-->

الفصل التاسع عشر - أشواك وحرير




الفصل التاسع عشر


 بعد مرور أسبوعين


تأنق كعادته بحُله رسمية سوداء ووقف يطالع هيئته أمام المرآة بملامح حزينة منطفية، وانتبه لتلك الواقفة خلفه تتأمل إنعكاس صورته في المرآة بإنبهار وعيونٌ لامعة؛ جعلها تطلق صفير إعجاب...التفت لها ببسمة هادئة، وشاكسها بمزاح معاكس تمامًا لإضطراباته الداخلية :


_إيه رأيك؟...جامد أنا متسابش!


فردت عليه بغزل واضح :


_يا ابني طول عمرك مز...طنط كاميليا كانت بتتوحم علي نوتيلا!


أطلق العنان لضحكاته لتتعالى في صخب علي مزاح شقيقته في الرضاعة، وبعد بعد ثوانِ هدأت ضحكاته، فأقتربت منه لتعدل له ياقة القميص فسألها بترجي :


_برضه مش هتيجي معايا؟


أصدرت بعض الأصوات النافية من فمها، ثم أردفت بلامبالاة :


_أنا وهي أصلا مكناش أصحاب، وكمان مش عارفه أنت ليه رايح؟!...أنت بتحب وجع القلب يا ابني؟


أجابها بهدوء وهو يجمع أغراضه الشخصية استعدادًا للرحيل :


_مروحتش الخطوبة، مينفعش مبقاش موجود النهاردة كمان، وبصراحة يمكن لما أشوفها بقت مراته أقدر أنساها!


قال جملته الأخيرة بإنكسار ونكس رأسه لأسفل، فمسحت على كتفه بحنان، وسألته بإهتمام :


_للدرجادي كنت بتحبها؟!


وجه أنظاره إليها مبتسمًا، وأردف بفخر :


_كانت بالنسبالي زي النجوم!


_حلوة؟!


أومأ لها برأسه بنعم، ورد بتأثر :


_بس بعيدة.


دمعت عينيها تأثرًا بحديثه وتمنت لو رأت تلك اللغة والإنبهار في عينيه من شخص يحبها كما أحب هو "روان"...ربتت علي كتفه بدعم وأخبرته مبتسمة :


_مش هقولك زي ما مامتك بتقولك إنك ضيعتها بسلبيه وكان لازم تكلمها، بس هقولك من واقع تجربتي مع ربنا السنتين اللي فاتوا، لو كان خيرًا لبقى!...الجملة دي سمعتها من شيخ بعد ما الشركة رفضت تبعتني مع الممثلين ليها في أمريكا، كانت هتبقى فرصة حلوة ليا...يومها قعدت اعيط واقول لا أنا أستحق أكتر من اللي هيروح مكاني، لغاية ما سمعت الجملة دي، ومكنتش مقتنعة بيها... تاني يوم عرفت إن الباص اتقلب بيهم واللي نجا منهم عاش بشلل!...ربنا منع عني حاجة بحبها وأتعلقت بيها علشان فيها شر وأذى ليا...متعرفش الخير فين! ممكن ربنا منعك عنها علشان منع عنك حاجة هتأذيك، أو يمكن شايلك الأحسن! 


أقترب منها مقبلًا رأسها بحنان أخوي، وأردف بإمتنان حقيقي، بعدما استطاعت التهوين عليه :


_ربنا ما يحرمني منك يا يارا. 


قطعت وصلة العاطفة بينهما وأردفت بهدوء :


_يلا روح علشان متتأخرش، وأنا هستناك بالليل علشان عاوزين نرغي شوية!


اومأ لها بالموافقة وخرج إلى وجهته يتمنى لو ينتهي به ذلك اليوم علي خير دون أن تصدُر منه أي حماقات لا يدري إلي أي مدي ستصل به ويندم عليها لاحقًا!


❈-❈-❈



_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير!


هكذا انتهى المأذون من عقد قرانهما في وسط جمع من الأصدقاء والمقربين لكلا الطرفين، وقعت تلك الجملة الأخيرة كالصاعقة علي آذان "مجد" لا يصدق أن النهاية حلت بهذة السرعة! "لن يستطيع بعد الآن النظر إليها بأي شكل سوى بنظرة المدير والموظف!..لن يستطيع التحدث والبوح إليها بالساعات خوفًا من إنزلاق قدميه في طريقٍ مخالف لدينه وأخلاقه!...حسنًا يقسم أنه سيعمل جاهدًا من أجل ذلك، ولكن ماذا عن مشاعره...هل سيستطيع أن يمحوها أيضًا؟! "...الكثير والكثير من الأسئلة والمشاعر المتضاربة بداخله، راقب سعادتها وبريق عينيها فأنعكس علي ملامحه و ابتسم تلقائيًا لإبتسامتها!....اقترب "مالك" مقبلًا جبهتها بعاطفة حب غلبت على تعابيره؛ فتوردت وجنتاها في خجل محبب له طوال السبع سنوات الماضية....انتظر "مجد" بعيدًا حتى هنأها جميع أقاربها وانفض الجمع من حولها؛ فأقترب منهما راسمًا إبتسامة واسعة زادت من زينة ملامحه الوسيمة :


_ألف مبروك يا روان...ربنا يسعدك، مبروك يا مالك!


أجابه "مالك" بجمود، بينما "روان" بادلته بإبتسامة ود وامتنان حقيقية... لم تتعجب أنه لبى ندائها وحضر لبلدة أهلها المتواضعة حتى يكون بجانبها فقط في ذلك اليوم...كانت سعادتها حقيقية بوجوده، فلم يحضر عقد قرانها سوى أقاربها فقط وبعض جيران الحي!


_الله يبارك فيك يا مجد بجد أنت مش عارف فرحتي بوجودك قد إيه!...عقبال ما أفرح بيك مع بنت الحلال اللي قلبك أختارها! 


لم يدري "أيبتسم؟..أم يمنع عينيه حتى لا تدمع؟! " ولكنه اكتفى بالتأمين علي دعائها تحت نظرات "مالك" الكاره له، لمح بطرف عينيه ذراع "مالك" التي امتدت لتحيط خصرها بتملك، فستأذن بأدب للرحيل :


_أنا لازم امشي دلوقتي.


اعترضت عليه "روان" بسخط :


_لا طبعًا مش هتمشي غير لما تتعشى، أنا هقولهم يجهزولك العـ...


_مفيش داعي يا روان أنا همشي.


في تلك الأثناء أقتربت "ميرا" من ثلاثتهم، وقامت بتهنئة صديقها بمودة، كما هنئت "روان" برسمية فردا عليها كليهما المباركة متمنين لها زواجًا مباركًا هي الآخرى، همّ "مجد" بالرحيل؛ فتعلقت به "ميرا" قائلة بترجي :


_لو هتمشي ممكن اجي معاك؟


أومأ لها برأسه بنعم فأعترض طريقها "مالك" سائلًا إياها بإستنكار :


_مش هتستني تروحي مع مازن؟


نفت برأسها، ثم أخبرته بإمتعاض بعدما وجهت أنظارها في إتجاه ابن عمها المنشغل بخطيبته :


_لا هروح مع مجد عندي مذاكرة!


اكتفى "مالك" بإيمائه خفيفه من رأسه، فأنطلق اثنيهما في اتجاة باب المنزل استعدادًا للرحيل؛ مما أجأج شعور "مازن" بالغضب والغيرة تجاه ابنة عمه.


❈-❈-❈

  


اتجهت "روان" صوب والدتها تنتوي الحديث معها قليلًا، فلم تشعر أنها علي ما يرام علي مدار اليوم :


_ليه حاسه إنك زعلانه؟!


أجابتها والدتها بسؤال آخر متهكم :


_أنتي فرحانة؟!


لم تعلم "روان" كيف استشعرت والدتها بحالتها، فهي حقًا لم تكن سعيدة كما كانت تسمع عن شعور العرائس في ذلك اليوم، ولكنها طالعتها بملامح وجه غير مفسرة، وسألتها بإندهاش مصطنع :


_ليه بتسألي السؤال ده؟!


ردت "سهير" بتقاسيم وجه محبطة :


_عشان شيفاكِ مش مبسوطة يا روان!..صممتِ علي اللي في دماغك، عملتي الخطوبة علي الضيق، وبرضه كتبنا الكتاب علي الضيق، هو أنا مكنش من حقي أفرح بيكِ زي باقي الأمهات؟!...هتروحي بيته في الضلمة زي اللي بتتجوز في الضلمة خايفه من الفضيحة، ولا اللي فيها عيب!


رمشت بأهدابها عدة مرات غير مصدقة حالة والدتها، وزفرت بضيق حينما رأت دموعها، فردت محاولة التبرير :


_ياماما أنا فرحانة كده، وكمان مرتاحه، أنتي عارفه إني مش برتاح مع الناس، ومش الفستان والميك آب اللي هيفرحوكِ بيا!... كفاية إني هتجوز شخص محترم وبيحبني ويراعي ربنا فيا!...ادعيلي بالله عليكِ!


طالعتها "سهير" بعدم رضا، ولكنها نطقت متقربة لربها بالدعاء من أجل ابنتها : 


_ربنا يسعدك يا بنتي!..بس مش هكذب عليكِ أنا زعلانه منك ومش راضية عن اللي عملتيه!


_لو قصدك عن إني هعيش معاهم في الڤيلا، فكلام مالك حسيته منطقي يعني علشان ولاده وعلشان شغلنا قريب، وكمان طنط هالة كلمتني إنها عاوزه أحفادها ميبعدوش عنها!


رمقتها والدتها بسخط وأردفت بضيق :


_الست دي أنا مش مرتاحة لها، لا هي ولا بنتها!


لم تدري "روان" بما تعقب، فهي أيضًا لا تشعر بالآمان تجاههما، ولكن ما باليد حيلة؛ فالمهم زوجها فقط وليذهب أهله للجحيم!...ولكنها ردت بمواساة هشة :


_المهم مالك يكون كويس معايا ياماما!


اومأت لها "سهير" بتفهم، وسرعان ما عقبت بالنصيحة :


_أوعي تبهدلي نفسك مع أهله وولاده علشان خاطره يا بنتي، وبلاش تشيلي شيله مش شيلتك، اتعلمي تتدلعي عليه؛ الرجالة مش بتحب الست محترمة معاهم، لو دلعتيه وادلعتي عليه هيكون زي الخاتم في صباعك!


خجلت "روان" من تلميحات والدتها فأحمرت وجنتيها، ونكست رأسها لأسفل مكتفية بإيمائة من رأسها...أنقظتها الطرقات الهادئة علي الباب، فسمعت صوت زوجة خالها تناديهما بنبرة وقحة لايشوبها ذرة حياء :


_ما تشهلي يا سهير، بنتك كانت عايشة لوحدها، وعارفة الكُفت يا أختي!


❈-❈-❈


قاد "مجد" سيارته بسرعة عالية نوعًا ما وكأنه يحاول جاهدًا الهروب من الحقيقة المُرة التي شهدها منذ قليل، وليس الهرب فقط من بلدة الشؤم تلك!... قاده تفكيره إلي ابتسامتها الهادئة طوال الحفل والتي لم تكن له أبدًا، بل كانت لخصمه!..."ذاك الذي لم يدري متى وكيف ظهر بحياتهما، الهادئة المستقرة فشتت شملها وقلبها رأسًا علي عقب!...ليته لم يسافر إلى الصين طلبًا للخامات في ذلك الوقت!...ليته لم يترك لها إدارة شركته! "...الكثير والكثير من الأماني الفائتة مرت برأسه، فأستمر في قيادته يُذّكر نفسه بأنه لم يعد لديه أي حق حتى ولو بالتفكير بها، ففي النهاية قد خُطّت سطورها اليوم!....لم ينتبه للجالسة بجواره سوى وهي تقوم بإخراج إحدى قنينات الخمر الفاخرة من حقيبتها، لتتجرع منها مرارة أيامها؛ مما جعله يضغط مكابح السيارة فأصدرت صرير مرعب تناسب مع سرعة السيارة، وأردف بعصبية تعجبت لها كثيرًا :


_نهارك أسود إيه اللي أنتي بتعمليه ده؟!


لن تكن أبدًا بحالة تسمح لها بالجدال معه، فقد كاد الصداع أن يفتك برأسها؛ لنقص المادة الكيميائية في دمائها؛ مما جعلها تتجه للمشروب الكحولي بدلًا منه، حتى تُذهب عقلها لعالم آخر... حركت كتفيها لأعلي ولأسفل بلامبالاة، وأردفت ببرود :


_عادي بشرب!


صمتت قليلًا، ثم تابعت حديثها بنفس برودها وسخريتها دون أن تأبه لذلك الشرار المنبثق من عينيه :


_إيه؟!...عاوز تفهمني إن عمرك ما جربت؟!


تراقصت الشيطاين أمام عينيه من برودها، فأردف بغضب أعمى :


_أنتي إيه مفيش مخ خالص؟...افرضي كمين وقفنا؟...كنا هنعمل إيه؟!


نبرته الغاضبة نجحت في إثارة الخوف بداخلها منه؛ مما زعزع استقرارها الداخلي، فهي لم تتوقع أبدًا أن تراه بتلك الحالة، ولكنها قررت العناد معه؛ فأستمرت علي برودها، وأردفت مبررة بثقه :


_الطريق كله بلاد زراعيه، مفيش كمين ولا حاجة، وحتى لو فيه هبقى اقولهم معرفوش، ويلا سوق بدل ما يفكرونا بنعمل حاجة قليلة الأدب!


قالتها بنبرة وقحة خالية من الأدب؛ فزفر ممتعضًا وقام بتشغيل محرك السيارة، عازمًا النية علي قطع علاقته بهولاء المجموعة حتى يستطيع مواصلة حياته القادمة في سلام نفسي!


❈-❈-❈


تجمع الرجال في الدور السفلي من المنزل لتناول وجبة العشاء، بينما اجتمعت النساء في الدور العلوي... تبخترت "ريهام" في مشيتها حتى تستعلم ما إذا كان ينقص الضيوف أي طلب....جذبتها يدٌ قوية لشخص ما لم تتبين لها هويته؛ مما جعلها تشهق بخضة :


_بسم الله الرحمن الرحيم!


خرج صوته دافئًا بالقرب من أذنها :


_بتتقلي عليه ليه يا جميل؟


نفضت ذراعه عنها بقوة حينما علمت هويته، ثم صاحت في وجهه بنبرة سوقيه حادة :


_بقولك إيه يا هيثم...لو مبعدتش عن طريقي، قسمًا بالله لكون قايلة لمحمود!


لم يرف له جفن، وإنما حاصرها بين ذراعيه وبين السلم، وسألها بنبرة هادئة :


_واللي كان بينا يا ريهام؟...هان عليكِ زي ما هانت عليكِ القرابة؟!


ارتعشت في وقفتها حينما ذكّرها بماضيها المتدني معه، وخشيت أن يلحظ أحدٌ إختفائها، فردت عليه مسرعة بتوتر :


_إحنا سيبنا بعض من عشرين سنه يا هيثم، وأنا دلوقتي ست متجوزه وبحب جوزي.


رد عليها بثقة، وهو ينظر لعينيها المرتعشة مباشرة :


_أنتي كذابة!...رعشة جسمك وحركة عنيكِ دول بيقولوا إنك لسه بتحبيني!...أنا بقالي عشرين سنة في فرنسا ولسه راجع اهو، عملت فلوس أكتر من اللي مع جوزك بكتير و.....


قاطعته قائلة بنفاذ صبر :


_قولتلك اللي بينا انتهى، أنا دلوقتي ست متجوزه ولو مبعدتش عني هقول لمحمود!


نفضت ذراعه بعنف، وخرجت مسرعه حتى تلملم شتات نفسها بعدما بعثرها عودته التي استمرت لخمس قرن من الزمان، دون أن تشعر بزوج العيون اللذان لاحظا خروجها المثير للريبة من تلك الغرفة أسفل سلم البناية!



❈-❈-❈


تناولت "روان" بعض ملاعق الأرز علي مضض، بدون أي شهية، فقد كانت تشعر بثقل ما موضوع علي قلبها، بالإضافة لخوفها من أن يحنث "مالك" في وعده لها بتأجيل إتمام الزواج حتى تعتاد عليه...فبالرغم أن الأخصائية أخبرتها بأنها لا تعاني من أي إضرابات حول العلاقة، إلا أنها تشعر أنها ليست مستعدة لإتمامها علي الأقل الآن...هذا الأمر ما جعلها تتحدث معه حول تأجيل الأمر قليلًا، ففاجأها بموافقته علي الأمر، ولكنها لا تعلم لمَ تشعر بالريبة منه!....لكزتها والدتها في ذراعها حينما لم تبدي أي إهتمام بسؤال إحدى النسوة عن روتين حياتها بعد إتمام الزواج....اعتذرت منها "روان" معللة إنشغالها في أمرٍا ما؛ مما جعل البعض يمازحها بوقاحة استطاعت استنباط منها :


_سبوها يا جماعة، الله يكون في عونها دي الليلة ليلتها!


لم تكن في حالة تسمح لها بمجارتهم أو حتى الرد عليهم؛ فألتفتت لإبنة خالها تسألها بإهتمام عن سر غياب شقيقتها الصغرى :


_أومال فين سماء يا رنا؟...أنا ليه مشوفتهاش؟!


تطلعت الأخيرة لعمتها بتساؤل، فطمأنتها بنظرة من عينها، وأجابت ابنتها بالنيابة عن ابنة شقيقها :


_تعبانة ونايمه.


ضيقت "روان" عينيها، ورمشت بأهدابها عدة مرات :


_تعبانة مالها يعني؟!...طب أنا هقوم أشوفها!


توجست "سهير" من معرفة ابنتها بالحقيقة خوفًا من افتعالها لفضيحة أمام الناس، ولكنها ذهبت خلفها إلي غرفة الصغيرة، والتي لم تتجاوز الحادية عشر.....أضائت "روان" مصباح الغرفة حتى تطمأن علي ابنة خالها؛ فأنتفضت الصغيرة بمجرد رؤيتها تحاول لملمة ملابسها حول جسدها، وكأنها ترتدي ثياب ممزقة تظهر جسدها...شعرت الأولي بالدهشة من حالة الصغيرة، وما زادها تعجب ارتعاشها الواضح، فيبدو وكأنها بللت ثيابها أيضًا!...تسارعت دقات قلب"روان" من حالة الماثلة أمامها، ثم أخبرتها ببسمة مرتعشة لم تصل لعينها :


_اهدي يا سما...أنا روان.


ظلت الفتاة علي وضعيتها السابقة، ورفعت ذراعيها أمام وجهها بوضعية الدفاع، فسقط قلب "روان" وظنت أنها تعرضت لمحاولة إعتداء، فألتفتت لوالدتها تسألها بخوف، تمنت أن يكون شعورها مجرد أوهام فقط :


_مالها يا ماما؟


_مفيش حاجه يا روان... دي مجرد عملية، وهي خايفة بس من الدم اللي شافته!


لم تقتنع بأي مما أخبرتها به والدتها، وسألتها بتوجس :


_عملية إيه اللي تعمل فيها كده؟!


صمتت قليلًا تحلل الوضع، حتى خطر على ذهنها إحدى المشاهد التسجيلية التي بثتها وزارة الصحة لتُجرم عملية ختان الإناث، وكان يحمل المقطع الأثر النفسي للعملية علي البنت؛ فهوى قلبها بين قدميها وبات يطرق بعنف من شدة الخوف، وأخيرًا همست بصوت شبه مسموع :


_ختان؟!


صمتت "سهير"، و "رنا" فلم تتفوه أي منهما بكلمه، مما دل علي صدق تخمينها...دمعت عينيها بقوة بسبب ما الم بتلك الصغيرة من آلام جسدية ونفسية من الصعب عليها الشفاء منها!...خرجت من الغرفة تبحث عن زوجة خالها، فأستوقفتها والدتها بترجي :


_بلاش يا روان تعملي مشاكل، خالك كان باعتها عند أهلها ومش بيكلمها...بلاش علشان خاطري وعلشان خاطر خالك ده النهارده فرحك يا بنتي!


لم تلتفت لها الأخيرة، وإنما أكملت وجهتها، فلمحتها تقف مع أحد النسوة؛ فأستدعتها لأحد الغرف الهادئة، وسألتها بملامح متجهمه :


_أنتي ليه عملتي فيها كده؟


شعرت "ريهام" بالدهشة من حالتها، وضيقت عينيها ثم سألتها بجهل :


_عملت إيه؟!


لم تهدأ سرعة ضربات قلبها، وسألتها بنفس ملامحها المتجهمة، والتي كساها التأثر من هول ما رأت :


_ليه عملتي لسماء ختان؟!


ضحكت "ريهام" بسخرية، وأردفت ببرود وفخر، وكأنها فازت للتو بإحدى الأوسمة الملكية لبطولة ما :


_عادي!...بنتي وبحافظ عليها!!


هدرت بها "روان" بصراخ :


_بنتك لازم تتعالج نفسي.


لم تبالي الأخرى لنبرتها، وإنما أسترسلت بلامبالاة :


_كل البنات اتختنوا، وعايشين عادي اهو محصلش حاجه لكل ده!


_أنتي بتتكلمي ببرود كده ليه؟!...أنتي عاملة جريمة!


نفذ صبر "ريهام" فأهتاجت بإنفعال :


_كنتي عوزاني اسيبها زيك؟!


كل ذلك تحت أنظار "سهير" و "رنا" اللتان وقفتا تتابعا المشهد في سكون وصمت، ولكن إلي هذا الحد، وخشيت "سهير" من القادم؛ فأتجهت نحو ابنتها تجذب عضدها برفق :


_يلا يا روان، جوزك عاوز يمشي.


ألتفتت إليها الأخيرة بصمت، وعينيها تطرح آلالاف الأسئلة؛ فوجهت أنظارها لغريمتها :


_يعني إيه تسبيها زيي؟!


عدلت "ريهام" من ثوبها، وأجابتها ببرود :


_يعني الختان ده بيحافظ علي البنت ويعفها...بتكون طاهرة وعفيفة بكرتونتها، لكن اللي مش بتتختن دي الله أعلم بقى...ربنا يستر على ولايانا!!


تجمع في الغرفة بعض النساء بعضهما أتى بسبب الفضول بحثًا عن العروس وأهلها الذين اختفوا، والبعض الآخر أتى بسبب نبرة "ريهام" المرتفعة، والتي لم تتوانى في إظهارها حتى تجذب جميع الحضور...تابعت "ريهام" حديثها المسموم حتى تفسد فرحة الأم وابنتها، فإن لم تستطع إفساد الزيجة...إذن فلتدمر سعادتهما؛ وكم تمنت لو لم يذهب أهل العريس باكرًا حتى يشهدوا ذلك العرض المجاني المشوق :


_مش لازم اسيب بناتي لغاية ما يكونوا زيك يا روان!!


اندفعت الدماء الملتهبة لوجنتي الأخيرة، ورمشت إحدي عينيها بتوتر؛ فسألتها دون أن يرف لها جفن :


_قصدك إيه؟!


_كل الناس هنا عارفين إنك عايشه لوحدك من أربع سنين، ويمكن بسبب كده هتتجوزي المصراوي...فلو أنتي فعلًا زي ما أنتي!


صمتت حتى تجذب إليها العقول بتشويقٍ أكثر، وناظرت غريمتها بتحدي، ثم أسترسلت حديثها بشكلٍ فظٍ وقح، لم يطرأ علي ذهنها أنه قذف محصنات :


_الدخلة تبقى بلد...


لم تدري "روان" بنفسها سوى وهي تصدمها بكعب هاتفها المحمول في أنفها؛ فسقطت الأخرى متألمة، تتناثر الدماء من أنفها المنكسر...مما جعل النساء تندفع نحو "روان" التي جثت فوقها مستكملة لعملية التعدي عليها...اندفع "مالك" و" محمود" و "يحى" بعدما فرت "سهير" لإستدعائهم خوفًا من الفضائح....تمكن "يحى" من رفع شقيقته عن زوجة خاله، التي رفعها زوجها، فأستقامت علي قدميها بصعوبة يداومها الدوار وأردفت بحقارة :


_الصايعة بتضر....


قاطعها "محمود" بغضب تعالى بداخله بعدما طالتهم الفضائح في عقد قرآن ابنة شقيقته :


_يمين بالله لو ما سكتي يا ريهام لغاية ما أعرف اللي حصل لتكوني طالق!


رمتها "روان" بنظرات كراهية صريحة وأشهرت سبابتها في وجهها مردفه بتهديد صريح :


_نهايتك علي ايدي يا ريهام، والله لأخلص منك!


فرت من أمامهم مسرعة دون أن تستمع لنداء خالها ووالدتها، فلحق بها "مالك" بملامح مندهشة متعجبة، يظهر عليها عدم الفهم! 



❈-❈-❈


خرجت "ميرنا" مسرعة حتى تخبر "مازن" بما استمعت إليه منذ قليل من قِبل العروس وقريبتها....شعر "مازن" بالدهشة من تلك الأجواء المضطربة في المكان، وما أشعره بالتعجب أكثر فرار صديقه وزوجته بدون التفوه بكلمة :


_إيه اللي حصل يا ميرنا؟!


تناولت أنفاسها بصعوبه، ثم سألته بتشويق :


_عرفت اللي حصل؟...واحدة قريبة روان دي قالت إنها متختنتش علشان كده عايشة براحتها في القاهرة وا...


صمتت قليلًا فتفهم "مازن" مغزى حديثها القادم، ولكنها أستطردت حديثها بسؤال متوجس :


_أنت ناوي تقول لمالك؟!


هز رأسه بعنف، وأخبرها بفحيح من بين أسنانه :


_أوعي حد يعرف بالكلام ده، كأنك مسمعتيش حاجة!


اومأت له برأسها علي مضض، وأصابها هاجس الخوف من صوته المرتفع، والذي سمعته لأول مرة.


علي الجانب الآخر


انكمشت "روان" في كرسيها، تضم جسدها بين ذراعيها وكأنها تستمد منهما الدفئ....دمعت عينيها بقوة حينما تذكرت مشهد إرتجاف "سماء" وحالتها النفسية السيئة التي كانت عليها فلم تتعرف عليها...منعت دموعها من الهطول حتى لا تفسد فرحة بعلها، ولكنه سألها بنبرة إكتراثية مهتمه :


_لآخر مره هسألك يا روان مالك؟


همست بالكاد بنبرة مرتعشة :


_مفيش!


ألح عليها بسؤاله مرة أخرى :


_يعني إيه مفيش؟!...إيه يخليكي تمدي إيدك علي مرات خالك بالشكل العنيف ده؟!


هطلت أول دموعها، وتحشرج صوتها بالبكاء؛ فتكلمت بنبرة مرتعشة :


_عملت لبنتها ختان، ولما اتكلمت معاها قلت أدبها عليا!...أنا مش قادره انسى منظر البنت وهي بتترعش، وبتلم هدومها عليها كأنها عريانه!


صف سيارته جانبًا، وألتفت إليها واحتوى وجنتيها بين كفيه؛ ماسحًا بطرفي إبهاميه دموعها، وأردف بحنان :


_هتبقى كويسة إن شاء الله متقلقيش.


رفعت أنظارها إليه بتشكك، فأوما لها برأسه من جديد مؤكدًا لها وسألها مرة آخرى بفضول :


_بس ليه ضربتيها بالشكل ده؟!...هي قالتلك إيه؟


اعتدلت "روان" في كرسيها لا تدري بما تخبره " أتخبره بما خاضت به تلك الحقيرة في عِرضها؟!...أم تكذب عليه؟! "...فضلت الصمت حتى لا تكذب عليه؛ فلن تستطيع أبدًا إخباره بما دار بينهما....تفهم "مالك" أنها لا تنوي الحديث فركز أنظاره عليها، و ألح عليها بهدوء مرة أخرى حتى تخبره فردت عليه بهدوء :


_مفيش يا مالك زي ما قولتلك، إحنا أصلًا طول عمرنا زي القط والفار!


يقسم أنه كاد أن يصدقها إن لم يستمع لجملة زوجة خالها الأخيرة، والتي لم يفهم مغزاها، ولكن عليها أن تخبره بكل صغيرة وكبيرة في حياتها، فلقد باتت زوجته!...قرر أن يسلك طريقًا آخر معها...يعلم أنها تكترث لمشاعر الآخرين تجاهها :


_عمومًا يا روان، الجواز مشاركة، وأنا متأكد إنه مش سبب بسيط اللي يعصبك كده، وعارف إنك لسه مش مأمنه لي بس إحنا دلوقتي متجوزين، ويهمني أعرف كل حاجه عنك علشان أجيب لك حقك!


استكمل قيادة سيارته، ظهرت عليه ملامح التأثر فأكمل طريقه دون أن ينبت ببنت شفة، أما هي فلاحظت غضبه ولم تعطيه أي إهتمام فلطالمًا كانت مؤمنة بفكرة أن يكون لشريك الحياة سرٌ خاص به لا يسمح للآخر بمعرفته طالمًا أنه لا يضره في شئ!



❈-❈-❈



صف "مجد" سيارته أمام ڤيلا المحمدي...ترجل من السيارة، وفتح الباب المجاور له منتظرًا شبه الغافية بجانبه من آثر الكحول حتى تخرج إلي منزلها، فلم تبدي أي ردة فعل؛ فأخبرها بنفاذ صبر :


_انزلي!


همست بنبرة خفيضة بالكاد سمعها :


_نزلني.


أشتعل رأسه غضبًا منها ومن حاله الذي أوقعه مع تلك المجموعة التى لم يأتي من ورائهم سوى القرف بالنسبة له....انحنى نحوها، وأمسك بذراعها حتى تستند عليه؛ ففتحت باب الڤيلا ودلفت للخارج بصحبته متغافلان عن زوج الأعين المراقبان لهما بإحتقارٍ وتقزز!


تكلم أحد أفراد الأمن بنبره محتقره :


_استغفر الله العظيم، جدها لسه ميت تقوم تجيب الشحط ده معاها البيت وهي سكرانه طينه!...صحيح أهلهم كانوا بيجمعوا فلوس ونسيوا يربوا!


رد عليه الآخر بنبرة ساخرة، وابتسامة صفراء تعتلي وجهه :


_تلاقيها زعلت إن صاحبها هيدخل النهارده، فقالت ما أدخل أنا كمان!


في الداخل


ألقاها "مجد" بعنف على الأريكة في صالة الإستقبال، وهم بالرحيل فسارعت بإمساك كفه؛ مما جعله يزفر بغضب :


_صبرني يارب!


توسلت إليه برجاء وهمسٍ خافت بالكاد ألتقطته أذناه :


_آخر حاجة...أنا عارفة إني تعبتك بس طلعني فوق يا مازن، مفيش حد في البيت، فمش هقدر اطلع!


"هل سمع اسم مازن؟!"..يالها حقًا من مستهترة عديمة المسؤولية، كيف آمنت على نفسها بصحبة رجل غريب بل والأدهى وهي سكرانه!!...تمتم ببعض الكلمات المنزعجة التى عبرت عن ضيقه الشديد، وقام بإمساكها من أحد ذراعيها حتي يوصلها لغرفتها!...فتح باب غرفتها ودفعها للداخل ببعض الخشونة، وهم بالذهاب لكنها تعلقت في رقبته بقوة مما جعله يبتلع لعابه بتوتر خوفًا من القادم....نظرت لعينيه بقوة، وتركت التحكم لشفتيها التي عرفت الطريق لشفتيه بدون أي عناء!!


#يُتبع...