-->

الفصل السابع عشر - وكر الأبالسة - Den of Devils

 







الفصل السابع عشر


❈-❈-❈

 المال والشيطان لا راحة لهما

مثل يوغوسلافي

❈-❈-❈


دخلت وهي تستنشق رائحة الألفة التي لا يفشل بيتهم الصغير المتواضع بالفوح بها كل مرة تدخله، بعد يومٍ طويل من دوام لا ينتهي، بعد كل زيارة لكلًا من أخيها و "جاد"، وحتى بعد أيامٍ قامت بقضائها بصرح أقل غرفة به تقارب حجم بيتهم بأكمله، ولكن بالرغم من الفرق الشاسع هنا الراحة والتعود وشعور الأمان الذي يُعبأ كل ذرة هواء بين هذه الجدران التي قاربت على التهالك!


لا تلاعب، لا عادات غريبة، ولا أشخاص يضمر جميعهم نقيض ما يُظهروا، ربما ستفتقد حديثها الليلي بصحبة "سلمان"، وربما هي لن تلمح "جاد" يُلاعب ابنة اخيه الصغير بالحديقة، لن ترى تلك الأثواب الضيقة والأجساد والوجوه المثالية، ولكن راحة البال هنا لا تُقدر بثمن!


نبهها صوت اخيها الذي انتشلها من متابعة اعينها لتفاصيل بيتهم الذي لم يكن يحتوي على الكثير على كل حال:

- حمد الله على السلامة


التفتت له بإبتسامة صغيرة وردت بتعقيب:

- الله يسلمك


اقترب قليلًا منها وتحدث لها بنبرة إبلاغية:

- خشي غيري هدومك ونامي وريحي رجليكي، وأنا نازل اقعد على القهوة ساعة كده مع عم محروس وهحصلك


التفتت حولها وهي تتفقد أركان البيت ثم قالت بعفوية:

- لا أنام ايه البيت عايز يتروق ويتنضف وأنا بقالي كام يوم مش هنا


أومأ لها بالإنكار واشار بيده كعلامة على عدم الإهتمام:

- بكرة وعليكي خير، الوقت اتأخر وانتي لسه تعبانة، من هنا لبكرة ربنا يسهلها، البيت مش هيطير يعني.. يالا اسمعي الكلام وخشي ريحي علشان تصحي فايقة بكرة


هزت رأسها بالموافقة ليُودعها في ثوانٍ:

- تصبحي على خير، سلام..


عقبت هي الأخرى بإقتضاب:

- سلام..


التفت وغادرها مُغلقًا باب بيتهم خلفه لتنخفض هي حاملة حقيبتها الصغيرة التي ضمت ملابسها ثم مشت من الصالة الصغيرة برواق كان لا يتعدى الأربع خطوات لتترك الغرفة التي كانت خاصة بوالدها ووالدتها يومًا ما على يمينها ثم انعطفت يسارًا لتدخل للغرفة التي تقابلها وهي كانت الأصغر لتضع الحقيبة على سريرها وسرعان ما اعادت الملابس لدولابها البسيط وبدلت ثيابها ثم جلست لتُمسك بهاتفها وحاولت قتل الوقت خلال تصفح واحدًا من وسائل الإتصال الإجتماعي ويا لسخافته، ليس هناك أي جديد به! 


اغلقت هاتفها ثم نهضت لتغلق الأنوار وتدثرت فوق فراشها استعدادًا للنوم ولكن لم تجده اعينها بأي وقت قريب لتُمسك بهاتفها مرة أخرى شاعرة بالملل لتمر خلال احدى التطبيقات التي تستطيع المراسلة عليها وهي تتفقد رسائلها لتجد انها بالفعل قد اجابت الجميع من زميلاتها بل والفضولين كذلك الذي لا يُصدقوا أن قدمها تضررت وتحتاج للإجازة حتى تتحسن! 


اخذت تتفقد كل جهات الإتصال وهي تشعر بإلحاح بداخلها أن تتحدث لأحد، تلك الأيام الماضية قد اعتادت على التحدث قليلًا وهي لن تنكر اشتياقها لبعض زميلات عملها ولكن التحدث مع "سلمان" كان مُختلفًا كثيرًا.. لا تدري ما الإختلاف هل لأنه مر بعلاقة أحب خلالها إمرأة من طرف واحد كما أحبت هي "جاد" من طرفها فقط، أم هل لأنه هو نفسه مختلف عن كل الرجال الذين تعاملت معهم يومًا، هي حقًا لا تستطيع إجابة تساؤلاتها! وتوقفت أمام واحدة من الصور التي وضعها لملفه الشخصي وأخذت تحدق بها شاعرة بالإرتباك الهائل وكأنها أول مرة تراه بها وتتمعن في تفاصيله بهذه الطريقة!


أما هو فكانت حالته لا تختلف كثيرًا عن حالتها، اتكأ على الأريكة الموضوعة بغرفته، ينظر إلي هاتفه أكثر من مرة والدقائق تمر دقيقة يتبعها الأخرى ولا يدري ما الذي سيحدث لو حدثها الآن، فتاة مثلها قد تظن أن الوقت تأخر ولكن هو لا يزال يريد التحدث إليها! 


فكر أولًا بأن يُراسلها على واحدًا من تطبيقات التواصل وبدأ بالفعل يكتب أولى حروفه التي سيكون بها عدة كلمات مُرسلة إليها ولكنه تراجع ليحذف كل ما كتبه! هل تقرأ فتاة مثلها الإنجليزية؟! 


لوهلة شعر بأنه يتجه نحو السخرية وبعض التنمر لفروق الطبقات الإجتماعية بينهما ولكن هذه ليست حقيقة ما يشعر به تجاهها.. ليس هناك أي فارق بين رجل يعلم لغة ويتقنها وإمرأة لا تعلم هذه اللغة، الفرنسيين يحاربوا أي لغة أخرى ولا يتعلموا اللغات بسهولة ويعتزوا كثيرًا بلغتهم الأم ولا يتحدثوا سوى بها.. لماذا الآن للحظة من تفكيره يُفكر بشكل خاطئ بشأن "رحمة" لأنها لا تعرف بعض اللغات؟ كما أنه ليس على يقين بالأمر! قد تعرف تحدث الإنجليزية وتفهمها، هو حتى لم يُجرب بعد!


لتكون العربية إذن! عليه أن يُراسلها بالعربية! حسنًا.. هو نفسه لا يستخدم العربية، يبدو أنه ليس مثل الفنسيين الذين يعتزوا بلغتهم، ولكنه يريد التحدث لها على كل حال.. ما الذي عليه أن يكتبه؟ وأين الحروف اللعينة؟ استأخذ كل جملة يكتبها ما يقارب دقيقة؟! سيجعله الأمر يسأم حقًا! 


لغى من جديد ما طبعه من حروف عربية ثم فكر بأن يُرسل لها رسالة صوتية، ستكون ايسر على كلاهما:

- أنا قولت أسأل واطمن عليكي، روحتي ولا لسه؟!


كاد أن يُرسلها ليتراجع وحذفها، ولم تكن مرته الأولى التي يُسجل بها رسالة صوتية، بل هو يستخدم هذه الطريقة اللعينة للتواصل مع الكثير من الناس ولكن لماذا الأمر يبدو صعبًا للغاية معها، مجرد أن يُفاتحها بالحديث مثل له معاناة وخصوصًا بعد ثمالته وحديثهما قبل أن تغادر هي منزله!


زفر بضيق من محاولاته لفتح حديث مع فتاة، لم يواجه مثل هذه المعاناة قط، أخذ اصبعه يطرق على شاشة هاتفه لأكثر من مرة في توالي لا ينتهي وهو عاقدًا حاجباه ليكره هذا التشتيت الذي لم يكن يومًا عليه ثم تفقد صورة ملفها الشخصي ليحدق بملامحها للحظات فقطب جبينه وهو يغلق التطبيق بأكمله وحسم أمره.. سيحدثها ولتظن ما تظنه وحتى يُمكنها أن تحكم عليه كيفما شاءت، ولكنه لن يجلس وحده مواجهًا معاناة أن يقوم بفتح حديث مع فتاة، هذا لم يكن عليه يومًا "سلمان يكن" الذي لا يواجه صعوبة فتح حديث مع أي شخص خُلق بهذه الحياة!


❈-❈-❈


في نفس الوقت..


توجه "سعد" إلي المقهى البسيط الذي يجتمع عليه الكثير من أهل المنطقة بأكملها ليجد "محروس" جالسًا بمقعد بواحدًا من الأركان فتوجه نحوه وهو يعلم جيدًا أن عليه تفسير الكثير مما حدث الفترة السابقة على الأقل هذا الرجل لا يزال يحمل له الكثير من الود بعد موت والده وكذلك صديقهما الثالث "صلاح" فلم يتبق من يستطيع أن يعتبره في منزلة والده سواه وهو بالأيام الأخيرة كان خير عون له فألقى التحية عليه:

- سلام عليكم يا عم محروس..


لاحظه الآخر فرد التحية عليه:

- وعليكم السلام يا سعد يا ابني..


صاح عاليًا بإحضار ما يتناوله مستطردًا:

- هات واحد شاي هنا يا بِشر!


التفت له من جديد وسرعان ما سأله:

- طمني يا سعد، ايه كل اللي بيحصل اليومين اللي فاتوا دول أنا مبقتش فاهم أي حاجة! 


 اطلق زفرة مطولة وها هو يُفاتحه فيما أراد أن يتحدث بشأنه بالفعل فتكلم مباشرة مجيبًا اياه دون التطرق لمقدمات واهية لن تُفيد:

- هاحكيلك، أنا اصلًا جاي علشان اتكلم معاك في الموضوع ده.. بس ما تيجي ناخد الشاي ونقعد في الدكان اهو على الاقل نعرف نتكلم براحتنا


تناول "سعد" الكوب ثم اتجه مصاحبًا "محروس" إلي أن اصبحا بمفرديهما وجلس كل منهما على كرسي خشب متواضع يبدو وكأنه نجا من السنوات العجاف بأعجوبة ثم شرع "سعد" بالحديث:

- ياسر ده يبقى جوز اخت سعد، كان بيساومها على طلاقها بس الحمد لله عرفنا نخلص منه! 


استغرب الرجل قليلًا ولكن سرعان ما استطرد الآخر حتى يُزيل غمامة التعجبات عن عينيه وواصل كلماته:

- جاد عِرف يثبت نسبه، ابوه واخواته ناس مش قليلة يا عم محروس.. واهو من الدار للنار، اول ما دخل عليهم لقى عندهم مشاكل بالكوم، بس ادينا ساعدناه وخلصنا من حوار اخته ده على خير!


هنا بدأت تضح الأمور برأس "محروس" الذي كان يضع الكثير من علامات الإستفهام بعقله دون أن يجد لها إجابة ومن جديد عاد يُفسر له المزيد:

- العربيات والحرس وكل الناس دي يبقوا تبع أهل جاد.. اكيد كنت بتستعجب من اللي بتشوفه الأيام اللي فاتت! بس ده كده من الآخر قُصر الكلام علشان مطولش عليك..


هز الرجل رأسه في صمت وارتشف من كوبه وهو الآن بات يفهم لماذا لم يكن "جاد" متواجدًا بالأيام الأخيرة ومن هؤلاء الذين كانوا يصعدوا بيت "عطا الله" كما أن تفسير "سعد" جعله يُدرك لماذا تغير مظهر اخيه كثيرًا بالأيام الماضية من ملابس وهاتف وخلافه ولكنه سأله:

- يعني خلاص جاد مبقاش هيعيش معاكم وهيروح عند ابوه واخواته؟


 عقد "سعد" حاجباه بقليل من الإستغراب ولكنه حافظ على تلقائية ملامحه وهو يتذكر ذلك الوكر الذي يضم عدد لا بأس به من الأبالسة وكذلك منزل "جاد" الذي قام بنقل "ياسر" إليه بالأيام الماضية وبصحبة هذا السؤال الذي استمع له خرجت الكلمات منه ببعض الغضاضة:

- والله ما انا عارف يا عم محروس جاد ناوي على ايه، بس بيتهيألي آه.. ما هو برضو اللي يشوف العِز اللي اتحرم منه سنين مش هيبدي نومة الدكانة عليه..


هزر رأسه من جديد بتفهم وعقب بتنهيدة:

- يالا ربنا يفتحله ابواب رزقه ويقدمله اللي فيه الخير


- يارب


عقب "سعد" بينما تذكر أمرًا هامًا عليه أن يذكره وكان يُرتب كلماته بينه وبين نفسه وخلال هذه اللحظات استمر خلالها الصمت لبُرهة ليُفاجئه "محروس" بجُملة مقتضبة:

- يالا اهو كده احسنله واحسنلكم


استغرب الآخر من كلماته ونظر له بتساؤل ليزم شفتيه واردف قائلًا:

- بصراحة يا ابني مخبيش عليك رزق حاطه في دماغه من ساعة ما رجع بالسلامة، وأنا عارف جاد دمه حامي ومش هيسكتله منين ما هيتلاقوا !


جيد أنه تحدث من تلقاء نفسه وذكر الأمر لحمحم ثم عقب على كلماته بمنتهى الهدوء:

- بص، أنا مبقاش فاضلي حد بعتبر زي ابويا غيرك.. سكوتي على حوار رزق وكلامه اللي قاله ده لأن ليا كبير! 


رمقه بإمتنان واخبره بإبتسامة مقتضبة ليقول:

- ربنا يكرمك يا ابني ويقدرني اوفي مسئولية عطا الله اللي سابهالي.. انت يا سعد انت ورحمة وجاد غلاوتكم من غلاوة ولادي


أومأ له بالموافقة ثم رد سريعًا:

- من غير ما تقول والله.. بس علشان ابقى رجعتلك قبل ما اعمل اي حاجة وفي نفس الوقت اكون خلصت ضميري أنا هكبرلك، وهاسكت على كل اللي حصل، واظن بعد خناقته هو وجاد مبقاش ليه لزوم كتر الكلام.. لكن لو فكر مرة يقول كلمة واحدة في حقها أو في حقه المرة الجاية أنا هتصرف معاه بمعرفتي.. وانت كبير الكل وعلشان كده هسيبك تعقله أنه يشيل الموضوع من دماغه! 


تنهد الآخر بعد سماع كلمات "سعد" الذي ارتشف بعضًا من كوبه في هدوء ثم اخبره بنبرة لينة:

- سيبهولي طيب وأنا هاتصرف معاه بمعرفتي.. وبمناسبة إنك فتحت الموضوع ده، عايزك تاخد بالك من حركات وداد!


استغرب من قوله لينظر له بتساؤل قرأه بسلاسة على ملامحه بينما سأله:

- ليه، مالها اخته كمان؟


قطب جبينه وتحدث بزفرة:

- وداد مش سهلة وخرابة بيوت وكل ساعة والتانية بتعمل مشاكل، خلي اختك يا ابني تقفل عليها بابها وملهاش صالح بيها، وحتى انت ولا جاد لو حصل وجت تتكلم معاكم يبقى على القد.. هي من ساعة ما جاد ورزق مسكوا في بعض وحركاتها مش مطمناني، زي ما تكون حطاكوا في دماغها ودي شرانية!


ضيق عينيه بمزيد من التساؤل وعلامات الإستفهام تُقرأ بعينيه فهو لا يعرف شيئًا عن هذه الفتاة سوى اسمها وأنها أخت "رزق" الصغيرة ليس إلا ثم كف عن تساؤلاته وقرر أن يُفكر بالأمر وحده فقط ويتمعن بخصوصه وكذلك نبهه نهوض "محروس" لينظر له ببعض الاعتراض وسأله:

- ايه يا عم محروس رايح فين؟ ما احنا لسه قاعدين..


نظر له نظرات توديعية ثم أردف:

- خلينا نكمل قعدتنا بكرة، الوقت اتأخر وأنا يادوبك انام.. كده ولا كده هنعيد كلامنا ده كله تاني، ولو على رزق فسيبهولي.. يالا تصبح على خير.. سلام عليكم 


نهض "سعد" ثم صافحه مودعًا ورد بتعقيب:

- وعليكم السلام ورحمة الله! 


جلس من جديد مرة أخرى وهو يلوح برأسه آلاف الأفكار، ما يخص "جاد" بعلاقته بأخوته لم يعد يتبقى له سوى نصيحة واحدة وبعدها فليفعل ما يشاء، أما عن "رحمة" فهو لا يدري بعد من أين عليه أن يبدأ بحياته وهو للتو غادر السجن بعد سنوات وعليه التفكير مليًا من أين سيبدأ فيكفي أن اخته الصغيرة تحملت مسئولية نفسها لسنواتٍ عدة دون شكوى واحدة!

ولكنه عليه أن ينتهى من أمر اخيه أولًا كي يشعر بينه وبين نفسه بالراحة حتى لا يأتي بعد مُدة يشعر بالندم، ربما عليه أن يهاتفه أولًا قبل أي شيء!


❈-❈-❈ 

في نفس الوقت..


مشى وهو يحاول البحث عن تلك المجنونة التي بالكاد استطاع أن يحاول إدراك ما تتحدث به على الطرف الآخر من الهاتف وهي ثملة بشدة.. 


جزءًا بداخله يزجره بأنه لم يكن عليه أن يستمع لها ولا يكترث من الأساس، بينما هناك جزءًا آخر يلح عليه بأن هذه الفتاة مختلفة عن كل من عرفهم بالوكر اللعين وعليه الإستفادة منها بأي طريقة كي لا يخسرها كبعض الدعم فمن تجربته يبدو أنها تملك تأثيرًا طاغيًا على "رُفيدة" وهو لا يُريد خسارتها الآن! 


واكثر ما كرهه من مكنونات صدره التي لم يبح بها لأحد بعد، هو أنه بمجرد رؤيتها يشعر وكأنه لا يريد أن يبقى سوى أمامها ليسألها آلاف التساؤلات التي تلوح بعقله سواء بشأنها أو بشأن الآخرين..


تفقد هذه الأماكن حوله وهو لا يدري أي لعنة بما تراه عينيه قد تقدم المشروبات الكحولية التي تجعلها تثمل بمثل هذه الطريقة فلم يعد أمامه حلًا سوى السؤال عن مثل هذه الأماكن فتوجه ليقترب من احد الرجال في هذا المجمع الذي يضم الكثير من المقاهي والمطاعم وهو لا يدري إلي أين عساها ذهبت ثم اقترب من الرجل مُبتسمًا بملء فيه:

- يا مساء العسل!


نظر له الرجل وأومأ له بإقتضاب بينما جمع "جاد" يديه يفركهما ثم سأله:

- هو ولامؤاخذة لو عايز كده اقضي ليلة  على مزاجي واشربلي كاسين وافرفش واسمع مزيكا.. اروح فين هنا؟


امتعضت ملامح هذا النادل ثم اجابه بإمتعاض:

- عندك اللي هناك ده بار *** وقدامه الناحية التامية فيه بار *** 


تركه الرجل وهو يرمقه بإحتقار ثم ابتعد عنه ليتنهد وتوجه لأول مكان وصفه له متمتمًا بتوعد وهو يأخذ خطوات واسعة:

- والله وبقت دي اخرتها! ماشي يا ايناس!


استمع لرنين هاتفه فتفقده ليجده "سعد" فلم يُجبه وسرعان ما توجه نحو واحدًا من الرجال الواقفون أمام هذه الحانة وحدثه بإبتسامته التي اظهرت غمازتيه:

- يا مساء الفل.. 


هز الرجل رأسه وهو يتفقده من اعلى رأسه لأخمص قدمه فوجد أن مظهره يُليق بمثل هذه الأماكن ولكن هناك شيئًا بملامحه لا تُريحه وكذلك تحركاته التي تبدو غريبة:

- عايز كده ادخل شوية.. فيه حد مستنيني جوا! 


تفقده الرجل بتفحص شديد ثم اجابه قائلًا:

- الحجز بإسم مين؟


تعجب "جاد" بداخله لوهلة ولكنه تكلم بثقة:

- إيناس عواد..


توجه الرجل نحو منضدة مرتفعة أمام البوابة في ركن من الأركان وهناك حاسوب وضع عليها فتحدث للمسئول عن الحجوزات وتفقد الإسم بينما دار بينهما حديث جانبي لم يستمع منه لشيء بسبب الضوضاء العالية المنبعثة من خلف هذه البوابة ولكنه آخذ يتابعهما بحصافة حتى عاد إليه الرجل وانزوى معه بعيدًا إلي واحدًا من الأركان:

- بص هو مفيش حجز بس لو كنت عايز ايناس عواد ممكن تلاقيها هناك في البار اللي قدامنا..


ابتسم له ابتسامة لم تُظهر اسنانه ثم اخرج اكرامية وهو يقول:

- تُشكر.. انا برضو حسيت انك اكتر واحد فيهم ابن اصول 


توجه سريعًا ولقد اقترب أن يفقد اعصابه ليجد أمام البوابة الأخرى عدد يقارب ثلاث اضعاف الرجال الذي وجدهم أمام الباب الأول، وملابسهم تكاد تتمزق من على اجسادهم التي تكتظ بالعضلات ليغمغم:

- احنا داخلين على عاركة ولا ايه!


توجه بثقة نحو مكتب الحجز فلقد تعلم بالفعل من تجربته منذ قليل إلي أين عليه التوجه ثم سأل الرجل الذي يقف أمام الحاسوب:

- مساء الجمال عليك، فيه حجز بإسم إيناس عواد؟


تفقد الرجل سريعًا ما أمامه وهز رأسه بالإنكار واجابه بإقتضاب:

- لا مفيش حجوزات!


همهم له بتفهم ثم سأله مرة ثانية وهو يخرج الكثير من الأموال من الجيب الداخلي لسُترته الجلدية وتقصد أن يُحدثه بنبرة ذات مغزى مفادها أنه يود الدخول بأي طريقة وسيُعطي له ما يُريد جراء السماح له:

- طيب مفيش خبر إن جاد الشهابي جاي؟ 


عقد الرجل حاجباه ثم تفقد الحاسوب أمامه واجابه بإقتضاب:

- ثانية واحدة بعد اذنك..


تابعه بعينيه متفحصًا وهو يذهب لرجلين من هؤلاء ذوي العضلات المفتولة ثم عاد إليه ليخبره:

- حضرتك الـ access ألف وخمسمية وعلشان المواعيد الجديدة عندنا تعليمات بأننا اخرنا الساعة اتنين.. يعني ساعة ونقفل.. 


ابتسم له ببعض السخرية التي ناقضت نبرته تمامًا:

- يا باشا والفين كمان مش الف وخمسمية بس.. ده أنا عيوني ليك..


ترك الأموال بينما اخرج له التذكرة التي سجلها كحجز له ثم سمح له بالدخول بينما ترك له "جاد" ثلث المبلغ الذي طالب به كإكرامية وأخيرًا توجه للداخل.. 


للحظة شعر بالصدمة من كل تلك الاجساد المتراقصة المتعرقة وكأنهم يتعذبوا بالفعل بالجحيم ولا يستر اجسامهم إلا أقل القليل بينما لمح بارًا ضخمًا تُعد عليه المشروبات الكحولية ليشعر بالمفاجأة عندما لمحت عينيه "إيناس" لا تبدو في وعيها وهناك ما لا يقل عن أربعة رجال يحاوطونها!


❈-❈-❈ 

توسعت عينيها ببعض الرهبة عندما وجدت اسمه يظهر على شاشة هاتفها وسرعان ما اطفأت صوت الرنين وترددت لبُرهة قبل أن تقوم بإجابة اتصاله لتزم شفتيها وهي لا تدري هل عليها أن تفعل أم لا ثم نهضت متحاملة على آلم قدمها لتتفقد ما إن كان اخيها قد آتى أم لا فوجدت أن المنزل لا يزال فارغًا فنظفت حلقها واجابته بلفظة تليفونية بينما لم تتوقع منه ما قاله:

- كويس، لسه صاحية اهو مقلقتكيش!


ضيقت ما بين حابيها بإنزعاج ثم نهرته بسخرية متسائلة ولكن دون صياح تحسبًا لو عاد "سعد" بأي لحظة وهي تتحدث بالهاتف في مثل هذا الوقت مع رجل غريب:

- نعم! خير! ايه المهم اوي في انك تكلمني متأخر في وقت زي ده؟


رفع حاجباه ثم اخفضهما بسأمٍ وهو كان يتوقع قولها هذا تمامًا ثم اجابها:

- أولا بطمن عليكي انك رجعتي بيتك و..


قاطعته بلذاعة ثم هتفت به:

- اه روحت واديك اطمنت اتفضل اقفل بقى!


زفر بضيق ثم غمغم بإعتراض:

- وبعدين بقى في الإندفاع والعند بتاع كل مرة اجي اتكلم معاكي فيها ده!


اندهشت من كلماته التي استمعت لها وقبل أن تبادر بصياحها الذي يتوقعه تحدث هو بثقة شديدة لم تخل من عجرفته التلقائية التي لا يدرك أنه يمتاز بها وتتضح حتى بنبرته:

- أولًا بطمن عليكي ثانيًا كنت عايز اخد رأيك في كذا حاجة، ثالثا احنا كنا بنتكلم سوا مع بعض في اوقات زي دي ومش شايف إن الإصحاب هيفرق بينهم الوقت متأخر ولا لأ!


 تريث كلاهما لبُرهة بينما واصل هو حديثه سائلًا وبنفس الوقت يبحث عن أي سبب مقنع يدعم كلماته التي نطق بها:

- مش احنا اصحاب ولا إيه؟


تنهدت وهي تحاول ألا تنزعج واجابته قائلة:

- اصحاب ماشي بس فيه حاجة اسمها اصول، يعني ايه تكلمني والوقت متأخر كده! مهما كنا اصحاب لازم برضو يكون فيه حدود.. وبعدين أنا اصلًا مبكلمش ولاد في التليفون وافضل ارغي معاهم


استمعت لضحكته الخافتة لتشعر بالغيظ من فعلته فتسائلت مستطردة بتهكم:

- وايه بقى اللي بيضحك إن شاء الله؟


تنهد وهو يُعدل من جلسته على الأريكة الموضوع بغرفته واجابها:

- ولاد ايه بس يا رحمة، أنتي عارفة أنا عندي كام سنة!


كسى ملامحها الغضب من تبريراته الواهية فأردفت بإعتراض جلي:

- ميخصنيش!! انشالله يبقى عندك خمسين، أنا اللي اعرفه يعني واتربيت عليه إن اللي مينفعش اتجوزه زي خالي وعمي واخويا وابويا هم دول اللي ليهم الحق يقربوا مني ولا نسهر ولا نرغي براحتنا، وبعدين أنا كنت ضيفتكم في بيتكم وانتوا شايلني وكتر الف خيركم وانت من اهل البيت.. فحتى لو بقيت أنا وانت اصحاب ولا بنفضفض لبعض فده ميدلكش الحق تكلمني في وقت متأخر! ده انا حتى زمايلي الولاد مبيتكلموش معايا في الموبايل غير للشديد القوي!


تعجب من قولها وحاول أن يُسيطر على ضحكته الزافرة كي لا تستمع لها وانتقى ما اراد من كلماتها ثم تسائل مُعقبًا:

- يعني انتي الحكم عندك على اللي بتكلميه بإنك ينفع تتجوزيه ولا لأ؟


اندهشت من قوله بمزيد من الغيظ وأردفت بتعليق ساخر:

- اقصد يعني يكون محرم ليا! بس مظنش إنك هتفهم الكلمة دي فقولت اشرحلك اسهل!


قلب شفتاه بتعجب وتنهد بعمق ثم اردف مهمًا:

- ماشي يا رحمة.. عمومًا بما إنك ينفع تتجوزيني يعني


تراجعت عن غيظها في ثوانٍ بعد أن استمعت لكلمته وشعرت ببعض الإرتباك من تصريحه ولكنه اكمل كلماته وهو يسألها:

- قوليلي كده لو كنتي مكان رغدة كنتي هتتصرفي ازاي في الموقف اللي حصل؟


هذا ما وجده بعقله مناسبًا كي يستطيع فتح أي حديث معها وانتظر وهو يستمع لهمهماتها وحدثته مُجيبة:

- كان لازم اعرفك.. اصل يعني الإنسان اللي هرتبط بيه ليه الحق اننا نكون معرفين بعض كل حاجة ويكون فيه صراحة ما بينا.. فمن حقك تعرف إن مامتك هتقابلني.. ولو هي مكبرتكش أنا هكبرك.. انت خطيبي ومن حقك يكون عندك علم!


توقفت من تلقاء نفسها وهي تسترجع ما قالته لتشعر بغبائها الشديد فاضافت بتسرع:

- اقصد يعني لو كنت مكان رغدة، يعني رغدة اللي تعمل كده، كنت هتصرف كده لو انا مكانها.. فاهم حاجة ولا ايه؟! 


ابتسم على قولها وتريث لبُرهة لتعود هي لتعجبها:

- يعني ده اللي أنا اقصده، انت روحت فين ولا قفلت ولا ايه؟


نظف حلقه واجابها بهدوء:

- معاكي.. بفكر في كلامك بس


زفرت ببعض الراحة ولم تعلم انه استمع لها بينما تركها لتُتابع حديثها:

- بصراحة يعني كان لازم تعرفك، حتى لو مش هتقولك تفاصيل بس من حقك تعرف، وعلى فكرة بقى الاتنين غلطانين، سواء مامتك ولا رغدة! لا مامتك عملتلك احترام قدامها ولا رغدة عملتلك احترام هي كمان.. بص الاتنين كان تصرفهم مش احسن حاجة!


لوهلة فكر بكلماتها ليشعر بالآسف على حاله ثم عقب بخفوت:

- عندك حق..


تناولت نفسًا طويل وزفرته ثم تسائلت بهدوء:

- اظن كده اتكلمنا اهو، فيه حاجة تانية عايز تقولها؟


انزعج من صوغها ووصف الأمر بمثل هذه الطريقة فأردف متسائلًا بتهكم:

- هو الاصحاب ممنوع يتكلموا يعني؟


تمتمت بالإستغفار وهي تحاول ألا تصرخ به واجابته:

- بالنسبالي أنا آه.. ممنوع يتكلموا في الوقت المتأخر ده.. ويالا تصبح على خير علشان بصحى بدري.. سلام!


اغلقت المكالمة سريعًا وهي تضع يدها على صدرها لتتعجب من ارتفاع خفقات قلبها التي تتوالى بعنف وتسائلت لماذا تشعر هكذا لتُفسر في النهاية أنها فقط توترت لو أن "سعد" كان يستمع لحديثها وتوجهت لتتفقد ما إن آتى أم لا لتجده لم يعد بعد لتتنهد براحة ثم توجهت لتنام!


❈-❈-❈ 


نظرت حولها وهي تُعاني من شدة الإنهيار التي لا تتوقف وهي جالسة على فراشها الذي كان يجمعهما مساء كل يوم وبسذاجتها كانت تظن أنه سيبقى معها دائمًا وأبدًا بل ولسنوات كانت تعتقد نفسها محظوظة بإمتلاكها زوجًا مثله.. ولكن الحقيقة المُرة أن كل هذا كان مجرد تراهات!


حاولت من جديد أن تهاتف "إيناس" وهي تشعر أن قلبها ستوقف من شدة بُكائها ولكن في النهاية انتهى صوت الرنين ولم تُجبها لتتسائل إلي من عليها التحدث؟


أخيها "راغب" الذي لا يكترث بما تمر به؟ أم ابن خالتها "سلمان" الذي قامت هي برفضه يومًا ما وتزوجت من صديقه وكان دائمًا ما تتعامل معه بإقتضاب نظرًا لنصائح زوجها الحقير؟ أم ربما ابنة خالتها التي بمنتهى السذاجة قد تخبر خالتها هي نفسها، ووقتها لن ينتهي الأمر سوى بفضيحة بين أرجاء هذا المنزل ولا تستبعد أن تقوم خالتها بإتهامها ظلمًا بالكثير من الأشياء التي لم ترتكبها بالفعل! 


الوحدة القاتلة كانت نصيبها هذه الليلة، لا تدري إلي من تتحدث ولا حتى من تشاركه أي مما تشعر به، ولو حتى هناك أحدًا ليُعانقها بصمتٍ ويربت عليها كانت لتكون محظوظة حقًا.. لم تحسب يومًا ما مدة وحشة الوحدة المُهلكة التي تعانقها الآن بدلًا من الجميع! 


اجهشت بالبكاء مرة ثانية وهي لا تستطيع أن تُصدق وصولها لهذا الحد من الإنهيار والإحتياج لمجرد عناق من أي أحد قد يراها وفجأة ازدادت حرقة بُكائها عندما لاح برأسها صورة "سعد" وهو يقوم بعناق اخته لتشعر بالآسى على حالها وهي حتى لا تستطيع امتلاك ما تمتلكه فتاة مثلها! 


حاولت أن تهدأ من بُكائها وباتت تشعر بأن رأسها تقارب على الإنفجار حتمًا من شدة البُكاء لتحاول أن تحصل على بعض النوم وهي تُفكر في تلك الأحداث العصيبة التي لا تعلم إلي متى ستظل تتذكرها وها هي قد اصبحت أمام الجميع إمرأة مطلقة بسبب خيانة زوجها الحقير إليها! 


لم تسقط مباشرة في النوم فأمسكت بهاتفها وحدقت بشاشته لوهلة واثار البُكاء لا تزال على وجهها وترددت قليلًا أن تقوم بكتابة احدى العناوين الخاصة بعرض المواقع الإباحية ولكنها تذكرت أنها لم تُذنب في شيء حتى تقوم بمعاقبة نفسها بممارسة العادة السرية، هي لا تحتاجها، ولن تحتاجها ولن تفعل.. الأمر برُمته أنها فقط تعاني من صدمة وستجتازها!


نهضت سريعًا ودموعها تعاودها من جديد لتتساقط رغمًا عنها والقت بهاتفها بعيدًا وأخذت العديد من الجُمل تلوح برأسها من تلك الجلسات التي كانت تداوم عليها منذ سنوات ثم غسلت وجهها ببعض المياة وسرعان ما خرجت وامسكت بهاتفها وعلبة سجائرها ورآت أنه افضل حل الآن أن تتجه لأي لعنة بعيدًا عن هذا الفراش وإما هي تعلم جيدًا إلي أين ستنتهي! هي لا تريد تلقي العلاج من جديد بشأن هذا الأمر الذي يُذكرها بالكثير من الأشياء التي تتحاشى بكل الطرق أن تتذكرها!


❈-❈-❈


احتدمت دمائه بالغيظ عندما رآها تتراقص معهم بهذه الطريقة التي تفتقر لأية حدود ثم توجه نحوها وهو يحاول أن يحصل على انتباهها في خضم هذه الموسيقى الصاخبة التي لا تتوقف بين اجساد الراقصين وكاد بالفعل أن يفتعل شجار مع واحدًا من الرجال ولكن تشبثها بعنقه وملامحها الثملة المتهللة بقدومه جعل الرجل يتراجع وهي تصرخ حتى يستطيع أن يسمعها:

- انا مبسوطة انك جيت اوي..


بدأت تتحرك بتحركات راقصة وهي تحثه على أن ينغمس معها بهذه التحركات وصاحت به:

- ما ترقص يا عم جاد! موحشتكش ولا إيه!


تفاقمت عقدة حاجباه ثم جذبها بقوة إلي الخارج من بين هذه الأجساد المتراكمة على بعضها البعض وممتزجة بالثمالة والتراقص والعُري في حين واحد ولم تنل كل هذه المظاهر سوى احتقاره الشديد وتقززه من الأمر برُمته وخلع سترته ليضعها على جسدها شبه العاري الذي لم يقتنع بما عليه من ملابس! 


دفعها لداخل السيارة واكتفى بأن يجلس على المقعد الأمامي بجانب السائق واخبره أن يتجه صوب منزلها مباشرةً ولكن هذا لم يكن بحل كافيًا أن يكون بمنئى عنها فيديها التي حاولت أن تحاوطه وهي جالسة خلفه جعلته ينتفض بإحراجٍ شديد أمام السائق:

- ايه يا عم جاد منكد ليه!!


صاحت بضحكاتٍ ثملة وهو مدرك أنها لا تعي أيًا مما يحدث فهذه المرة تختلف كثيرًا عن المرة السابقة التي شهد على ثمالتها ولم يكن يتوقع أنه ستصل لهذا الحد فالتفت لها بعد أن نفض يداها عنه ولم يستطع كبح صياحه الغاضب بها:

- ايناس، اتلمي لغاية ما نوصل وافوقك!


ضحكت بقهقهاتٍ توالت وهي تتوسد برأسها المقعد الخلفي للسيارة برأسها ثم غمغمت:

- متزعقش بس! 


على ما يبدو لم يستمع أيًا منهما لما قالته ولا تدركه هي نفسها وغمغمت بالمزيد من الكلمات غير المُفسرة بينما هو جالس يحترق بداخله متلك المشاهد التي رآها الليلة وخاصةً مُراقصتها للرجال وعلمه أن فتاة مثلها مجرد اسمها بهذه الأماكن يدل على الكثير، فلقد لاحظ كيفية نظرات هؤلاء الرجال، لم يكن بغبي وهو يقرأ بأعينهم أنها إمرأة عاهرة جامحة لا تكف عن التصرف بصخب ومعاقرة الخمر! 


التفتت مرة ثانية ليجدها كمن توشك على النوم من شدة ثمالتها وتفقدها لوهلة بمزيد من التضارب بداخله ولكنه كان يُدرك أن ما رآه اليوم منها سيقف دائمًا كتنبيه له أن هذه المرأة فاسدة ولا يجب عليه الإقتراب منها مهما حدث!


❈-❈-❈


توسدت صدره وهي تتلمسه بأناملها وبالرغم من عدم تحسن الأمر بشكل كافي بعد وبالطبع لا تزال تلك المُشكلة التي يُعاني منها تؤثر بالسلب على لحظات علاقتهما ولكنها تُقدر محاولته فيما فعله هذه الليلة وهو يقترب منها ليُماسرا علاقة حميمة لم تعد تتذكر متى كانت آخر مرة اجتمعا بمثلها! 


هي تحاول أن تُظهر الصلابة وتغيرها الشديد وثباتها على موقفها ولكن بين طيات قلبها قد حُفر عشقها له منذ أن كانت طفلة ولا تعرف معنى للعشق سوى بكل ما هو عليه من ملامح ونبرة صوت وكلمات، لقد اشتاقت له للغاية، ووجوده بالقرب منها معانقًا اياها بهذه الألفة التي اشتاقت لها هي الأخرى جعل الأمر صعبًا عليها أن تستمر بصمودها أمامه! من يعلم، قد يكون حديثها عن الطلاق الفترة الأخيرة التي كانت سبق بالنسبة لها قد يجعله يشعر بأهمية الأمر هذه المرة ويأخذه على محمل الجدية ويضعه بأولوياته..


استمعت له يتنهد بينما اخفض بصره إليها وهمس بحزن متسائلًا:

- بقى عايزة تطلقي وتبعدي عني يا نانسي؟


وكأنه علم ما يجول بخاطرها فرفعت مُقلتيها الفاتنين نحوه واجابته بنبرة خافتة:

- بلاش نتكلم في المشاكل دلوقتي.. ما صدقنا نكون كويسين وأنت وحشتني اوي! 


التفت ليضجع على جانبه فابتعدت قليلًا للوراء بينما اسند رأسه على يده وهو يتفقد ملامحها بتمعن ورد مُعقبًا:

- انتي كمان وحشتيني.. أنا آسف! 


احتوى يدها بلمساتٍ رقيقة بعد أن اعتدلت هي الأخرى بجلستها لتواجهه وزمت شفتيها ونظرت له معاتبة وتحدثت له بدلالها الفطري:

- ارجوك بلاش نبقى زي الفترة اللي فاتت دي تاني.. ويا ريت تعمل زي ما وعدتني بجد، صدقني هو ده الحل الوحيد اللي ممكن يصلح كل حاجة بيني وبينك!


لم تأتِ على ذكر الأمور ولم تُرد أن تنطق بها كي لا تجعله يشعر بالإحراج وعدم الإرتياح فابتسم لها ثم جذب كف يدها وطبع عليه قُبلة رقيقة وتحدث لتنعكس حركات شفتيه على يدها بصحبة أنفاسه الدافئة:

- هاعمل زي ما وعدتك! 


نهض بحماس وهو يتناول هاتفه من فوق تلك المنضدة الجانبية بجانب الفراش الذي يقع بواحدًا من أفضل الفنادق بالدولة ثم عاد ليجلس وهو يُلقي لها بالهاتف ليقول:

- شوفي تحبي نروح فين الأول، لو هنتفسح اعملي انتي plan للمكان اللي نفسك تروحيه.. ولو عايزانا نشوف دكتور ممكن المانيا أو فرنسا! اللي تشوفيه انا معنديش مانع فيه! بس بلاش اتابع من هنا..


قرأت بعض الإنزعاج على ملامحه وهو يتحدث بجُملته الأخيرة فأمسكت بيده في دعمٍ وابتسمت له وحاولت أن تطمئنه:

- متقلقش مفيش حد هيعرف حاجة.. 


تنهدت ثم اقتربت منه لتحاوط صدره بيدها وهي بنفس الوقت تُمسك بهاتفه وقالت بنبرة مقترحة:

- ايه رأيك لو نروح فرنسا.. منها فُسحة ومنها نشوف دكتور كويس؟


❈-❈-❈


في صباح اليوم التالي!


كان لابد للجميع من أن يستعد للمواجهة، سيكون يومًا مليئًا بالمواجهات.. بداية من هذا الوكر بالأفراد المتبقيين بداخله، فهناك إمرأة لتوها اصبحت مُطلقة بالكاد حصلت على ساعات قليلة من النوم لابد لها من إرتداء قناع الصلابة والثقة!


وهناك رجل شتته والدته بأفعالها بالآونة الأخيرة ومنذ مكالمة أمس التي تشاركها مع "رحمة" لا يستطيع نسيان جملة وحيدة قبل نومه وحتى بعد استيقاظه لا تزال تلح عليه:

-  لا مامتك عملتلك احترام قدامها ولا رغدة عملتلك احترام هي كمان!


وفي هذه الأثناء كان هناك زوج وزوجة يحاولا قدر المستطاع أن يُعيدا عشقهما للحياة من جديد، ربما لا يكونا بنفس المنزل ولكنهما على علم أنهما لابد لهما من مواجهة كل ما سيحدث.. فمنذ الآن وصاعدًا لم يعد هناك مفرًا من المواجهة!


وكذلك؛ بعيدًا بمسافة ليست بقليلة هناك ذلك الرجل الذي لا ينفك يُفكر بما عليه فعله مع الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يُلقبه بأخيه، يُفكر كيف سيبدأ حياته التي انتهت بالفعل، ويُفكر كيف سيرعى اخته الصغيرة! الكثير من الأفكار تلوح برأسه بينما بدأ في القلق بعد أن حاول الإتصال بـ "جاد" أكثر من عشرة مرات منذ ليلة البارحة وهو لا يُجيبه، لا يريد أكثر من أن يطمئن عليه ويواجهه بكل ما في جعبته!


ولكنه لم يكن يعلم أنه لن يترك بيت "إيناس" حتى يستغل الموقف بأكمله لنفسه، فهو ليس بغبي، هذه الفتاة دائمًا ما امتلكت حيلة مع "رُفيدة" ولابد من أنه سيحتاجها عاجلًا أم آجلًا.. انتظر ليحصل على تلك المواجهة بينهما، لابد من أن يجعلها تظن أنه هو المنقذ الوحيد لها، ولكن دون أن تشعر بالخوف أو الإرتياب في كل ما سيقدم على فعله! 


فتحت عينيها وهي تشعر بصداعٍ لعين يفتك برأسها، فهي لا تدري متى تناولت مثل هذا المقدار في  حياتها ثم التفتت لتجد "جاد" جالسًا على احدى الكراسي القريبة لتزفر زفرة آلم من شدة وجع رأسها وهي تُفكر كيف ستواجهه وهي لا تتذكر أي مما حدث ليلة أمس.. ازداد تفكيرها وهي تعتصر رأسها الذي سينفجر حتمًا عما قريب من شدة آلمها وسرعان ما تذكرت أمر "رُفيدة" وأفعال زوجها الحقير التي لا تنتهي لتشعر بالإستياء لأنها لم تتحدث لها وبدلًا من هذا ذهبت لتثمل..


يستحيل أن تكون هذه النهاية، لا يستطيع أن يقبلها عقله، أن يُمسك "ياسر محفوظ" بفضيحة شذوذ بوسط المجتمع ورجال الأعمال، هذا لن يقبله أبدًا.. عليه التصرف سريعًا فعلى ما يبدو أن زوجته العزيزة "رُفيدة" لا تعمل وحدها.. وكذلك هو.. لو استعانت هي بهذان المسجونان فليستعين هو الآخر بمن بعرفهما جيدًا..


 

❈-❈-❈

يُتبع..

معلش الفصل مش طويل اوي بس برضو مش صغير..

هحاول بكرة أو بعده بالكتير يكون فيه فصل كمان.. وعلى فكرة وحشني اوي الكتابة في الرواية دي

دمتم بخير