-->

الفصل الثامن عشر NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثامن عشر ج2



الفصل الثامن عشر 

(الجزء الثاني)


يقول البعض إني أفلتُ الرصاصة

لكن الجروح التي بقيت معي

تضحك باستهانة

فما هو ثقب حارق أو لحم نازف

مقارنة بقلب مفطور وثقة محطمة.

 

سامانثا كينج

•¤•¤•¤•

 

عبثت ريم بهاتفتها تكتب عدة رسائل مقتضبة بينما تلوح على شفتيها ابتسامة مغرمة وعشب عينها يبرق بشغف مع كل رسالة تصلها .. خصوصًا حينما وصلتها الرسالة الأخيرة:

”اشتقت لكِ ..

افتحي الكاميرا

أريد رؤيتك!!“

قضمت ريم شفتيها بخجل وغبطة لترمق بجانب عينها والدها لتتأكد أنه لم ينتبه لها لتجيب على الرسالة بابتسامة ماكرة ولغة ألمانية متقنة بسبب سنوات دراستها التي قضتها في ألمانيا:

”لا ..

أخبرتك أنني في الخارج الآن لاستقبال أدهم

فور عودتي للبيت سنتقابل حبيبي

 .. لا أطيق صبرًا حتى تأتي مصر

ما كان يجب أن اسافر وحدي!!“

وعلى الفور جاءها الرد:

”أوف، بيبي

أنا أيضًا لا أسامح نفسي على تركي لكِ تسافرين وحدك

لكن لا بأس

سأكون عندك قريبًا كما وعدتك

والآن دعينا من هذا وأخبرني

ماذا سترتدين لي؟؟

أريد هذا الطاقم الأسود الذي أفضله!“

كادت تختنق من الصهد الذي أشعل جسدها وحولها لكتلة ملتهبة لتهز رأسها بينما أناملها تكتب الحروف سريعًا:

”أووه ، لا لا“

انتظرت ما سيكتبه وهي شبة متأكدة منه، فطالما كانت تلك مشاجرتهم الصغيرة كلما جاء ذكر الطاقم الأسود..:

”بلى، سترتدينه

وأنتِ تعرفين أنكِ ستفعلين بالنهاية

إذًا لمّ المماطلة بيبي!!“

”أتعرف؟؟

أنت متسلط!!“

بغيظ كتبتها لتترقب ما سيقوله ببوادر قلق فأحيانًا يأخذ الأمر بعصبية غير مبررة!! .. لكن نوعًا ما فاجأها حينما أرسل لها:

”أعرف أنكِ تقولينها من وراء قلبك

لذلك سأسامحك حبي!! “

تأملت رسالته لأكثر من ثانية بابتسامة بلهاء لتتسع أكثر حينما قرأت ما أتبعها به:

”أراكِ ليلًا يا ذات الرداء الأسود!!“

حسنًا، كان وقح، لا يعرف الحياء، ولديه سلوكيات خطيرة لا تُعد، ولكن ماذا تفعل؟! .. كانت تحبه بشكل جنوني، من أول مرة رأته تمنت أن ينظر لها، ولفترة طويلة عانت من حبه من طرف واحد لكن السنة الماضية تبدل كل شيء حينما التفت لها أخيرًا، ساعدها في دراستها ومشروعها الخاص، وعوضها عن غياب أدهم المفاجئ الذي أصابها باكتئاب بآخر سنوات دراستها .. لذلك لم تستطع مقاومة الانخراط معه في علاقة حب متناسية كل طبائعها الشرقية التي تنتمي لها .. تناست كل شيء وتذوقت معه كل أنواع الجنون لأول مرة!!

 وما المانع من ذلك إذا كانت ستحقق حُلم عمرها وتتزوجه، هكذا حسبتها، وتحديدًا من أجل هذا عادت مصر، لتُفاتح والديها بأمر زواجها منه، ليختار أدهم هذا التوقيت تحديدًا ويظهر جارًا مشاكله في ذيله ويقضى على كل خططها لتطويها جانبًا مؤقتًا على أمل أن ينتهي هذا في وقتًا ما!! .. تتمنى من قلبها أن يكون اليوم هو يوم النهاية .. وتتمنى الأكثر من هذا، أن يعود أدهم للاكتراث لها كالسابق، فعلى الرغم من أنهما قضيا حياتهم في اغتراب عن بعضهما البعض، إلا أنها منذ صغرها وكانت تتخيل أنه سيكون أول من تخبره بحبها الأول، لكن عندما حصل هذا، لم يكن أدهم موجود ..

 اختفى!!

التفت لوالدها من جديد، وقد كان يجلس بجانبها في السيارة في انتظار خروج أدهم بصمت مترقب، بعد أن تم تبرأته من تهمة حادثة المطار بمعجزة من معجزات المحامي الخاص الذي أتى به أدهم مخصوص، والذي عرف فيما بعد أنه يلقب بالـ(الحاوي)، نظرًا لحنكته ومهاراته السحرية في كسب القضايا المستعصية وكأنها رياضة صباحية لديه .. وكانت قضية أدهم كذلك، فقد اعتبروها قضية أمن وطني من الدرجة الأولى، ولم يجدوا عليه أي أدلة تدينه .. وبخصوص قضية خطف فريدة، فتم الإفراج عنه بعد دفع كفالة قدرها (مليون جنية) مع منعه من السفر لحين استكمال التحقيق بعد إدلاء فريدة بأقوالها .. وقد أصرّ مصطفى على ترديد جملة فريدة الأخيرة وأنه لم يتعمد حجزها لكن المركب قد تعطلت بهما، وعمل على التصريح بهذا ونشره في جميع وسائل الإعلام ليحدث لَّغط فتتشوش الأدلة وتنقسم الأراء وتضيع معالم القضية.

وفجأة، وجدت والدها يفتح الباب وينزل آمرًا إياها:

- لا تنزلي، لا أريد أن تتجمهر الصحافة حولنا!!

تجاوز الحشود وعمل الحرس على تفريقهم ليصل إلى أدهم الذي هبط سُلم مبنى العدالة ولم يهتم بكل هذا الجمع، والتقطته ليضمه بحضنه في قوة.

بالكاد ادهم بادله هذا الحضن، ووجد حرج فيما يفعله ليحاول إبعاده عنه بلين قائلًا:

- ليس وقته أبي .. دعنا نرحل منها

- معك حق .. تعال بالتأكيد أنت متعب!!

ربت على ظهره في مودة شديدة وهو يسحبه معه حتى موكب السيارات أضاف سريعًا وهو يفتح سيارته الخاصة له بنفسه:

- لدي مفاجئة لك الل

لم يكن الجملة إلا وكانت ريم تهبط من السيارة وترتمي بأحضان أدهم الذي تصلب جسده فلم يكن يتوقع قدومها أبدًا .. عبرت له بسعادة وهي بالكاد تصل لصدره من قصر قامتها:

- حمدًا لله على سلامتك، أخي!!

- ما الذي تفعلينه هنا؟!

سألها مستنكرًا قدومها بينما أصابعه كانت تتلمس وجهها المستدير وتصفيفة شعرها القصير .. لتجيبه بتذمر لم يبدد ابتسامتها التي يعشقها:

- ماذا توقعت .. اشتقت لك!!

قبل رأسها ووفعها بخفة لتدخل السيارة قبل ان يحدث لها شيء وسط ازدحام الصحافة هذا:

- حسنا .. هي ادخلي الآن وسنكمل حديثنا لاحقًا!!

- وأنت .. ألن تدخل؟؟

سأله والده بعد ان سمع ما قاله لريم .. ليهز أدهم رأسه بالنفي:

- كلا .. لدي مشوار ضروري!!

كز مصطفى على اسنانه ليتدخل المحامي موضحًا بكياسة:

- لابد أن يذهب لمدام فريدة ويكسب موقفها معًا .. نحن نحتاج لهذا لكي يخرج براءة من هذه القضية أيضًا!!

- وبعدها ستعود للبيت!!

أكد مصطفى لأدهم وكأنه يمتلك سلطة عليه، وللحظة تساءل ادهم عن سبب تمسكه بعوده للقصر هكذا، لكن لم يكن الوقت المناسب .. تهرب من الاجابة بسؤال آخر وهو ينظر حوله :

- أين ماتيو؟؟

فور أن نطق اسمه وقف ماتيو بجانبه، وقبل أن ينخرط معه بعيدًا، أدركه صوت والده الذي ينبه عليه:

- لا ترتكب أي حماقة جديدة، أدهم

ركب في سيارة أخرى هو وكلًا المحامي ماتيو .. ليسألها مباشرة:

- هل فعلت ما طلبته منك؟؟

تلاقت أعينهما في المرآة لثانية وقد كان أدهم يجلس بالخلف، ليفطن ماتيو أنه يقصد أمر إخفاء هوية الفاعل وراء حادثة المطار واطلاق النار على فريدة .. أجابه بعملية بعدها:

- أكيد سيدي، لم يبق له أثر

- جيد .. تحرك لذلك المشفى الآن!!


❈-❈-❈


تحنطت عيناها على نظرة بليدة التعبير، ربما لمفعول المهدئات التي تسري بدمها، كانت هادئة تمامًا، رغم هذا ارتاب الطبيب أنها ليست كذلك، فقد باغتها بسؤال وكان هذا المقصد من وراءه، أن يفض مغبة البرود التي تغلف نفسها بها، فلا يترك لها فرصة للتردد أو التفكير، لا شيء سوى الحقيقة .. وها هي تقابله المفاجأة بمثيلها .. فطنت جيدًا لما يفعله لم تكن غبية رغم ارهاقها، لقد استخدم معها عنصر المفاجأة، خدعة قديمة استهلكتها هي شخصيًا في زمن تحقيقها الجنائي مع المجرمين، آخرهم كان (جاستن) حينما فاجأته بقتله لزوجته ونجحت بالفعل باستخلاص اعترافه الذي فتح عليها أبواب الجحيم تباعًا .. فعلى مَن يلعب هذه اللعبة بحق السماء؟! .. لا بأس، هو استخدم (عنصر المفاجأة) وهي ستستخدم أسلوب (البيّنة على مَن ادعى)!!

أكثر ما تكرهه حقًا هو أن يستغبيها أحد!!

 اعتدلت بجلستها على الفراش وحدقه طويلًا بصمت حتى يأس من حديثها، عندها فقط فعلت وهي ترفع جانب شفتها بسخرية مخمنة:

- دعني أخمن .. مراد هو مَن أرسل في طلبك، أليس كذلك؟!

تنهد الطبيب بنوع من الاحباط الممتزج بالدهشة وضم راحتيه مع متريثًا في التوضيح لها:

- يقول أنكِ لستِ بخير، وأنك ربما قد تعرضتِ للإيذاء في فترة اختطافك أدت إلى تدهور في حالتك!!

مطت فريدة شفتيها باستغراب مكرره بنبرة مستنكرة:

- تدهور؟! .. ماذا تقصد بتدهور بالضبط؟؟

- انتِ تعرفين أني أتحدث عما فعلتيه بمراد .. فريدة بربك، مراد كان يحدثني على أساس أنني ما زلت أتابع حالتك!!

كانت تقابله بعينٍ جامدة رغم الانفعال الطفيف البادي في لهجته مخفية بذلك صدمتها مما يحدث .. ولم تتردد أن تجيبه بنبرة غير مبالية:

- لكنك لم تعد تتابعها منذ أكثر من سنة، أين المشكلة؟! .. ماذا تفعل هنا (هشام)؟؟

احتدت نبرتها في الأخير مما جعل الآخر يبتسم بسخرية وكأنه قد رأى شيء لا يعجبه:

- انا هنا لأنه أخبرني أنكِ تتصرفين بغرابة .. تعاقرين أنواع قوية من المهدئات، ينتابك كوابيس وهذاءات، ولأنكِ تعرضتِ للاختطاف من زوجك السابق، ورغم هذا أردتِ الدفاع عنه وعندما منعك مراد قابلتيه بعدوانية وكدتِ تقتلينه .. إضافة إلى حالة شرود هستيري التي دخلتِ فيها عقب هذا حسبما أوضح الطبيب هنا .. كل ذلك أقرب لتصرفات شخص يعاني من صدمة استعادة الذاكرة، فريدة!!

حينما انتهى من كلماته أطرقت فريدة برأسها لأسفل ولم تبد له ملامحها مطلقًا، ولم يكن من الصعب عليه التكهن بما تشعره به، ليتابع بطريقه أكثر تعاطفًا وأسفًا:

- أعرف أنه ليس من شأني، لكن.. فريدة، نحن أصدقاء قبل أي شيء، وإذا كنتِ تمُريّن بتدهور في حالتك اخبرني، ربما استطعت مساعدتك!!

- هل هو بخير؟؟

سألته، بينما لازالت على وضعها الهادئ لكن نبرتها المختنقة فضحت شعورها المؤلم بالذنب تجاه مراد، وأنها قد تخلت عن قناعها الجليدي .. ليُسارع في طمأنتها:

- بخير .. لم يصيبه شيء خطير، لا تقلقي!!

رفعت عينها المحقونة بالدموع باغية التأكد من أنها لم تتسب في الأذى لمراد، ولتُفرج بعدها عن أنفاس حارقة كادت تخنقها وتركت بحلقها غضة جعلتها حروفها مبعثرة غير متماسكة، بينما تضم ركبتيها إلى صدرها في وضع جنين قائم خاصة أصابعها التي تغروها في لحمها .. تحدثت بينما الدموع تتسابق من حدقتيها وتُجزّء الشهقات كلماتها:

- لا أعرف كيف فعلت هذا .. كل ما أعرفه أنه حضرني غضب وخوف شديد من محاصرة مراد لي و.. شعرت بالتهديد .. بأن كوابيسي تتحقق، بأنني في مكان موحش للغاية وسأتعرض للأذى واعتراني حينها حالة فزع لم أخرج منها إلا ومراد مُرتمي على الأرض أمامي وسط دماءه..

كانت شاردة بعيدًا عن عين "هشام " وكأنها تشاهد كل شيء من جديد وتهز رأسها بعدم تصديق تنشج أنفاسها بصعوبة وكم كان من الشاق عليها الاعتراف بهذا:

- دماءه التي جعلتني اتذكر كل شيء مر عليّ في سنواتي المفقودة!!

- تقصدين الحادثة؟؟

تحفز "هشام" في جلسته يستفسر عما فهمه منها محتفي بأن استنتاجه كان صحيح .. مسحت فريدة وجهها المُغرق بالدموع في ذراعها، لتحبس أنفاسها دقيقة وربما أكثر مُسبلة الجفون لا ترى أمامها سوى بعض المقتطفات المؤذية من القلعة .. تنفض كل هذا قبل أن يفوت لوعيها ويسيطر عليها متذكرة سؤال "هشام" مجددًا لتُجيبه بلسان ثقيل:

- ليس كل ما يخصها؟! .. بعض الأجزاء منها لازالت مبهمة!!

أغمضت عينها تصنع حاجز منيع بعقلها وتحبس خلفه كل تلك الوحوش، لا تريد تذكر أي شيء من تلك اللحظات المريعة .. لتجد نفسها تسخر من أمنيتها في هذا، ليتها فقدت الذاكرة للأبد!! .. استجمعت شتاتها لتردف بصوت محشرج:

- هل أنا مجبرة أن أحكي كل شيء الآن؟!

لم يخفي هشام تعجبه من سؤالها وأشار لها بيده فيما يعني أن لها مطلق الحرية:

- تعرفين .. إذا أردتِ!!

- حسنا، لأنني لستُ مستعدة لهذا!!

أعربت عن رغبتها دون تردد بلهجة جافة، وكأنها لن تكون مستعدة لمشاركة أحداث تلك النكبة أبدًا .. ولا حتى مع نفسها .. لا تريد أن تختبر تلك المشاعر الدميمة من جديد مع كل كلمة تُخرجها، يكفيها كوابيسها وما تفعله بها .. ليس في كل الأحوال يكن الحديث عن الآلام منفذ للراحة، بعض الآلام تكمن الراحة في تجاهلها!! .. التظاهر بأنها غير مؤذية، بل بأنها لم تحدث من الأصل!!

 لا، ليست هي تلك المنتهكة التي تفترش الأرضية الباردة عارية بزاوية مظلمة من عقلها وهناك طوق يكبس فقرات عنقها .. ليست هي المكبلة بأصفاد تزن وزنها ومطموسة في ماء ينخر جسدها بتيارات الكهرباء .. وبالتأكيد ليست هي مَن المتكومة في قفص يطبق عظامها بعد أن تم اغتصابها بأقذر الطرق حتى آتى عليها الوقت الذي نست فيه أن هذا جسدها .. أنكرت أنها مَن تُنتهك .. انكرت حتى نست، وهذا ما قررت أن تفعله من جديد، لكن هذه المرة بوعي .. ستفعله لتعيش .. تعرف، في اللحظة التي ستفعل، ستهوى للقاع ولن تقوم لها قيامة!! .. وللحقيقة، هي قد اكتفت من الركود بالقاع!!

راقب هشام من بعيد ولم يكن خفيًا عليه مؤشرات الشرود التي تحتل تعابيرها بين اللحظة والأخرى، ليزم شفتيه بشفقة واستياء مما أصابها ولم يجد مفر مما هو على وشك اخبارها به:

- في هذه الحالة دعيني أخبرك أنتِ في حاجة للرعاية المكثفة .. لا تنظرين لي هكذا، كلانا نعلم أنكِ في خضم فوضى الآن وسيزداد الأمر سوءًا لاحقًا .. لقد عدتِ من خطف للتو والله وحده يعلم ما عانيته ليجعلك بهذه الحالة .. أعراض الصدمة تتجلى عليكِ بوضوح، فريدة، وصحيح ليس لدي علم عن كوابيسك السابقة لأنكِ لم تخبريني عنها من قبل لكن ما أعلمه أنها ستتفاقم، سيتفاقم كل شيء وقد تدخلين حينها في حالة اكتئاب وربما تأتيكِ أفكار انتحار .. هذا إذا لم تكوني تعانين منها بالفعل!!

قبل أن ينتهي من جملته الأخيرة، ارتسمت ابتسامة متهكمة على ملامحها المتشنجة ليفطن أنه قد وضع يده علما يدور بخلدها حاليًا .. أغمض عينه بأسف معتدلًا في كرسيه ليضبط وضعه أمامها وبعدها شرع في التحدث بعملية ولهجة رسمية لم يحبذ مطلقًا أن يحدثها بها:

- حسنًا، لنكن صريحين، أنتِ لستِ مؤهلة للمثول أمام النيابة .. ويُفضل أن تأخذين باقتراح مراد وتقضين فترة علاجك القادمة في المشفى لدي تتلقين الرعاية المناسبة!!

من فورها كانت تهتاج وتنتفض من جلستها لتهدر بانفعال جمّ:

- اقتراح مراد إذًا؟! .. يحجزني بمصحة نفسية ويخبر النيابة ألا يأخذون بكلامي لأنني مختلة، وأحضرك أنت لتقنعني بهذا أليس كذلك؟!

راقب هشام انفعالاتها بإحباط وهو ينهض ليحاول تهدئتها قبل تصل لنقطة خارج السيطرة:

- فريدة، حبًا بالله من أين أتيتِ بهذا الحديث؟؟ هل تسمعين نفسك؟؟ .. أنتِ تؤولين كل كلمة على نحو عدواني ضدك، وهذا خطير!! .. هذا إذا كان له دلالة، فيبدو أنكِ قد تأذيت الفترة السابقة لذلك حكمك على طليقك سيكون غير صالح، ألا تريين هذا؟! .. ثم بربك، من أين أتيتِ بكلمة (مختلة) تلك؟! .. من المفترض ان..

- ما إن تكتب ذلك التقرير بشأني وتقدمه للنيابة لن يراني أحد سوى مختلة!!

هسهست فريدة من بين أسنانها مقاطعه إياها بينما الدموع تخونها من جديد .. لا تصدق أن هذا يحدث معها، لا تصدق أنها تقف هنا وتخوض مثل هذا الجدال حول سلامتها العقلية .. لا تصدق، وعقلها اللعين لا يفعل أي شيء سوى الانكار!!

وجدت هشام يخاطبها بنبرة أقرب للعتاب هذه المرة:

- لمّ لم تصارحيني فريدة بالكوابيس التي تعانين منها .. لمّ توقفتِ عن العلاج النفسي ولجأتِ للأدوية دون استشارة أحد؟؟ .. ما كانت لتسوء حالتك هكذا!!

عضت على أصابع يدها بحركة عصبية في محاولة بائسة لتسيطر على انفعالاتها كيلا ينتهي بها الأمر بالفعل بمصحة نفسي .. جاهدت لتخرج كلمات هادئة قد الامكان ولكنها فشلت، شرارات العصبية كانت تنفلت منها دون أن تعي حي:

- لأنني كنت بالفعل كنتُ أحتاج لاجتاز علاجي الفيزيائي، ولأن كلانا يعلم أن ذلك ما كان لينجح لو كنت بدأت علاجي النفسي واستعدت أجزاء الصدمة من جديد .. لم أكن لأقف على قدمي أمامك الآن .. ولأنني كنت أفضل الموت على أن يعاملني الجميع على أن يستمر الجميع في معاملتي على أنني مريضة!! .. تمامًا كما يحدث الآن!! .. اكتفيت من نظرات الشفقة وأردت عيش حياتي بشكل طبيعي!!

اضرم وجهها بالحمرة من فرط انفعالها، فحاول هشام تهدئتها من جديد مطمئنًا إياها:

- انت تعرفين أن مراد لا..

- أنا لا أعرف شيء!!

زعقت به لتشعر بصوتها قد بُح وأنها تفرغ غضبها في الشخص الخطأ، لذلك استجدته:

- أريد أن سمع هذا منه!! .. ورجاءً دعني أنا أخبره أنني تذكرت كل شيء!!


❈-❈-❈


أخذت سارة نفس عميق قبل أن تدخل غرفة مراد في المستشفى التي نُقل لها بعد أصابته، وقبل أن تشرع في فتح الباب وجدته يُفتح من الناحية الأخرى لتّفاجئ بدكتور "هشام" كان خارجًا، ابتسم لها بخفة وانصرف معتذرًا منها .. لتدفع الباب وترى أخيها الجالس على الفراش مضمد الرأس يجري مكالمة بدلًا من الراحة التي قد نصحه بها الطبيب .. وما إن لمحها حتى انهى حديثه لتعرف أنه كان يتواصل مع أحمد شقيق فريدة.

جلست بإحباط وإرهاق شديد في كرسي بعيدًا عنه ولم يبدو من هيئتها أنها تنتظر تفسيرًا منه عما يحدث .. وعلى الأغلب لم يلاحظ هذا مراد حينما نهض من الفراش متمتمًا على عُجالة بينما يمسك بيده بعض الأوراق:

- سأذهب بسرعة لغرفة فريدة لأتمم إجراءات حجزها بالمصحة.

نفحت بسقم وهي تُعرب عن استياءها من الوضع بأكمله:

- لا أصدق أنك ما زلت مُصرّ على هذا، وأنت تعرف جيدًا أن فريدة لن توافق!!

- لا يهم، لقد حصلت على توكيل من أخيه بموجبه أستطيع إيداعها في المصحة!!

زاغ مراد عن النظر بوجهها وهو يلقي بجملته متظاهرًا بالبرود بعد أن نجح في إقناع أحمد بأن حالة فريدة تستدعي الحجز ضروري ولن ينتظر حتى ينزلوا مصر .. لتنهض سارة من مكان مردد بعصبية:

- غصب؟؟

دنى من بملامح متشنجة، لم يتصور أن تعارضه هي الأخرى:

- وماذا برأيك نفعل بعد الوضع الذي وصلت له فريدة؟؟ .. هل أتركها هكذا لتذهب وتُبرئ المجرم الذي منعها من السفر وخطفها وأطلق عليها النار بينما كانت معي .. هل أقف أشاهده يؤذي خطيبتي ويستغل مرضها وأصمت؟! ..

- لكنها لم تعد خطيبتك مراد اسمعني..

قبل أن تكمل كانت خِلقته تنقلب وتهتاج أنفاسه بغضب رافضًا تذكر تلك اللحظة القاسية ورافضًا تصديق أن فعلتها حقًا، ليهدر بغضب محاولًا جعل صوته منخفض قدر الإمكان:

- كلا سارة، فريدة خطيبتي وقد فعلت هذا لأنها غير متزنة نفسيًا الآن!! .. لقد اخبرني دكتور هشام كل شيء وأن ما يحدث معها يسمى حالة ستوكهولم ذلك الحقير قد آثر عليها (Stockholm syndrome وهي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف. وتسمى أيضاً برابطة الأَسْر أو الخطف) .. وللحقيقة لقد سئمت مشاهدتها تتأذى أمامي دون فعل شيء لأنه ليس من اللائق التدخل .. سئمت رؤيتها ترمي بنفسها أمام القطار مصرحة أن هذا اختيارها ومن ثم تعود مُتأذية وأنا أتأذى لها .. أتعرفين، سحقًا لأي اعتبارات لائقة هذه المرة لأنني سأساعدها حتى ولو كان غصبًا عنها!!

كانت يتحدث بقهر ولوعة واستطاعت سارة رؤية هذا جيدًا من عيونه التي احتقنت بالدموع وأذنيه ونحره اللذان تصبغا بالأحمر .. ليتحنن قلبها تقترب محاولة اقناعه باللين، فقد بدى وكأنه يعاني هو الآخر صدمة مما يحدث .. اوجعها قلبها حقًا من رؤيته مجددًا بتلك الحالة وهو تقريبًا يتحدث عن نفسه:

- وأنا أيضًا قد سئمت رؤيتك تتأذى بسببها مرة تلو الأخرى .. ها أنا أراك الآن وأعرف أنك ستعود محطم ومكسور لاحقًا، فقط أحاول ككل مرة إثناءك عن الركض متسولًا حبها، لكني لا أملك أن أحميك من التعرض لهذا الأذى، لن أحجُرّ على تصرفك لأحميك!! .. أحيانًا لا يسعنا إنقاذ شخص يلقي بنفسه أمام القطار طواعية، خاصة إذا لم تكون أول مرة!!

نفض يدها التي كانت تحاول أن تحتضن بها وجهه مرددًا باستنكار وقد راح غضبه يتصاعد تدريجيًا:

- متسولًا حُبها!! .. هل تظنين أنني أفعل هذا فقط لأنني أحبها؟! .. أنا افعل هذا لأنها فريدة التي ربيتها..!!

- ولأنها خذلك أكثر من مرة .. ولأنك تأذيت بسببها وبسبب زوجها كثيرًا ولا تتقبل فكرة أنها قد تختاره مجددًا لذلك أنا أتفهم جيدًا رغبتك في الثأر منه والفوز بفريدة في معرك ذكورية بحت!! .. لكن، كل هذا لا يشبه أخي الذي أعرفه، ليست فريدة فقط من تتصرف بغرابة!!

أكملت له الأسباب تباعًا دون أن تعطيه فرصة لينكر هذا، بل تعطيه فرصة ليواجه نفسه لأول مرة منذ سفر فريدة الأول .. ثم أضافت بنبرة أكثر تعاطفًا وهي تستجديه ليعود لرشده قبل ان يُجرح مجددًا، وقد هي نفسها تستاء من حماقته في كل ما يخص فريدة، لا تعرف كيف لم يلاحظ هذا أو يتعلم مما قاساه .. وكأنه ينتابه نقطة عمياء في كل ما يرتبط باسمها:

- تقبل هذا مراد، فريدة التي سافرت لدراستها ليست فريدة التي عادت، تقبل هذا وإلا ستتأذى أكثر .. ألا تلاحظ أن قصة فريدة لم تجلب لك سوى الشقاء والتعاسة والأذى!! .. منذ أن سافرت، وعندما عادت، والآن .. تبا، كم مرة عليّ رؤيتك على شفا الموت من وراء رأسها؟!

ابتلع ريقه المحجر بصعوبة وهو يطرق برأسه ارضًا وكأنما يقلب الأمر بعقله قبل أن يغمغم لها بالنتيجة التي توصل لها:

- فهمت .. أنتِ تغارين منها!!

توسعت عينيها الداكنة بتألم وكأن جملته قد اصابت قلبها، ونسفت كل المشاعر التي تحملها له .. لم تتوقع من قبل أن أخيها قاسيًا عليها إلى هذا الحد وأعمى بحب فريدة حتى شقيقته!! .. كانت تمتلك عيون داكنة وواسعة كالحملان ذات بريق لامع ورموش كثيفة متشابكة كالأطفال يجعل كل من يراها يتوه بها، لكن تلك العيون كانت تلمع الآن بدموع الخذلان بينما تحاول لملمة شتاتها وقد صَعُبت عليها نفسها، ففي كل ما تعانيه كانت وحدها ولم يشعر بها أحد .. ولا حتى من يحمل دمها.

عضت على شفتيها بغضب كمحاولة أخيرة للتمسك بدور العاقلة الذي خلعوه عليها منذ أن ولدت .. ضحكت باستهانة ولم تبقي في جعبتها شيء بعدها:

- ماذا؟! .. هل هذا ما فهمته من كل حديثي؟! .. أنني أغار؟! .. كلا، تلك ليست غيرة، أنا فقط اكتفيت من التضحية هباءً من أجل شخص سيخبرني بالنهاية أنه لم يكن في حاجة لتضحيتي!! .. اكتفيت وسئمت من قصة فريدة محور اهتمام الجميع، فريدة التي يتصارع من أجلها الرجال .. ولأنني شبعت من المكوث في اروقة المستشفيات بسببها، ولأن لدي حياتي ومسؤولياتي التي أحملها وحدي ولا يسعني حمل مسؤولية فريدة هانم فوق رأسي أيضًا .. لدي عمل أتركه وأركض وراءها وورائك، وأترك أمي العاجزة وحدها في البيت، أترك ابنتي الصغيرة التي تحتاجني والتي اا...

ألجمت لسانها قبل أن ينفلت بما ستندم عليه وقتها، لتستبدلها بجملة طالما أردت ان تقولتها:

- وهناك ابنتك التي تتركها أنت، تتركها وتخبرني انك تهتم لفريدة لأنك ربيتها، حبًا بالله، فلتهتم لابنتك الحقيقية ربع هذا الاهتمام وإلا لما أصررت على أخذ حضانتها من والدتها بالأصل؟!

رمقته بعدها، وكان باديًا على مراد مزيج من الذهول والندم والتعاطف، كان يشعر بأن هناك خطبًا ما يحدث معها، ويشعر بالذنب لأنه جرحها ودفعها للحافة هكذا .. وقبل أن يتبدى منه حرف، استبقته وهي تجمع حقيبتها وهاتفتها متمتمه بحنق:

- أتعرف، لا يهم .. عليّ أن أذهب، خذ تلك الاشياء التي طلبت احضارها لفريدة، وعندما تنتهي من كل شيء...

توقفت لتلتقط انفاسها وهي تفتح الباب قبل ان تضيف أخيرًا:

- لا تطلبني رجاءً لأنني أشعر بالمرض من ورائكم!!

ما إن أوصدت الباب خلفها، انشغلت بمسح دموعها لترفع هاتفها وتتفحص الرسالة التي وصلتها صباحًا من زوجها السابق "ياسر" لتزيد الفوضى في حياتها أكثر:

”ابنتنا معي،

لا داعي للذعر

إذا أردتِ رؤيتها، فلتحقي بنا على هذا العنوان..

ولن أكون أناني مثلك، وسأسمح لكِ بالعيش معنا“


❈-❈-❈


بعد فترة من الوقت، سعت فيها فريدة لتهدئة نفسها بنفسها قبل أن تجد أثنين من التمريض وطبيب يدخل ككل مرة ليهدئها بمعرفته، صدقًا قد اخذت كفايتها من المهدئات هذه الأيام!! .. ستخرج من هنا اليوم، أيًا كانت الطريقة، ولو أرغموها على شيء ستريهم كيف يكون الجنون عن حق!!

لم يوقفها عن هذا سوى الباب الذي طُرق مرتين، ليدخل مراد عليها ووجهه شاحب عن ذي قبل، ووضع الحقيبة التي كان يحملها في يده على فراشها دون كلمة .. كان يجاهد ليحول دون تقابل عيناهما معًا، إلا أن فريدة أبيت هذا وهي تسأله بسخرية لاذعة:

- اقترب واطمئن .. لن اتهجم عليك دون سبب..!!

ثم تنهدت رامية بنظراتها عبر النافذة قبل أن تضيف بهمسٍ بالكاد يُسمع:

- أليس هذا ما أخبرتهم به؟؟ .. حسنًا، لا تقلق، لقد أخذت كمية مهدئات لا تجعلني أقوى على رفع إصبع!!

- لم أرد أن نصل لهنا!!

تركت النافذة والتفتت له، كان يضع يده في خاصرته بإحباط وندم حقيقي على ما وصلوا له بعد كل سنوات الحب والصداقة التي جمعتهم .. لتبتسم فريدة بقلة حيلة مقرره بواقعهم المرير:

- لكننا هنا بالفعل!!

تحشرج صوته وعاد ليتحاشى النظر لها ثانيةً، بينما يعبث بالأوراق التي بيده:

- هشام اخبرني أنكِ..

- لما تفعل هذا، مراد؟؟

قاطعت عليه فرصته في التهرب منها، ليقابلها بحدة ويتسلح بالصلابة أمامها ليقول ما جاء من أجله رفعًا لها وثيقة إقرار منها بموافقتها على الحجز:

- أنتِ تعرفين لمَّ، ولا داعي لأن نخوض هذا الجدال مجددًا!! .. من فضلك، وقعي هنا حتى نتمكن من انهاء اجراءات نقلك للمصحة!!

لم تتمالك فريدة نفسها فور أتى على ذكر الأمر لتقهقه مكررة وراءه بتهكم واضح:

- نعم، المصحة!!

أخذت انفاسها بعد ضحكها لتجلس على الفراش مقابله قبل أن تنفعل متظاهرة بالهدوء:

- وماذا ستحدث إذا رفضت؟؟

جلس مراد بجوارها بتريث وهو يجمع الكلمات مرغمًا في فمه:

- بالطبع ستفعلين .. ولكني في هذه الحالة سأخبرك آسفًا بأنني مضطر لإيداعك جبرًا في المستشفى!!

ارتجفت خلجات فريدة وارتعشت ابتسامتها الساخرة وهي تسأله بتوجس وثقة واهية بسبب ثقته هو:

- وبأي صفة قانونية ستفعلها إذًا .. أنت حتى لم تعد خطيبي!!

تأمل مراد الطريقة التي نطقت بها الكلمات وكأنه لم يعد يعني لها شيء وليست نادمة على فعلتها الطائشة كما ظن .. ليكز على اسنانه وهو يخرج من بين الأوراق التي في يده ورقه بعينها ويوريها لها:

- بصفة التوكيل الساري الذي انوب فيه عن شقيقك ريثما يعود!!

تكسرت صلابتها وهي تقرأ التوكيل وتتذكر شيئًا كهذا يوم جاءها بكاليفورنيا ليُرجعها مصر .. بشحوب شديد ابتلعت ريقها وهي تسأله مستنكرة:

- أحمد موافق؟؟ .. وماما؟؟

حينما حدثها بصمت كممت فمها بقهر وهي تحاول أن تتعامل مع الوضع كأنه لن يدوم .. لذلك علقت باستخفاف:

- تبًا، لمّ أشعر بأنني خضت هذا الموقف سابقًا؟!

ضيق عينه محاولًا فهم إلام تشير، حتى خمن أنها ربما تشير لتجمعهم ضدها يوم أراد الزواج منها واستغرب لتذكرها هذا قليلًا لكنه آثر المضي نحو الهدف أفضل وانها هذا الجدال المتعب، لذلك طلب منها مجددًا:

- فريدة من فضلك وقعي!!

- لن أوقع شيء!!

رفضت بنبرة مختنقة أكثر منها غاضبة، لتجد نفسها محاصرة مجددًا من مشاعر الخذلان، وآخر ما تتوقعه أن يكون مراد هو بطلها .. تبًا، ماذا يحدث له، بالكاد تعرفه، لوهلة تشعر أنها تتعامل مع أدهم وليس مراد .. اجل القسوة والإجبار افعال تليق بأدهم، أما هو فلم تعتاد منها إلا على الدعم والأمان وكل شيء طيب .. ففي أحلك لحظاتها مع ادهم تمنت أن يكون بجانبها، بحق السماء ماذا حدث له، هل أصابته عدوى الجنون أما ماذا .. هل هي السبب؟! .. هي ما أن أوصلته لهنا؟؟، أم انه في الأصل كان كذلك وهي التي كانت عمياء كعادتها، تنكر كل سوء فيما تراه؟!

تقربت منه ومشاعرها كلها كانت تهتاج في فورة أقرب للاحتضار .. امسكت وجهه وناشدته راجية:

- لو كنت تفعل هذا لأنني قد تعديت وتطاولت عليك، فأنا آسفة، أنا حقًا آسفه لم أقصد .. أنت أيضًا استفزتني وقلت حديث جرحني كثيرًا .. أنا لا أفهم لم تفعل هذا، وأنت تعلم أن ورقة كهذه إذا وثقت في قضية ستحكم على مسيرة المهنية بالإعدام!! .. هل هذا ما تريده مراد؟؟ .. حدثني وعينك بعيني، هل هذا ما تريده لي؟! .. ساعدني لكي أفهم ماذا حدث للرجل الذي كان يدفعني لأنهض وأعود لعملي ومستقبلي!!

لهنا وكان يحاول الملاص منها وألا ينظر لها وألا يتأثر بها، فطالما كانت دموعها ذات سلطة على قلبه، تزلزل كيانه وتفعل به الأفاعيل، يبيع في سبيل ارضاءها الجميع .. لكنه حقًا لم يرد جرحها أكثر من هذا، أما هي لم تجد مانع في جرحه، ثم تأتي ببساطة وتعتذر حينما تأزم الوضع .. تعتذر كذبًا، مرغمه وليس لأنها تشعر بالفعل بالأسف!! .. لذلك وضع حجر على قلبه ليُسكته واردف من بين اسنانه بوجهها:

- ألقيتِ بوجهه دِبلّتُه فريدة، وأردتِ قتله فقط لأنه حاول منعك من الدفاع عن ذلك المجرم!! .. ومع ذلك ها هو يقف بجانبك من جديد .. أنا لا أفعل هذا لأعاقبك فريدة أو أحاسبك، لأنني متأكد انكِ لم تكوني بوعيك ولم تقصدي ذلك ولأجل ذلك أريدك أن تتعالجي .. صدقيني أنا افعل كل هذا لأنني أريد أن أحميكِ!!

- يحميني؟!

استنكرت تبريره السخيف لأفعاله بين تجوب وجهه تتأكد للمرة المليون أنه مراد .. ليعطيها هذا حينما تابع بجفاء:

- أجل، ما أفعله الآن لحمايتك من ذلك المجرم!! .. أعرف أنه ربما قد هددك لتتنازلي عن حقك، ليست أول مرة، لكنني هنا ولن أدعه يؤذيكِ مجددًا، ولن يفلت بجريمته حتى لو كلفني الامر حياتي!!

تولت عنه جانبًا وهي تمط شفتيها بحسره محدثة نفسها بصوت هزلي ساخر ورغبة مختبئة في الموت وانهاء كل هذا البؤس:

- رائع، أنت أيضًا تريد حمايتي وتفعل هذا من أجلي!! .. تحجزني بمصحة لأبدو بنظر القانون مختلة فاقدة للأهلية وتخبرني أنه لحمايتي .. تمسح مسيرتي المهنية ومستقبلي بممحاة وتخبرني أنه لحمايتي .. تبًا لي، لما أنا محظوظة لهذا الحد برجال يعملون بِجد لإبادتي بدافع حمايتي!!

- ماذا تعنين بهذا؟!

رفع مراد حاجبه ليستفسر عن مغذى ما تتفوه به ولا يدخل عقله .. لتلتفت له فريدة ببطيء وتخاطبه بنبرة لائمة:

- أنت لم تسألني مطلقًا لمّ فعلت ذلك؟! .. لمّ أردت تبرأته؟؟

- ثانية واحدة .. هل تخبريني الآن أنه أختطفك ليحميكِ؟؟

نهض مراد مرددًا باستياء وحنق وكأن كل ما فيه ينكر حديثها .. لتومئ له فريدة محتفظة بابتسامة ساخرة:

- أرأيت كلاكما لديه نفس الشهامة المفرطة لحمايتي!!

اغمض مراد عينه وتحدث بنبرة جاهد ليخفي فيها انفلات اعصابه:

- حسنا، لو كنتِ مقتنعة حقا بأنه قد فعل هذا ليحميكِ، فعلى ما يبدو أنه قد غسل مخك .. وهنا، أنا آسف مجددًا فريدة، عليّ حمايتك من نفسك هذه المرة!! .. لأنك وبدون شك قد حدث خلل بعقلك ويبدو أن تشخيص دكتور هشام صحيح وأنكِ تعانين من متلازمة (ستوكهولم) .. ولن اسمح لهذا الحقير بأن يستغل هذا أو ينفد بفعلته!!

استقامت فريدة وهي تكافح لتمسك بضحكاتها الهزلية كي لا تزيد الوضع تأزمًا .. لكنه كان بالفعل كذلك:

- ماذا؟! ستوكهولم!! أتمازحني، هل هذا ما تبدى له؟! .. اللعنة أنا لا أحب أدهم ولا أتعاطف معه بأي شكل من الأشكال، أنا فقط أخبرك الآن الحقيقة!! .. والحقيقة هي؛ أن أدهم اختطفني من المستشفى بعد اطلاق النار ليحميني ممَن حاولوا قتلي أول مرة .. وتلك ليست أول مرة يفعل بها هذا، فقد سبق وفعلها قبل زواجنا وتسبب في أن العالم أعتقد أنني مُت.. كذلك عندما رحل وتركني لم يكن إلا لأجل حمايتي، فلو كنت تقف الآن وتخبرني أنك تحميني فهو أيضًا قد فعل!!

حاولت أن تمنح الأمر صورة واقعية مستأصلة من القصة كل تفاصيلها الزائفة .. لأنها تعرف جيدًا، إذا حدث وتم حجزها بمصحة سيقتلون أدهم أولًا ثم يقتلونها، هذا إذا لم تنتحر بمجرد حدوث هذا .. وهو من قبلهم جميعًا، لأنها لا تظن أن أدهم سيتركه حيًا بعد أن يفعله هذا، سيجده مبرر قوي ليحقق رغبته السالفة في قتله .. لذا، هي تقف هنا تدافع عن حياته وحياتها لآخر مرة .. مرارة قوية تخنق حلقها، فكم كرهت نفسها لأنها مجبرة على فعل هذا ثانيةً، لأنها تعرف جيدًا كيف سينتهي هذا!!

 لكن مراد كان بعيدًا جدًا عن كل هذا، وها هو يقف أمامها يجابهها بسخط ويضغط على بركانها الخامد:

- فهمت .. هذا هو الهراء حشى دماغك بها طول فترة اختطافك؟! .. بحق السماء فريدة هل تصدقين هذا، أنه ترككِ عاجزة في محنتك ليحميكِ التي أكد أجزم أنه السبب فيها!! .. لقد اطلعت تقريرك الطبي آنذاك..!!

- لا ليس هو..!!

نهرته نافية ليس دافعًا عن أدهم هذه المرة بل لأنه قد تجاوز حده داخله ويدعس الآن على جروح الله وحده يعلم كيف تحاول قفلها، لكن كل ما يفعله الآن أنه يعريها من الداخل .. النظرة الصلبة التي رمقته به كانت قاسية جدًا، وأكدته له ظنونه بها ليستكمل في تعنيفها:

- لا تدافعين عنه امامي أنتِ لا تعرفين أي شيء عن اجرامه .. لأنني اختبرته بنفسه ولا أستبعد أنه مَن فعل بكِ هذا أيضًا!! .. من أين أتيتِ بكل هذه الثقة فيه؟!

مررت لسانها على شفتيها ببطيء شديد، وبداخلها جاهدت لتحكم السيطرة على صدرها المتأجج .. وبعد عدة انفاس استطاعت ارتداء ثوب البرود من جديد وهي تردف بحنق:

- مؤسف لك، لأنني قد توقفت عن تصديق أحد والسماح له بالعبث بذاكرتي حسب مراده!! .. لقد تذكرت كل شيء، أتمنى أن يكون هذا كافيًا!!

لوهلة لم يعي ما قالته وسارع في تكذيبها:

- أنتِ تكذبين لتدافعين...

- يكفي يكفي .. أنا لا أكذب .. هل تريد دلالة؟؟ .. حسنا، أتذكر ذلك اليوم الذي أتيت كاليفورنيا لتُعيديني مصر وأنت لم تتعافى بعد من الكسور التي سببها لك أدهم .. أجل، أذكر تلك الليلة أيضًا، لكنني أخبرك أنه لم يكن أدهم هذه المرة!!

لم تجد مفر منه سوى أن تجعل الطعنة عميقة هذه المرة ليتخلى عنها ويرمي زمام أمامها .. بكل الأحوال، لم تعد تصلح له، ولا لغيره، كل ما تريده هو تنسحب من هذا العالم.. أن تختفي .. أن تتلاشى .. جلست وأوصدت جفونها مجددًا، واستطاعت هذه المرة عن حق أن تغرق في مستقنع تبلد المشاعر الذي هو عرض من أعراضها .. بعد كل شيء، هذا الألم لا شيء مقارنة بما تحمله .. لو تمكنت من اعدام شخص مرتين لن يتألم سوى مرة واحدة!!

وقف مراد يراقب انغلاقها على نفسها بحسرة شديدة .. يبدو أن سارة كان لديها بُعد نظر وهو الذي كان أعمى .. لقد تأذى بسبب حُبها مجددًا، وللسخرية لا يستطيع لومها في شيء .. جلس بجوارها مجددًا ينظر لها وهي التي تختبئ منه خلف جفونها .. مع ذلك حدثها بنبرة عقلانية وكأنه يقيم وضعهما لأول مرة:

- إذا كنتِ تذكرين كلتا المرتين فبالتأكيد ستذكرين كيف كان يعاملك فيهما، وكيف كان وجهك آنذاك!! .. هل تعرفين لمَّ أتيت لكِ ذلك اليوم رغم أنني لم اتعافى لم خاطرت؟؟ .. لأنني رأيتك .. رأيتك وأنتِ تعنفين ورغم ما قولتيه تلك الليلة لم أحمل أي ضغينة لكِ!! .. لم أحمل بقلبي سوى الحب والمغفرة والرغبة في حمايتك حتى لو كان على حساب حياتي وكرامتي .. هل تعرفين كم بكيت لأنني صدقتك رغم حدسي الذي أخبرني بكذبك، وتركت خلفي ذلك اليوم لأفجع بمصابك بعدها؟؟ .. لومت نفسي كثيرًا واعتبرت نفسي المسؤول عن حادثك ولو أنني كنتُ أصررتُ على أخذك ذلك اليوم ما كنتِ لتتأذي وتعهدت أمام نفسي بأنني سأحمكِ لو تكرر الأمر ولن أقف أشاهدك تلقين نفسك بالنار فقط لأنكِ قررتِ .. جزء داخلي كان يؤلمني، تحديدًا ذلك الجزء الذي طالما رآكِ كأبنة ربيتها ..

استجمع نفسه ونهض ليمزق الاوراق التي كانت بحوزته مستطردًا:

- والآن حدسي يخبرني بأنكِ كذلك كاذبة .. لكن، أتعرفي؟؟ .. سارة كانت على حق، ليس في وسعنا انقاذ شخص في كل مرة يرمي بنفسه طواعية أمام القطار .. وهذا أيضًا ما يخبرني به الجزء الآخر الذي طالما تأذى بسبب حبك .. لأول مرة يتفقان على شيء يخصك .. أنا الذي لم يعد يريدك، فريدة!!

وتزامن قوله هذا مع وضعه لشيء معدني في كفها تبين أنه خاتمي خطبتهما وقد اكتفى من الحفاظ عليهما .. قبل أن يأخذ خطواته نحو الباب، الذي ما إن فتحه حتى اصطدم بجسد أدهم ومن خلفه الحرس وقد بدى وكأنه كان على وشك الدخول .. كبت غيظه وهو يجد عيني ادهم تقفز بحثًا عن فريدة ليستدير لها ملقيًا جملة أخرى قبل أن يرحل .. جملة كانت ذات نبرة شامتة أكثر منها مودعة:

- في المرة القادمة لن تجديني بجانبك أجمع رمادك بعد أن يتركك محترقة .. هذه المرة، سأقف واشاهد من بعيد كغيري!!


يتبع