-->

الفصل الثامن والأربعون - ظلام البدر - دجى الليل

 


الفصل الثامن والأربعون



بعد مرور ثلاثة أشهر.. مايو 2001..

تنفس....

ثم ابتسم بإقتضاب لا يدري حزنا أم راحة وهو يتذكر ما حدث منذ ثلاثة أشهر لوفاء ومواجهته الأخيرة معها بعد أن وفى أخيه الصغير بوعده له بأن جعل أشرف بطريق غير مباشر أن يدرك أن وفاء تسرقه ليس إلا وأن العقود مزورة ولم توقع معهم شيء بل وصدقه على الفور في ثوان وكأنما كان ينتظر أي دليلا على إدانتها ولم يتوانى ليأخذ ما تبقا لديها من أموال بل ورفع قضية عليها لتسوء أحوالها.. ابتسم بدر الدين وهو يشعر وكأنما بات لديه ظهرا جديدا قويا يستطيع الإستناد عليه بعد ما فعله زياد ولا يُصدق أن ذلك الصغير قد أصبح حتى أفضل منه..

"جبتيني ليه؟ عايزة مني ايه؟ رجالتك سابوكي دلوقتي؟" صاح سائلا اياها وهي راقدة على سرير المشفى لتنظر له بجبروتها المعهود

"عشان أنا أمك.. عشان المفروض أنت اللي تصرف عليا!"

"أمي؟! فجأة كده أكتشفتي إنك أمي؟!" ابتسم بسخرية ولكنه تمزق آلما بداخله

"بأمارة ايه؟! علمتيني مثلا؟ حنيتي عليا في يوم؟ طب لاعبتيني مرة واحدة في حياتك؟ ولا يمكن أخدتيني في حضنك وأنا مش واخد بالي؟ عمرك طبطبتي عليا؟ طيب فكريني أنتي كده بأي حاجة عملتيها تثبت إنك أمي؟ للأسف عمرك ما هتلاقي"

ابتسم لتنهمر أحدى دموعه على وجنه ولكنه جففها سريعاً وهو ينظر لها لا يدري بتشفي وفرحة أم لوما وشجنا

"ايه أشرف ضربك وبهدلك لغاية ما صعبت عليكي نفسك ووقعتي مفرفرة وجالك جلطة وجاية دلوقتي بتدوري على ابنك اللي مش راجل؟ ابنك الجبان الخايف اللي مبيقدرش يواجهك عايزاه يساعدك دلوقتي؟ بعد ما فلوسك خلصت جاية تدوري عليا؟" هز رأسه في انكار مبتسمًا بسخرية

"بدر يا حبيبي أنا.." صاحت وهي تتصنع الحنان ليضحك هو بهستيرية مما سمعه لتوقفها ضحكاته عن الإسترسال في الحديث

"يااااه يا وفاء.. عارفة إن دي أول مرة تقوليلي يا حبيبي.." ضحك مجددا ودموعه تنهمر أمامها لتنظر له بإنزعاج

"تعرفي استنيت اسمع الكلمة دي بقالي قد ايه؟! اربعة وتلاتين سنة بحالهم.. جاية تقوليها دلوقتي!! جاية تقوليها وأنتي بتموتي!! طب عارفة إنك من ساعة ما ابويا الله يرحمه ما مات لو كنتي بس اتغيرتي كنتي هتلاقيني أحن واحد عليكي في الدنيا؟ تعرفي إني كان نفسي اخدك في حضني مرة واحدة بس؟ تعرفي إني فكرت وقولت يمكن كرامتها وجعتها من إن أبويا اتجوز عليها ويوم ما يموت هتقرب مني؟ بس بردو تعرفي إني مرتاح أوي يا وفاء وأنا شايفك بتتحايلي عليا وعايزاني ادفعلك فلوس متكملش حق شوية جزم بلبسها في رجلي وأنتي مش لاقياها!! إلا صحيح فين أشرف؟ خلاهم يحجزوا على أملاكك وخد باقي الفلوس منك مش كده؟!"

ابتسم لها ثم تنفس في راحة شديدة وهو يجفف دموعه التي لا يدري أهي من حزنه أم من فرحته

"تعرفي.. أنتي عملتيلي أكبر جميل في حياتي، سيبتيني لأبويا اللي في بيته لقيت الحب، لقيت العزوة، لقيت اللي بيخافوا عليا وبيحبوني، كان نفسي في حنيتك وحنانك وإنك تدافعي عني مرة واحدة بس قدام أبويا ولا قدام الرجالة الأوساخ اللي بيتجبيهوم بس أبويا عوضني.. أعظم أم في الدنيا، أحن إخوات الواحد ممكن يحلم بيهم.. اتكاتفوا عليكي ووصلوكي للي أنتي فيه دلوقتي وأنا كل ده كنت بعيد.. شوفتي رباية النسوان يا وفاء بتطلع رجالة ازاي!!" نظر لها بإنتصار وتشفي

"أنا مش عايز أشوف وش واحدة قذرة زيك تاني.. لو بتموتي أنا ميهمنيش.. عارفة كمان هاعمل ايه؟ هاطلع أقولهم برا إني مش هادفع قرش واحد لواحدة زيك وإنك وسخة وزبالة ومكانك خرابة تموتي فيها، أصل أنتي مش متخيلة يا وفاء الأموات اللي في قبرهم دول يتنجسوا لو بس شموا ريحتك وانتي معدية من جنبهم! مش كمان يدفنوا جنبك!!"

نظر لها بعتاب ولوم شديدان ولكن دون أن يشعر بتلك الآلام التي لطالما شعر بها

"ياما طردتيني وقولتيلي أغور من وشك وأنا هاعملها دلوقتي حالاً ومش هاوريكي وشي تاني.. جيتي اتشفيتي فيا وأنا مراتي لسه ميتة وأنا النهاردة جاي أتشفى فيكي وأنتي محتاجة عملية سهلة اوي ومش لاقية فلوسها.. قولتيلي إني دايما لازم أكون خايف واتداس بالجزم عشان أعرف أعيش، بس لأ يا وفاء أنا اللي هدوسك بجزمتي وهاسيبك يرموكي برا المستشفى وهاوصي عليكي اوي عشان يبهدلوكي كمان وهما بيطلعوكي..

مش قولتيلي إن حقك جالك تالت متلت لما مراتي ماتت، أنا بقا بقولك إن حقي جالي تالت متلت برميتك دي.. خسرتي قدامي كل حاجة، لا نجحتي تبقي أم ولا حتى واحدة معاها فلوس ولا إنسانة أشفق عليها.. هاعيش راجل وأنا عارف إني ربيت راجل زي زياد اللي بحركة واحدة بس منه بقيتي في اللي أنتي فيه، هارفع راسي وأنام وأنا مرتاح وأنا حاسس إن كل الظلم اللي ظلمتيهوني اتردلك في صحتك وفلوسك اللي دايماً كنتي بتحاربي عشانها..

هاخرج من هنا وأجري على قبر أبويا أقوله إن الست الإستغلالية اللي كسرتك زمان مرمية في الشارع مش لاقية اللي يساعدها.. أنا النهاردة واقف قدامك قوي، مش خايف، مش مضايق ولا مستني حبك وحنيتك.. أنا جيتلك بس عشان أملي عيني منك وأنتي بتتبهدلي!!

افتكري في الكام دقيقة اللي باقينلك بهدلتيني ازاي وقسيتي عليا ازاي، افتكري كام مرة كسرتيني بكلامك، افتكري العيل الصغير اللي مكنتيش بتحبي تسمعي عياطه هو بقا دلوقتي اللي بإيده حياتك.. خلاص يا وفاء أول ما يفصلوا عنك الأجهزة هتموتي.. وآه أحب أقولك حاجة!! غوري في ستين داهية من وشي" ابتسم لها لمرة أخيرة ليسمعها تحاول أن تتوسل له ولكنه لم يُفسر حقاً ما تفوهت به ليغادرها ويتركها خلفه للأبد..

❈-❈-❈

تنفس...

ثم احتسى من قهوته وهو يلمح كلا من هديل وسيف الدين جالسان وحولهما أبناءها يلعبون جميعا وتتعالى ضحكاتهم لتسقط على مسامعه لتمتزج بصوت العصافير والصباح مكونة سيمفونية عذبة تجعله يشعر بالراحة لما توصلت له حياة أخته الصغيرة ليبتسم لما تراه عيناه وهو يتمنى من كل قلبه أن تظل حياتها هادئة هكذا..

لأول مرة يشعر بأنه أستطاع حماية تلك الصغيرة العنيدة ذات اللسان اللاذع والدلال المبالغ به، بالرغم من ذلك هي تستطيع بعد سلسلة من الخيانات والتلاعب أن تعيش في هدوء وسعادة وتنسى ذلك المختل الذي رمى به بأحدى المصحات العقلية في تكتم تام بعد أن فقد عقله من كثرة تعذيبه..

تنفس...

وهو يرى والدته تعد الشطائر للجميع بمساعدة تلك الفتاة التي انتشلته من الظلمة إلي النور وجعلته يشعر وكأنما مَلَكَ الكون بين يداه، وكأنه بدر ساطع في سماء لا يحجبه سحب لتُكمل ضياءه هي بنورها البريء الذي تغلل بداخله حتى أعطاه القدرة أن يُصبح إنسانًا جديدا لم يكن ليتخيله أبدا..

كيف لها أن تُسامح وتُسامح وتُسامح دون كلل أو ملل؟ كيف لها أن تبتسم لكل من أساء إليها بدءا به ونهايةً بهديل؟ كيف لها أن تحافظ على تلك الحيوية والبراءة والطفولية لترسم صورة ناقية من الطيبة الخالصة..

تنفس....

ثم ابتسم وهو يطالع حاسوبه ليرى رسالة من زياد كانت عبارة عن رسالة مُسجلة بفيديو مدتها دقيقة كاملة ليبدأ بتشغيلها وتوسعت ابتسامته أكثر وهو يرى ذلك الصغير قد كبر كثيرا بتلك الأيام الماضية

"ايه يا عم بدر ناسيني ليه؟ أحب أعرفك إن كله ماشي تمام التمام وخد بقا الخبر ده مني قبل ما حد يقولهولك.. اخدنا أكبر سلسلة مطاعم Fast Food في الـ U.S، المصري معروف بقوته وجبروته بردو يا كبير.. مبروك علينا يا عم وابقا كلمني يعني وافتكر زياد، ده أنا الصغير بتاعك يا كبير"

ازدادت ابتسامته وهو يهُز رأسه في انكار لطريقة حديثه التي لن تتغير أبدا ولكنه شعر بالفرحة تغلل ثنايا قلبه فقط لإستطاعته معرفة أنه قد بات زياد رجلا واعيا يُعتمد عليه حتى قبل أن يُكمل عامه الثاني والعشرون!! لقد كان إنجازاً كبيرا أن يتغير هكذا فجأة بين يوم وليلة، لقد ترك له ذلك الفرع بالولايات المتحدة الأمريكية ليديره بأكمله وها هو يبرع بإدارته كل يوما عن الذي سابقه ويبهره أكثر وأكثر..

تنفس....

وشرد بالسماء واستمتع بنسيم الشتاء من حوله، اليوم مشمس ولكن لازال هناك تلك البرودة بالهواء التي يعشقها.. لم يعد يُصدق ما وصلت إليه حياته، زواج أصبح هادئ، عائلة مُحبة، خوف تبدد وذهب بذهاب تلك المرأة التي آذته بأبشع الطرق، لم يعد يحتاج لتلك السادية وخاصة وهو ينهل كل يوم من ذلك النبع النقي الذي لا يتوقف عن العطاء في ارتواء لا يظمأ بعده أبدا سوى للمزيد منه.

تساعده بكل خطوة يخطوها، أصبحت بطفوليتها تولد بداخله طاقة جديدة من الشجاعة لم يكن يعرف لها طريق من قبل، تلك الطفولة التي يحياها معها كل يوم لم يكن يعرف ما معناها إلا عندما ترك نفسه واستسلم أمام حبها الذي سيطر على كيانه بأكمله، كل شيء تفعله بحيويتها ترغمه على أن يعشق الحياة ويتعلق بها..

أصبح يلاعب أبناء هديل، لا يُصدق أنها أعدت مباراة لكرة القدم قبل سفر زياد لتصنع فريقا فقط من أربعة رجال، هو وحمزة وزياد وسيف وجعلت الحكم والدته نجوى ليمرح الجميع وتعالت ضحكاتهم وكان يوما لا يستطيع نسيانه إلي الآن.

لم يجد ذلك الإهتمام الشديد بكل تفاصيل حياته من قبل، عشقها مختلف كثيرا عن ليلى، بالرغم من أنه واثق أنه قد وقع بحب الاثنتان ولكن تلك الصغيرة أصبحت مثل النفس الذي يتنفسه ولم يعد يستطيع الإبتعاد عنها.

تنفس....

وهو يتذكر شاهندة، لقد أشتاق لها، لضحكتها ومزاحها.. تلك الفتاة التي لم تحمل يوما ضغينة تجاهه منذ أن عرفها، هي حتى لم تعامله يوما بغيرة الأخوات ولا حتى بدلال الفتيات المبالغ به، لقد أقتربت منه منذ أن دخل ذلك المنزل وجعلته يعي ماذا تعني كلمة الأخت لتمثلها بأبهى صورها أمام عيناه.. لم يكن يدري من قبل أنها تستطيع قراءته بتلك السهولة لتعيده مجددا لأحضان صغيرته التي تعذب بإبتعاده عنها، ألهذا الحد عناده تجاه نفسه لم يستطع مجابهته وأستطاعت أخته أن تأتي به بين ليلة وضحاها لتذكره بما فرط به؟

يتمنى من طيات قلبه أن تُرزق بأطفال كما أرادت.. قاربت على إكمال خمسة أشهر من علاجها، يتمنى لو رآى ضحكتها وهي تخبره بأنها ستُرزق بمولود يوماً ما

"وحشتيني يا شاهي" صاح بإبتسامة هادئة وعذبة

"مممـ.. وأنت كمان يا بدر.. فيه ايه الساعة تلاتة الفجر هنا.. أنت كويس؟!" تحدثت له بصوت نعس لتتوسع ابتسامته

"أنا بس كنت عايز أشكرك، شكرا يا شاهي"

"على ايه يا بدر؟ أنت كويس يا حبيبي؟ متقلقنيش والنبي.."

"أنا كويس متقلقيش.. بس شكرا على كل حاجة عملتيها معايا من يوم ما دخلت بيتكوا لغاية ما رجعتيني لنورسين"

"بيتكوا!! ده بيتك يا بدور.. وسيبني أنام بقا وهاكلمك لما اصحى" أخبرته ولا زالت تحارب النوم

"برضو بدور!!" تنهد وهو لا يدري متى ستتوقف عن مناداته بذلك الإسم "روحي نامي يا شاهي.. تصبحي على خير"

"وأنت من أهله"

تنفس....

ثم أوصد عيناه لتنهمر احدى دموعه وهو يتذكر أول عناق جمعه بنجوى، تلك الملاك الذي ربما بُعث في هيئة بشرية لينجيه من ذلك الظلم الذي عاشه، لطالما مثلت له طوق النجاة، لطالما كانت بصيرته، حضنه، حنانه، قوته، أمه التي لم تلده، لا يدري ماذا لو لم تكن بجانبه طوال تلك السنوات، ماذا كان هو بفاعل دونها؟ كم كره نفسه كثيرا عندما يتذكر أنه قد حدثها بغضب أو إنفعال فقط لأنها أرادت أن تراه ولو سعيدا مرة أخرى بعد وفاة ليلى..

تلك المرأة لن يستطيع أبدا أن يوفيها حقها، ماذا لو كانت زوجة الأب التي تكره أبناء زوجها؟ ماذا لو شجعت والده على ما كان يفعله به؟ كيف لها أن تتقبله هكذا بمنتهى السلاسة وتعامله وكأنه ابنها المفضل بين جميع أبناءها؟ أيمكن لمرأة أن تتخلى عن غريزتها في تفضيل أبناءها على ابن زوجها؟! كيف لها أن تفعلها؟ كم يتمنى لو يستطيع أن يحضر لها نجوم السماء بأكملها ليضعها تحت أقدامها لتطأ عليها مثلما شاءت.

 

تنفس....

ليشعر للحظة بأن ربما هو لا يستحق ذلك وأن كل ما يحيا به الآن هو أكثر من حقه.. لم يدري بعد بأن تلك هي الحياة التي يستحقها بعد أن عانى وتجرع شتى أنواع الكؤوس المُرة طوال حياته.. نعم هو يستحق هذا.. وبشدة..

تنفس وتنفس وتنفس وهو يشعر بأن الحياة أصبحت جميلة، تلونت بأبهى ألوان الربيع، حتى الهواء الذي يتنفسه أصبح مختلفا جديدا، حياته أصبحت نقية مكتملة صافية لا يشوبها شائبة ولا ينقصها شيء، شعر بأنه محظوظ للغاية بأن تنتهي حياته بتلك الطريقة التي أصبحت عليها.. مد يده ليخرج حافظة نقوده ثم أخرج صورة ليلى من مكانها المعهود ليبتسم لها

"ليلى أنا مبسوط.. مبسوط أوي.. حاسس إني خلاص مبقاش ناقصني حاجة.. أنتي مصدقة إني ناقصلي كمان تلت شهور وأتعالج؟ الدكتور لسه قايلي كده امبارح.. وعلى فكرة قولتله إني بكلمك وقالي عادي.. أنا مبقتش محتاج أعذب ستات ولا حتى أي حد، ولما بفتكر اللي حصلي زمان واللي عملته في نورسين بقيت حاسس إني عايز أسامح زي ما هي سامحتني، عارفة؟! الدنيا كلها أختلفت من حواليا، حاسس براحة غريبة عمري ما حسيت بيها قبل كده.. أنا بطلت كل حاجة وحشة، لا بشرب سجاير ولا حتى باسكر زي زمان وبقيت هادي طول الوقت.. وعلى فكرة شكرا يا حبيبتي.. أنتي أول صاحبة ليا يا ليلى واستحالة أنساكي.. أنتي ياما وقفتي جنبي، في موت أبويا وأيام ما الشركة كانت هتضيع ولما شجعتيني إني أكبر الشركة.. ربنا يرحمك يا حبيبتي.. أنا حبيت أطمنك عليا وأنا مش بنساكي أبدا يا ليلى"

توسعت ابتسامته ثم توجه للخارج وهو يشعر بصفاء وهدوء من حوله لم يظن أنهما قد تواجدا بالحياة من قبل..

--

"نوري ممكن قهوة تاني؟" همس لها بإبتسامة لتومأ له وتركته ليجلس هو مكانها وأخذ يعد مع والدته الشطائر

"ياااه!! ده أحنا بقينا بنعمل ساندويتشات بقا كمان.. ايه الروقان ده كله"

"نورسين يا أمي.. نورسين!!" أخبرها بإبتسامة لتترك نجوى ما بيدها ثم تفحصته بأعين دمعت ولكن بدموع الفرح

"عارف يا حبيبي أنا عمري ما كنت أحلم بأني أشوفك مبسوط كده، ربنا كرمه كبير، لو تعرف إني كنت ممكن أضحي بأي حاجة في الدنيا عشان أشوف ضحكتك اللي مبقتش تفارقك دي كنت ممكن تقول عليا مجنونة، والله أنا حتى دعيت ربنا إنه ياخدني عشان أشوفك مبـ..."

"بس يا أمي أرجوكي" قاطعها ثم أمسك يداها يقبلهما في امتنان "اوعي يا أمي تقولي كده تاني.. حبيبتي أنتي متعرفيش إن وجودك في حياتي أهم من أي حاجة.. أنا اللي ربنا ياخدني لو بس يطول في عمرك بدالي.."

"يااه يا بدر متقولش كده ربنا يديك الصحة وطولة العمر" بكت نجوى أمامه ليجفف دموعها بأنامله

"تعرفي يا أمي إني عمري ما قولتلك شكرا؟ أنتي فعلا لو مش موجودة في حياتي أنا كنت ممكن أضيع من غيرك، مكنتش هابقا إنسان، حبك ليا ووقفتك جنبي وحنيتك اللي مكنتش هاعرف أعيش من غيرها خلتني إنسان، أنتي يا أمي السبب في إني أفضل بني آدم، مكنتش هاكون إنسان أبدا.. كان زماني بقيت وحش أو يمكن أسوأ.. شكرا يا أمي على كل اللي عملتيه من يوم ما دخلت البيت ده.. شكراً إنك موجودة في حياتي.. أنا بجد مش عارف أوفي ولا هاقدر أبداً أوفي ولو حتى ربع اللي عملتيه معايا.. قوليلي نفسك في ايه وأنا اعمله.. نفسي يا أمي أسعدك بأي حاجة، فضلك عليا أنا عارف إنه كبير واستحالة أعمل اللي يساويه بس قوليلي نفسك في إيه وأنا أعمله"

تساقطت دموعهما سويا ولم يستطع أيا منهما الحديث لتنظر له نجوى وهي تحاول بصعوبة التحدث بين دموعها التي كونت غمامة على عينيها لتزيحها ولكن جففت دموع بدر الدين قبل أن تجفف خاصتها

"أقولك فعلا نفسي في ايه ووعد تعمله؟!" همست بين صوتها المنتحب ليومأ لها وهو ممُسكا بكلتا يداها ليقبلهما "نفسي أشوف ابنك أو بنتك قبل ما أموت"

ابتلع غصته التي أمتزجت بدموعه المنهمرة وهو يعرف أن لا زال هذا الأمر لا يقبله ولكن لم تطلب منه نجوى سوى هذا الأمر ليومأ لها

"حاضر يا أمي.. حاضر بس متستعجلنيش، أنا بحاول على قد ما أقدر، أوعدك.. وأنتي كمان أوعديني إنك متجبيش سيرة الموت ده قدامي تاني.. أتفقنا؟!" ابتسم لها لتتوسع عيناه في خوف

"ياااه يا حبيبي.. الموت علينا حق.. يعني مش هافضل عايشة قد ما عشت"

"أرجوكي يا أمي بلاش الكلام ده.. إن كان ليا عندك خاطر بلاش تقولي كده تاني.. ممكن؟"

"حاضر يا ابني.. ربنا ما يحرمني منك يا حبيبي"

"ولا يحرمني منك يا أمي" قبل يدها مجدداً ثم جففا دموعهما وكل منهما بقلبه حب جم للآخر وعلاقة فريدة من نوعها لن يستطيع أحد فهمهما أو إدراكها سواهما!

--

"ممممـ.. هاغير من ماما نجوى على فكرة.." اتسعت تلك الزرقاوتان بنظرتها الطفولية وهي ترمق سوداوتاه في دلال وناولته قهوته وهو أوشك على المغادرة لعمله

"ماما نجوى بالذات تغيري منها.. أنتي عارفة كويس إنها بالنسبالي في كفة والدنيا كلها في كفة"

"ماما نجوى دي أجمل حاجة في الدنيا، ولازم طبعا تبقى أهم حد بالنسبالك.. بس هو يعني.."

"نوري!!" صاح وهو ينظر لها تلك النظرة المتفحصة

"طب.. طب.. لما ترجع من الشغل" ابتسمت له ثم عضت على شفتيها وأشاحت بنظرها بعيدا ليجبر تلك الزرقاوتان على النظر له

"قولي عايزة ايه! من غير طبطبه!"

"ممممم.. أصلك فضلت تبوس ايديها كتير ويعني كان نفسي تبوس ايدي كده.. ما تيجي استناك في البيت النهاردة.. أصلي بخاف حد يسمعنا هنا وأحنا.." حمحمت في خجل لتتوسع إبتسامته لها وهو لا يُصدق أنها من تطلب ذلك الآن

"عايزة قلة أدب يا حبيبتي؟!" نظر لها بخبث لتوصد عيناها في طفولة ولكنها أومأت له بالموافقة

"أفتحي عينك كده.." أخبرها لتفتح احدى زرقاوتاها على استحياء "الاتنين يا نوري" همس لها لتبتلع في ارتباك ثم نظرت له بكلتا عيناها

"هنعمل قلة أدب للصبح بس على شرط!"

"ايه؟!" سألته بلهفة وتوسعت زرقاوتاها في طفولة ليقترب منها هامسا بأذنها

"اسمعي بقا كويس وخدي بالك عشان تدلعيني.. ارجع البيت الاقيكي مش لابسه حاجة.. عاملاي أكل.. وتأكليني بإيديكي لغاية ما أخلص لأ وايه بين كل معلقة ومعلقة بوسه، وبوسه قليلة الأدب كمان.. وبعدين بقا نبدأ قلة الأدب الكبيرة.. بس عايزها النهاردة تلت مرات، مرة في المطبخ ومرة في المكتب ومرة في الأوضة.. لو عايزة قلة الأدب تلت مرات بالطريقة دي وموافقة ابقي عرفيني"

بعثر أنفاسه الساخنة على أذنها وعنقها ثم ترك قبلة ناعمة على جيدها ليناولها فنجانه الذي أنهاه بينما شُل جسدها مما همسه لتسمعه يغادر ضاحكا على ملامحها الشدهه ثم دلف سيارته ليصيح لها من النافذة

"أنا هارجع النهاردة بدري.. يادوب تلحقي تروحي" انطلق بسيارته قبل أن تبدأ تلك الصغيرة بجدال طفولي لا يستطيع إنهاءه إلا بقبل نهمة لا نهائية!!

ظل يقود وهو مستمتع بكل ما حوله، تلك المعان الجديدة، تلك النسمات الباردة، أصبح يلاحظ تلك الأُسر من حوله وضحكات وابتسامات الجميع بالطرقات، ابتسامته لم تعد تفارقه، خاصةً وتلك الصغيرة التي أصبحت حياته بأكملها قد طُبعت صورتها بقلبه وعقله وخياله ولا يستطيع بعد الآن السيطرة على تسلل عشقها لكل حواسه وجوارحه.

صف سيارته وهو يشعر بالنشاط والحيوية لبدأ يومٍ جديد بعمله الذي لم يعد يهمله مثل السابق وبعد أن شعر بالإطمئنان من عدم ابتعاد أيا مما يكترث لهم عنه ثم وصد سيارته وكاد أن يذهب ليستمع لذلك الصوت الذي أشتاق له منذ تسع سنوات

"وحشتني يا بدر" التفت بأعين متسعة صدمة وشعر بالشلل ولكنه أراد أن يتحقق مما أدركه، أراد أن يتحقق أن ذلك صوتها.. أنها هي.. أنه لا يتخيلها.. أهي ليلى حقا؟ جسدا وروحا أمامه؟ أهي حية كل ذلك الوقت؟ ولكن لماذا تبدو هكذا؟!


..يُتبع