدة و عوجت شفتيها بندم.. ثم تأفأفت بدون صوت و هي تسمع السيد المزعج كما لقبته يسخر من جدية صوتها :


- إيه ياست صوت الشاويش عطيه ده. 


فقالت تستفزه بنبرة لا مبالية و هي تنظر لأظافرها :


- عادي.. ده العادي بتاعي. 


اراح ظهره للخلف علي المقعد الذي يجلس عليه بأحد المقاهي بوسط المدينة و قال بأريحية و بسمة جانبية :


- مضطر استحملك عشان صاحبتي. 


- لا مش مضطر تستحملني خالص علي فكرة. 


- بس انا عايز كدة.


فضلت السكوت و انتظرت أن يقول شيئا فكأنه قرأ أفكارها و تابع :


- المهم.. بتعملي ايه دلوقتي ؟ 


ابتسمت ابتسامة صفراء لم يراها و قالت :


- بقرأ رواية في الوقت اللي انا مخصصاه للقراية. 


فابتسم و قد وصله تلميحها و رغم ذلك سأل ببراءة :


- وانا قاطِعتك ؟


فجاوبته بنفس البسمة الصفراء :


- الحقيقة اه. 


- طب بتقرأي رواية ايه ؟ 


- بقرأ رواية قواعد العشق الأربعون . 


- عربي؟ انا مش بقرأ إلا أدب فرنسي. 


- لا مجربتش بصراحة اقرأ بلغات غير العربي و الEnglish. 


- كلتي ؟


رفعت حاجبًا متعجبًا من تغييره لموضوع الحوار فجأة و ردت بتهكم :


- و ده اعتبره سؤال ابوي يعني ؟ 


ارتشف من فنجان قهوته القليل ثم رطب شفتاه و اجابها بتهكم مقتبسًا كلمتها الأخيرة :


- هو مفيش حد بيقول لخطيبته ولا حبيبته كلتي؟ هو الأبهات بس يعني؟ 


لأين يريد أن يصل بحديثه هذا المزعج و ماذا يعني بقوله حبيبته؟ هل هو يتطلع لأكثر من صداقة تجمعه مع شابة في سن أطفاله؟ و رغم عدم اقتناع عقلها بوجود حوار بينهما من الأساس، أجابته بتحفز لتحاول الوصول لنقطة منطقية :


- وانا لا خطيبة ولا حبيبة. 


- أنتي صاحبة يعني المفروض اهتم بيكي و بتفاصيلك و أنتي كذلك.. ها بقي كلتي ؟


رفعت حاجبها و قد قررت أن تدخل في صُلب الموضوع و تعلم ماذا يريد مباشرةً إيصاله لها :


- سيبك من كلت و مكلتش.. احكيلي بقي عن حياتك اللي شوقتني ليها بصراحة. 


- مش عارف حاسك مش بتقوليها بنفس.. بس هحكيلك.. انا ناير الوكيل خريج آداب فرنساوي بشتغل مدرس و.. 


قاطعته و علي فمها ابتسامة خبيثة :


- عندك كام سنة ؟ 


- هيفرق معاكي اوي السن ؟ 


- مش قولت تفاصيل بعض برضو؟ 


حك ذقنه و أومأ برأسه و علي وجهه لمحات من ضيقٍ لم يظهر في صوته و هو يجيبها :


- ستة و أربعين. 


ابتسمت بنصر ثم قالت بتعجب مصطنع :


- غريبة يعني ؟


- ايه هي اللي غريبة. 


- شكلك ميديش ستة و أربعين سنة خالص. 


ارتسمت علي ثغره بسمة جانبية بزهو و لكن سرعان ما إنمحت عندما قالت بقصدٍ لإستفزازه :


- قصدي إستايل لبسك و شعرك يعني مش ماشي مع سنك خالص. 


فأجاب ببرود متعمد رغم ضيقه جعل ابتسامتها تتسع فهذا الوغد ليس سهلاً ابدًا :


- ايه عايزاني اجي الشغل لابس جلابية مثلا.. السن ده مجرد رقم و في ناس روحهم لسه شباب رغم أنهم عدو سن الأربعين.. و فيه عيال صغيرة روحهم عجوزة رغم أنهم مشافوش حاجة من الدنيا لسه. 


يسخر منها و هي تعرف ذلك و لكن لا تريد أن تضع الحوار في هذا المسار بل تريد أن تصل بشكل أسرع لنقطة معينة فقالت ببراءة و دلال مصطنع :


- سيبك من السن.. ده رقم زي ما بتقول.. كمل بقي و احكيلي عنك اكتر. 


ابتسم من صوتها رغم علمه بتمثيلها ولكنه يروقه بشدة :


- أمم كنت بقولك خريج آداب صح؟ 


- اه. 


فقال بنبرة خبيثة ممطوطة ذات معني :


- و متجوز 


قاطعته بجراءة فاجئته :


- عشان واحد زيك ميعرفش يعيش من غير جواز.. صح؟


فضحك عاليًا بدون اهتمام للناس حوله و قال من بين ضحكاته :


-صح.. صح شاطرة.. ذاكرتك كويسة.


صوت ضحكته كان كافيًا لإصابتها بالغثيان ولكنها تماسكت حتي تغلق باب هذا الأمر نهائيا.. سألته سؤالًا علمت إجابته مسبقًا اليوم من إحدي زميلاتها بالمدرسة :


- عندك ولاد؟ 


قضم شفته و هو يرفع حاجباه بتعجب.. هل هي منعزلة عن زملائها في المدرسة لتلك الدرجة؟.. ألم يخبرها أحدًا أن ابنتي ناير الوكيل تدرسان في محل عمله؟ هو يعلم أنه حديث الجميع، يعلم أنه مختلف و أن الأحقاد هي من تجعله منبوذ بينهم؛ فلا تتآلف الروح الشابة مع أرواحٍ غزاها الشيبٌ، لم يفسر قط أن ابتعادهم عنه و نفورهم منه اشمئزازٍ خالصٍ و احتقارٍ لعدم تقديره لسنه و لهيبته كمثل أعلي و قدوة لطلابه، و لممارسته صبيانية المراهقه بدلًا من احترامه و توقيره للنضج.. قال بعد دقيقة من الصمت و قد خطر علي باله اصطناعها الجهل و لكن ماذا ستستفيد؟! :


- معقول متعرفيش؟ محدش من صحابك قالك؟ 


- قالي ايه؟ 


- يعني و أنتو متجمعين كدة و واقفين بتتكلموا عني، محدش قالك إن مسيو ناير بناته الاتنين معاكي في المدرسة؟ 


- أولا مش بحب اختلط بالبنات في المدرسة كتير.. تفكيرهم غير تفكيري و مفيش نقط مشتركة بينا فملوش لزوم الرغي علي الفاضي.. ثانيا بقي لو حصل و اختلط بيهم مش بنتكلم عليك اساسا.. ثالثا لو أنت عارف إن الناس بتتكلم عليك ليه مستمر في التصرفات الغريبة دي؟ ليه بتسمح لحد إنه يجيب في سيرتك من ورا ضهرك؟ 


- عشان أنا بحب كدة.. بحب أبقي مختلف. 


- بص.. 


- بصي أنتي.. انا هفهمك تمام، عندنا في المجتمع أول لما الراجل ولا الست توصل لسن الأربعين - و أحيانا أقل من كدة بالنسبة للستات -  معناه أنهم خلاص مدة صلاحيتهم خلصت أو علي رأي المثل رِجل برا و رِجل جوا.. بيبدأوا بقي يجهزوا لجنازتهم كأنهم هيموتوا تاني يوم مع إن متوسط أعمار الرجالة مثلا بتتراوح من ستين لسبعين سنة تقريبًا.. يعني فاضله في عمره قولي حوالي عشرين سنة بيقرر فيهم بمنتهي الغباء إنه ينهي حياته و ايدك معايا يا ابني و انا كبرت خلاص و مش هنعيش أد اللي عيشناه و الكلام الأهبل ده.. أنا بقي عايز أعيش العشرين تلاتين سنة اللي فاضلين في عمري شباب و لو حتي فاضلي يوم عايز اعيشه بروح لسه نضرة خضرا مش دبلانة عجوزة.. فهمتي حاجة ؟


وجهه نظر صحيحة مقنِعة و لكنها مغلفة بتصرف خاطيء يوحي بالاعتراض علي القدر فتتسبب بنفور الناس من ذلك المتمرد المثقف.. دارت كلماته في عقلها ثم ردت بكلمات تخرج ببطيء و تردد من بين شفتيها :


-اه فهمت.. أنا متفقة معاك في نقطة إن المجتمع فعلا بيعجز نفسه بدري و دي مش حاجة صح.. بس برضو أنا شايفة إن كل سن ليه وقار و هيبة المفروض نلتزم بيها. 


سارع بالرد علي كلماتها بثقة و خبرة اكتسبها من التعامل مع البشر :


- ليه المفروض؟ مفيش حاجة مفروضة احنا مخيرين في كل حاجة تقريبًا في حياتنا.. الارتباط ،العقيدة، الجواز، الطلاق، مسئولية الإنجاب والتربية.. كل ده إنتي مخيرة فيه و مخيرة برضو تقضي علي شبابك بإيدك ولا تعيشيه لأخر لحظة في عمرك. 


- طيب بلاش المفروض.. قصدي إن كل مرحلة ليها مميزاتها و عيوبها برضو يعني مينفعش واحدة عندها تلاتين سنة مثلا عشان تبقي روحها لسه شابة تمسك العروسة اللعبة اللي كانت بتلعب بيها و هي عندها سبعتاشر سنة، و تجري بيها و هي عامله ضفيرتين. 


-و مين له حق يلومها؟ 


- المنطق له حق.. ده كدة يبقي عندها خلل عقلي.. فين احترامها لسنها؟.. إنت ممكن تعيش سنك بأي طريقة يعني تلعب رياضة تنزل تتفسح تسافر، إنما تحاول تظهر ده في لبس أو استايل اظن ده بيقلل من احترام الشخص لسنه. 


كان سيرد عليها و لكنها قالت بسرعة و هي تنظر في شاشة هاتفها :


- سوري يا مسيو بابي بيتصل بيا. 


- تمام هنكمل مناقشتنا وقت تاني.. باي. 


قالت و هي تتأفأف بدون صوت :


- باي. 


ردت علي والدها بتعجب من اتصاله بها؛ فهي و أخيها لا يروه او يتواصلوا معه إلا في المناسبات أو في الحفلات التي يقيمها ببيته فيدعوهما أو يجبرهما بمعني أصح مقابل ما يدفعه لهما من مصروف شهري، ليظهر عائلته أمام اصدقائه من رجال الأعمال و زوجاتهم، بمظهر متحضر، حميمي و مغمور بالحب المصطنع الذي يعرف جميعهم أنه زائف فمعظم العلاقات في هذا الوسط مبنية علي الماديات و عندما تزول المادة تزول العلاقة و كأنها لم تكن.. أجلت صوتها و رسمت بسمة صفراء علي فمها حاولت أن تظهرها في صوتها قدر المستطاع و لكنها خرجت كنبرة سمجة قليلا :


- ألو.. صباح النور يا بابي.. انا تمام الحمدلله، و حضرتك عامل ايه؟.. عشا؟ بمناسبة ايه؟.. انا عارفة والله كل اللي حضرتك بتعمله عشانا و إنك مش بتاخد مقابل.. حاضر يا بابي هاجي.. حاضر هلبس حلو.. فستان ايه ؟ حضرتك هتبعته يعني ؟.. تمام.. باي. 


أغلقت الهاتف و عينيها كذلك و أرجعت رأسها للخلف تستند علي كرسيها و تتأرجح محاولة أن تخرج خارج نطاق هذا العالم و تسبح بأفكارها في عالمٍ أخر ملون بدرجات الأزرق و مختلط بالأسود كما تحبه، به أشخاصٍ و أماكنٍ و عقلياتٍ أخري، به قصص خيالية تمليء بها صفحات كشكولها و تنقلها كروايات لمعجبيها.. و لكن قطع مواصلة خيالها تساؤل اخر عن ماهية ذلك العشاء الذي دعاها له والدها. 


❈-❈-❈


صعدت "زينب" و صعد "حمزة" خلفها هذا المبني المتأكل و سُلمه البالي و عند صعودها رأت في نافذة بجوارها فأر ضخم فصرخت فأمسك بها أخيها لأنها كادت أن تسقط و تسقطه معاها أيضا، ثم دفعها للأمام و تابعوا الصعود حتي وصلوا للطابق الاخير و كان عبارة عن سطوح واسع به غرفة خشبية صغيرة قديمة للغاية.. وقفت أمامها متسمرة لا تعلم ماذا تفعل و لماذا أتي بها إلي هنا و لكنه استمر في دفعها حتي وصلوا للغرفة التي فتحها بمفتاح أخرجه من جيبه ثم دفع الباب الذي اصدر صوتًا مزعجًا للغاية و دفعها للداخل فرأت الغرفة الفارغة إلا من سرير واسع متهالك و طاولة و كرسيان باليان ايضًا.. ظلت هي علي وقفتها كأنها انسان آلي ينتظر الإشارة لتحريكه و اغلق هو الباب ثم وقف خلفها و احتضن جذعها و دفن وجهه برقبتها فسالت دموعها بدون أن تصدر صوتًا و قد خمنت الآتي.. سحب عبقها المسكر مع أنفاسه ثم همس بجوار أذنها :


- اقلعي هدومك كلها يلا. 


شعر "حمزة" لوهلة أنه يحتضن لوح ثلجي فقد تجمدت أطرافها و جسدها بأكمله انخفضت درجة حرارته من الرعب، و ما أكد علي وجود الحياة بكومة الثلج تلك هو إرتعاشها بين يديه كأنها مصابة بأحد الأمراض المُتلِفة للأعصاب.. دار "حمزة" حولها و استقر أمامها يفك دبابيس خمارها الوردي المصبوغ بلون نقائها و براءتها.. بعد أن نزع عنها خمارها وضع يديه علي وجهها البارد و همس بنشوة و أنفاسه الساخنة تتضارب مع بروده وجهها المُتخشب :


- أنتي مال جسمك بارد كدة ليه؟.. ده حتي الجو حلو و دافي. 


سحبها من يدها فمالت عليه بقدميها و كادت أن تسقط لولا إمساكه لجسدها المتخشب و لإمساكها لسترته بأصابع كفيها ذوي الأعصاب التالفة.. تركت ملابسه و دفعته بوهن و جلست ببطيء في محل وقوفها و هي ترتعش و تتلمس طريقها للأرضية الباردة، ثم دارت بجسدها قليلا و استندت بظهرها علي حائط خلفها و ملامحها ثابتة تشرد في نقطة بالفراغ و لا تري شيئا، تشعر بآلام تغزو صدرها من العدم و تشعر بعدم مقدرتها علي زفر الأنفاس التي تدخل لرئتيها فهي محبوسة داخل حلقها و صدرها و تكاد تخنقها من الضغط.. أمام متابعته لها و قد بدأ الخوف يتسلل إليه، فتحت شفتيها بوهن تسمح لبعض الأنفاس المكتومة بالخروج و قد تصاعد الآلم من صدرها لرأسها و تسبب في زغللة عينيها، لا تسمع غير أصوات أنفاسها و دقات قلبها التي ترج قفصها الصدري و تضربه راغبة في مغادرة صدرها و الصياح عاليًا لينجدها احد من مصيرٍ سيهلكها. جلس "حمزة" علي ركبتيه يمسك كفيها الباردين الذين يحيطوا قدميها بوهن و دلك راحتيها بإبهاميه. نظر داخل عينيها التي تحدق في شيئا ما يجهله ثم أمسك بذقنها يوجه عينيها إليه فعندما لمع وجهه أمامها تساقطت الماسات من عينيها البريئة تعلن عن جهلها لما يفعله بها و لما يريده منها و نطقت اخيرًا شفتاها بسؤال عينيها بنبرة خافتة :


- ليه؟


مال برأسه قليلا و هو يتابع شفتيها بعينيه و لو رأه احدًا عاقلًا في تلك اللحظة لقال أنه أحد مرضى الهوس.. أجاب علي سؤالها بسؤال مماثل و بنبرة مماثلة لكن أكثر وضوحًا :


- ليه إيه؟ 


غادرت الماسات وجهها و سقطت علي ملابسها ولكنها لم تبالي، و لأول مرة وضعت عينيها في عينيه ثم رطبت شفتيها بمشقه وقالت تستعطفه بذرة الطاقة الوحيدة التي اكتسبتها من غريزتها للدفاع عن نفسها :


- اللي انت عايزه ده حرام.. أنا أختك. 


أمسكت كفه الغليظة كلتا يديها و الآخر ذهب ليجفف خط الدموع الساخنة التي حفرت وجهها، وقال ببسمة هائمة :


- هنفضل كويسين طول ما محدش يعرف اللي بينا. 


استقام ثم شدها من كفيها فقامت ببطيء ممسكة بمرفقه و مستندة علي طاولة علي بُعد قريب منها و لكن بعد أن سحبها خطوة اختل توازنها فوقعت و  أوقعت الطاولة التي كان سطحها مغطى بلوح زجاجي فانكسر اللوح مع سقوط الطاولة و تناثرت شظايا الزجاج علي الأرضية، فدخلت كفيها الصغيرين و خرجت صرخة قصيرة من شفتيها بسبب جرح يديها، و لحسن حظها أن قماش فستانها الثقيل منع دخول الزجاج لقدميها. جلس "حمزة" علي ركبه واحدة و قال يهديء من روعها :


- بس بس خلاص مفيش حاجة.. خدت الشر و راحت مش مهم ياحبيبتي. 


فرفعت "زينب" نظرها الذي تعلق بكفيها له و بفاهٍ مفتوح يصطاد الأنفاس بضعف.. أنزل "حمزة" نظره من عينيها لصدرها الذي يرتفع و ينخفض في رعب فابتلع ريقه ثم جذبها معه لأعلي لتقوم و أجلسها علي السرير و قال لها أن سيذهب ليحضر ماءً و قطنًا بسرعة و سيعود.. تسارعت عينيها و هي تقيم الغرفة حولها و استعادت لوهلة قدرتها علي التفكير فقامت من مكانها تحاول تلمس طريقها للمكان الذي كانت تجلس فيه، و انخفضت يدها بارتعاش لتمسك قطعة زجاجية كبيرة لحدٍ ما و عادت بسرعة للسرير و وضعتها أسفل الوسادة البالية.. عاد "حمزة" بعد قليل و جلس أمامها علي عاقبيه ينظف جرح كفيها و يطهرهما من الذرات الزجاجية و علي شفتيه بسمة عذبة فهو يروقه أن يتلمسها و يشعر بجلدها الرقيق بين يديه.. بعد دقائق كان قد انتهي يديها فرفعهما يقبلهما و هو يحدق بحدقتيها السابحتين في الفراغ فاستقام ليخلع عنه قميصه الاسود، ثم مال بجذعه لكي يفتح سحَّاب فستانها الذي يبدأ من أعلي ظهرها حتي خصرها، ثم نزل علي ركبتيه بعد أن فتحه و اقترب من وجهها لاصقًا جبهته بخاصتها ناثرًا أنفاسه علي تقاسيم وجهها و هو يخلع عنها فستانها ببطيء، و لكن فجأة توقف كل شيء عندما شعر بألم شديد في جانبه الأيمن.. توقفت أنفاسه عن الخروج لوهلة. رفع عينيه ينظر لها و لكن هذه المرة وجدها تنظر له و ماساتها تغزو عينيها الحمراء ثم تخرج لتحفر طريقها علي وجنتيها المنتفختين. وضع يده علي جرحه الذي يتوسطه قطعة زجاجية مثلثة، و رفعها ليري يده ملوثه بدمه فنظر لها مجددا فهمست له و هي تميل بوجهها قليلا و يشع الخوف و الرجاء من مقلتيها :


- أسفة. 


فابتسم بتهكم و رمش بعينيه بدون تصديق ثم استقام مقاومًا آلمه و تحرك بسرعة لخارج الغرفة و أقفل الباب من الخارج بمفتاحه و نزل للصيدلية التي عاد منها منذ قليل حتي يُعاين الطبيب جرحه الذي لم يكن إلا جرحًا سطحيًا فقدرتها لم تسعفها لأن تتعمق أكثر من ذلك. بقيت "زينب" علي جلستها الهادئة و كأنها لا تدرك أنها طعنت أخيها منذ قليل، هربت من أفكارها التي تطاردها بأن تترك جلستها عديمة الفائدة تلك و تهرب إلي اللا مكان حيث ستجد بشر يصدقوها فهي علي ثقة بأن أهلها لن يساعدوها بالمرة و سيعتبروها تخاريف أو ربما الأخطر و هي أن يظنوا أنها وقعت في براثن أحد الشباب و تريد تلفيق التهمة لأخيها المسكين، نعم ستذهب مخيلتهما لذلك الاتجاه بالتأكيد. و عند هذه الفكرة رفعت يدها الملوثة بالدماء فجأة تنظر إليها ،ثم رفعت الأخري و دمعت عينيها التي لم تجف بعد ثم بدأت بصفع نفسها بقسوة بكلتا يديها و ارتفعت شهقات بكائها وسط صراخها تنادي علي خالقها و تطلب منه المعونة. 


❈-❈-❈


في المساء قُرابة الساعة السادسة بدأت "تولين" بتجهيز نفسها لذلك العشاء الغريب المفاجئ الذي يصر عليه والدها، و كان ثاني أغرب شيء في هذه الليلة هو الثوب الذي أرسله والدها! فكان أسود فحمي ضيق يرسم جسدها بشكل مغرٍ و بدون حمالات و يظهر مفاتنها بشكل مستفز و من وجهه نظرها بشكل "رخيص" للغاية ففضلت ارتداء سترة قصيرة بأكمام طويلة مكونة من تشابكات كثيرة بخيوط لامعه غير مبالغ فيها و رفعت شعرها في ربطة ذيل حصان و تركت عدة خصلات طليقة تعطيها جاذبية ناسبت لون أحمر الشفاه القاني الذي يُلون شفتيها. نظرت في المرآة الرأسية المزين إطارها بالمصابيح البيضاء، تقيم شكلها النهائي الذي وجدته فاتن و يعطيها سن أكبر من سنها الفعلي كما تحب أن تظهر دائما. 


بعد وصول سائق أبيها الذي اتي ليقلها إلي فيلا "عزيز البدري" التي تقبع في حيٍ من تلك الأحياء الهادئة المرموقة، نزلت تولين بإطلالتها الجذابة من السيارة الفخمة السوداء و تزامن نزولها مع وصول سيارة اخري بيضاء تبدو لشخص من نفس طبقتهم الاجتماعية، و نزل السائق منها ليفتح الباب لصاحب السيارة الذي كان يرتدي حُلة رمادية من أحد بيوت الازياء المشهورة و شعره الأسود المصفف للجانب سقطت منه خصلة علي جبينه رفعها لأعلي ثم أغلق زر سترته و تحرك اتجاهها و في نفس الوقت كان قد وصل أبيها إليها أيضًا.. تحرك ذو الخصلة الشاردة حتي وقف أمام أبيها و سلم عليه بحرارة ثم عرفه أبيها إليها :


- أعرفك يا تولين بمدحت بيه الوديدي صاحب أكبر مصانع غزل و نسيج في مصر. 


رسمت علي فمها تلك البسمة الرسمية المتعالية التي تخصه هو و مَن يشبهه مِن تلك الطبقة و تحديدًا من معارف أبيها و شركائه، و مدت يدها الي إليه بثقة فأمسك كفها و قبّله بنُبل جعلها ترفع حاجبيها بتعجب سرعان ما تلاشى و إلي حدٍ ما قد وصلها ما يخطط له والدها. قال ذو الحُلة بعد تبادل السلامات :


- علي فكرة إتقابلنا قبل كدة. 


عدلت من خصلات شعرها الطليقة و قالت ببسمة فاتنة و هي تنظر إليه بعينين واثقتين :


- في الشركة صح؟ 


رفع "مدحت" خصلته مخللًا شعره بأصابعه و قال بابتسامة جانبية تستطيع الإيقاع بعدة فرائس، و بغمزة من عيونه الضيقة الحادة كثيفة الأهداب :


- صح.. ذاكرتك كويسة. 


قال والدها باحترام مبالغ فيه و خنوع غير مُستحب من رَجل في سن الأربعين لأخر ثلاثيني، و أشار للباب :


- اتفضلوا يا جماعة مش هنفضل واقفين علي الباب كدة يعني.. اتفضل يا مدحت بيه. 


فأشار "مدحت" ل"تولين" أن تتقدمهم بأدب فحركت رأسها بإيماءة شُكر صغيرة و دخلت من باب الفيلا فوجدت في انتظارهم زوجة والدها السيدة "سلوي" و ابنتيه الصغيرتين "ليلة" و "لينا" كما كان أخيها "تامر" يقف أيضًا متأنقًا في حُلة سوداء و لكنها لا تعلم كيف تستطيع أن تري طِيشه يطل من حدقتيه برغم تلك الهيئة الناضجة التي يتلبسها و لكنها لن تهتم كعادتها و لن تشغل رأسها بتلك الأمور عديمة القيمة طالما لم يمسسها الضرر منها فهذه في اعتقادها هي استراتيجية النجاة في الحياة من أمثال أفراد عائلتها و معارفهم. 


بالطبع كان السلام بينها هي و زوجة أبيها و بناته بارد برود قارة قطبية، و علي العكس تمامًا بينهم و بين المدعو "مدحت" فكان سلامًا حارًا و من الواضح أنها ليست المقابلة الأولى بينهم فهو يعرفهم جيدًا و يوجد مودة غير مبررة بينهم، و بالرغم من كل تلك المفاجأت الليلة و المواقف الغريبة التي لا تزال قيد التجديد؛فالليلة لم تنتهي بعد، حاولت "تولين" الفرار مؤقتًا من الأفكار التي تلاحقها حتي تعود إلي بيتها و تجلس جلسة هادئة مع عقلها الشغوف بتفسير كل خاطرة و كل موقف يمر بها و يحلله ليتخذ منه أحداثٍ و شخصياتٍ لرواياتها. تجاهلت صوت عقلها و هي تجلس أمام طاولة الطعام علي الكرسي الذي سحبه لها هذا الرجل النبيل الذي يجلس قبالتها، و بدأ الجميع بتناول العشاء يصحبه ثرثرات عن العمل بين ذا الحُلة و أبيها تارة و اخري بينه و بين أختيها الصغيرتين فقد قال ليداعب "ليلة" الصغيرة صاحبة الثمان سنوات التي تجلس بجانب "تولين" :


- بس يا ليلو شكلك زي القمر النهاردة. 


ثم نظر ل"تولين" بطرف عينيه و قال بمناغشة و بسمة جانبية :


- حتي تولين شكلها جميل اوي بس برضو مش حلوة زيك. 


وصلها إطرائه الخفي المغلف بالدُعابة فابتسمت بلباقة و لم ترد، بينما "ليلة" عدلت شعرها القصير بزهو جعله يبتسم من لطافتها، فقالت السيدة "سلوي" :


- ده عشان عينيك بس اللي حلوين يا مدحت بيه. 


ارتشف "مدحت" من كأس العصير ثم رطب شفتيه و قال بمجاملة :


- لا طبعا يا هانم هما يعني هيجيبو الجمال من برا.


ثم قال بجدية و هو يوجه كلامه لوالد "تولين" و ينظر لها بطرف عينيه :


- بس الحقيقة يا عزيز بيه إن غرضي الحقيقي من الزيارة دي هو إني جاي اطلب إيد الآنسة..


نظر لحدقتي "تولين" التي ركزت نظرها عليه أيضا و قال بنبرة ممطوطة : 


- الآنسة ليلة.


فتعالت ضحكات السيد "عزيز" بينما "ليلة" الصغيرة ضيقت عينيها ثم تخصرت و قالت :


- بس إنتَ كبير أوي عليا. 


مسح "مدحت" فمه ثم قال و هو يمط شفتيه برجاء مصطنع :


- بس أنا بحبك.. هتكسري بخاطري؟


احمرت وجنتا الصغيرة و لكنها أصرت علي موقفها و اردفت و هي تمسك خصلتين من شعرها الناعم :


- اه.. انا مش عاوزة اتجوز دلوقتي. 


قال "مدحت و هو يشبك كفيه أمامه علي الطاولة بنبرة ذات مغزي :


- كدة اعتبر طلبي مرفوض يا عزيز بيه؟ 


فقال السيد "عزيز " بسرعة بمرح مصطنع و قد فهم كلامه المبطن :


- لا طبعا.. انا هكلمها و هقنعها إن شاء الله متقلقش. 


بعد العشاء قام الجميع من علي طاولة الطعام و ذهب السيد "عزيز" و "مدحت" لغرفة المكتب ليتحدثوا قليلا و يحتسوا فنجاني قهوة بينما ذهب الباقون إلي غرفة المعيشة ماعدا "تولين" التي فضلت الوقوف في الحديقة ليضرب جسدها نسمات هواء الليل المنعش. بالرغم من حبها للدفيء و لكنها تفتقده فتشعر أنها و برودة الهواء صديقتان، و كأنها مألوفة لها أكثر من حرارة الشمس. تحاول أن تفر من تلك الأفكار التي تلح علي عقلها بما فهمته من حوار أبيها مع ذلك ال"مدحت". تبًا هل يريد أن يزوجها في هذا السن؟ هل هذا الرجل لا يعرف عمرها الحقيقي؟ ربما هي تهرب من سنها الصغير بمستحضرات التجميل و الملابس الجريئة ولكن هذا لن يغير من حقيقة كونها طالبة مدرسية.. قطع حوارها مع عقلها المزعج اقتراب "مدحت" من الارجوحة مستطيلة المقعد، التي تجلس عليها و إستاذن ليجلس فأذنت له و هي تلعن في سرها من كثرة المتطفلين علي حياتها.. بعد دقائق من الصمت أشعل سيجارة و قال بعد أن نفث دخانها :


- عاملة ايه في المدرسة؟ 


توسعت عينيها و ارتفع حاجبيها المرسومين ببراعة، من التعجب! إنه يعلم! حاولت تخطي المفاجأة و قالت و هي تومأ ببسمة جانبية متعجبة :


- تمام. 


-إنتي في ثانوية عامة السنة دي صح ؟ 


- اه


- و عايزة تدخلي ايه بقي.. طب أطفال ولا صيدلة ؟


ابتسمت ابتسامة سمجة و أجابت رغم عن استصاغتها للحوار :


- نفسية و عصبية. 


همهم بإعجاب و هو يسحب نيكوتين سيجارته لرئتيه و قال ببسمة جانبية :


- براڤو مجال مميز.. أنا من ساعة ما شوفتك برضو و أنا حاسس إن فيكي حاجة مميزة و مختلفة. 


- ميرسي.


استقام من مجلسه و قال مشيرًا للحديقة :


- تحبي نتمشى؟ 


بالرغم من عدم ترحيبها للفكرة لكنها أرادت وضع النقاط على الحروف فوافقت :


- مفيش مشكلة. 


بعد أن سارا قليلا شبكت "تولين" يديها أسفل صدرها و إلتفتت له برأسها و قالت كلمات مُبطنة :


- و يا تري حضرتك جاي عشان تطلب إيد ليلة فعلا؟ 


ابتسم ابتسامة جانبية إعجابًا بذكائها و مُباشرتها ثم أردف يجاريها :


- هي cute أوي بصراحة.. و زي القمر.. لو باباكي عرف يقنعها ده يبقي من حظي. 


- و مش شايف إنها صغيرة أوي عليك؟ 


- و هو أنا بالنسبة لها كبير أوي يعني؟ .. أنا خمسة و تلاتين سنة بس علي فكرة.. و هي هتيجي تسلي وقتي بدل ما أنا عايش لوحدي. 


لقد تأكدت الان مما يريد أن يقحمها أبيها فيه.. يريد أن يزوجها برجل في ضعف عمرها. 


- حضرتك مُطلق؟ 


- لا أرمل. 


- و حضرتك ليه متتجوزش واحدة من سنك؟ 


توقف عن السير و دار بأكمل جسده لها و قال بنبرة منخفضة واثقة :


- عشان أنا مش بتجوز عشان يبقي اسمي متجوز.. لا انا عجبتني بنت فقررت بعدها اتجوزها.


قالت بجراءة و بنبرة متهكمة و هي تتخصر باحدى يديها :


- عشان الوسيلة الوحيدة للوصول ليها هي الجواز يعني؟ 


- لا مش كدة.. تقدري تقولي تدين بقي أو عادات وتقاليد plus إني لما بعوز حاجة كدة كدة باخدها سواء بجواز أو غيره. 


صُدمت؟ نعم صُدمت و توسعت عينيها من وقاحته في الحديث.. هل معني حديثه أنه سيتزوجها جبرًا؟.. قاطع أفكارها قائلا بضحكة :


- ايه اتصدمتي إني صريح.. لا انا كدة بحب الكلام الدوغري و بحب امشي دوغري برضو.. أنا همشي دلوقتي و هنتقابل تاني اكيد.. باي. 


تركها و رحل بعد أن قبَّل كفها، تغرق في دوامة جديدة دخيلة علي حياتها. 


❈-❈-❈


جلست ندي أمام مكتبها تتذكر ببسمة ما قاله مُعلمها "ناير" لأبيها عن الدورة التعليمية التي يريد أن يضمها إليها لتزيد من حصيلتها اللغوية و تفيدها في حياتها الدراسية و العملية..  ربما هو ليس بالسوء الذي يتحدث عنه زميلاتها في المدرسة، هو لطيف للغاية، و مثقف و يمتلك الكثير من المعلومات التي قد تنفعها و أيضًا سيستطيع إرشادها لتتفوق في مادته و في المواد الأخري، هي تحب أولئك الأشخاص الذين يتشربون العلم و يسقون به غيرهم من الطلاب.. و لكنه يخصها هي بتلك المعلومات لأنها كما قال مميزة و تستحق، ليست كأولئك الطلاب المهملين الذين يهتمون بالشكل الخارجي فقط و يضيعون تلك الثروة العلمية المتحركة أمامهم.. لقد أصبحت اللغة الفرنسية في مكانة خاصة عندها منذ اليوم و تريد أن تحصل فيها علي أعلي الدرجات، كما تريد أن تكون مجال اختصاصها في المستقبل بإذن الله.. تريد أن تكون مثله؛ مثل المعلم "ناير". 


❈-❈-❈


بعد نصف ساعة تقريبا سمعت "زينب" المتكومة علي السرير صوت قفل الباب يُفتح.. فتح "حمزة" الباب بعد أن عاد من الصيدلية و عقم ذلك الجرح السطحي و عندما رأها تلتف حول نفسها كجنين استشاط و احمرت عيناه فهي ليست ملاك كما كان يعتقد بل ربما كانت تقصد قلب الطاولة و كسر اللوح الزجاجي حتي تجرحه باستخدامه.. اقترب من و شدها من يدها بقسوة فقامت بجذعها فقط معه فصفعها حتي دارت رأسها فسالت مجددًا دموعها التي نضبت.. جال في خاطره أن يمزق فستانها عقابًا لها و لكنه تذكر أهله فدفعها لتميل للخلف و قيد يداها بيده و بالاخري فتح سحَّاب فستانها بقسوة تكاد تخلعه من مكانه.. اعتلاها بعد أن كشف جسدها و دفن وجهه في عنقها الأبيض يقبله فتعالي شهيقها و ارتعاشها و ظلت تتململ لتبعده عنها و لكنها لم تستطيع فقامت بعَضّ كتفه بكل ما تملك من قدرة حتي تكاد تجزم أنها مزقت لحمه فرفع وجهه لها ينظر في عينيها التي تترجاه فقالت بهسيس لا يُسمع تقريبا :


- والنبي ابعد عني.. حرام عليك.. ابعد عني.. عشان خاطر ربنا سيبني في حالي و انا مش هقول لحد. 


فاقترب منها بوجهه ليقبل جيدها فتعالي صوت بكائها و حاولت أن تضربه بقدمها و لكن فشلت.. ثم فجأة ارتفع صوت رنين هاتفه فتجاهله للمرة الاولي و لكن عندما تكرر ابتعد عنها فرجعت هي للخلف إلي ظهر السرير و رفعت عليها فستانها تغطي جسدها و هو اخرج هاتفه من جيبه فوجدها أمه فانتظر دقيقة حتي انتظمت أنفاسه ثم أجابها :


- الو.. ايوه يا ماما. 


أجابت أمه بصوت منخفض :


- ايوه يا حبيبي.. بص إنتَ تجيب زينب و تيجوا علي طول.. أبوك رجع من برا و متعصب أوي و سأل عليكو. معرفش ماله باين حصل حاجة في المصنع معكره مزاجه. 


مسح وجهه بكفه و هو مغمض العينين قال :


- طيب يا ماما.. مسافة السكة و نكون عندك. 


أغلق الهاتف و وضعه في جيبه ثم سحب قميصه و ارتداه و هو ينظر لها و يجز علي اسنانه.. اقترب منها و هز جسدها بقسوة و قال بنبرة تهديدية :


- قومي يلا.. اترحمتي مني النهاردة بس.. بس والله ما هسيبك و هاخد اللي عايزه برضو. 


❈-❈-❈


- يعني حضرتك عايز تجوزني لواحد اكبر مني بتمنتاشر سنة؟ 


قال السيد "عزيز" بهدوء محاولًا اقناع تولين التي تقف متخصرة في بهو الفيلا :


- يا تولين يا حبيبتي افهميني.. انا في أزمة و هو ده الحل الوحيد اللي قدامنا.. المحلات هتتشمع و كل حاجة هتروح مننا لو مسددتش الديون اللي عليا 


وضعت "تولين" يديها علي رأسها الذي سينفجر غير مصدقة ما يحاول اقناعها به و قالت بصوت مرتفع :


- و انا مالي دي مشكلتك لوحدك مش مشكلتي. 


صاح والدها و كأنه صاحب حق فيما يريد :


- ازاي يعني مش مشكلتك؟ هو انتي مش بتاخدي مني فلوس أد كدة كل شهر.. مش بتاكلي و تشربي و تلبسي من مالي و مدرستك مصاريفها من فلوسي.. ولا الكام ألف اللي أمك بتديهملك نسوكي إني أنا اللي بصرف عليكو. 


سالت دموعها و شعرت بنغزٍ في صدرها و هي تقول برجاء و تقطع :


- و عشان تحل مشكلتك تربطني أنا بواحد أدي مرتين كدة صح.. أرجوك كفاية حوارات في حياتي بسببكوا.. كفاية دوامات بتدخلوني فيها و أنا مليش ذنب في أي حاجه اصلا. 


ضحك والدها بتهكم و قال باستخفاف تزامنًا مع نزول زوجته علي الدرج :


- حوارات ايه و دوامات ايه.. ده أنتي عايشة عيشة ملوك و بتتبطري.. اومال لو شوفتي انا اتربيت ازاي و لا بجيب القرش ازاي كنتي قولتي ايه.. كفاية اني سايبك عايشة لوحدك علي حل شعرك من غير رقيب عليكي و وثقت فيكي و قولت بلاش اخنقها مش عايزة تعيش معايا مش هتضغط عليها. 


أشارت "تولين" لزوجته و قالت بدموع خطت طريقها في وجهه :


- و كنت عايزني اعيش مع مين؟ مع دي؟ دي اللي متستغربش لو لقيتها في يوم حطالي سم في الأكل لانها شايفة إني باخد رزقها و رزق بناتها؟! 


قالت السيدة "سلوي" بتحذير هاديء و عبارات مبطنة :


- احترمي نفسك أنا ساكته احتراما لابوكي اللي انتي مش محترماه. 


فردت تولين ببسمة فاقدة للأمل :


- لا انا محترمه نفسي كويس اوي و عشان كدة مش موافقة علي اللي انتو عايزينه و اللي اكيد كانت فكرتك إنتي أصلا.. انا ماشية و ياريت النقاش ده يتقفل علي كدة لاني مش هغير رأيي في حرف من اللي قولته.. و لو علي فلوسك متشكرة مش عايزاها و لو برضو علي المكالمه اللي بتكلمهالي كل شهر شهرين عشان تطلب حاجة مقابل اللي بتديهولي مش لزماني برضو و اتمني متتصلش بيا تاني و تقطع علاقتك بيا نهائي. 


و أمسكت حقيبتها و غادرت و هي تمسح دموعها و ترسم ملامح جامدة علي وجهها. 


❈-❈-❈


في اليوم التالي مساءً بأحد الأحياء القديمة فوق سطوح منزل، جلس "حمزة" و اصدقائه يشاهدون مقطع من تلك المقاطع المُحرمة الملعونة، و فجأة قال أحدهم :


- مش أنا كلمت البت اللي اسمها أمل دي و اقنعتها تيجيلي البيت عشان تعبان و هي هبلة و صدقت. 


تعالي صياح اصدقائه بالتهنئة فخورين به و لكن قطع ذلك قول أحدهم :


- بس لازم ياض تصورها و تمسك عليها حاجة أحسن تروح تقول لأخوها ده واد صايع ممكن ينفخك. 


قال الأول بغمزة من عينيه و ابتسامة خبيثة :


- متقلقش ياسطا مجهز كل حاجة. 


فتعالت ضحكات الشباب و سُبابهم البذيء، و في وسط كل هذه الضجة، كانت تدور في رأس "حمزة" فكرة ما. 


يتبع...