-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل التاسع عشر

 


الفصل التاسع عشر


ليس بوسعي استعادة الساعات، أو الجهد

أو تلك القطعة الصغيرة مني التي آمنت بكَ

ربما تعتقد أني الشخص الذي يعاني هنا

لكن، هذا فقط لأنكَ لم تكتشف ما قد خسرتَ بعد!!

 

سامانثا كينج


 


”ها نحن هنا من جديد“

 

رددها أدهم بين جانبيات عقله وهو يوغر النظر للأخرق الذي يقف أمامه، وكل ما يدور بباله ذكرى آخر مرة رآه بها فور وصولهم لمصر، ورفقة فريدة أيضًا .. ففي لحظة، كان يقف بجوار فراشها بالمستشفى الخاصة بعائلته ينتظر تقرير فحصها المبدئي، وباللحظة التالية فوجئ بقوة من الشرطة تقتحم الغرفة لتقتاده للحبس .. لا يعرف كيف حدث هذا، ولا كيف عرفت الشرطة بعودتهم من الأصل رغم تكتمه على الخبر، حتى الثانية التي التفت بها ليأخذ نظرة اطمئنان أخيرة على فريدة، ليجد ذلك الاخرق يقف بدلًا قرب فراشها، ويكيل له الحقد بعد أن ظفر بقربها بدلًا منه!!

 

 

بين ليلة وضحاها لم يعد مسموحًا له برؤيتها بعد دوام شهر لم تغب عن عينه لحظة فيه وتعود من جديد على وجودها ورؤيتها وقتما شاء .. حتى آخر لحظة على المركب، سقطت فيها بين يديه فاقدة الوعي، وطوال رحلة العودة لمصر، ظل محتفظًا بها وأبيَّ أن تفارق ذراعيه، ربما لأنه توقع فقدانها بالعديد من السيناريوهات ولم يكن من بينها أبدًا ما حدث!!

 

 

ليس كالحريق الذي نشب بصدر فور أن رأى السمج مراد وعلم أنه كان يترقب وصولهم وهو من أبلغ الشرطة، وزاد جنونه الضِعف عندما قضت النيابة بحبسه على ذمة القضية بعد أن تعثر عليهم أخذ أقوال فريدة طوال هذه المدة.. ليعرف من ماتيو الذي تركه لحمايتها أن السبب بكل هذا ذلك الغبي مرة أخرى، فقد كان جليًّا أنها معركة بحتة بينهما، وأنه لم ينسى ثأره ويصبو إلى أخذه حتى لو كانت فريدة وسيلته إلى هذا .. فبإصرار قام بنقلها لمستشفى أخرى لا تحمل اسم الشاذلي لينفرد به بعيدًا عن أعين حرسه وأتباعه، استغل حالة فريدة كحُجة يسوغ به رغبته في تحويلها إلى مصح نفسي كي يكسب الادعاء ضده أكثر من كون حالة فريدة تستدعي هذا .. ليعلم أدهم أن عليه الخروج بأي ثمن ليس لشيء إلا ليلقن ذو الرجولة المترهلة درسًا لا ينساه، أو ربما ينساه حينما يفقد الذاكرة مما سيحدث له عسى أن ينسى فريدة بالمرة!!

 

 

وللسخرية.. ها هو الآن، يشهد على خروجه مهزومًا من بعد أن فعله كل ما بوسعه ليستحوذ عليها .. ربما قد شب معها وقضى برفقتها سنوات أكثر مما قضاها أدهم، لكنه لم يفقه مطلقًا حقيقة أن فريدة غير قابلة للتملك والاحتكار بأي شكلًا كان إلا إذا أردت هي ذلك .. وماذا بعد؟! .. يلقي بجملته السمجة في استعراض رخيص ليحفظ ماء وجهه أمامه ويبتز عواطفها كمحاولة أخيرة لاسترجاعها!!

 

 

لا يعرف حقًا كيف فعلها .. فبمعجزة ما خالف أدهم شياطينه ولم يستجيب لها حينما أمرته بقتل مراد، أو على أقل طحن عظامه على ما هرَأ به .. ومن أجل فريدة فقط، تجاوزه بجسده الضخم وكأنه غير مرئي متقصدًا دفعه بكتفه أثناء العبور وأشار للحرس بأن ينتظروا بالخارج وألا يسمحوا لأحد بالدخول .. ليقف أمامها، ويتأمل هيئتها الشاحبة بينما لاتزال جالسة على الفراش مُسهبة العين فيما تحتوي راحة يدها..

 

 

أشبع روحه من رؤيتها، وسمح لنفسه بالتقرب منها والجلوس جوارها ليملئ صدره بأنفاسها من جديد .. كانوا أربعة أيام فقط جملة المدة التي فصلت بينهما إلا أنه شعر بروحه تغادر جسده تحرُّقًا لرؤيتها والاطمئنان عليها .. أن يختار بنفسه الفراق عنها شيء وأن يُباعد بينهما القضبان كان شيئًا آخر لا يطيق مذاقه .. كان التعريف الخالص للاحتضار!! 

 

 

وليخرج من تلك اللعنة، لم يكن أمامه سوى استدعاء أفضل وأحنك محاميه من الخارج، المصري الوحيد ضمن هيئة الدفاع لدى المنظمة التي تتولى كامل شئونهم القانونية .. الحقيقة، أدهم هو مَن اختاره وأدرجه ضمن تلك الهيئة، ومع الوقت استطاع أن يثبت مهاراته في خدع القانون أمام المنظمة بأكملها لذلك لم يكن يعتمد على أحدٍ سواه في المسائل الشائكة، ولم يشك مطلقًا في قدرته هذه المرة .. وهذا ما كان، فلم يتطلب الأمر منه أكثر من حضوره لمدة ١٥ دقيقة في غرفة النيابة وكان أدهم يمضي على قرار إطلاق صراحه المشروط .. لم يلقب بـ (الحاوي) من فراغ!! .. ليتضح لأدهم فيما بعد أنه قد تم تكليفه مباشرةً من الكابو بهذه المهمة أولًا، وثانيًا، ليوصل له رسالة مخصوصة تحوي كلمتين لا أكثر:

 

"آخر فرصة!!"

 

 

لم يحتاج لأن يعرف انه لم يعد أمامه متسع من الوقت أو المماطلة مع المنظمة وأنه على شفا خطوة ويكون خارج رقعة الشطرنج .. ليس هو فقط، بل ومن قبله فريدة، وربما عائلته بالكامل .. طالما كان هذا قانون اللعبة، مَن يُخِلّ بقواعدها يُباح دم سلالته بأكملها .. فالأولوية دائمًا وأبدًا للعائلة..

 

والعائلة هنا تعني .. لامارا!!

 

 

انتهز فرصته الأخيرة فور أن غادر مبنى العدالة، ليشرع في حل أكبر عقدة في معضلته قد تُكسبه بعض الوقت للتفاوض من أجل حياته .. وأكبر عقدة لم تكن إلا فريدة .. والتي بالمناسبة كانت هادئة  للغاية منذ دخوله .. وطالما كان هدوءها يشعل فتيلة حذره أكثر من أي شيء!! .. ارتاب بحالتها إذا كانت كذلك بسبب ما قاله ذلك البغل أم لم تشعر بوجوده من الأساس .. وتلقائيًا نزلت عينه لما تقبض عليه براحة يدها لتتجمع اجزاء الحوار بعقله بعد أن سمع بعض الكلمات من الخارج قبل لحظات من دخوله.

 

-                  فريدة .. أنتِ بخير؟؟

 

لوهلة لم يتوقع أن تبدي أي استجابة لكنها سألته بنبرة خالية من المشاعر بينما عينيها لازالت معلقه بما بين يديها:

-        ماذا برأيك؟

 

راقب سكناتها ولم يكن لديه أي فكرة عما يمكن أن يجول برأسها، لكن أول شيء تبادر إلى ذهنه هو شعورها بالذنب نتيجة ما قاله ذلك الحقير .. لهذا أردف بجدية:

-        لا يجب أن تلومي نفسك على هذا، لقد فعلتِ الصواب!!

 

 

غامت عينيها وكأنها تحلل كلماته بعقلها، في حين تأذى حلقها وهي تجاهد بيأس لابتلاع غصه متحجره هناك .. شيئًا ما لا تميزه يتصاعد داخلها ويفور كبركان على وشك الثوران، كانت تراقب هذا من الداخل بينما أصابعها تمرر الخواتم بشرود ظاهري .. رائحته، صوته، وجوده بجانبها يعيق من سيطرتها على نفسها مستفزًا داخلها كل جزء عانى من وراءه .. غمغمت ساخرة مما يجري لها:

-        هل ترى هذا؟؟ .. ربما..

 

 

قطع استرسالها مستنكرًا حتى مجرد تفكيرها في هذا:

-                  ربما ماذا؟! .. أنتِ لم تحبيه وبالتأكيد لن تقبلي بأن يستغلك ويودعك بمصح نفسي .. وبالأساس لم أكن لأسمح بهذا!!

-                  ستحميني؟؟

 

 

استبقته السؤال بنبرة متحفزة وفي قرارة نفسها نويت استدراجه لمنطقة معينة بعقلها .. منطقة لم تتمنى سواها منذ أن استيقظت وهي تذكر أسوأ لحظات حياتها .. منطقة حيث فقدان السيطرة وثورة البركان .. الآن كل شيء صار مكشوفًا، فما المانع؟؟ .. اللعنة على السيطرة ومرحبًا بالجنون!!

 

 

للحظة كاد أن يُجيبها مُنفيًا أي شكوك حول تردده في حمايتها، هذا قبل أن ينتبه للمنحى الخطير الذي سلكته نبرتها وتأكد له هذا حينما حدقته بجانب عينها بنظرة أقل ما يقال عنها .. نظرة سوداء .. وقد كانت البادرة، حيث جعدت شفتيها بابتسامه جانبية كارهه وببطيء شديد لفظت حروفها:

-        كيف..؟؟

 

لم يركز في مقصدها قدر ما حاول فهم ماذا أصابها .. مسح بعينه وجهها وكامل لغة جسدها ليقرأ التأهب والعدائية المتأججة بينما أصبحت تقبض أصابعها بإحكام على الخواتم لتتقرب منه مكرره بنفس الحِديّة:

-        كيف ستحميني؟؟

 

 

تجهم وقد استشف ما ترمي له وما هو على وشك الخوض به .. ماذا كان يتوقع؟! .. هو آخر شخص يمكنها حمايتها، لم يستطع حمايتها من جاستن أو حتى عادل .. والأهم فشل في حمايتها من نفسه!! ..  كل ما تعانيه سواء الآن أو سابقًا كان بسببه .. لذا أغمض عينه بإحباط وكزّ على أسنانه مستعدًا لنوبة مستعرة من نوباتها .. لكن لم يأتي على باله ما فعلته عندما وقفت أمامه مهسهسه بعينٍ متقده بالجحيم على بعد أنفاس من وجهه:

-        هل ستحميني كما سبق وحميتني من جاستن؟؟

 

 

توسعت عينه بصدمة من تذكرها تزامنًا مع توسع ابتسامتها الكارهة وهي تومئ له مؤكده على ما وصله، وفي نفس اللحظة باغتته بصفعة غاشمة لتكمل على نفس الوتيرة: 

-        أو كما حميتني من بن؟؟ .. أنطوان .. ولوكاس .. أم كما حميتني من بيري؟؟

 

 

بين كلمة وأخرى لم تزل يدها عن وجنته حتى تهبط بصفعة جديدة، كانت تضربه بكلتا يديها بينما تعابيرها تتغير وتتضارب بتخبط بين الصلابة والقهر، الهزل والغضب لتستقر أخيرًا على تعبير واحد أهلكه .. الانكسار .. لتغرز أظافرها بالنهاية في وجنته قابضة عليها بغل حتى تندت بالدماء وكأنها تنفي هذا الشعور، تنفي له ضعفها .. كانت تمزق وجهه بالمعني الحرفي .. شيئًا أرادت فعله من قبل ولم يسعفها ضعفها آنذاك .. لتستطرد بعين تكابر الدموع اللاذعة داخلها وبشفاه مرتعشة ووجهها يكاد يلامس وجه:

-        أم كما حميتني داخل القلعة؟؟ ..

 

 

 صوتها أخذ يتصاعد بينما تهدر بوجه محتقن يتصاعد منه الصهد للحريق المندلع داخلها:

-     اجبني .. كيف ستحميني بحق الجحيم الذي ألقيتني به؟!

 

 

ومن ثم تابعت لطمه بين كلمة وأخرى مخرجة كامل غليلها لكن العكس ما كان يحدث .. انفعالها أخذ منحنى كارثي ومن جفاوة الصفعات تكسرت أظافرها وتشوه وجهه أكثر، مع ذلك لم يحرك ساكنًا ولم يزل عينه عنها مطلقًا داعمًا جسده بذراعيه كي تأخذ فرصتها كاملةً .. لم يبالي بما تفعله قدر صدمته باستعادتها الذاكرة واستعادة عذابها معه .. أن يقص عليها ما حدث كان شيء وأن تتذكره هي كان شيئًا آخر .. شيئًا لم يتمنى أبدًا حدوثه .. استطاع أن يرى أنها مع كل صفعة كان تفقد جزءً بداخلها، تحترق بومضات ما حدث وما تفعله الآن ما هو إلا محاولة بائسه لمحاربة تلك الذكريات الشرسة!!

 

 

الحقيقة هي، أنه يواجه فريدة كما لو كان انتهى من تعذبها للتو!!

 

 

رأى هذا كذلك، رآه بعينها بينما ترتعش أصابعها الممسكة بوجهه وصرير أسنانها الطاحن .. رآه برجفة شفتيها وعجزها عن التفوه بحرف يصف كل لحظة حالكة مرت عليها بجحيمه .. ليس لديه أي فكرة كم رغبت أن تعدد له ما آسته على يديه؛ بماذا شعرت حينما غدر بها مَن استأمنته على مشاعرها وحياتها، مَن وضعت تحت قدميه خبراتها الأولى في العشق وممارسة الحب .. مَن شعرت أنه أمنها وحمايتها لم يتردد في صك جسدها باسمه ومعاملتها كالحيوانات، بل أقل بكثير!! .. لم يتردد في تمزيق وسلخ جلدها بالسياط حتى تساقط .. أدمى جسدها وانتهكها بطرق مقززه دميمة، وكان واضحًا أنه عازمًا على سحق أي صلة لها بآدميتها تفنن في سحب الحياة منها قطرة قطرة، ولم يترك فعل شيطاني يجعلها تكره نفسها ما بقيت إلا وفعله بكل سرور .. كم مرة تلهفت بشدة أن تفقد وعيها أو حتى ترتاح للحظة بالنوم، وكل الفضل لحقنها المتعدد الذي حرمها هذه الرفاهية حتى اختلط واقعها بهذاءاتها ولم تعد تميز إذا كانت على قيد الحياة حتى!!

 

 

أرادت أن تخبره كيف خاضت كل هذا وعن الشعور الذي صاحبها وهي تفقد عقلها مع كل ثانية تمر وليس فقط نفسيتها أو أملها في حياة!! .. ولا كيف تبدى الموت أو الجنون كلهما راحة تنشدها .. كل هذا، أرادت أن تخبره أنها تتذكر كل هذا وأكثر، ومجددًا لم تستطع .. شيئًا ينتزع روحها كلما حاولت تجد نفسها تتأذى بنفسها تعود للفتاة التي يقبض على طوق رقبتها، مهما حاولت أن تبدو أمامه وكأنها لا تبالي، بداخلها تنتفض فقط لمجرد وجوده  لم تخبره ببساطة لأنها ليس فقط يقشعر جسدها من الذكرى بل تؤذيها لدرجة لا يمكنه تصورها .. تؤذيها للحد الذي يجعلها لا تمانع في قتله الآن بل هي بالفعل تعمل على هذا الآن، ودون أن تعي .. فقط لتحمي صورته المتجبرة من عقلها!! ..

 

 

لم يفق من غمرة الجنون التي غلفتهما، حتى لاحظ اقتحام الغرفة من قبل ماتيو رفقة الحرس والأطباء الذين قد جذبهم صوت صياح فريدة .. بينما هي لازالت مأخوذة في ذروة انفعالها، جسدها بالكامل تصبغ بالأحمر وأصاب حروفها التلعثم رغم هذا عرف ما كانت تقوله:

-  ستحميني كما جعلتني هكذا!! .. مختلة عقلية .. حولتني لمختلة عقلية .. أنا فريدة المهدي .. دكتورة بعلم النفس صرت مختلة عقلية لا مكان لي سوى المصحة .. مراد كان على صواب، ليتني سمعت كلامه .. ليتني .. ليتني مِت.. لمّ لم أمت .. لمّ...

 

 

تهدجت أنفاسها وفقدت القدرة على التكملة  بينما تجذب ذراعها أحدى الممرضات لتبعدها عن أدهم ريثما يحقنها الطبيب وقبل أن تعاونها أخرى، كان أدهم قد استعاد رشده وانتفض من الفراش متصدرًا فريدة بحماية ليجأر بحدة:

-        حذاري أن يلمسها أحد .. الجميع للخارج ..

 

ثم حدث ماتيو بالإنجليزية:

-        أنت، لما تقف هكذا، تحرك لا أريد أن أرى أحد بالغرفة!!

 

وعلى الفور تولى ماتيو إخراج الجميع وتوابع هذا إذ توترت الأجواء بالمستشفى لكن لم يشبه هذا التوتر الدائر خلف الباب!!

 

 

عندما عاد لها كانت قد انسحبت من كل هذا قرب النافذة وكأنها قد أدركت أين هي وماذا تفعل .. وكما اندلعت فجأة، خبت نيرانها فجأة .. خبت تاركة إياها وسط الركام الذي خلفته، وحقيقة الخراب الباقي لها .. كل ما جرى لها قد جرى وانتهى، لا يمكنها فعل شيء، ليس في وسعها العودة للوراء وعدم الوقوع في حُب عدوها، لا يمكنها استعاده الموتى بسببها أو حتى إحياء روحها المحترقة .. كما قالها مراد:

 "لقد تركها أدهم رماد!!"

 

 

عند هذه النقطة، وعاودها ذلك السؤال الذي تلفظته دون وعي، ذات السؤال اللعين الذي طالما كان رفيق إقامتها الفاخرة بالقلعة، ولا ينفك يطنّ برأسها كحشرة حبيسة:

 

”لماذا لم أمت .. لماذا لم تقتلني؟!“

 

 

لماذا هي دونً عن كل مَن قتلهم لم تمت؟! .. كان هناك مئات الفرص الجيدة لذلك مع كل مرة ينل فيها من جسدها، وحتى بعدها رغم سوء حالتها الصحية والعديد من اللحظات الحرجة التي مرت بها إلا أن روحها العفنة تشبثت بالحياة لتمدد عذابها!! .. لماذا لم يقتلها .. لم تتوسله حياتها قدر موتها، وليته فعل!! .. توسلته بامتهان وذل رصاصة رحمة وما عهدته رحيمًا!! .. وضمات من تلك الذكرى تنهشها حية،  كانت موقنه آنذاك مما ينتظرها إذا بقيت على قيد الحياة بعد الاحتراق، التشوهات والندوب ما كانت لتتركها، كيف ستعيش حياتها وهي تحمل اسمه على جسدها؟! .. كانت تعرف كل هذا وهو كذلك .. ومحتمل لأنه يعرف تركها تعيش، حافظ على حياتها لتعاني، أراد أن يكون انتقامه منها أبدي .. لو كان هذا ما أراده، فهنيئًا له؛ لأنه في عقلها سيظل يُعذبها إلى الأبد !!

 

 

كُتب عليها أن تعيش بِوزر جميع مَن قُتلوا فقط لأن طرقهم تقابلت معها .. وآخرهم مراد الذي اضطرت لإيذائه بهذه الطريقة رغم كونه على حق، فقط كي تُبقي على حياته .. فقط ماذا تفعل بهذه الحياة، ما الجدوى من وجودها وهي تحمل لمسة شؤم على كل اقترب منها؟! .. فلتمت وتُنهي هذا البؤس .. أجل هذا ما يتحتم عليها فعله!!

 

”لا فريدة .. أنتِ بيأسك هذا تنصريه علينا .. ماذا سنفعل إذا لم يكن هناك مَن يواجهه؟؟“

 

 

ودون سابق انذار، ترددت بأذنها تلك الجملة، وكأن قائلها يُجالسها في اللحظة الراهنة .. وها هي تراه رؤى العين، فقط لو مدت يدها ستلمسه، نعم ستلمسه، لكن بخيالها!! .. مرارة الحسرة تصاعدت لفمها لأن هذا مستحيل أن يحدث إلا بخيالها، ولتذكرها لما كانت تضحيتهم من الأساس!! ..  ولما هي الناجية الوحيدة من تلك الكارثة!! .. لتتبدى في عينها ذكرى تلك الليلة بكل ما فيها، وكل ما تلاها من أهوال!!

 

ليلة اندلاع الحريق!!

 

❈-❈-❈

 

 

تمتمت بعينًا تُعميها الدموع بينما تتشبث به بقوة:

-        أنا مَن اخبرته عن الدليل .. انا أنطوان .. لقد سألني وأجبته دون تفكير أو تردد .. أردت أن أبرهن له عن ثقتي المطلقة فيه .. لم أتوقع غدره أبدًا، لم أتوقع أن يدهس هذه الثقة ويستغلها ضدي .. لم أكن أعرف بأنه عدوي الذي أبحث عنه طول الوقت!!

   

 

    احتضنها وهو يربت عليها هامسًا برفق:

-        ششش كفى فريدة، أعرف أعرف .. لا تحملي نفسك فوق طاقتها .. انظري فريدة، ربما لوكاس على حق، لم يبق أمامنا حل سوى أن تختفي مدة عن الأنظار إلى أن أجد مخرجًا لذلك. 

   

 

    انقلب بكائها لضحك حتى نفرت عروق جبهتها:

-        هل تسمع نفسك ماذا تقول؟؟ .. الآن عليَّ أنا أن أهرب من المجرم وليس العكس!! .. ماذا حدث بالحياة، هل تبدلت الأدوار أم ماذا؟؟

   

 

    ربت على كتفيها مهدئًا إياها وهو يقول بتأني وتحايل: فريدة فريدة، اسمعيني .. هذا حل مؤقت، فقط لبعض الوقت حتى أجد حل أو دليل آخر أوقعه به، وإلا سيقتلك!!

  

 

    ارتقع جانب ثغرها بشبه ابتسامه وهي تقول بسخرية يملأها القهر:

-        أتعتقد أنني لم أمت؟؟ .. لقد مُت في اللحظة التي خذلني وخانني بها!! .. لم يعد يشكل الأمر فارقًا.

   

 

    هز رأسه بنفي:

-        لا فريدة .. أنتِ بيأسك هذا تنصريه علينا .. ماذا سنفعل إذا لم يكن هناك من يواجهه؟؟

 

❈-❈-❈



 

 

دس مراد مفتاح شقته ليدخله بكرب شديد مما انتهى عليه الأمر مع فريدة يشعر بأن عالمه قد انهار للمرة الثانية، والآن ماذا؟! .. عليه العودة لسابق بؤسه وحيدًا كما كان، أيامه تجري سيان، لا فارق بين اليوم وأمس أو الغد .. فليكن، لن يرضى بأن تجرح كرامته أكثر من هذا على يد الفتاة التي فضلها على الجميع، يبدو أن هذا نصيبه من الحياة، أن يقع قلبه لواحدة قلبها ملكًا لآخر!!

 

 

تنهد ببؤس، ولفت انتباه هدوء الشقة على عكس ما اعتاد من صخب دائم لأصوات لعب الطفلتين، صياح سارة بهما .. مشى بالطرقة المؤدية للغرف ليلتقط صوت خافت للتلفاز قادم من غرفة والدته .. دخل على مهل وهو يمرر عينه بالغرفة ليجد والدته على فراشها نائمة، وابنته 'فريدة'، تجلس بالأرضية تعبث بلعبها أمام التلفاز الذي يعرض أحد برامج الأطفال الشهيرة، وما إن لاحظت دخوله حتى نهضت تجري عليه بلهفة شديدة بينما عينيها الرمادية تغشيها الدموع.

 

 

دق قلبه بقوة لرؤيتها هكذا ليغمرها بقوة ويهدهدها حتى يفهم منها ما يُبكيها وعندما سكنت كانت تجلس بحضنه على الأرضية ليسألها:

-        ها فيري .. حبيبتي ماذا يُبكيها؟؟

 

 

قوست شفتيها لتبرز وجنتيه الممتلئ بحمرة الصحة وهي تفرك يديها الصغيرة معًا:

-        عمتي أخذت ديدا وتركتني وحدي هنا..!!

 

 

للحظة توقف عقله ولم يفهم بالضبط كيف تركتها، وقبل أن يسألها تلفت حوله عسى أن يجد سارة نائمة على الأريكة أمام التلفاز كعادتها بعد العودة من العمل، تترك الاطفال يلعبون أمام التلفاز وتستريح قبل الغداء .. إلا انها لم تكن موجودة وكذلك ابنتها 'داليدا'، وآخر مرة رآها في حوالي الساعة الثالثة مساءًا والآخر الساعة قد شارفت على السادسة .. إذًا ماذا أين هي بالضبط؟!

 

 

عاد بنظره لابنته ليربت على ظهرها ويسألها مجددًا ربما يتمكن من معرفه أين ذهبوا:

-        فيري .. هل قالت عمتك أين ستذهب؟؟

 

 

أخذت الطفلة وقتها في تجميع وتذكر ما حدث مركزة جهدها على معاناتها:

-        لا أعرف .. أخبرتني أنها تنتظرها بالأسفل وسيذهبون إلى مكان ثم يعودوا .. أخبرتها أن تأخذني معها لكنها لم تقبل وصرخت بوجهي..

 

ومن ثم عادت للبكاء مرةً أخرى ليلتاع مراد وهو لا يستوعب كيف تفعل سارة شيئًا كهذا، خاصة في فريدة، فهي تكاد تهتم بها أكثر من ابنتها .. أيعقل أن تكون قد تركت البيت لمجرد المشادة التي حصل بينهما في المستشفى وذهبت لشقتها القديمة، لنقل أنها استطاعت ترك ابنته، لكن والدتهما .. كيف؟!

 

 

-        مراد .. متى عُدت؟!

 

سمع صوت والدته الخافت من وراء ظهره، وعلى ما يبدو أنها قد استيقظت على صوت بكاء الصغيرة .. حمل ابنته مستمرًا في التربيت على ظهرها لتهدئ ثم اقترب من والدته وجلس بجوارها لتتغير ملامحها بعد أن رأت الضمادة على رأسه وقبل أن تسأله عما حدث تناول يدها وطمأنها:

-        هذا لا شيء لا تقلقي .. أين سارة؟؟ وكيف تترككما وحدكما؟؟ .. هل صحيح أنها زعقت على فريدة؟؟

-        ألم تعد بعد؟! .. لقد أخبرتني أنها ستذهب لتقضي حاجة هامة وستعود في غضون ساعة وتركت فريدة معي وقالت أنها ستحكي لي كل شيء لما تعود .. كم الساعة الآن؟؟

 

 

قالت والدته هذا باستغراب ثم حاولت الاعتدال معتمده على قوة ذراعيها ليتحرك مراد ويساعدها .. كاد أن يجيبها وهو لا يعرف ألا ينقل لها قلقه إلا أن ابنته تشبثت بذراعه هاتفه بصوتٍ باكي:

-        أين ماما، فريدة، لمّ لم تأتي معك كما وعدتني .. أريد أن أذهب عندها، هي لم تصرخي فيّ مطلقًا..!!

 

تنبهت والدته لأمر فريدة لتتأمل وجه ابنها المبهوت وقد أحس بالضياع للحظة وخالطه شعورين متناقضين تجاه ابنته هذه المرة .. تصاعد شعوره بالذنب حتى طغى على أي مشاعر أخرى كان يحملها قبل أن يدخل الشقة الآن، بل وتحول جزء كبير منها للكراهية تجاه فريدة بسبب أنانيتها وأنها لم تضع بحسبتها أبدًا ابنته التي تعلقت بها وصارت تُناديه بهذا اللقب المقدس .. 'ماما' .. هانت عليها لتفطر قلبها هكذا بسهولة بعد أن وعدتها أن تكون أم بديلة لها وتعتني بها!! .. ليأتي صوت ضميره كأب جارفًا كل هذا بعيدًا حينما سأله: ومتى وضع هو ابنته في حُسبته .. بالعكس فربما جاء عليه بعض الوقت الذي استخدم فيه تعلق طفلته بفريدة واجتذبها نحوه عن طريقه .. شعر بالتمزق لما ستعانيه بسبب تعلقها بفريدة، ولتقصيره بحقها وأنه سمح أن تعاني ابنته من الاهمال وافتقاد العطف حد توسله سواء من هذه أو تلك، بينما هو أبيها الذي من المفترض أن يكون هذا هو دوره بعد أن أخذ حضانتها ترك كل هذا وجري وراء سراب!!

 

 

افاق على صوت والدته التي تسأله بجدية:

-        أين فريدة مراد وما قصة هذه الاصابة؟؟


 

❈-❈-❈

 

 

لقد تذكرت كل شيء .. عودة مرة أخرى لنهاية قصتهما!!

 

 

صمت مميت أحرق الأجواء بينهما .. لم يعد هناك ما يُقال .. الحقيقة العارية، نعم إنها كذلك .. صدق أو لا تصدق، ها أنت هنا، في عمق النهاية .. لاذعة، مريرة، ومميتة للطرفين على حد السواء .. كلانا خاسر، كلانا جريح حربٍ مظلمة .. لا فائز هنا سوى الكراهية العاهرة!!

   

 

   تخلل صوته الممزق ليشق ذلك الصمت، بعدما سمع هسيس فلت منها مردده دون وعي ذات السؤال المميت .. "لمّ لم تقتلني؟؟" .. ليقول بنبرة يغالب فيها انكساره :

    - ماذا تريدين فريدة الآن وسأفعله لكِ!!

 

 

    خرجت من قوقعة شرودها وهي تحتضن جسدها وتكافح للسيطرة على الاهتزازات التي تجتاحه كزلزال يعنفه، تقاوم كيلا تنخرط بنوبة فزع شديدة .. وكأنها للتو قد خرجت من ظُلمة تلك الأيام المريعة، وبالفعل قد كانت .. بعقلها، تجدد كل هذا بكل ألمه ومعاناته وأهواله .. في بضع لحظات وحسب .. تجدد ليتركها ممزعه بين خيارين، لا فرارة منهما .. الانتحار أو الانتقام ثم الانتحار!! .. فقط كيلا يكون مَن ماتوا قد راحوا عبثًا!! ..  

 

 

ملامحها كانت كتلة قاتلة من الألم بينما تجيبه بيأس يُعرب عن التَصدُّع القائم داخلها:

    - أريدك أن تذق مما أذقتني إياه .. لكني لا أعرف لذلك طريق!!

   

 

    من فوره كان يجثو لدى قدميها راكعًا أمامها بخنوع وتذلل .. شد يدها بقوة وهو ينظر بصميم عينها وكأنه يتوسل روحها:

    - حياتي بأكملها طوع يديكِ فريدة علَّكِ ترضين!!

 

 

    حبست أنفاسها للحظة، آخر ما تتوقعه هو ما تراه أمامها الآن!! .. (أدهم الشاذلي) .. راكعًا أمامها يرجو عفوها؟! .. إنها القيامة!! .. تساءلت في حال نفسها، أليس هذا ما تمنته طويًلا، أن يغسل قدميها بدموع الندم؟؟ .. وعندها، روادها مشهد لم يبرح عقلها ليلة ليسلبها راحة نومها...

   

 

    ركعوها أمامه يومًا، عاجزة، مكلومة، ومُهانة حد الموت .. يرفع قدمه ليدعس رأسها بتجبر وكأنها حشرة، وكلماته مازالت تتردد بأُذُنها .. "مكانك هنا .. عند قدمي إذا نسيتِ ايتها العاهرة .. ستتعلمين، بطريقة أو بأخرى ستتعلمين الخضوع لسيدك ومالكك الوحيد!! .. وإلا لن ينقذك الموت حتى من بين يدي!! .. سأكسرك بطريقة تجعل والدك يخرج من قبره ليتوسل لكِ الرحمة!!"

   

 

    كلماته تلك عتمت على ما قاله الآن، ودثرته هباءً .. انتزعت يدها بجفاء منه لتتجاوزه مبتعدة بخطىَ مترنحة .. قلبها تتقاذف نبضاته، وكأنه يشن على عليها حربًا شرسة، ولكن ماذا يفعل هذا أمام ظلام روحها المتجلي بجسارة الآن؟؟ .. نظرت له من خلف كتفها لتجده مازال على موضعه .. يوليها ظهره بصدمه شلت حركته، كتفيه متهدلان بهزيمة أصابت عمق الوريد .. يحتضر هو، وليتك تعلم عن احتضار العاشق!! .. تناثرت حروفها بقساوة تنافي تعابيرها المقتتلة، مشبعة بالعجز وكأن الأمر يفوق قدرتها:

    - ليست كافية!! .. حياتك ليست كافية أدهم!! .. لا أريد موتك .. أريد أن أكسر روحك بطريقة لا تعرف الشفاء بعدها!!

   

 

    رمقها من موضعه، ويا لها من نظرة تفوق كل معاني الألم والضياع .. إنها النهاية أدهم، حيث لا عودة بعد اليوم .. حاربت طويلًا، هُزمت وأنتصر، قتلت وأصابتك رصاصات الأعداء .. ولكن تلك، تلك القاضية .. تلك القريبة البعيدة .. تلك القريبة حد التغلغل في دماؤك .. تلك البعيد كبعد النجم القطبي في علياء سماءه المظلمة .. إنها النهاية، ولا شيء بعدها!!

   

 

    نهض بتكاسل وعدم اتزان، وكأن ما يفصله عن الموت هو دقائق .. لم يقترب منها، وكأنما يفصلهما حاجز شفاف لا يرى .. بحسرة قاتله تملؤ صدره وتسمم روحه غمغم لها:

    - ما أدراكِ أن روحي لم تُكسر بعد .. ليتكِ قتلتنيّ عما أشعر به الآن!!

   

 

    قطعت المسافة بينهما لتقف مقابلة له وتحدثه كتفًا إلى كتف .. وجههما يتقابلان، أنفاسهم تختلط وتنضح المشاعر المضطربة لكلًا منهما، تبتسم بوجهه بقهر يمتزج بالعزم ورغبة الانتقام:

    - لا أدهم .. أنت لم تعرف معنى انكسار الروح بعد .. لكن صدقني ستعرفه عما قريب حينما....

   

 

    توقفت الكلمات على لسانها، ما إن اخترق دون إنذار نافذه الغرفة دائرة حمراء ذات شعاع ممتد، لتتسلط على منتصف جبهتها .. وفي لمح البصر انطفأت بعينها الأضواء!! 

   

 

    عندما فتحتها كانت ممده أرضًا، والزجاج متناثر من حولها .. أنفاسها تتباطأ وتخبو، ليس ألمًا، ولكن لما تسمعه من تباطؤ ذلك الذي يجثو بكامل جسده عليها .. عقلها في حالة إنكار وذهول، لم يجاري بعد سرعة ما حدث .. ماذا حدث؟؟

   

 

    تنفست فقط حينما رفع أدهم رأسه لها .. يتفحص وجهها ويمسح جسدها ليطمئن قلبه أنها بخير .. نظرها وكأنما يراها لأول مرة .. إنها جميلة، صافية كساعات الصباح الأولى .. ناعمة كشرنقة من النعيم، كالملاك هي بثوبها الأبيض هذا رغم تلك الدماء التي تلطخ وتنجس طهارتها .. عينيها الذهبية مازالت تلمع كما اعتداد أن يرها، ولكن هذه المرة بدموع تبدو كالدماء المحتقنة، تكشف بجلاء مدى الظلام الذي ابتلع روحها .. روحها المشوهة .. روحها التي شوهها بيده!!

   

 

    تزاحمت الغصص بحلقه لتعيق من تحدثه، ومع ذلك تحدث ليقاوم ذلك الاحتراق الذي يلتهم صدره ويسحب الدماء من جسده ليسلبه وعيه:

    - كنت أعلم، حياتي هي الثمن الوحيد الذي يمكن أن يكفر عن خطيئتي بحق .. فقط كوني بخير، حبيبتي!!

 

 

❈-❈-❈


 

 

دفعت ريم باب غرفتها بانفعال شديد وهي تصفعه وراءها قاذفة بحقيبة يدها بعيدًا لترمي بجسدها على مقعد مسطح بنهاية فراشها، وكان جليًا  استياءها من تصرف أدهم معها لما راحت لاستقباله .. تندمت على إصرارها على الذهاب رغم محاولة والدها إثناءها عن هذا، بالتأكيد كان على دراية بما سيفعله اخيها .. كم أحرجها كونه لم يقدر قدومها ولم يشعر باشتياقها له ورغبتها في الاطمئنان عليه، ليصرفهما بعدم اهتمام ويجري لمتابعة ما هو أهم منهم!!

 

 

ابتلعت ريقها بضيق وانتفخ وجهها بحمرة الغيظ، لم تعد تتقبل هذا الجفاء الذي يعاملها به أدهم خاصة وهي لم تفعل له شيء، بالأساس لم تعتد منه على هذا فقد كان أكثر شخص في أسرتها يرعاها ويهتم لأمرها، والله وحده يعلم كم انفطر قلبها لغيابه المفاجئ، والمتكرر غير عابئًا بأي أحد، عدا فريدة!! .. ورغم استياءها من اختفاءه للمرة الثانية على المركب دون أن يفكر في وجودها أو حتى يضعها على حيز أولوياته، إلا أنها لم تستطيع منع نفسها ألا تحفل بعودته سالمًا، وأول ما فعله فور عودته هو أن كسر قلبها بلامبالاته وكأنها شفافة، غير مرئية بالنسبة له، لا هي ولا أي أحد من أسرته!!

 

 

فكرت في كم أن تصرفه أناني ومتعجرف في كل أفعاله تجاههم، ليس فقط مؤخرًا، بل منذ أن تزوج فريدة .. لم يخبرهم سوى قبيل زفافه بيومٍ واحد!! .. أخيها الأكبر والوحيد يتزوج ولم تعرف سوى قبلها بيومٍ واحد!! .. لا يعلم كم حلمت بهذا اليوم طويلًا، وما آلمها أكثر أنه لم يتثنى لها حتى تدبير فرصة السفر على هذا النحو الجنوني، ورغم اعتذاره لها كثيرًا إلا أن ذلك لم يمنع التوجس من التسرب داخلها .. فمنذ ذلك اليوم شيئًا ما في علاقتهما لم يعد على ما يرام، وحسبما ترى فهذا الشيء قد استفحل حتى أصبح لا يمكنها الجزم إذا كانت لاتزال تعني له صغيرته 'ريمي'، أم وجود فريدة طغى على هذا أيضًا!!

 

 

لمع عشب عينها بعبرات قوية قاومتها قبل أن تتحول لبكاء، وقد أثر فيها أن أدهم هو سيكون سبب هذا .. لأول مرة يتسبب في بكائها، فطالما أخبرها أن وظيفته هي الحفاظ على ابتسامتها!!

 

 

نفضت كل هذا وتناولت هاتفها على الفور تجري مكالمة (فيديو) مع حبيبها، الوحيد القادر على تفهم ما تعانيه على نحو لا مثيل له، لكن الاتصال انتهى دون أن يجيب أحد على غير عادته، ليزداد انفعالها وقد أحست فجأة بالوحشة وأن لا أحد يهتم بها وليس لديها مَت تشكو له ما تمر به .. حتى والدتها ها هي منشغله بالأسفل بمشادة مع والدها حول محور اهتمامهم الأول والأخير .. أدهم!!

 

 

لتمسح دمعة نزلت من فرط تأثرها وهي تفتح هاتفها مجددًا بعزم ودون تردد كانت تحجز على متن أول طائرة عائدة إلى ألمانيا .. ما إن اتمت اجراءات الحجز حتى رن هاتفها بمكالمة من حبيبها .. كانت مغتاظه منه رغم ذلك لم تستطع أن تقاوم لهفة وجوده معها .. فتحت وأول شيء قالته قبل أن يفتح فمه حتى ليتحدث:

-        لماذا لم ترد عليّ واللعنة 'أوليفر'!!

 

 

كاد أن يجيبها بتجهم لتتبدل ملامحه عندما رآها تنفخ بحنق بينما تجذب خصلات شعرها القصير عن وجهها، وتشيح به بعيدًا عن الكاميرا، ليسألها بقلق:

-        أووه بيبي، هل تبكين؟؟ .. ماذا يجري؟!

 

زمت شفتيها بقوة قبل أن تعود له بعينٍ باكية:

-        لم أعد احتمل 'أُوليّ' .. ما يفعله أدهم و...

 

قاطعتها الشهقات ولم تتمكن من التكملة، فلم تعرف ماذا أصابها، تجاهله لها قد جرحها، طالما أخبرها الجميع أن مشاعرها حساسة لذلك تتأثر بأبسط الأشياء، لكن هذا لم يكن بالشيء البسيط!! .. حاول أوليفر أن تهدئتها ليتفاجأ بها تنفعل باحتدام:

-        بحق السماء ماذا أفعل هنا؟! .. لم أتيت!! .. أهلي لا يهتمون لوجودي، بالأساس لا يرونني!! ليس لدي أصدقاء، بالكاد أعرف فأحد هنا، لا أستطيع أراك وأنت لم تأتب كما وعدتني وليس لدي شيء لأفعله .. لا شيء سوى المشاكل، الكثير من المشاكل، منذ أن عدت وأنا محاصرة بالمنزل، بالكاد أخرج، بالكاد أتنفس، ولا أعرف لمّ يحدث كل هذا ولا متى ينتهى ولا أحد يخبرني شيء، يتحدثون في الخفاء ويصمتون فور أن آتي، الجميع لازال يعاملني على أني طفلة .. أشك أنهم يعرفون حتى متى نضحت!! .. لقد سئمت كل هذا .. لا أريد أن أعرف ما يحدث مع أدهم، لمّ اختفى، ولمّ عاد ولمّ اختفى مرة أخرى ولم يكن ينبغي علىّ أن أحفل بعودته مجددًا .. لا ينبغي عليّ أن اهتم لوجوده بعد اليوم، كما هو فعل!! .. لقد كنت على حق 'أُوليّ'، الآن لم يعد لي سواك .. لقد حجزت على أول طائرة وسأكون عندك غدًا!!

 

 

 نهجت بعد انتهت من قول كل هذا دون أن تنظر بعينه، ثم مسحت دموعها لتكمل:

-        سنتزوج هناك .. لا داعي لموافقتهم، فلتكفيهم مشاكلهم التي لا تنتهي .. بالأساس لن يهتم أحد، لن يشكل فارقًا ولن أكون أول من يفعلهم .. أقصى ما قد يفعلوه أن يقاطعونني، وأنا لستُ بحاجة لهم، لدي ما يكفيني بالفعل من عملي الخاص الذي استطعت تأسيسه بنفسي وأنت كذلك .. لن نحتاج لأحد .. أليس كذلك؟!

-        وأنا سأكون أكثر من مرحب بهذا .. فقط لا تبكي مجددًا!!

 

انجلت ابتسامتها حينما اجابها على الفور دون تردد بعد أن ظنت أنه من المحتمل أن يرفض خطوتها الاندفاعية لكن العكس ما حدث .. تمنت أن يأتي غد بلمح البصر، فقد اشتاقت لأيامهما المتخمة بالحب والإثارة معًا .. حينما كان بإمكانه أن يسكت وحشتها فقط بغمرة بين ذراعيه.. قبل أن تكمل محادثتها معه، فوجئت بوالدتها تقتحم دون إذن على غير العادة بملامح متشنجة!!

 

 

قفزت ريم من مكانها وهي تخفي الهاتف في أصابعها:

-        ماما .. كيف ت..

 

لم تكمل إلا وهتفت بها سمر:

-        ارتدِ ملابسك بسرعة .. أدهم تعرض لطلق ناري..

 

 

أخذت نفس وتريثت في قولها تراقب تعابير الصدمة على وجه ريم قبل أن تضيف بصلابة:

-        لابد أن تعدي نفسك للأسوأ!!   

 

 

❈-❈-❈

 

 

فقدت انفاسها بالمعنى الحرفي حينما سقطت رأسه في عنقها بكامل ثقله فاقدًا الوعي .. الوعي الذي تعطب لدى فريدة تلك اللحظة وقد تخشب جسدها على هذا .. لا تدرك شيء .. لا تفهم شيء .. ولسان حالها لا يردد سوى جملة واحدة:

”لا يمكن أن يكون هذا ما يحدث .. هذه خدعة كي يستميل قلبها!!“

 

 

ظلت على وضعها هذا رغم سماعها لخرخرة انفاسه من بين الدماء التي تصاعدت لفمه مختلطة بصوت طرقات أصبحت قوية على باب الغرفة، كانت لـ ماتيو الذي كان مترددًا من الدخول بأول مرة سمع أصوات الزجاج والضجة بالداخل، لكن حينما لم يأتيه صوت ارتاب فيما يحدث واقتحم الغرفة شاحذًا سلاحه باحتراز ليُصرع من المنظر!!

 

 

مرر عينه في الغرفة وهو يوزع الحرس معه لجوانب النافذة ليتفحصوا إذا كان المقتنص مازال يتربص بهم أم لا، ومن ثم انكفأ ليسحب جسد أدهم بعناية وسارع ليتفحص نبضه أولًا ثم اصابة صدره صائحًا في المتجمهرين حوله كي يأتي أحدهم بطبيب، شق قميصه واستخدم قماشه في اسكات النزيف الذي أصاب الجانب الأيمن من صدره بينما يحاول افاقة أدهم مرددًا اسمه ..

 

 

كل هذا أمام فريدة التي لم تصدر أية ردة فعل عدا خطوة واحده زحفتها بعيدًا عن جسد أدهم وقد تسمرت عينها عليه .. تحديدًا على صدره، ولم تكن منشغله بموضع إصابته قدر ما جمدها الجانب الآخر من صدره .. الجانب الأيسر والحرق الذي يستولى عليه ولم تستطع الدماء أن تخفي عن أعينها ما شكله هذا الحرق .. خُيل لها أنها رأت حروف اسمها بالعربية فما استطاعت أن تحيد بعينها عنها .. حتى حينما ازدحمت الغرفة بجمع غفير من الاطباء وأفراد الأمن بعدما ذاع خبر إطلاق النيران بالمشفى، وبدأوا في نقله واسعافه مرددين الكثير من العبارات حول حالته التي تعثر عليها فهمها في خضم هذه الفوضى، نهضت وراءهم مأخوذة بكل ما حدث .. وقبل أن تفارق الغرفة اوقفها ماتيو وقد استراب في هدوءها وبلادتها الغير طبيعية، وللحظة شك أنها الفاعلة خاصة بعدما رآها قبل دقائق تتهجم على أدهم .. رغم هذا سألها برفق بينما يمرر عينه على رداءها الذي أصبح منقوعًا في الدماء:

-        هل أنتِ بخير؟؟ .. لديكِ أي إصابة؟؟

 

استجابتها له كانت بطيئة للغاية وأخذت وقت طويل كي تحيل عينها عن الطريق الذي أخذوا به أدهم .. وكان واضحًا له انها تواجه صعوبة في النطق إذ تفتح فمها وتفشل في تكوين كلمه وبالنهاية اكتفت بإيمائه بسيطة ثم سقطت عينها علاما يحدق به ماتيو لتشير صوب أدهم فيما يعني أن الدماء التي تُغرقها له وليست لها .. متمتمه بتلعثم شديد:

-        له هو .. انا .. لا...

-        ألا تشعرين بألم هنا؟!

 

 

قبل أن تجيبه كان يضغط على موضع معين في عظمة الترقوة قرب الكتف لديها وهو يصيح مجددًا للنجدة بعد أن اتضح أنها تعرضت للإصابة دون أن تشعر، وقد فاتت الرصاصة بجسديهما معًا .. ميله بسيطة قامت بها فريدة لتتفحص الألم الذي اشتعل كالحريق فور أن لمسه ماتيو، لكن رأسها انحرف في السقوط ولم يقم، وقد فقدت الوعي بعد أن تنبه مركز الادراك لديها بالألم والدماء التي فقدتها!!

 

 

يتبع