-->

الإقتباس الأول - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى

 



كما يحلو لكِ

  الإقتباس الأول 

النسخة الفصحى

 

جلس ببرودٍ كاسح في هذا الجو الصيفي بالمقعد الخلفي لسيارته يستنشق تبغ غليونه برمقاتٍ جليدية كبقعة تجمدت منذ ملايين السنوات ولم تلمسها مرة واحدة أشعة الشمس وانتظر رامقًا  ساعته وهو يعد الدقائق؛ بل الثواني التي تصنع الدقائق، الدقائق التي كلما مرت لا تؤكد لها سو حقيقة خيانتها البشعة..

 

كيف انساق لعشق إمرأة من جديد؟ كيف ترك نفسه لفعلتها؟ هل لأنه ظن أنها النسخة النقية من الخائنة الأولى أم لأن هذا الفتى المُراهق لا يزال بداخله هناك في مكان ما وأذعن مُصدقًا بكل معاني العشق السخيفة الواهية التي قرأ عنها بقصص التاريخ الأسطورية؟!

 

العشق يدفعه لفعل كل ما لا يؤمن به.. لقد اخبرها هذا آلاف المرات.. ولقد كان في منتهى الغباء ليُصدق أنها مُختلفة عن شبيهتها الأولى ولكن ها هي تؤكد له أن هذه الملامح لا يحتمي خلفها سوى إمرأة وفتاة خائنة!

 

لماذا صدق عهودها؟ لقد كان أمامه آلاف الإمارات التي صرخت به بأن لا عهد لها واختار أن يُكذبها، لماذا لم يستمع لكلمات والده؟ لقد اثبتت له آلاف المرات أن إمرأة مثلها لن تتنازل عما تُريده واختار أن يتنازل هو بدلًا منها..

 

المزيد من الدقائق تمر، وهو يعدها في ثبات، فحميتيه تركا المشاعر بعيدًا حتى حملت عينيه الموت الجلي الذي استتر خلفه إنكسار رجل يُخان مرة ثانية بعيدًا عن عينيه بعض الخطوات بالأعلى من إمرأة ظن أنه سيودع بعشقها كل آلامه لتأتي هي اليوم وتضاعف آلامه ملايين المرات..

 

نفث دخانه ونظراته لا تزال ثابتة على ممر هذا العقار الضخم، بجانبه أسماء كل مالكيه، وأمامه الثلاث سيارات الذي ظن يومًا ما أنه يحميها بقبيلة من رجال الأمن من كل المخاطر.. يا لها من غبية، أظنت أن لتنازله ولينه وعشقه لها تستطيع الآن فعل كل ما تريده دون أن يعلم هو ما تفعله!

 

لو كان انتقم من الأولى خلال عامين بأكملهما، فهي، وخاصةً بعد أن تزوجها لن يُكفيه سنوات وسنوات من الإنتقام، لو كانت الأولى تقبل الإهانة وتنتشي بها، فهي؛ وخاصةً بعد تجاربهما السابقة، لن تتخلص منه سوى بالموت الحتمي!

 

لقد كان ساذجًا بتصديقها بكل تلك الأيام الماضية وهي تُمثل أنها الزوجة الرائعة والعاشقة المُخلصة والصديقة التي لم يحصل عليها قط والأم التي افتقدها منذ نعومة أظافره، وفداحة سذاجته تتضح أكثر بأنه سمح لها بمنتهى الرضاء أن تُصبح له كل شيء في هذه الحياة.. وعليه، الجزاء من جنس العمل..

 

كم يا تُرى سيُسجن رجل محامي مخضرم مثله بعد أن يُعذبها كما يحلو له ويتشفى بها ثم يقتلها أمام أعين والدتها وأخيها وهي مُتهمة بجريمة ينجو منها الزوج وتقع تحت بند جرائم الشرف! ماذا عن الأدلة الموثقة؟ ماذا عن ثلاث سائقين وسبع حراس.. شهادة عشر رجال، وأمن العقار برؤيتها مع هذا الرجل مرارًا، وسائقه هو نفسه، وتحت التهديد يستطيع اثبات الأمر بدليل موثق مرئي لها هي وعشيقها الذي كان يفتح له بيته لأكثر من مرة بل والجميع سيشهد بذلك.. هو الزوج المجني عليه بخيانة زوجته، أليس كذلك؟ كما يستطيع بمنتهى السهولة السلسة أن ينقل الواقعة بأكملها لبيت الزوجية الخاص بهما! انتقام يليق بها حقًا!

 

ولكنه لن يكون ضحية هذه المرة، سيقتل زوجته، هذا شرفه، وهذا حقه، ولا يستطيع أحد أن يغلبه في ذلك.. ستكون الجلسة المصورة التي سيتحدث عنها الجميع لأعوام.. خطة جيدة للغاية في مسيرته المهنية وهو يُمثل بمنتهى المصداقية دور المجني عليه..

 

سيدة الأعمال "روان صادق" تُقتل على يد زوجها المحامي الشاب "عمر يزيد الجندي" بعد شهور من الزواج والسبب خيانتها له! عنوانًا يُلائم الصفحة الأولى لأشهر صحف الدولة!

 

أو؛ سيدة الأعمال "روان صادق" تقوم بالإنتحار بعد اكتشاف زوجها حقيقة خيانتها له مع ابن خالتها! هذا أيضًا عنوان جيد! والسبب رفضه تطليقها بعد أن استغلته بقضية استرجاع املاك أُسرتها من عمها "نادر صادق"..

 

نفث دخانه بهدوء، سلط نظرته الجليدية على الساعة بيده ثم بسرعة راجع بذهنه مادة قانونية حفظها عن ظهر قلب، المادة الستون من قانون العقوبات، لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة. ولحسن حظه وسوء حظها هي زوجته شرعًا وقانونًا!

 

تجمد جسده بأكمله كاتمًا لأنفاسه عندما رآها تُغادر هذا العقار وهي تلتفت بإرتباكٍ واضح عليها للغاية ثم سرعان ما دخلت للسيارة وجذب هاتفه يتصل برقمها ليجد نفس الرسالة.. الهاتف الذي يتصل به ربما يكون مُغلقًا وربما يخص إمرأة خائنة دفعته للإنشغال بعمله كي تفعل من وراء ظهره ما يحلو لها بخِسة واضحة..

 

لمعت عينيه بمسحة تكاد تكون معدومة من العبرات التي لجزء من الثانية أدت لإظهار فحميتيه كليل كئيب يُنبأ بسيل جارفٍ لن ينتهي أبدًا والسيارة التي تخصها تتحرك مُغادرة..

 

أمسك بهاتفه وتفقد ما أرسله له رجل الأمن الذي يُلازمها بالسيارة ثم قرأ الرسالة منه التي اعلمته أنها مُتجهة لمنزل عائلتها..

اخيرًا بعد ساعة ونصف استطاع جفنيه الراحة لبُرهة، عدة ثوانٍ لآخر مرة في حياته سيشعر بالراحة خلالها، هدوء مخيف يسري بكيانه بأكمله ليُطلق تنهيدة في النهاية دلت على أنه لا يزال حيٌ يُرزق ثم تكلم آمرًا بجفاء:

-      تحرك محمود إلي منزل زواجي..

 

حدق بالفراغ بنفس هيئته التي شابهت تمثال لا يتنفس ولا تغادره زفرة واحدة تدل على حياته وبرأسه لا يرى سوى الكثير من الأيام، العهود، التوسلات، رسائله التي كتبها كالمغفل تمامًا إليها وظن أنها المرأة النقية الوحيدة التي لا تزال حية تُرزق في هذه الحياة الفانية!

 

كلما تذكر كام كان ساذجًا شعر بداخله بالوهن، وكلما تذكر كلمات والده عنها التي هو نفسه لم يُشكك بخيانتها له ولم يطرأ الأمر على عقله يتيقن من جديد كم هو رجل ضعيف، كم هو ساذج أمام النساء، وكم هو بعيد كل البُعد عن النجاح والقوة الذي يستتر خلفهما حقيقته التي لا تتغير!

 

تحدث بلهجة آمرة من جديد لا تنقل سوى الحروف الفارغة من المشاعر أو التأثر:

-      اوقف السيارة وترجل منها، سأكمل الطريق وحدي

 

تعجب السائق من كلماته وهو ينظر له بلمحة خاطفة عبر المرآة الداخلية للسيارة ولكنه فعل فهو بالنهاية يتقاضى آجره منه وبمجرد ترجله وجده هو الآخر يفعل ثم حدثه بلذاعة بنفس اللهجة دون أن ينظر له:

-      اعتبرها اجازة مدفوعة الأجر.. سأهاتفك عندما أريد!

 

استقل سيارته ولم يكترث بهذا الرجل الذي تركه بمنتصف الطريق وانطلق مسرعًا متجهًا إلي اقرب طريق سريع قد يكون خاليًا في مثل هذا الوقت من السيارات والاكتظاظ المروري ثم اخيرًا استطاع البُكاء دون أن يشعر بالخوف من مراقبة أي عين له!

 

هشمه الإنكسار راجفًا بجسده الذي هز كيانه بأكمله وهو لا يدري لماذا عليه تحمل الأمر مرتين، أهو رجل يستحق أن يُخان بدل المرة مرتان؟ هل عليه أن ينتقم مرتان؟ وإذا كانت "يُمنى" صدعت روحه لسنوات وكادت أن تصنع منه قاتل، ما الذي سيتعرض له بعد انتهائه من "روان" ومن انتقامه منها؟

 

انتحب بوهنٍ ثم التفت حوله ليرى ما إن كان هناك من يتابعه أو يراه لتزداد شهقاته بعد أن اطمئن بأن اقرب سيارة له تبتعد بمسافة كبيرة عنه وترك لنفسه المزيد من الدقائق بعد أن يشعر بالحزن والإستياء قبل مواجهة كل ما سيواجهه معها كبداية جديدة عليه وعليها قد لا تتركها سوى بأبشع منظرٍ وحالة قد تخطر على عقل بشر.. فبعد سقوط قناعها الماكر الذي خدعته به لن يراها سوى على حقيقتها الخبيثة التي ظنت أنها ستنجو بها منه!

 

Ꝏ Ꝏ

 

 

دخل المنزل ليجدها منتظرة اياه بالقرب من بهو الإستقبال ليلمحها بثاقبتيه الفارغتين من المشاعر تمامًا وكل ما يتسائل به وهو يتفقدها بإضطرابها الجلي عليها، هل يا تُرى اضطرابها هذا لخيانتها القذرة أم لعدم مقدرتها أن تواجهه وتنظر له بمقلتيه!

 

وجدها تنهض لتواجهه بإرتباك ثم همست له بترددٍ شديدٍ:

-      علينا التحدث!

 

ابتسم لها بعذوبة واقترب نحوها ليرى مُقلتيها فازعتين من مجرد خطوة واحدة اتخذها ثم همس إليها متصنعًا التلقائية وقد برع بالأمر تمامًا:

-      ما الأمر صغيرتي؟

 

ابتلعت وهي تحاول الثبات بعد كل ما ادركته عنه ثم حدثته بتردد مرة ثانية:

-      لقد حاولت كثيرًا وفشلت بالأمر.. لذا لا أجد حلًا سوى الطلاق! أرجوك عُمر أن ننفصل بهدوء دون تكرار جدالنا الذي لا ينتهي سوى بغضبك وبُكائي..

 

عقد حاجباه وهو يتصنع الدهشة على ملامحه فمن المفترض انهما بأفضل حال قد يكون به اثنين متزوجين يعشقا بعضهما البعض، ومن المفترض كذلك أنه تركها صباح اليوم بأعجوبة بعد أن شق عليه ترك عناقها للذهاب لعمله، ولكن ما لا تعلمه هذه الساذجة أنه اكتشف خداعها له وقد اصبح على يديها الرجل الذي يُخان مرتان بل وفي منتهى الغباء كي لا يتعلم من اخطائه..

 

كان عليه أن يتحلى بالمزيد من بلاهته وتعجبه فتسائل بخفوت:

-      روان، نحن بخيرٍ حبيبتي.. ما الذي جعلك تطالبين بهذا فجأة؟

 

تهدجت انفاسها بخوفٍ ورأسها لا يتوقف به كل ما شاهدته ثم حدثته بتوتر:

-      فقط كنت احاول ولكنني لا استطيع الإستمرار بهذه الحياة معك!

 

زم شفتاه وهو يدعي الإستياء على ملامحه واقترب نحوها من جديد لتتقهقر هي للخلف واعينها متوسعة وأومأت له بالإنكار ثم همس بها بحزن زائف:

-      لقد تعاهدنا ألا نتحدث سوى بهدوءٍ وصراحة لذا..

 

ادعى بعض الإنزعاج الذي لابد له من الظهور على ملامحه وواصل:

-      سنتحدث سويًا، وإذا كان هذا اختيارك لن امنعك عنه..

 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتفقده بمزيد من التوجس الشديد وهي تموت رعبًا بداخلها وقلبها ينبض بصدرها كالجمر المتقد الذي يحرق بها كل ذرة دماء يضخها بعروقها بينما وجدته يُتابع بنبرة ممتزجة من الحُزن والتفاهم:

-      اتعلمين.. دعينا نتناول العشاء بالخارج ونتحدث بعيدًا عن اجواء المنزل.. اعلم أن والدتك وبسام هنا وأنتِ لا تُحبي اثارة خوفهما بشأنك.. ما رأيك؟ سيكون التحدث بالخارج أفضل لي ولكِ!

 

تفقدته بحيرة ونظراتٍ خائفة لترطب شفتيها وهو في انتظار اجابتها بعد صنيعه الذي يحاول خلاله أن يبدو مُقنعًا ليجدها في النهاية تومأ له بالقبول وعقبت بحروفٍ بهتت به نبرتها:

-      نعم.. سيكون هذا افضل..

 

أومأ لها بالموافقة ثم حدثها وهو يجلس على كرسي قريب:

-      حسنًا، بدلي ملابسك وسأنتظرك هنا إلي أن تأتي..

 

 

ابتلعت وهي ترمقه بخوفٍ وهزت رأسها مرة ثانية بينما توجهت للأعلى حتى تقوم بتبديل ملابسها وبمجرد التفاتها وتركها له تابعها بفحميتيه التي التمعتا كأفعى نهمة جائعة في انتظار الإنقضاض على فريستها ولكن كل ما تنتظره هو أن تقع هذه الوجبة الدسمة بفخها الذي نصبته بمنتهى الإحكام!

ꝎꝎ