-->

الحلقة الثالثة - جزء ٤ - صائد المراهقات






الحلقة الثالثة - الجزء الرابع - صائد المراهقات 



 حَمَّلْتَ بالقَلب ما لا يَحمَلُ البَدَنُ 

و القَلبُ يَحمِلُ ما لا تَحمِلُ البُدُنُ


الحسين بن منصور الحلاج


❈-❈-❈



جلس "ناير" علي رأس الطاولة في غرفة الضيوف بينما جلست "ندي" علي يمينه في منزل الأخيرة ،و أمامها عدة كُتب مفتوحة و دفاتر و أقلام ملونة تخط بها الملاحظات الهامة في حصتها الأولي مع مثلها الأعلي الجديد.. قال "ناير" بمرح و ببسمة ودودة لم تفارق وجهه منذ بداية الحصة :


- ها يا ست ندي فهمتي ال leçon ده كدة ؟ 


قالت "ندي" بابتسامة جميلة و عينان تلمعان من خزينة المعلومات القابعة أمامها :


- اه يا مسيو.. الحقيقة طلع سهل أوي و انا اللي كنت مكبرة الموضوع. 


قال ببسمة مغرية صغيرة و نبرة مُغَلفة بمغزٍ و هو يغمز بإحدي عينيه :


- لا أنتي مش مكبرة حاجة.. هو زي ما قولتلك من شوية؛ الرك علي المدرس و طريقة شرحه للقاعدة و كمية المعلومات اللي عنده عشان يديكي صورة كاملة تسهلّك الدنيا.. هو مسيو عاطف شاطر و كل حاجة طبعا بس فيه اللي عنده خبرة اكتر منه.. فهمتي حاجة ؟


لوهلة غابت عن العالم في تفاصيل وجهه التي أضحت محببة إليها و فاقت علي طرقعة أصابعه أمام وجهها و هو يسأل ببسمة خبيثة :


- روحتي فين ؟ 


حمحمت و قالت بمشقة و هي تبتلع ريقها و قد كسا وجهها اللون الأحمر :


- مفيش أص.. أصل افتكرت مسيو عاطف و كدة. 


همهم بخفوت و سأل بهمس و هو يتجرأ و يرفع خلف أذنها خصلة سقطت علي وجهها جراء خفضه لأسفل :


- و كدة ايه ؟


توسعت عينيها و ثقلت أنفاسها و هي تشعر بحرارة يده تصل لوجهها المرتفع حرارته بالفعل، و تظن أنها سمعت في هذه اللحظة دقات قلبها من شدة اضطرابها، فقررت الهروب بما تبقي من ذراتٍ من الطاقة في جسدها بعد أن انسحبت معظمها خوفًا أو خجلًا لا تعلم، فأستأذنت و تركت مجلسها بسرعة لتدخل المرحاض تبرد وجهها بالماء و تهرب من فكرة يوسوس بها عقلها و هي أن ما حدث خطأ يجب عدم تكراره و التحذير بشأنه و إبلاغ أبويها بينما يهاجم قلبها بحديثٍ أخر مبطن بالخوف من أن يمنعه أبويها من القدوم مجددًا و بالتالي لن تستفيد بحصيلته الوفيرة و بخبراته التي ستساعدها مستقبليًا، فيصدر عقلها صوت قهقهات عالية يسخر به من قلبها الذي يضحك علي نفسه و هي تعلم ذلك و تراوغ فهي لا تريد الحصيلة بل تنشد صاحبها و تخاف إبتعاده و اختفائه من حياتها التي لم يدخلها من الأساس و مازال يقف علي حدودها ينتظر الإشارة.. ظلت في عراك مع دواخلها بينما في غرفةٍ اخري كان يقف "ناير" مبتسمًا في الشرفة فجميع خطوط خطته تسير علي أكمل وجه، و أمسك هاتفه يتأكد من سير خط آخر من خطته و اتصل على "تولين" التي سرعان ما جعلت الابتسامة التي تطفو علي شفتيه و عينيه تغيب و يحل محلها القلق؛ فقد ردت عليه بصوت باكي و بضعف لم يصله منها من قبل. 


❈-❈-❈


- أكيد أبوكي اتجنن!.. ازاي يفكر في حاجة زي دي؟ 


تحدثت والدة "تولين" بعصبية و هي تتحرك بحركة مشتتة من جهه إلي أخري في غرفة الضيوف بمنزلها، بينما "تولين" تجلس في هدوء غريب بملابس مدرستها بعد إنتهاء يومها الدراسي، تسقط ماساتها من عينيها بدون إصدار ضجيج، واضعةً يدها علي جبهتها و كأنها تحاول كتم ذلك الألم الذي يفتك برأسها.. وضعت والدة "تولين" قبضتها علي فمها و بسبابة يدها الأخري كانت تشير للفراغ و هي تقول بحسم :


- لازم تسافري.. ايوه و تكملي دراستك برا و تدخلي كلية طب.. لازم ابعدك عن ايده بسرعة عشان ميلحقش ياخدك قبلي ده أبوكي و انا عارفاه بيحب شغل السِباقات زي عينيه و هو اكيد بيعمل كدة عشان يتحداني.. اكيد مراته الحرباية هي السبب. 


ضغطت "تولين" علي رأسها من ازدياد الألم فقد ظنت أن بمجيئها لوالدتها ستجد الدفء و السكينة التي تنشدها، ولكنها لم تجد غير الصعقات الكهربية التي سيطرت علي الأجواء منذ تحدثها عن غاية والدها و أمر ذلك ال"مدحت".. و لكن الصاعقة التي ضربت سمعها هي أمر السفر هذا، مازالوا يفكرون في أنفسهم فقط، مازالوا يخططون و يختارون بدلًا عنها و كأنها آلة أو جماد لا يعرف كيف يفكر ولا يحمل مشاعر يجب أن تراعي، اللعنة علي رأسها التي أخبرتها أنها ستجد غايتها من السكينة في كنفهم كما هو المعتاد في الأسر، و لكن متي كانت حياتها معتادة طبيعية بها الدفء كأي أسرة اخري مترابطة؟! هي دائما مختلفة ،دائما تعيش في أجواء الحروب و لم تطلب يومًا إلا السلام، و قد تعبت من القتال و هزم ذرات عزيمتها الملل و الاكتئاب و غزا روحها الحزن كما لم يفعل من قبل فاستسلمت لإرادتها في النحيب عاليًا و بكت تستجدي المعونة من أي شيئا حولها حتي لو كانت ذرات الهواء، دفنت وجهها في كفيها و أعلنت استسلامها و صفق قلبها الباكي غزيًا لحزنها الذي استطاع أن في يغلبها تلك المعركة.. اقتربت منها والدتها بقلق فهي لم ترها تبكي بهذه الحرقة منذ مدة طويلة، و جلست بجانبها تربت عليها ثم سحبتها لحضنها و هي تقول :


- بس بس اهدي يا حبيبتي.. متخافيش يا لولي انا مش هسيبك ليه.. هسفرك و هتكملي حياتك هناك و هو مش هيقدر يوصلك. 


استجمعت كل ذرة طاقة بجسدها و ابتعدت عن دفء حضن والدتها المزيف و كأنها شخصًا اخر تمامًا مما جعل أخيها الواقف في الزاوية يستند بقدمه علي الحائط يضحك بسخرية من رِبح توقعه الذي كان متأكدًا منه و هو أن صاحبة المأساة جميلة الجميلات تمثل.. مسحت "تولين" دموعها بعنف تملك منها وقالت بثبات :


- سوري يا مامي.. أنا مش هقدر اسيب حياتي هنا و أسافر. 


فتحدث أخيها "تامر" لأول مرة منذ بدء تلك الجلسة باستخفاف و سخرية :


- و هتسيبي ايه ان شاء الله؟! انتي معندكيش لا صحاب ولا حاجة تبقي عشانها، متمسكة بالبلد ليه بقي؟ ما تريحي و تستريحي و تخلصينا و تسافري ولا أنتي كنتي فاكراها هتساعدك ازاي؟


أغمضت "تولين" عينيها بشدة و أخذت نفسًا عميقًا كتمته قليلًا بصدرها ثم زفرته رغبةً في تناسي كونها من هذا العالم و من هذه العائلة فقد أصبح حلها إما أن تُباع كالخُردة بهدف مكاسب شخصية أو تُرسل لبلدًا آخر تبقي به وحيدة ليتم تجميدها مثل الأجهزة حتي يرتفع ثمنها و يعلو شأنها، فنزلت دمعاتها معلنة اعتراضًا صامتًا علي حديث أخيها و علي حظها في من يشاركوها الدم، بينما والدتها وبخته بعينيها و وضعت يدها علي وجنة ابنتها تحدثها بلين :


- لولي يا حبيبتي.. اسمعي الكلام صدقيني مفيش حل تاني.. هو حل مؤقت بس لغاية ما نقرر هنعمل ايه مع ابوكي المجنون ده. 


استقامت "تولين" و شبكت قبضتيها أمام خصرها، تكاد تكسر عظام أناملها الرقيقة، وقالت بثبات حاولت استجماعه برغم من شعورها بارتفاع ضغط الدماء في رأسها :


- بعد إذنك يا مامي قولي لعمو صلاح يجهز العربية و يروحني، انا تعبانة و عايزة أنام. 


ارتبكت والدتها و قالت بتوتر بعد أن حمحمت :


- طب ما تنامي هنا النهاردة يا روحي. 


ابتسمت "تولين" بسخرية من دعوة أمها الزائفة و هي علي يقين بأن بداخلها يرتجف قلبها خوفًا من أن تقبل دعوتها فهي علي علم برفض زوج أمها وجودها ببيته مدعيًا أنها تسبب المتاعب، فقالت بتهكم :


- لا يا مامي ميرسي، مرة تانية ان شاء الله. 


أمطرت غيوم "تولين" الرمادية فحفرت الدموع طريقها في وجهها الأحمر و هي تتذكر حديثها مع والدتها و أخيها، تشعر بجبال من الحزن تجثم فوق صدرها، تشعر ببرودة الضعف تنهش في عظامها، ضحكت بسخرية محدثة نفسها " ماذا كنتِ تنتظرين منهم من الأساس و هم يتركونكِ في بيتٍ بمفردك كجروٍ صغير تُرك في حديقة منزل خوفًا من أن يسبب المتاعب!.. أجننتي و أصبحتي تشهبين نفسكِ بالجِراء، هل هذا وقت صورك و تشبيهاتك البلاغية؟ أخبريني بالفعل، ماذا كنت تتوقعين و إلي أين ذهبت طموحاتك؟ هل خطر في خيالك أن تقف أمكِ في وجه أبيكِ و لا ترضي بمحاولته استغلالك، أم أن يتراجع أبيكِ عن صفقة بيعك بمقابل مادي لأنك ابنته مثلًا ؟ لماذا شعرتي بالحزن من تعليق أخيكِ؛ فهو لم يخطيء في حرفٍ حتي فأنتِ وحيدة بلا أصدقاء و هم لا يُعتبروا أقارب تتمسكين بهم و يبادلوكي الحب مثلًا أو حتي الزيارات، فأنتِ تَرين عمال النظافة بالمدرسة أكثر منهم، هل تؤلمك الوحدة الآن؟ هل شعرتي بها مؤخرًا؟ هل ظننتي لوهلة أن ذلك العالم الخيالي و المعجبين من وراء الشاشة سيستطيعوا ملأ ذلك الثقب بحياتك؟ أنتِ مجرد فتاة طائشة تكتب من التفاهات حروفٍ و تسلي أوقات فراغ أشخاص لهم حيوات أخري و عائلات و أسر تحبهم ليس مثلك فارغي الحياة! أنتِ فاشلة ،نعم فقد فشلتي في أن تكوني غالية لدي أسرتك، و فشلتي في كسب حبهم و مودتهم، و فشلتي في تكوين صداقات حقيقية و كسب أحباء، أتمني أن تظلي وحيدة للأبد. "


و كان هذا هو خط نهاية سباقها مع ما تواجهه من أزمات هذا اليوم و قد هُزمت هزيمة سحقتها، و لأول مرة منذ مدة طويلة قررت أن تعطي نفسها حق الانهيار و الشعور بالضعف فبكت كما لم تبكي من قبل و أطلقت العنان لشهقاتها، أمسكت صورها القديمة و هي طفلة بين أحضان والديها و نظرت لها تستشف منها الدفء و تتمني العودة طفلة لا تحمل همًا للحياة.. سقطت علي ركبتيها و هي تشهق عاليًا و تبكي بآناتٍ و آهاتٍ مرتفعة ثم حاوطت جذعها بكلتا يديها تعطيه دفءً زائفًا و تربت عليه بحنان مُفبرك. في تلك اللحظات من فقدان الأمل في حياتنا لا نحتاج إلا شخصًا واحدًا أو بمعني آخر ضمة واحدة و لكنها صادقة، يمكن أن تكون السبب في مواصلة الحياة أو إطلاق حكم إعدامها. و بالنسبة ل"تولين" كان الشخص الخاطيء هو المتوفر في لحظة احتياجها و ضعف اتجاه مشاعر تستقبلها. 


صوت رنين الهاتف كان هو القاطع لصوت بكائها، و بالرغم من إمكانها لتجاهله كعادتها لكنها كانت في لحظة شعور بالظمأ للحب و جوع للشفقة، كانت تحترق لممارسة دور الضحية للحظات فقط و التخلي عن الجمود و اللامبالاة.. بالرغم من كرهها لهذا الاسم إلا أنها أجابت بحثًا عن مجرد بضع كلمات تحتضنها و تنتشلها من حالة ستوصلها إلي العبث في جلدها بسكينٍ حاد.. فتحت الإتصال و مجرد ما سمعت صوت كلمة الترحيب الأولي في المكالمة من المتصل تعالي نحيبها كأنها تشكو له آلامها بآناتها، تذكرت عندما أخبرها في مكالمة بينهما قبلاً أن عيناها تشبهان الغيوم الحزينة المشبعة بالأمطار التي علي وشك الهطول ،و كم تريد أن تخبره الان أن غيومها تعصف وجعًا و أن سماء عينيها تثلج من وحدتها و أنها تشعر بالبرد القارص و تفتقد الدفء كثيرًا. 


تغيرت ملامح وجه "ناير" المبتسم بمجرد سماعه نواحها و شهقاتها فنظر خلفه بسرعة و عندما تأكد من خلو الممر دخل الشرفة و اغلق الباب خلفه و سألها بصوت قَلِق :


- ألو.. تولين مالك؟.. بتعيطي ليه يا حبيبتي؟.. اهدي طيب و فهميني حصل ايه! 


اغمضت عينيها و تسارعت شهقاتها لشعورها بالاختناق فوضعت يدها علي رقبتها ثم بدأت في نوبة بكاء جديدة.. حاولت أن تستجمع هدوئها بصعوبة من ذرات جسدها بسبب صياحه علي الجانب الاخر من الهاتف و قالت و هي تضع يدها علي صدرها و غيمتيها مستمرتان في سيولهما :


- انا.. انا تعبانة اوي.. تعبانة و حاسة بوجع جامد.. في قلبي و في دماغي.. دماغي هتنفجر. 


بيده اليسري خلل خصلات شعره الطويلة المصبوغة للخلف و قال بهمس و قد ارتفعت سرعة نبضات قلبه :


- طب اعمل ايه؟ اساعدك ازاي؟ قوليلي عنوانك طيب و انا هجيلك اوديكي لدكتور. 


ابتلعت ريقها و هي تحاول تشغيل رأسها المتوقفة عن العمل مؤقتًا فضربت بكفها علي جبهتها عدة مرات و صرخت بصوتٍ مرتفع نسبيًا صداه في أعماقها زلزل أضلُع صدرها و علي الجهه الثانيه من الهاتف كان "ناير" ينادي عليها و هو يدور حول نفسه لا يعرف كيف يتصرف فأغلقت الهاتف بوجهه و فتحت أحد تطبيقات الهاتف ثم نافذة محادثتهما و أرسلت له موقعها الحالي برسالة فعندما وصلته و رأها نادي علي أحد الخدم لينادي السيد "عزمي" و عند وصوله قال له علي عجلة باعتذار :


- أنا آسف جدا بس مضطر استأذن لأن عندي حالة طارئة في البيت. 


قال السيد "عزمي" بود تحول لجدية و هو يحييه بيده :


- اتفضل طبعا.. أستاذنك بس لو احتاجت اي مساعدة انا موجود. 


ابتسم "ناير" بتوتر و قال بسرعة قبل أن يتحرك :


- متشكر جدا.. عن إذنك. 


بعد ربع ساعة تقريبًا، نزل "ناير" من سيارته أمام بناية "تولين" فسأل الحارس عن طابقها و صعد في المصعد يدق بأطراف أنامله علي ظهر هاتفه بتوتر و عندما فتح المصعد اقترب من الباب الخشبي و دق عليه بعنف و هو ينادي عليها بهمس ففتحت له الباب و جسدها يترنح من الدوار و قبل أن تسقط إلتقطها "ناير" بين ذراعيه و هو يصيح باسمها.


سمعت "تولين" اسمها يُنادي و لكن من مسافة بعيدة، و شعرت بتنميل في جسدها بأكمله و فقدان القدرة علي تحريك أيا من أطرافها، تري كل شيئا حولها و لكن يغلفه الضباب.. بعد دقيقتين من رفع "ناير" لها بدأت تستعيد قدرتها علي الحركة شيئا فشيئا فساندها حتي دخل بها لغرفة المعيشة و اجلسها علي اريكة وثيرة ثم جلس بجانبها و سحبها لصدره بدون وجه حق مستغلا وعيها الغير كامل. للوهلة الأولي ارتجف جسدها بسبب شعورها بدفء جسد غريب عنها، و بعد دقائق من استقرارها في حضنه و هو يربت بيده علي ذراعها تارة و علي وجنتها تارة، رفعت وجهها له فنظر لها و حرك ابهامه علي وجنتها ببطيء فأمطرت غيومها فجأة و لكن بدون صوت فظل يهدهدها عندما ظهرت شهقاتها و بدأت بالأنين و هي تنظر له تارة و بالفراغ تارة و دفنت وجهها بدفء جسده بالرغم من تنبيه عقلها لها بأن ذلك خطأ و لكنها ربما تحتاج لهذا الخطأ الان مهما كان فادحًا، فإن تركت نفسها لعقلها في تلك الساعة سيقودها للهلاك حتمًا و لكن الخطأ سيظل خطأً في كل الأحوال. 


بعد دقائق معدودة هدأت و استعادت توازنها فابتعدت عنه برفق فاعتدل في جلسته و قال بهمس و بسمة خاملة :


- ايه بعدتي ليه ؟ 


استقامت و هي تفرك وجهها الأحمر بكفيها بتوتر ثم قالت بتقطع و هي تلتقط الأنفاس من الهواء بصعوبة :


- انا.. انا اسفة بس أنت لازم.. لازم تمشي دلوقتي.. ال security أكيد اتصل بأهلي و هيجوا علي هنا. 


استقام و اقترب منها و همس ملاحظًا خوفها و هو يعدل من خصلاتها خلف أذنها :


- طيب انا همشي حاضر.. مفيش داعي للقلق ده.. ممكن تقوليلهم الحقيقة مش اكتر.. إنك تعبتي و انا كلمتك فإستنجدتي بيا بس كدة.. المهم دلوقتي إنتي متأكدة انك كويسة فعلا مش محتاجة نروح لدكتور؟ 


ابعدت يده التي تلمسها بتوتر و أومأت بالنفي عدة مرات و هي تنظر لأسفل شاعرةً بالتشويش ثم قالت بعد أن رطبت شفتاها :


- لا.. لا انا تمام. 


أومأ بتفهم لخوفها ثم قال بتآني ضاغطًا علي الأحرف :


- ماشي ياحبيبتي.. انا هسيبك دلوقتي.. بس لينا قاعدة طويلة افهم سبب اللي حصلك ده ،تمام؟


غزا الشحوب وجهها و لكنها رسمت بسمة مزيفة علي وجهها حتي تنتهي من أمره قائلة بإيماءة :


- تمام. 


لوح لها بيده و رحل و كان هو سبب نوبتها الثانية في البكاء فقد شعرت بتلوث جسدها من احتضانه لها و لا تصدق أنها استسلمت بهذا الشكل في لحظة ضعف حتي و لو كان مجرد عناق! دخلت المرحاض الخاص بغرفتها و خلعت ملابسها و رمتها ارضًا ثم دخلت كبينة الاستحمام و فتحت المياه الباردة لتنهمر علي جسدها تسابق انهمار دموعها، و حكت جسدها و وجهها بعنفٍ كأنها تمسح بصمته من علي جلدها شاعرةً بالعار من نفسها و من ضعفها. 


بعد دقائق انتهت من حمامها و نضبت دموعها أيضا بينما وجهها مازال منتفخًا أثر البكاء، و بطعمًا لاذع بحلقها جففت جسدها و شعرها ثم لفت جسدها بمنشفة طويلة ثم خرجت لترتدي ملابسها في هدوء و بجلد شاحب كالأموات. خرجت لصالة منزلها بعد أن جففت شعرها فوجدت أخيها يجلس واضعًا قدمًا علي اخري بأريحية علي أحد المقاعد الوثيرة فلم تلقي بالًا له و أكملت سيرها و جلست علي كرسيها الهزاز تفتح أحد كتبها المفضلة لتقرأها و هي تهتز بحركة رتيبة واضعةً قدمًا علي اخري و بهدوء لا تعلم من أين إبتاعه عقلها! رفع أخيها حاجبًا متعجبًا و مستفَزًا أيضا من تصرفاتها الغير متوقعة و ثَباتها.. قال و هو يعض علي نواجزه :


- مش مهتمة تعرفي انا جاي ليه طيب ؟ 


ردت بعدم اهتمام و هي تومأ بالانكار و تنظر لكتابها :


- لا مش مهتمة عشان عارفة. 


رفع حاجباه بتعجب و استطرد قائلا :


- و ياتري اقدر اعرف عرفتي منين؟ 


قلبت شفتيها بعدم مبالاة و أجابت و هي تحرك كتفيها لأعلي  :


- عادي توقع.. زائد اني عارفة إنك بتراقبني. 


- طيب بما إنك عارفة انا جاي ليه ممكن تجاوبي علي سؤالي اللي أنتي اكيد برضو عارفاه. 


انزلت قدميها بهدوء و قالت و هي تعدل من خصلات شعرها المربوطة للخلف :


- اه طبعا.. المسيو بتاعي من المدرسة. 


- جاي ليه و بيعمل ايه هنا ؟ 


- عادي تعبت و هو اتصل بيا بالصدفة فطلبت منه يساعدني. 


اسند ذقنه علي كف يده و اردف :


- طب و مطلبتيش حد مننا ليه ؟


- قولتلك كنت تعبانة و هو اللي اتصل فاستنجدت بيه. 


كان سيعلق علي حديثها ولكن رنين هاتفه قاطعه فنظر لها ثم أجاب بنبرة جادة :


- ايوه يا سعيد.. قول اللي عندك. 


- ايوه يا بيه، رقم العربية اللي حضرتك بعته يخص واحد اسمه ناير الوكيل، مدرس في مدرسة اسمها الأمل و متجوز و عنده بنتين في ثانوي. 


رد بإقتضاب لينهي المكالمة و هو معلقًا نظره بها :


- تمام.. سلام.


ابتسمت بسخرية و سألته و هي تسند وجهها علي قبضة يدها :


- ها اتطمنت؟ 


قام من مكانه مستندًا علي ركبتيه ثم تنهد و اقترب من مكان جلوسها بهدوء و عندما وصل لكرسيها انخفض قليلا بجذعه ليهمس لها و هو يلف شعرها علي قبضته و يشده قليلا :


- لو وصلني اي خبر تاني عن إن الراجل ده أو غيره عتبوا عتبة الشقة دي هقول لأبوكي فيتصرف فيكي هو بقي يجوزك يسفرك أهو بدل قاعدتك اللي ملهاش لازمه دي.. فاهمة ؟


عندما تأخر ردها شد قبضته علي خصلاتها فتأوهت ثم قالت و هي تجز علي الأسنانها ليرحل فقط :


- فاهمة. 


لم تكن تمتلك الطاقة لتجادل أي شخص أو تتحدث بأي شيء، أرادت فقط النوم في سريرها بهدوء أو تستسلم لنوبة بكاء ثالثة. 



❈-❈-❈



اتصلت "لوجين" ب"علي" و سألته دامعة العينين عن مكانه فطفأ سيجارته بسرعة و دخل المرحاض الموجود بالمقهي الشبابي الذي يجلس به قربًا من منزله و قال بصوت منخفض :


- انا في البيت يا حبيبي.. مال صوتك؟.. لا تجيلي بيت ايه مش هينفع.. عشان ماما و جدتي و كدة فمش هناخد راحتنا.. بصي هبعتلك location تعاليلي عليه تمام يا قلبي؟ يلا باي. 


أغلق "علي" المكالمة مبتسمًا ثم تنهد و تلمس شفته العليا بطرف لسانه مفكرًا ثم خطرت علي باله خاطرة خبيثة فهاتف صديق له :


- الو.. ايه ياض يا سيكا.. عامل ايه يا صاحبي؟ بقولك عايزك في مصلحة كدة.. اه حوار هبقي احكيلك عليه بعدين.. عايز الشقة الفاضية اللي في السلام ساعتين زمن.. تسلم يا زميلي نردهالك في الأفراح ياعم.. تمام يعني هلاقيه تحت السجادة؟.. تمام يابا تسلم. 


أغلق هاتفه و تمطع بذراعيه و هو يعض علي شفته السفلي فرحًا، ثم خرج من المرحاض ليستعد لحفلته القادمة. 


بعد نصف ساعة في شقة بحي مزدحم بمنطقة شعبية..


كان "علي" يقف مستندًا علي الحائط بقدمه و يستند بيدٍ علي الاخري المثنية أسفل صدره، و يمسك بها سيجارته متابعًا المارة من داخل حوش منزل ضيق قليلًا، ثم فجأة لمح "لوچين" تضم حقيبها لصدرها برعب ملحوظ فأصدر صفيرًا بفمه لينبهها بوجوده و رمى عُقب سيجارته أرضًا، فأسرعت إليه و اخرجت زفيرًا مطمئنًا لأنها وجدته اخيرًا فقد كانت علي وشك البكاء بالفعل.. عندما وصلت إليه و دخلت الحوش امسك ساعديها بلهفة يجيد اصطناعها و قال و هو يحتوي وجنتها بيده :


- مالك يا روحي؟.. شكلك معيطة ! 


فمطت شفتيها كالاطفال و نزلت دمعاتها علي خدها الأبيض الممتليء فمسح دموعها بإبهامه و شدها ليصعدا السُلم قائلًا :


-  تعالي طب نطلع نتكلم فوق. 


استسلمت لطلبه و صعدت معه صامتة، و عند وصولهم لطابق ما نظر "علي" لأعلي و أسفل ليطمئن من عدم وجود أحد ثم انخفض أرضا يرفع سجادة حمراء صغيرة موضوعة أمام الباب و انتشل من أسفلها مفتاح نحاسي قديم و استقام مجددا يفتح به ذلك الباب البني قديم الطراز ثم دفع "لوچين" برفق لتدخل الشقة و دخل خلفها و ثم أغلق الباب ببطيء و هو يجز علي أسنانه حتي لا يصدر صوت يلفت انتباه أحد و عندما استدار في صالة المنزل وجد عدة أرائك مغطاة بغطاء أبيض يغطيه طبقة تُرابية خفيفة، يبدو أن هذه الشقة لم تُزار منذ مدة قصيرة.. دارت "لوچين" بجسدها له و تعالى بكائها فجأة فغطت وجهها بكفيها فاقترب "علي" منها بخطوات حذرة و تقرب منها بحركة جديدة عليها و مسد كتفيها بلمسات ناعمة دافئة و سألها بحنان :


- مالك بس يا حبيبي بتعيطي ليه؟.. باباكي عمل حاجة طيب؟ 


فأومأ برأسها ثم كشفت وجهها و همست له ببكاء :


- بابي بيخون مامي. 


غطت وجهها مجددا بأسي بينما الواقف أمامها توسعت عينيه متعجبًا و ضحك ضحكة قصيرة مستهزئة.. أي رجلًا خائنًا غبيًا هو حتي تكشفه ابنته الحمقاء! ما باله إذن بزوجته و ابنته الأخري الفَطِنة! لماذا يخون من لا يعرف كيف لا يكشف نفسه، من الأساس؟ مط شفتيه بعدم رضا علي أولئك الذين يفسدون سمعة الرجال، و حرك رأسه بعلامة لا فائدة، ثم ربت علي وجهها برقة و سألها بهمس مشابه لخاصتها :


- و إنتي عرفتي منين يا حبيبتي؟ 


ابتلعت ريقها و بدأ تقص عليه :


- بعد ما خلصت المدرسة كان عندي درس فقولت لمامي إني هروح الأول مع شذا صاحبتي - اللي انت عارفها - و اجيب من عندها كتاب ال Psychology بتاعي عشان نسيت تجيبهولي معاها من البيت و واحنا تحت بيتها قولتلها تطلع تجيبه و تنزل و انا هستناها تحت فبعد شوية شوفت بابي نازل من عربيته و طالع لبيت بسرعة أوي و سمعته بيسأل ال security علي رقم الدور بتاع واحدة اسمها تولين و بعدين طلعلها. 


رفع علي حاجباه بتعجب ثم وسوس له عقله بأن يتعجب لاحقا و لينتهز فرصته الآن فاقترب منها اكثر و امسك بيديها يبعدهما عن وجهها ببطيء و هو يهدئها هامسًا :


- ششش.. خلاص يا حبيبي متعيطش بقي.. ممكن يكون طالع لواحد صاحبه و انتي فهمتي غلط من اكتر.. مستحيل باباكي يعمل كدة.. مش أنتي قولتيلي بنفسك إنه متجوز مامتك عن حب؟ 


فنظرت له بعينين دامعتين و أومأت بالإيجاب و قد بدأ يؤثر علي عقلها بالفعل.. اكمل همسه له و هو يقربها منه اكثر و لكن ببطيء بإحدي يديه و الاخري تحتضن وجنتها بحنان و ابهامه يمسد جلدها في دوائر :


- خلاص يبقي استحالة يفكر في حد غيرها صح؟.. و بعدين سيبك من كل ده و قوليلي بقي انا موحشتكيش ولا ايه؟ بقالنا كتير مش بنشوف بعض  صح؟ 


فابتسمت بخجل و مسحت عينيها بيدها الحرة بينما الاخري ملتصقة بجذعه الأمامي فشجعها أكثر علي الحديث فهمست هي الاخري بضحكة جميلة :


- وحشتني أوي. 


فضيق عينيه و قال يداعبها و ابهامه انتقل من وجنتها لشفتيها :


- وحشتك أوي أوي ولا نص نص؟ 


فابتلعت ريقها ترطب من حلقها الذي جف من التوتر و رائحته القريبة منها تصيبها بالخُدر في أطرافها و تشعر بعدم القدرة علي ترتيب الكلمات فقالت و هي تحاول الابتعاد عنه قليلاً :


- لا أوي.. ابعد كدة شوية عيب! 


أومأ بالنفي ثم قال بهسيس خرج معه انفاسه الحارة لتضرب جانب وجهها :


- أنتي عارفة اني بحبك ولا لا ؟ 


ابتلعت ريقها مجددا ثم قالت بارتباك و هي توميء :


- عارفة. 


- طب ايه ؟


- ايه ؟ 


اقترب منها أكثر و أحاطها بذراعيه و لكنها عادت للخلف بجذعها و دفعته بضعف في صدره بيديها و قالت و هي تميل برأسها و قد تسارعت أنفاسها لدرجة ألمتها :


- طب.. طب مامي.. مامي هقولها ايه؟.. انا.. انا اتأخرت عليها. 


قربها منه اكثر و ثبت وجنتها بيده و همس :


- لا متأخرتيش ولا حاجة.. متقلقيش من حاجة طول ما انتي معايا. 


و اطبق بشفتيه علي خاصتيها بقبلة أفقدتها القدرة علي الوقوف فكادت تقع و لكنها تعلقت برقبته بينما هو يهمهم باستمتاع.. ابتعد بعد قليل عنها لاهثًا و احتوي وجنتيها بكفيه و همس ببسمة مغمضًا عينيه :


- بحبك أوي يا لوچي. 


همست بخجل و بضحكة صغيرة خرجت منها لشعورها بدغدغة في معدتها :


- و إنت قليل الأدب اوي يا لولو


فضحك مثلها و قبل وجنتها فابعدته وهي تضرب كتفه بقبضتها برقة و قالت و هي تشير بسبابتها حين ابتعد و تتصنع الحزم :


- خلاص قلينا أدبنا شوية وخلاص.. انا همشي دلوقتي بس لازم اشوفك تاني. 


فقال بمكر و بغمزة من عينيه الخضراء :


- ليه عايزة قلة أدب تاني؟ 


كانت تحمل حقيبتها و لكن عند سماع كلماته رفعتها و ضربته بها فتأوه ضاحكًا فقالت بسخرية :

- لا يا خفيف.. عشان نتأكد بابي بيلعب بديله من ورا مامي ولا لأ. 


ففتح الباب يطمئن علي عدم وجود أحد ثم اقترب من اذنها بعد أن رفع خصلة منسدلة عليها :


- بس انا ملاحظ انك اتحسنتي كتير.. شكل صحتك بتيجي علي البوس. 


فضربته بحقيبتها و نزلت الدرج بسرعة. 


❈-❈-❈


في منتصف النهار غادرت أم "زينب" لتذهب في زيارة لاحدي صديقاتها، و كانت "زينب" في غرفتها تحاول تجميع تركيزها المشتت لتستذكر دروسها و لكن ارتعاش أطرافها و تجمد أصابع يدها لا يساعدها بتاتًا، كل ما يشغل تفكيرها هو سؤال "ما التالي؟"، تشعر بالضعف و بقلة الحيلة، تفكر بما التالي و لم تفكر بما العمل، تتخيل الأسوء فقط، خائفة من أخيها و من أبويها و من الناس، صارت تخشي النوم، تخشي التلامس حتي مع أمها و تتعذب من صوت أخيها، صارت تحلم بدمه علي يديها و تحلم بأنها تقتله في نفس الغرفة التي أخذها بها، خائفة من رد فعلها علي ما سيفعله المرة القادمة فهي اصبحت خارجة عن السيطرة في وجوده فزينب الضعيفة التي لا تستطيع قتل صرصورًا جرحت اخاها بجانبه و أوشكت علي قتله، الحل من عندك يا الله، ألهمني الحل و انجدني يا الله. 


ظلت تدعو الله في سرها و قد سالت دموعها و بللت كتابها و يديها المستندة علي مكتبها، تشعر برجفة تسير في عمودها الفقري ثم جسدها تلقائيا كل خمسة دقائق تقريبا. استمرت محاولتها للتركيز علي درسها حتي سمعت صوت صفير غريب بأذنها و عقلها ألمها فسدت أذنيها بيديها تحاول منع تلك الذبذبات التي استمرت لنصف دقيقة و توقفت، فحدثت نفسها "ها أنتِ قد جننتي ايضًا و أُصبتي بهلوسات ،هنيًا لكِ" ففتحت فمها تريد أن تصرخ و لكنها تراجعت و قبضت كفها تعض عليها بينما دموعها تكاد تحفر سهلًا في خدها و يكاد قمر عينيها المعتم أن يتشقق من كثرة اهتزازات جسدها و حركاتها العصبية التي أصبحت تلازمها. نامت علي يديها المستندتين علي المكتب و هي تمتم بما تحفظه من آياتٍ من القرآن الكريم محاولةً للهدوء. بعد قليل سمعت صوت فتح باب الشقة و صفير أخيها و هو يأرجح سلسلة مفاتيحه بين أصابعه و يتحدث في الهاتف فاستقامت "زينب" بسرعة و أقتربت من الباب تصطنت علي حديث أخيها فسمعته يقول بمرح :


- ايوه يعني هتيجي امتي يا أمي برضو.. طيب توصلي بالسلامة يا أم حمزة. 


ثم سمعت اقتراب خطواته لغرفتها فجرت إلي سريرها و دموعها تسابقها في الجريان علي وجنتيها، حاولت تمثيل النوم و لكن لعنة اهتزاز جسدها لا تساعدها فحاولت كتم أنفاسها العالية عدة لتسيطر علي حركة جسدها حتي اقتربت الخطوات كثيرًا و  فُتح الباب و سمعته يقول بتلحين هامسًا :


- زوزو.. يا زوزو.. ايه ده مش معقول تكوني نايمة.. لا قومي كدة دي فرصتنا ماما برا و هنقعد ننبسط براحتنا.

اقترب من سريرها و لاحظ أنفاسها المضطربة فعلم أنها مستيقظة فتذكر شيئا علي الفور جعله يتحدث بنبرة جدية قائلا :


- قومي عشان عايزك في موضوع مهم الأول صح.


جلس بجانبها علي السرير فقامت بسرعة و ضمت ركبتيها إلي صدرها مبتعدة إلي اخر نقطة في السرير فمد يده يمسد ركبتيها بحميمية و قال بهمس :


- عارفة اننا متفقين إنك مش هتحكي لحد صح؟ 


فأومأت برأسها و هي تحاول ضم قدميها أكثر لصدرها و لو أمكنها إدخالهم لقفصها الصدري لفعلت، بينما تابع هو هامسًا و عاقدًا حاجبيه :


- طب بصي هو فيه مشكلة كدة.. انا بصراحة مش واثق فيكي.. اوعي تزعلي مني يا زوزو بس دي الحقيقة.. انتي ممكن تحكي في يوم غصب عنك مثلا أو كدة.. فإحنا هنعمل حاجة تمام. 


استقام من جانبها ثم شدها من ساعدها لتقوم معه فارتجفت و صارت تحرك وجهها بعلامة الرفض و تعالى انينها حتي قامت معه فأوقفها بجانب السرير و استطرد قائلا و هو مبتسم و يخرج هاتفه من جيبه :


- بصي يا ستي.. أنتي هتقلعي هدومك كلها دلوقتي.. و أنا هصورك فيديو..  و لو حصل يعني و اتكلمتي أو فكرتي تتكلمي أنا هنزل الفيديو علي موقع كدة و ابعته لصحابي يتفرجوا عليه و ينبسطوا تمام. 


ضيق عينيه و قال و هو يشير بسبابته و حافظًا علي بسمته :


- و إلا هنكمل اللي معملنهوش في الأوضة المرة اللي فاتت. 


❈-❈-❈


وضعت "دلال" صينية المشروبات علي الطاولة الصغيرة بغرفة المعيشة لتضايف صديقتها التي كانت تعمل معها بالمدرسة سابقًا "سناء" و قالت لها ببسمة ودودة :


- منوراني يا سُنسُن والله. 


مالت "سناء" برأسها و قالت بحب :


- البيت منور بصحابه يا لولو.


ثم عقدت حاجبيها و قالت بجدية :


- اقعدي بقي عايزة اقولك حاجة مهمة.. مش أنتي كنتي سألتيني عن اللي ناير فيه ده.. أنا بقي قعدت افكر كدة و بعدين توصلت لحاجة كدة يعني .. أظن ناير عنده مراهقة متأخرة. 


- يعني ايه مراهقة متأخرة؟ 


- بصي دي مرحلة بيمر بيها الرجالة اللي في الأربعينات كدة، و فيه ستات كمان بيجيلهم مراهقه متأخرة! المهم يعني خلينا في الرجالة.. بصي ياستي دي شوية تغييرات بتحصل في نفسية الرجالة، بتخليهم بقي عايزين يهتموا بنفسهم و بلبسهم و مظهرهم، و يبانوا في سن صغير و يلاقوا إعجاب في عيون الستات و كدة.


تركت "دلال" كأس علي الطاولة و رطبت شفتيها و قالت بتهكم :


- و ده جاله من ايه ان شاء الله؟ 


رفعت "سناء" كتفيها بجهل و قالت :


- دخل في حالة اكتئاب عادي. 


- ايوه يعني الاكتئاب ده جاله من ايه برضو. 


- و هو كل اكتئاب بيبقي ليه اسباب يا دلال!.. ما ممكن يكون بسبب التغيرات الهرمونية مثلا أو الأمراض اللي بتظهر للرجالة في السن ده.. عادي يعني مش شرط يبقي ليه سبب محدد. 


ارجعت "دلال" شعرها للخلف و قالت بشعور بقلة الحيلة :


- طب و الحل ايه؟ 


ثنت "سناء" قدمها أسفلها و جلست بأريحية علي المقعد و قالت :


- شوفي ياستي في كتب علم النفس كانوا بيقولولنا عاملي ابنك زي ما بتعاملي جوزك. متقعديش بقي تأنبيه علي كل حاجة بيعملها و تخنقيه. اسمعيه و عامليه بالراحة. إن غلط تاخديه في حضنك و تفهميه غلطه بالراحه برضو. و تقعدي تمدحي فيه بقي و تشكري في كل حاجة بيعملها. 


ثم غمزت و قالت بضحك و هي تقرصها في قدمها :


- ها كل حاجة بيعملها. 


فخجلت "دلال" و ضربتها في كتفها و ضحكت.. سألت "سناء" بعدها علي الفتاتين فأخبرتها "دلال" و هي تنظر في الساعة :


- لورا جوا بتذاكر و لوچين قربت توصل.. الثانوية مكسرة عضمها ياعيني، كل يوم دروس دروس و مش عارفة تنام عدل حتي. 


بعد قليل دخلت "لوچين" من باب الشقة و وجهها تغلب عليه الحُمرة فقد ظلت طوال الطريق شاعرة بأن الجميع ينظر لها و يعلم ماذا فعلت.. نادت عليها أمها لتأتي و تسلم علي الضيفة، و بعد أن انتهت من إلقاء التحية دخلت غرفتها و جلست علي سريرها تنظر لأعلي و تبتسم مفكرة فيما حدث، تلمست شفتيها بضحكة صغيرة ثم دفنت وجهها بكفيها بسرعة. 


❈-❈-❈


بعد عدة أيام.. 


قالت "ندي" بضحكة حُلوة ل"لورا" و هما جالستان في حديقة منزل الأولي، أمام كتبهما :


- بس عارفة يا ندي باباكي ده ظريف أوي والله. 


تنهدت "لورا" بملل من حديثها المستمر عن أبيها و أردفت :  


- خديه يا حبيبتي لو عايزة. 


فقالت "ندي" و هي تتلاعب بضفيرتها ما جعل عينا "لورا" تتوسعان و عينا شخصًا اخر يراقبهما :


- لا أنا بحب أنكل عزمي ياستي كفاية عليا واحد.. بصي هاتي اتجوزه و ابقي مرات أبوكي انتي متخيلة هعمل فيكي ايه.. هعمل فيكي زي ما مرات بابا سندريلا كانت بتعمل فيها. 


ضحكت "لورا" باستهزاء ثم ضربتها بوسادة كانت ملقاه بجانبها فأخذت الاخري وسادة ثانية و ردت لها الضربات بينما السيد "عزمي" الذي يراقبهما قد وصلته رسالة ما من حديث تلك الفتاة المراهقه. 


❈-❈-❈


"سئمت فِصالك في آداب العشق" 


جلست تولين في ركنها المفضل في الحديقة تكتب خواطرها و الجُمل التي تخطر على بالها في مفكرتها الصغيرة الزرقاء، لقد صُدمت من مبالغة رد فعلها منذ عدة أيام و عاتبت نفسها كثيرًا بسبب فعلتها تلك، تعلم أن حياتها صعبة، تقدر الأزمات التي تقع فيها، تراعي نفسيتها المتعبة، بل و تحضن وجه شخصيتها الضعيف و تدعمه، تعطيه الحنان الذي لا تجده هي و تستخلصه من فصول الروايات، بعد عدة معاتبات و جلسات مع نفسها أقرت أنها إنسان حقه الضعف، حقه البكاء و الصراخ عاليًا إذا أراد، هي ليست صنم فحتي في إعتقادها أن الإنسان ما هو إلا كتلة من المشاعر المتحركة في الأرض فتنعكس تلك المشاعر علي أفعاله و كلامه و كل ما يخصه. المهم أنها توصلت لنقطة الرضا عن نفسها و أفعالها. مهلًا أين السيد المزعج؟ لقد كان كالغراء السخيف الأيام الماضية، بصراحة لقد تخطت تلك الحالة التي كانت بها بسبب شغله لوقتها نوعا ما و منعها عن التفكير لن تنكر، و لكنها كانت ستتخطاها في كل حالا من الأحوال تعلم ذلك. 


عندما تأخر هذا اليوم لأول مرة ذهبت للبحث عنه بنفسها فوجدته يقف في ركنٍ خالٍ من الحديقة مع فتاة مختمرة تتراجع للخلف و يبدو عليها الذعر بينما هو يقف و يمد يده إليها و دموع الفتاة منهمرة كالشلالات علي وجهها فاقتربت منهم بسرعة ظنًا منها أنه يؤذيها و وقفت في وجهه تفصل بينهما و جعلت الفتاة خلف ظهرها و قالت بصوت عالي :


- امشي من هنا بسرعة. 


و عندما لم تتحرك "زينب" من شعورها بخدر أطرافها صرخت بها تحثها علي الركض ثم صرخت بوجهه :


- عملتلها ايه ؟


ضحك باستهزاء و قال باستخفاف من تفكيرها :


- انتي مجنونة يابنتي هكون عملتلها ايه في المدرسة مثلا! 


صرخت به مجددا و هي تعدل من حقيبتها و ترحل و قد هالها مظهر الفتاة المذعور :


- لو قربت منها تاني أنت حر.. و انا اللي هقفلك. 


فصاح بإسمها متعجبا من حالتها :


- استني يا تولين.. يا تولين افهمي يابنتي 


هرولت إلي ساحة المدرسة لتبحث عن الفتاة و وضعت يدها علي جبهتها عندما فشلت في إيجادها، ثم صعدت إلي فصلها عندما رن الجرس معلنًا إنتهاء فترة الراحة. 


بعد قليل نزلت تولين لتذهب للحديقة؛ فقد نسيت مفكرتها في رُكنها المفضل فذهبت للبحث عنها هناك، وجدت "ناير" يقف مع فتاة مبتسمًا يعدل من خصلات شعرها و يتلمس وجهها بأصابعه و هي تبتسم بسمة خجولة فتغيرت تعابير وجهها و جزت علي أسنانها و تحركت من أمامهم تأخذ مفكرتها من علي المقعد فعندما رأتها "ندي" وضعت يدها علي فمها بينهما هو أصفر وجهه كطفل مراهق كُشفت احد مغامراته الرومانسية و قال ل"ندي" أن تذهب بسرعة فتحركت الأخيرة بصعوبة ثم هرولت لفصلها بينما هو تحرك جهه "تولين" ليجذبها من ساعدها لتجاهلها إياه بنفضت يده من عليها و صرخت به :


- اوعي!.. إياك تلمسني فاهم!


فابتسم و عقد حاجبيه و سألها :


- تولين.. انتي بتغيري عليا؟ 


ضحكت عاليا بسخرية ثم قالت وسط ضحكاتها بتهكم :


- ب إيه؟! بغير عليك؟! هو حضرتك اتجننت يا مسيو ولا ايه؟ لا فوق كدة و تعالي كلمني. ولا اقولك متكلمنيش تاني أساسا. 


و رحلت و تركته خلفها و هي تتهكم عليه بصوتٍ عالٍ فاشتعل وجهه بالغضب و لكنه رأي أحد المشرفين قادم فتحرك جهه فصله مرغمًا. 


❈-❈-❈


"صعدت الشمس السماء و مازالت دعواتي إلي الله لم تصعد" هذا ما حدثت به "زينب" نفسها خلال ساعات الصباح الاولي بعد أن ايقظها أخيها كعادته كل يوم و مارس ما يجعلها تتقزز منه و من نفسها و حياتها كلها، لم تستطع النوم كعادتها بعدها و استمرت مستيقظة تبكي و تنظر لسكين الطعام الذي اخفته بحوزتها بعد العشاء، هل تقتله و تسجن؟ هل تقتل نفسها و تكون نهايتها الجحيم؟ هل تنتظر لعل الله يتذكرها فيصرف أمرها أو يأخذ روحها؟ تعبت من التفكير و اجهدها البكاء حتي نضبت الدموع و تعب القلب من سرعة دقه فتمنت لو يتوقف، أمسكت السكين و وضعته أعلي شرايين يدها اليسري فتجدد سيل الدموع علي وجهها و بلل يدها و فُطر قلبها من جديد و شعرت بالألم من جديد فانتابتها لأول مرة نوبة من البكاء لا تتوقف و ارتفعت شهقاتها و أهاتها فاستيقظ والدها و والدتها و أخيها - الذي تسارعت دقات قلبه - علي صوتها  و تقابل ثلاثتهم في صالة المنزل ثم دخلوا غرفتها فوجدوها ممسكة بسكينٍ تثبته علي شرايينها و تكاد تقطع يدها التي جرحتها بالفعل من حرف السكين. فصرخت أمها بينما نظر أبيها ل"حمزة" نظرة فهمها ثم انقض عليها يقيضها بينما سحب منها "حمزة" السكين بسرعة فصرخت "زينب" عاليا متأوهة و لكن عندما رأت "حمزة" أمامها تعالى صياحها بأن يبتعد عنها و تدخلت أمها تحاول أن تصيح بها لتهدئتها و يكبر والدها بأذنها ثم بنهاية الأمر صرخوا ب"حمزة" حتي يخرج من الغرفة فصاح هو أيضا و تشابك مع والده ثم خرج و هو يسُب.. هدأت "زينب" كثيرا بعد خروجه و لكنها ظلت تبكي و تنظر جهه الباب و والدتها تصرخ بأن ابنتها قد تلبسها الجن بينما والدها يحاول تهدئتها و ضمها إليه فترفع له وجهها مبلل بالدموع و تهمهم بكلمات لم يفهموا منها أو يسمعوا منها غير كلمة "صورني" حتي صاح الأب بأن تصمت الأم فسمعوها تقول بصوتٍ واضحٍ صم آذانهم :


- صو.. صورني عريانة.. صورني عريانة.. بيلمسني كل يوم.. بيلمس جسمي. 


❈-❈-❈

يتبع...