-->

الفصل العاشر - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى



 الفصل العاشر


النسخة الفصحى


عينيها لا تفارق هذه الأرضية اللامعة وهي تطأ عليها بخطواتها الثابتة التي تبدو واثقة تحت اعين الجميع بينماعقلها لا يستطيع تقبل مدى تفكك هذه العائلة التي من المفترض أنها باتت عائلتها بشكلٍ ما، وفي وقت ما، وهذا الوقت مر اسرع من سرعة طرفة عين، ذاكرتها لا تستطيع سوى تذكر تلك الاحتفالات الرائعة التي كان يُقيمها لها والدها للإحتفال بيوم مولدها بصحبة أخيها ووالدتها، ولا يتبقى برأسها سوى اجراء المقارنات بين هذه الحياة التي امتلكتها وبين حياة "عنود" التي كلما توغلت لتفاصيلها وجدت أنها تعيش حياة غير آدمية بالمرة بالنسبة لفتاة بمثل عمرها الصغير.


جلست شاردة بعد أن عادت إلي مقعدها ولم تلحظ غياب كل من زوجها وأخيه وحاولت صد نفسها عن هذا الحُزن الذي ينبعث بوجدانها من أجل ذات العشرين ربيع، الطبيبة المُنتظرة، الفتاة الجميلة التي بالرغم من كل ما تحمله بداخلها من تعاطف لها ولكن هذا لن يجعلها تتراجع عن قرارها الذي اتخذته بالفعل وتُصمم عليه إلي الآن.

- روان.. روان..


نبهها الصوت الرجولي المُنادي لتحول عينيها حيث اتجاه صاحبه لتجده يبتسم ابتسامته الرائعة كعادته دائمًا بينما لاحقها بالمزيد متسائلًا:

- وكأنك لست معنا على الإطلاق، بم أنتِ شاردة؟

- لا شيء، فقط افكر ببعض اشياء بالعمل


حاولت اجبار ابتسامة على شفتيها الممتلئتين وهي تحاول التظاهر بأن هذا هو ما يُشغلها في حين أن ما جعل عقلها يُسافر بعيدًا هي فكرة هذه العائلة الغريبة التي لا تدري ما الذي فعلته كي تُعاقب بها طيلة حياتها، ولكنها لن تتقبل كونها جزء منها ولن يستمر هذا الوضع للأبد، عليها الابتعاد بأي طريقة أيًا كانت.. قد تبقى صديقة لأخته وأخيه ولكن أن تبقى زوجته هذه الفكرة باتت مستحيلة الحدوث بالنسبة إليها في الوضع الراهن!


- هل تعرفين أين ذهب عدي وعمر؟


تعجبت من سؤاله ونظرت حولها لتدرك الآن غياب كلاهما لتعقد حاجبيها ثم قلبت شفتاها كدلالة على عدم المعرفة واجابته سائلة:

- لقد كانا هنا منذ قليل، لا أردي إلي أين ذهبا ولكن ربما سيعودا بعد قليل


في البداية لم تكن تريد أن تُفكر بالمزيد من مجرد توقع أن وجود كلاهما سويًا لا يأتي من خلفه سوى عراك كلامي حاد مثل ما سمعته بمكتبه تارة ورآته بمنزل والديه تارة أخرى، ولكن مع مرور الوقت لم يكن بيدها حيلة لمواجهة هذا القلق الذي بدأ يعتريها فلم يكن منها سوى أنها تناولت هاتفها في النهاية مجبرة نفسها على الإطمئنان على زوجها وأخيه خوفًا من تحول هذه الليلة لليلة كارثية الأحداث وبدأت في مهاتفة "عُدي" بينما لاحظت اقتراب "يونس" وشعرت بجلوسه بجانبها على نفس المقعد الذي كان يجلس عليه زوجها منذ قليل فتابعته بنظرات مستفسرة ليقترب منها بابتسامة وحدثها بنبرة منخفضة مستفسرًا:

- وما قصة عنود؟


ضيقت ما بين حاجبيها واجابته بنبرة استفهامية:

- قصة ماذا التي تسأل عنها؟


توسعت ابتسامته مما اجبرها على مبادلته الابتسامة وهي تهز رأسها بمزيدٍ من التعجب فاطنب بقوله:

- لا شيء، فقط كنت اتسائل لأحضر لها هدية بمناسبة أن اليوم هو يوم مولدها كنت افكر في أن تكون ذكرى لطيفة لو احضرت لها شيئًا


رفعت حاجبيها وتوسعت اعينها بدهشة من كلماته وهي لا تزال تبتسم له وفي نفس الوقت تحاول الوصول إلي "عُدي" ولكنه لم يُجبها فاستمرت بالاتصال به ليُضيف "يونس" محاولًا تبرير اقتراحه السابق:

- أظن هذا ونحن للتو نتعرف على بعضنا البعض كعائلتين و..

- اذهب إلي يارا واقترح عليها الأمر ولنرى ما رأيها


قاطعته ليضحك بغيظٍ دون أن تتوسع شفتاه ليغمغم بإحباط معقبًا:

- يارا.. حسنًا، يا له من اقتراح مُشجع للغاية!


هزت رأسها بإنكار بينما لم تتمادى معه في فكرته تلك فهي تعرف سُمعته جيدًا فيما يتعلق بالفتيات، يرى الفتاة، يتعلق بها حد الثمالة، ثم يتهرب إلي الأبد مُفسرًا بسبب وحيد لا يتغير، ألا وهو أنه بعد اقترابه من هذه الفتاة التي لتوها كانت توأم روحه اكتشف فجأة أن هذه ليست الفتاة المناسبة له، ومن بين كل ما تمر به هي لا تريد ولا تود أن تكون طرفًا في هذه الكارثة الوشيكة عندما يعلم زوجها الذي بالكاد يملك عقلًا أن ابن خالتها يود الاقتراب من أخته الصغيرة وفي النهاية تتأكد أنه سيتركها!

- روان انظري، انتِ تعرفين أن يارا لن تفهم مدى نيتي الطيبة تجاه هذا الأمر


لمحته بطرف عينيها بنظرة ذات مغزى لا تُخبره سوى بأنها لا تقتنع بكلماته فسرعان ما أضاف:

- لا انتوي سوى الخير، صدقيني هذا كل ما أريد، ولهذا حدثتك بالأمر، لا تكوني سخيفة، كل ما اريده هو مجرد فرصة بأن تعرفيني عليها


ضحكت بخفوت بينما لم تتوقف عن محاولة الوصول إلي "عدي" ولا تزال تملك أملًا بأنه سيُجيب مكالمتها وعقبت بهدوء كي لا يتهادى صوتها لمسامع أحد:

- حسنًا، لو كان هذا هو مقصدك فلتذهب وحدك يونس أنت لست بطفل صغير..


زفر بيأس وملامحه يعتريها الاستياء جراء رفضها مساندته أمام تلك الفتاة التي لفتت نظره فحاول اقناعها:

- لن يكون اكثر مظاهري اللطيفة وانا اذهب وحدي، فلتكوني ابنة خالة جيدة ولتفعليها روان.. مجرد خمس دقائق من وقتك الثمين، وفي المقابل سأمدد لكِ فترة الدفع خمسة عشر يومًا 


اطلقت زفرة مُندهشة والتفتت له بملامح يعتريها الاستغراب فسرعان ما لاحقها:

- استشعر بعض الموافقة منكِ عزيزتي، كما قلت، خمس دقائق وفي المقابل وعدي لكِ وسأذهب لأبتاع الهدية كما اعدك أن نبحث عن عدي وزوجك سويًا


اشار للهاتف الذي لا يفارق اذنها في انتظار رد "عدي" لتتنهد بإرهاق وفركت جبينها من إلحاحه الذي لا ينتهي وإن كانت تعرف عن ابن خالتها شيء فهو أنه رجل لحوح حد الثمالة ولا ينتهي أبدًا عن شيء حتى يصل له بكل الحيل التي يستطيع أن يختلقها فحسمت امرها ثم التفتت له قائلة بحزم:

- يونس أنا حقًا لدي الكثير لفعله وليس لدي وقت لما تقوله، لو تريد أن تتعرف عليها، ولو انني اشك انها لديها ادنى استعداد أن تتعرف على رجل، فلتذهب بمفردك واتركـ..

- صدقيني ستشكرك لاحقًا على هذه الصدفة السعيدة التي نخطط لها الآن.. هيا، لا تكوني عنيدة، لا تزال كل عروضي قائمة كما هي، هل لدينا اتفاق؟


قاطعها وهي يتوسلها بنظراته المُسبلة وهو يعرف أن تلك النظرات منه لن تستطيع أن ترفض أمامها طلبه فلطالما نجحت مع جميع النساء عامة والفتيات خاصةً لتزفر بإرهاق وهي ليست في المزاج المناسب لتلعب هذا الدور الذي يُريدها أن تلعبه لتعقب بالحزم والرفض القاطع ولكن بطريقة غير مباشرة لتلتفت إلي ابنة خالتها "يارا" وسرعان ما تحدثت:

- ما رأيك يارا، يونس يُريد أن يحضر هدية إلي عنود بمناسبة يوم مولدها، في البداية اخبرته أنه ليس من شأني، ولكنه يرى أنه تصرف في منتهى اللباقة، هل من الممكن أن تذهبي معنا أنا وهو، وكذلك كي تكونين شاهدة على كل ما يحدث منذ البداية.


لم تنتظر رد أي منهما ونهضت بالفعل متأهبة للذهاب، فربما على اخته أن تنهاه عما يُفكر به وهذا ما قاربت على الوصول إليه عندما رآت اختلاف ملامح "يارا" للحزم والجدية بشدة وهي تنظر إلي أخيها بتحذير فرفع يديه بإستسلام وقال وهو ينهض هو الآخر مستخدمًا واحدة من حيله للإقناع:

- لا تنظري لي بتلك النظرات اختي الحبيبة، وإن كنت امزح أتظنين أنني كنت لأخبركما عن الأمر؟!


❈-❈-❈

- انت فقدت عقلك بالتأكيد، ماذا لو استمع لك أحد منهم بكل تلك التراهات التي تفوهت بها؟!


ابتسامة مُستنكرة علت شفتاه وهو يرمقه باستمتاع غريب لم يفهمه "عُدي" بعد ذلك النزال الجدلي المحتدم فيما بينهما حول سبب مجيئه وحضوره وهو بداخله لا يدري إلي متى عليه التحمل هذه المواجهة بينه وبين أخيه وشعور الندم يكتسحه لموافقته أن يُساند "روان" في هذه الخطة المتهورة بأن يجعله يوافق على طلاقهما!


- ولم تُفكر أنت ماذا سيقولوا عليك عندما حضرت بصحبة زوجتي؟


زفر بإرهاق وفرك جبينه بعد أن استمع لهذه النبرة الهادئة الدافعة على الإستفزاز تغادر شفتاه وكأنهما لا يتجادلا منذ أن غادرا الجميع بالأسفل حيث المطعم الخاص بالفندق الشهير وصعدا لجناحه الذي استأجره، والذي كذلك لا يدري ما السبب لمكوثه في هذا الفندق، ولا حتى يجد دافعًا منطقيًا خلف هذا العشاء وهذه الأمسية غير السعيدة فمن الذي يدعو اقارب زوجته في حين طلبها للطلاق منه، ربما عليه أن يتجنب كل هذا ويفعل ما طُلب منه ويغادر وألا يجعل نفسه عُرضة من جديد للشجار مع أخيه، فلو تعلم شيئًا على مدار كل تلك السنوات المنصرمة، يعرف جيدًا أن الكلام معه غير مُجدي بالمرة، ولقد ادركه الإستفزاز الهائل من مجرد بضع دقائق قضاها معه ولم يعد يستطيع تحمل الحديث معه أكثر من هذا!


- اسمعني جيدًا، أنا لا اكترث بأن اتواجد بهذا العشاء ولا رؤية وجهك الكريه، لقد اتيت فقط لأن روان طلبت مني أن اتحدث معك بخصوص طلاقكما، أيًا كان ما حدث بينكما حتى تطالب بالطلاق فهذا ليس من شأني، كل ما يهمني واكترث له أنها ساعدتني في مُشكلة كبيرة كانت من الممكن أن تدمر عملي لذا أنا اقوم بمساعدتها في المقابل ليس إلا.. هذا شأنك أنت وزوجتك فلتصلحه بعيدًا عني، وإما يُمكنك أن تُطلقها كما تُريد هي، ألم تُفكر أنها لو لم تكن تواجه صعوبات معك لم تكن لتطلب مساعدتي؟ ربما لم نكن لنحضر سويًا أمام الجميع، وكنت حافظت على ماء وجهي وما تبقى من كرامتي وكنت حظيت سموك بعدم رؤية وجهي الذي لا تُطيقه.. فمن المؤكد أنني لا أريد التعرض لتكرار طردك لي للمرة الثانية!


رمقه في النهاية بمشاعر مختلطة بين التقزز واللوم الخالص فهو بعد هذه السنوات بأكملها لا يزال يثبت ويبرهن له أن كلما عامله بالحسنى لا يأتي من خلف معاملته الطيبة له سوى المزيد من الكراهية الخالصة له التي يقرأها دائمًا وأبدًا على ملامحه كما يقرأها الآن ويزداد استفزازًا لكل قيد أنملة به، ربما المُغادرة هي الحل الوحيد الذي سيُنهي هذا الشجار فلقد فعل ما عليه فعله وما آتى من أجله ولم يعد هناك ما يُقال اكثر مما قاله بالفعل!


تابعه "عمر" بفحميتيه وهو يتجه صوب الخارج ولكنه بداخله لم يقتنع بتلك التراهات التي برر بها سبب مجيئه فأوقفه حتى يؤكد لعقله المريض المزيد من تلك المؤامرات التي لا أساس لها من الصحة ليوقفه قائلًا بنبرة هاكمة:

- احقًا تريد أن تقنعني أنك تساعدها من باب اللباقة وأنك ترد لها المساعدة؟ فجأة هكذا بدون مُقدمات تذهب لعملها، تأتي إلي هُنا معها، أتظن انني سأصدق هذه التمثيلية التافهة لأنها تحدث اسفل عيناي، هل نسيت انني محامي جيد، عُدي؟ أم ربما تظن أنني لا افهم تصرفاتك الثعبانية هذه؟!


تسمر بالأرض غير قادرًا على التحرك لعدة ثوانٍ من الصدمة التي انتابته مما استمع له ليمر على عقله سريعًا كل مناقشة أو بتعريف افضل - كل جدال - خاضاه معًا منذ أن تزوج ليلتفت له بملامح غاضبة بعد أن فشل تمامًا في أن يكبح جماح تلك النيران التي تندلع بداخله من ذلك الجنون الذي اوشك "عُمر" على الادلاء به كما فعل سابقًا، هو يعرف جيدًا أنه سرعان ما سيتهمه كما فعل بالماضي ولكنه قد اكتفى من تلك التراهات ليحدجه وهو يهشم فكيه غير مُكترثًا لنظراته المزيفة بالهدوء واجاب كل تلك الحقائق التي يُرمي إليها خلف اسئلته الهاكمة:

- لا، أنا لا اريد أن اقنعك بشيء، بل هذا ما حدث بالفعل، ولكن اتعرف شيئًا ايها المحامي الجيد..


تريث لبرهة ثم اخذ يقترب منه وهو يهسهس له ليرد له صاع الإستفزاز الذي اكتفى منه طوال هذه الليلة:

- زوجتك إمرأة ذكية ومتفوقة، ولسوء حظك انني اعرف الكثير عنها بما اننا نعمل بنفس المجال، ولتضيف إلي معلوماتك، لقد صُدمت تمامًا أنها ستتزوج من رجل مثلك لا يعرف كيف يشعر بمشاعر أو يقترب من أحد في المطلق في حين أنها إمرأة جيدة السُمعة وجميلة ومجتهدة في عملها واي رجل في مجالنا هذا إما يكن لها الاحترام، وإما يحسدها للغاية لأنها توصلت لكل ما لم يصل له هو ويُكن لها الغضب الخفي ويُريد أن يُدمرها، وبعد كل ما تقوله لي منذ أن تزوجتها إلي الثانية التي نتحدث الآن بها، تبرهن لي وتجعلني متأكد وواثق أنك لا تستحق إمرأة مثلها، وإذا كل ما تطلبه مني هو أن اساعدها فسأفعل، لو كنت منذ خمس دقائق لا أريد التشاجر معك ولا أريد أي مُشكلات ولا حتى التدخل في زواجك فأنت تجبرني بأن أكون مجرد وغد عنيد وسأساعدها شئت أم ابيت، هذا ما سببه غباءك وجنونك وتفكيرك انني قد يكون لي دافع آخر وراء كل ما افعله.. ربما لو طلقتها ستتاح لها الفرصة بأن تتزوج رجل أفضل منك آلاف المرات ويـ..


اوقفه عن حديثه الذي لم يرقه ودفعه للغضب الهائل الذي اخذ في الازدياد كلما ازدادت نبرة "عُدي" حِدة وارتفاع على حد سواء ليتنفس الآخر بسرعة شديدة وقارب على الشعور بطعم الدماء بفمه من شدة التحام فكيه ليلكمه هو أيضًا وسرعان ما تلاحم الاثنان في معركة بالأيدي ليصرخ به "عُدي" بمزيد من الغضب:

- لقد فقدت عقلك حقًا، هل تظن أن هناك ما يحدث بيني وبين زوجتك أو انني قد انظر لها اكثر من نظرة الأخت وزوجة الأخ، إلي متى ستظل هكذا بهذا التفكير العقيم؟


التهبت ملامح "عُمر" وهو يُسدد له المزيد من اللكمات بينما لم يرأف به الآخر في هذا النزال الذي بات داميًا وتلك العلامات تظهر على وجه كلاهما ولم يستمع "عُدي" لأي اجابة على سؤاله واستمع فقط للهاث كلاهما من شدة ذلك العراك ليبادره بدفعة قوية سقط على اثرها "عُمر" بمقعد خلفه ليحاول الآخر التقاط انفاسه وهو يهمس خلال ذلك اللهيب المستعر الذي يغادر رئتيه:

- لطالما كنت هكذا.. وحتى الآن بعد مرور كل هذه السنوات لا زلت بنفس طريقتك وظنونك الغريبة.. تظن دائمًا أنني اخطط كي اؤذيك


اشار له بإصبعه قاصدًا اياه بينما رمقه "عُمر" مُضيقًا عينيه بحقد ليتابع اخيه كلماته:

- كلما اقترب منك احد ينتهي امره معك بشجار حاد، لطالما تجنبتني وكرهتني، دائمًا ما تراني سيء ورجل غير جيد، لماذا عُمر؟


بدأت انفاس كلاهما بالهدوء فواصل "عُدي" من جديد:

- حاولت كثيرًا معك، فعلت الكثير لأجل أن نكون بخير أنا وأنت، والنهاية أنك تكرهني، لماذا؟ ما السبب في كل كراهيتك لي؟ لماذا ارى الكراهية الخالصة بأعينك أنت ووالدي بالرغم من انني احاول أن اكون جيد مع الجميع؟ 


ابتلع وهو يصوب اللوم المنهمر من عينيه تجاهه ليهمس بحسرة:

- لماذا نحن هكذا؟ لماذا لا نكون مثلًا مثل رروان زوجتك واخيها؟ لماذا لم نكن يومًا مثل أي اخوان أو حتى مثل صديقان أو زميلان يُكنان الاحترام لبعضهما البعض؟ 


بحث عن اجابة بملامحه بينما الآخر ينظر له والحقد يلتمع بعينيه ونهض متجهًا نحوه ليوقفه الآخر بصياح:

- لقد فعلت كل ما استطيع فعله من اجل أن نكون أُسرة افضل، خاصة معك أنت، لم افعل قط مع عنود مثل ما فعلت معك من محاولات لا تنتهي، ولكن نتيجة كل محاولة في النهاية تبرهن لي بالدليل القاطع أنك لا تستحق أن يحاول احد من اجلك، وبعد زواجك وبعد كل تلك الاتهامات التي توجهها لي بأفكارك غير المنطقية جعلتني اكرهك للأبد.. ولتعلم أيضًا هذا..


تريث لبرهة ليقول في النهاية بهمس:

- انت الوحيد الذي كنت اكترث له في بيتنا بأكمله طوال عمري، انا وانت نعلم جيدًا كيف يمقتني والدي، ووالدتنا هي اكثر إمرأة لا تستطيع أن تدافع عن حقوقها على وجه هذه الأرض خاصة مع رجل مثل يزيد الجندي، ربما هي الوحيدة التي تعاملني بشكل جيد، وعنود وفرق السن الشاسع بيني وبينها لم يُمكنني قط من التعامل معها وربما فشلت أنا في هذا،ولكن انت لم تعاملني جيدًا قط منذ أن كنا اطفال، وانا لا ادري لماذا ولا اعرف السبب وراء كل جفاءك لي، انت اليوم جعلتي اكرهك ولا اريد التعامل معك أبدًا ولا حتى اظن أن لي أخ بعد اليوم، اعدك انني لن احاول ابدًا من جديد معك، الا لو كان هناك اجابة على كل اسئلتي لك.. منذ اليوم وصاعدًا لا املك أخ، واطمئن لن اجيب على زوجتك لو تحدثت لي!


❈-❈-❈

في نفس الوقت..


مشى ثلاثتهم في اتجاه "عنود" حيث جلست مع صديقاتها الفتيات وعقل "روان" لا يغيب عنه التساؤل ووضع التخمينات بشأن زوجها وأخيه عما يفعلاه الآن خاصة وهي لا تلمحهما في أي مكان قريب وتتمنى بداخلها أن يكون "عُدي" نجح في اقناعه ولو بأي طريقة بشأن طلاقهما!


وجدت "يونس" يتلمس ساعدها بلُطف ليوقفها وهما على وشك التحدث إلي "عنود" ليهمس لها:

- عمر وعُدي قد صعدا إلي جناحه رقم S- 5 بالطابق العشرين، وهذا لأن الفتاة في قسم الاستقبال كانت متعاونة للغاية، حتى أنها اعطتني هذا..


اعطى إليها البطاقة المخصصة للولج للجناح الخاص بـ "عُمر" لتتوسع عينيها بدهشة من فعلته ليبتسم لها قائلًا:

- لقد اتفقنا على هذا، وأنا رجل أفي بوعودي، كما انني كنت في غاية النُبل واللباقة مع تلك الفتاة، ربما سُحرت من فتنتي مع النساء لذا وافقت بمنتهى السهولة!


انهى حديثه وهو يغمز لها بإبتسامة رائعة لتجد نفسها تبتسم رغمًا عنها وهي تهز رأسها غير مُصدقة لفعلته واقتربت من "عنود" وهي تتلمس ذراعها بلُطف واقتربت لتستئذنها بالنهوض لبُرهة فوقف الأربعة على مقربة من صديقاتها لتحمحم "روان" ثم شرعت في الحديث:

- لقد اردت أن اعرفكم.. يارا ويونس ابناء خالتي.. عنود، اخت زوجي الصغيرة


سرعان ما ابتسمت "عنود" بلباقة وصافحت "يارا" ولمحت "يونس بطرف عينيها سريعًا كنوع من الرسمية ليس إلا ولكن لم تكن هذه النظرة منها هي المتوقعة لهذا الذي يرتدي وجه ذو ابتسامة تنجذب له الكثير من الفتيات ليُصاب بالصدمة بداخله من ردة فعلها!


- مرحبًا سيدتي كيف حالك؟


بادرت "عنود" بهذا السؤال إلي "يارا" التي اندهشت من منادتها اياها بهذه الرسمية الشديدة لتبتسم لها بودٍ وهي تقول:

- سيدتي!! أنا لست عجوز.. فقط يارا


شعرت الأخرى بالإحراج لوهلة بينما كل ما تريده "روان" هي معرفة ما سبب تأخير كل من زوجها وأخيه وودت لو تنتهي هذه الدقائق بأسرع وقت ممكن لتجد ابنة خالتها تتحدث بلباقة وملامح بشوشة:

- لقد وددنا أن نتعرف عليكِ ونتمنى لكِ يوم ميلاد سعيد بأنفسنا


لأول مرة بحياته يشكر الله على اندثار ذلك الحزم بأخته التي يعرف أنها ليست واحدة من معجباته بعلاقاته النسائية المُتعددة كما أنه سبق من نوعه أن تُمهد له "يارا" الطريق مع فتاة وهو يستحيل أن يترك هذه الفرصة أن تتفلت من بين يديه فسرعان ما تقدم قبل أن تتحدث "عنود" ووقف تمامًا أمامها فلقد تجنبته وهمشته على ما يبدو منذ ثوانٍ وهو سيجعلها تعي فداحة ما ارتكبته منذ لحظة واحدة:

- يوم ميلاد سعيد..


أضاف المزيد من تلك النظرات الجذابة وابتسامة رائعة دُفعت إليها لتلفت نظرها لما يُقارب جزء من الثانية وهو يُقدم لها تلك الهدية التي توضع بصندوق مُخملي لتتعجب "عنود" بداخلها، من الذي يتعرف على شخص لتوه وبنفس الوقت يقوم بتقديم هدية له ليُصيبها الارتباك للحظة وعينيها مُثبتتان على هذا الصندوق حيث غابت ملامح التهلل واللباقة التي كانت تتضح عليها منذ لحظات ليُلاحظ هو ما تمر به فأضاف بإبتسامة مُهلكة  يعرف تأثيرها الفائق:

- لم ارد أن تمر هذه الصدفة الرائعة دون ذكرى طيبة..


تبادلتا "روان" و "يارا" النظرات المُتعجبة غير المُصدقه لغزله الواضح بشدة إليها، فمن المفترض أن كلاهما يقدما لها الهدية على سبيل المجاملة العائلية وفي لمح البصر يقلب هذا التعارف ليكون هو الوحيد تحت هذا الضوء! لن تقبل "يارا" أبدًا هذه الطريقة وستوبخه فيما بعد، ولكن لابد لها من التدخل الآن:

- أنت محق يونس، ولكن هل نسيت أن هذه كانت فكرتي واقتراحي؟


ابتسمت وهي تنظر إليها بينما سيطر الوجوم على ملامحه للحظة، لتوه كان يشكر اللهعلى كونها أخت متعاونة ولكنها لا تفشل في احداث الدمار المتوالي الذي يجعلها اكثر أخت مزعجة بالحياة لتتدخل "روان" مُضيفة إليه المزيد من الإحباط وهي تدعم قول اخته بمنتهى القوة:

- لقد وجدت أنها فرصة رائعة أن تتعرفي على اقاربي، كما أن يارا اعجبت بكِ تمامًا بمجرد رؤيتك


هذا لا يُطاق، من التي اُعجبت بمن؟ لقد كانت فكرته، لقد خطط هو لهذا، ولن يترك كل مجهوده ليُقدم على طبق من ذهب ويذهب سُدى، شيئًا وحيدًا يعرفه عن نفسه، هو يكسب كل الفتيات لصالحه، وهذا لن يتغير الآن:

- دعيني اضيف انني رجل اعمال ناجح، اعمل طوال الوقت، واليوم كان لا يريد الانتهاء، يدي بدأت أن تؤلمني، ليس من الجيد أن تتركِ رجل ينتظر رأي بسيط وكلمات مُجاملة بهذه الهدية، لذا، هل تفضلتِ عليَّ برأيك الذي اقدره حقًا؟


مُضيقًا عينيه وهو يُشير إلي الصندوق الممسك به ثم يُعيد عينيه الجذابتين إليها، مُحاولًا بإلحاحه الذي لا ينتهي أن يكسب هذا الموقف لصالحه بكل الطرق الممكنة، متحكمًا بنبرته كي يبدو غزلًا وليس تأنيبًا، هل يُمكن أن فتاة مثلها لا تنجذب لصندوق مخملي يأسر قلوب الفتيات ورجل يملك ملامح واثقة وجسد رياضي طويل ممشوق، وغزل لا نهائي وابتسامة مهلكة، ومنصب جيد ينجح مع اغلب النساء والفتيات وفوق كل ذلك صلة قرابة بعيدة وحضور اخته معه؟!


اجابته كانت نعم، على ما يبدو لم تنجح أي حيلة معها، حيث أنها نظرت إلي اخته وابنة خالته ببعض الانزعاج الذي تحاول أن تخفيه خلف ابتسامة لبقة أو ربما هو الإحراج من المفاجأة لا يدري، ولكنه سيتأكد في غضون جزء من الثانية، ولقد احبطت كل هذه المحاولات بالكامل عندما لم تنظر له ولو حتى بنظرة عابرة وامتدت يدها لتناول هذا الصندوق منه وهي تكتشف ما فيه لتُصاب بصدمة شديدة من هذه الهدية المُبالغ بها، فساعة نسائية موضوع عليها هذا الشعار الشهير ليست مجرد هدية ليوم مولد فتاة لتوهما تعرفا عليها!

❈-❈-❈

- لا، لا، لا تخدعيني عزيزتي هذا لم يكن اتفاقنا، لقد كادت أن ترحل ولولا كلمات يارا لما تشجعت وتناولت الهدية!


تحدث بإنزعاج واضح بينما زفرت "روان" من كثرة إلحاحه الشديد ليُضيف مُجددًا:

- لقد ساعدتك في ايجاد زوجك واخيه ونحن الآن في طريقنا إليهما، قبلت تأخير الدفع، وانتِ تقريبًا جعلتِ يارا وعنود صديقتان، والاتفاق كان عني أنا وعنود كي نتعرف على بعضنا البعض.. وبما انني رجل افي بوعودي انصحك بـ ..

- كفى يونس، ارجوك!


صرخت به ليتعجب من ردة فعلها غير المتوقعة التي لأول مرة طيلة معرفته بها تفعلها لينظر لها باستغراب لتتنهد وهي تقوم بالضغط على زر الطابق ال1ي يقع به الجناح الذاهبان له ثم التفتت إليه وهي تحاول أن تبرر صراخها:

- آسفة للغاية، ولكنني لست بالمزاج الملائم لكل هذا، لدي الكثير بالعمل وبعض المُشكلات كما انني مُرهقة للغاية هذه الأيام، وفجأة ذهاب عمر وعدي اثار بي القلق، خاصةً أن عمر هو من دعاكم وهذا ليس بالتصرف اللائق منه امامك أنت وراشد ويارا.. انا بالكاد اذهب للنوم هذه الأيام لذا اعصابي مثارة طوال الوقت.. اعتذر على صراخي، لم اقصد هذا


عقد حاجباه وهو يتفحصها بإهتمام ثم سرعان ما ما تفهم ليتسائل بعناية:

- لا تقلقي بشأن هذا، اعلم أنني لحوح للغاية ولكن فلتخبريني هل أنتِ بخير حقًا؟ هل هناك شيئًا استطيع فعله؟


تنهدت وأومأت بالإنكار وحاولت أن تبتسم لتلتوي شفتيها ببعض الضيق مما جعل ملامحها باهتة:

- أنا بخير، ولكن على أن اجتاز هذه الفترة بأي طريقة.. سأكون على ما يُرام لا تقلق


هز رأسه بالموافقة ثم التمعت عينيه وتحدث بنبرة هادئة وابتسامة متوسلة:

- حسنًا.. ربما بعد أن تجتازين هذه الفترة، ما رأيك أن القاكِ، كصُدفة بريئة أنتِ وعنود يومًا ما ولأنك ابنة خالة رائعة ستقومين بدعوتي للإنضمام إليكما ولكن وقتك ضيق من كثرة الاعمال لذا ستتركينا سويًا وتذهبين لعملك الذي لا ينتهي؟


توسعت عينيها بدهشة من إلحاحه الدائم المستحيل أن يتوقف لتضيق ما بين حاجبيها ثم حدثته بجدية:

- يونس، لقد حاولت، من الواضح انها كما رأيت بنفسك لا تهتم على الإطلاق، لذا، انسى الأمر، هناك الكثير من الفتيات قد تحلمن بمعرفتك، كما اظن أن عنود ليست مناسبة لشخص مثلك أبدًا!


التفتت لتوليه ظهرها حيث تنتظر وصول المصعد حيث الطابق المتواجد به زوجها واخيه وليعلم الله ما الذي يجعلهما مختفيان عن الانظار كل هذا الوقت، مجرد التخمينات وحدها تُرعبها، وقلبها وحده تصرف بُناء على ما تُفكر به وبدأت خفقاته في الارتفاع تلقائيًا!


- لماذا؟ هل هذا بسبب فرق العمر بيني وبينها، لمعلوماتك ابنة خالتي الرائعة ابدو بمنتصف العشرينات من عمري، ولكن، أوه!! لا تقولي لأنها فتاة ترتدي الحِجاب؟ هل تظنين أنني بمثل هذه العنصرية؟


اسئلته نبهتها من توترها وكذلك ابواب المصعد التي فُتحت لتتجه هي الأخرى للخارج فتبعها لتحدثه بإنزعاج وهي تحاول السيطرة على التوتر الذي يجتاحها:

- الأمر ليس هكذا يونس، عنود حياتها ليست سهلة، ودراستها تلتهم كل وقتها، لا اظن أن فتاة مثلها تبحث عن ارتباط في الوقت الحالي، كما أنها قد اتمت عشرون عام للتو منذ عدة ساعات، تريد أن تُصبح طبيبة ماهرة، امامها سنوات حتى تقرر الارتباط برجل.. كما أن عائلتها مختلفة كثيرًا عن عائلتنا.. انت وهي مختلفان للغاية، هي ليست الفتاة المناسبة لك ولقد جربت بنفسك منذ دقائق


توقفت امام الباب الخاص بالجناح مما جعله يتوقف هو الآخر وقال بمنتهى الهدوء والإعجاب الشديدان:

- كل ما قلتِ يحثني اكثر أن اعرف من هي هذه الجميلة الغامضة، اقناعك لي فشل تمامًا ولم اغير هدفي بعد، سأنتظر منك محاولة اخيرة، فُرصة ثانية بعيدًا عن يارا وصديقاتها واخواها، ربما كانت مترددة لتواجد اخواها بالأنحاء، لذا، عشاء؟ غداء؟ افطار؟ أم كيف ستكون صدفتنا السعيدة؟


اغمضت عينيها بيأس تام وهو يرى ملامح الإمتعاض على وجهها فواصل إلحاحه:

- من اجل ابن خالتك الوحيد، قدد تتخلصي انتِ ويارا مني للأبد هذه المرة، وقد انجح معها!


ابتسم لها لتفتح عينيها وهي ترمقه بتردد ليتوسلها موسعًا ابتسامته:

- ارجوكِ، روري! محاولة اخرى واخيرة..


انتظر أن يستمع لموافقتها لتزم شفتيها وهو واقفًا أمامها يبتسم بتريث منتظرًا وصوله لما يُريد لتهمس بإستسلام مزجته بتحذير واضح:

- حسنًا، سأرى ما استطيع فعله، ولكن يونس، هذه اخر محاولة، واياك، اياك أن تفعل أي شيء غير لائق، هذه اخت زوجي التي نتحدث عنها هُنا، ولو حدث أي شيء غير محمود سأكون أنا السبب ومن توبخ وتُلام في النهاية!


تهللت ملامحه وهو يستمتع في النهاية بحصوله على ما اراده منذ بداية الليلة:

- اطمئني، ستأتي يومًا ما مهللة بأن يونس هو افضل رجل عرفته يومًا ما!


قلبت عينيها وهي لا تصدق مدى إلحاحه في هذا الأمر ليضيف بغمزة وتوسعت ابتسامته الساحرة في حين فُتح باب الجناح:

- لا تقلقِ عزيزتي الغالية، ستهيم بي عشقًا


التفتت حين فُتح الباب ليظهر "عُدي" بملامح متجهمة لتجحظ عينيها بخوف عندما رآت تلك الدماء تسيل من أنفه أو بجانب فمه هي لا تدري من أين مصدرها وقتلتها تلك النظرة التي تلوح بفحميتي "عُمر" الذي كان خلفه مباشرة لتهتف بتوتر متسائلة:

- عدي، ما الأمر؟ هل أنت بخير؟ هناك دماء على وجهك، ماذا حدث؟


نظر إليها وهو يحاول أن يُعدل من هندامه عندما رآى "يونس" واقفًا بالقرب منها وتلمس وجهه عندما استمع لتساؤلها ليجد الدماء على اصابعه فقال مبررًا بأفضل الأسباب التي وجدها منطقية:

- ربما بسبب ارتفاع ضغط دمائي.. جيد انني رأيتك، كنت على وشك المغادرة أنا وعنود، هناك مكان آخر علي التواجد به لأمر ضروري.. طابت ليلتك


تعجب "يونس" مما رآه ليسأله بعد عدم اقتناعه بتلك الكلمات:

- هل أنت متأكد أنه مجرد ارتفاع بضغط الدماء؟


تقدم "عمر" في نفس الحين لترمقه بتساؤلات ممتزجة بالإحراج والغضب على حد سواء بينما هو يتظاهر بالهدوء والتلقائية في حين أنه بداخله يغلي كبركان محموم ليجذبها بخفة تصنعها ولكن في الحقيقة يدها تكاد تتهشم من تلك القبضة المعقودة عليها:

- نعم، أنا اعاني منه منذ أن كنت صغيرًا واحيانًا يحدث بعض النزيف غير المتوقع، اواجه الأمر ببعض الأوقات، لا تقلق


أومأ "يونس" بالتفهم بالرغم من عدم اقتناعه وأخرج منديل من جيبه ليناوله اياه فشكره الآخر بإقتضاب وهو يجفف به وجهه ليتدخل صوت "عُمر" قائلًا وهو يوزع نظراته بين كلًا من أخيه وابن خالتها:

- لقد سعدت برؤيتك والتعرف عليك، بالطبع ستتكرر يومًا ما.. ليلة سعيدة..


قبل أن تدرك ما يفعله وجدته يُغلق الباب في وجه كلاهما وهو يجذبها للداخل فصاحت به وهي لا تستطيع استيعاب كل ما يفعله:

- هل حقًا اغلقت الباب بوجهيهما! وعُدي، ما الذي حدث له؟ اشرح لي ما الذي يحدث هنا!! واترك يدي إنها تؤلمني!!


دفعها لتجلس رغمًا عنها خلفها على الأريكة المتواجدة بمنطقة الاستقبال بهذا الجناح الفخم بينما اكتفى بالنظر إليها دون أن يقول شيئًا لتنهض هي وهي تسأله من جديد:

- أنا لا افهم اي شيء مما تفعله اليوم، ولماذا نحن بهذا الجناح؟ وكيف تترك من دعوتهم بنفسك وتغادر دون اعتذار أو وداع؟


الكثير من الأفكار تتسارع داخل رأسه دون توقف أو هوادة وكأنه سباق حتمي عليه أن يخوضه دون أن يهتدي إلي نهاية كل فكرة تبزغ كالشمس برأسه والتي في نفس الوقت سرعان ما يجدها مملة وغير مُشجعة على أن يفعلها ويمضي بها، لا يستطيع تحديد ما حيلتها معه، هل هو "عُدي" أم "يونس" الدافع خلف طلبها للطلاق منه؟ تلك الطريقة التي كان يُحدثها بها عندما رآهما خلف الباب حُفرت بذاكرته وكل ما يُريده هو ان يُمسك بعنقها إلي أن تشعر بنفس هذا الإختناق الذي يشعر هو به كلما تفعل شيئًا لا يرضيه..


يتسائل بالكثير من الأسئلة اللانهائية التي لا تنفك تطرق بعنف على كامل ثنايا عقله بينما لا يستطيع أن يجد اجابة واحدة، لا يُصدق أي كلمة من كلمات اخيه، ولا حتى يُصدق أن كل الدافع خلف الأمر هو مجرد معرفتها أنها تُشابه "يُمنى"، وأما عن كل ما يُريد فعله بشأن هذا فهو يقارب آلاف الحلول غير المُرضية بالنسبة لها!


لقد خطط بأن يُحضرها إلي هُنا حتى لو استخدم معها الإجبار ولكن من حسن حظها آتت من تلقاء نفسها وها هي تبدو فاتنة حد اللعنة بعنقها المُثير وبروز ترقوتها الذي يتوسل كل من يراه أن يذهب ويُلثمه بهذا المظهر المُهلك الفاتن الذي لا يستطيع رجل تجنبه، لماذا تبدو رائعة الجمال إلي هذا الحد الذي يجعله يود أن يأسرها بعيدًا عن أعين الجميع؟

- عمر أنا اتحدث إليك، كيف أنت هُنا والجميع بالأسفل؟ ولماذا سيغادر عُدي فجأة؟ اريد أن افهم، ما الذي يحدث؟


اكتفى بالصمت في الوقت الراهن بينما هي تحاول أن تقرأ ولو كلمة واحدة بعينيه التي تتخللها تاركة بداخلها خوف ممتزج بالقلق ولكنها لم تنجح في الحصول على سبب منطقي لكل ما يحدث فاكتفت هي الأخرى بالنهوض وهي تحمحم لتحاول الفرار من كل هذا فتحدثت بنبرة مُعتدلة هادئة كي لا تثير المزيد من الجدال الذي لن يُسفر سوى عن المزيد من التوتر، فلقد جربت التحدث له آلاف المرات من قبل والنهاية طالما تصرخ بخسارتها الفادحة معه في كل النقاشات:

- حسنًا سنؤجل حديثنا ولكن سأتوجه للجميع بالأسفل واعتذ..


اشارة من سبابته بترت جُملتها التي لم تُكملها سوى بزفرة تدل على ارهاقها من المتابعة في أي شأن يتعلق بهما معًا فعقدت ذراعيها وهي تتأمله لتجده يتحدث بهاتفه قائلًا بإقتضاب:

- فلتخبر الجميع انني طرأ لي أمر هام وكان علي المغادرة أنا وزوجتي، احضر لي كل متعلقاتها، ولتنفذ ما اتفقنا عليه!


رفعت حاجبيها بإندهاش وهو يُلقي بأوامره واحد يليه الآخر بعد ادراكها أنها شعرت بالقلق من جُملته الأخيرة الغامضة ولكنها حاولت التمسك بهدوئها قدر ما استطاعت إلي أن ينهي مكالمته حتى لا تتحول محاولتها للنجاة من هذا الزواج إلي مسرحية درامية يُشارك كل من حولها بها بدايةً بوالدتها واخيه ونهاية بالحراس الذين يتقاضوا الأموال لملازمتها ليلًا نهارًا..


تفقد هاتفه حيث أنه كان ينتظر منذ الصباح الوصول لكل ما يستطيع إيجاده عن هذا المحامي الذي تناسى من هو "عُمر الجندي" ومن هو والده ليترافع لها في قضيتها التافهة تجاهه ليتيقن أخيرًا من هذا الإحساس الذي كان يراوضه منذ أن علم أنها بدأت بإتخاذ إجراءات قانونية، عدو قديم من قائمة اعداءه ولكنه سيُذكره مرة أخرى بمن هو وما يستطيع فعله ولكن عليه أولًا أن يُذكر زوجته بالكثير مما يبدو أنها نسته تمامًا..


وكما ينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه، عليه الآن أن ينفذ معها نفس خطواته المُتبعة عند استلامه قضية جديدة، أولًا عليه أن يستمع جيدًا لحقيقة ما حدث منها، وعليه أن يقنعها أنه يُصدقها بكل حرفٍ يغادر شفتيها، الثقة هامة للغاية بين المحامي وموكلته الماثلة امام عينيه، حتى ولو كان عليه أن يتخيل في الوضع الراهن أنها موكلة، تُريد مُساعدته، وليس عدوته الغاضبة كما يلمح بعسليتيها، وبالطبع عليه أن يخرج من عقله صورة الزوجة التي تظن أنها مخدوعة ضحية لرجل كاذب!

- فلتفُهمني أي لعنة تحدث هنا!


آتاه صوتها الغاضب ليبتسم لها بهدوء شديد وهو يدس هاتفه بجيب بنطاله ووقف أمامها بثقة بعد اتخاذه عدة خطوات مُقتربًا منها ثم خلع سُترته ليُلقيها خلفها على الاريكة واراح نفسه قليلًا من الاختناق الجُزئي الذي يحاوط عُنقه بتلك الربطة الرسمية السوداء وحدق بها باستمتاعٍ هائلٍ حتى ظنت أنها ترى على شفتاه ابتسامة مُتلاعبة جعلتها تبتلع ارتباكًا لوهلة وهي تحاول تفسير ملامحه الغريبة..


لن يسمح لأمر أن يحدث حتى يقاطع هذه المناقشة التي ستبدأ لتوها عليه أن يكون هادئًا بمنتهى الثقة التي لا نهاية لها حتى يعلم كل الحقائق التي تُخفيها عنه حتى لو كان عليه اللجوء للقليل من بعض علم النفس العكسي الذي يتبعه بحنكة أحيانًا في استجاوب بعض الشهود حتى يصل لما يُريد من هذه الشقية التي جعلت غايتها في الحياة أن تعصاه:

- واضح أن هناك الكثير لا اعلمه بسبب سفري، ولكنني عدت الآن، سنتحدث، اجلسي روان!


جالتا مُقلتيها بتوتر شديد وهي لا تستطيع تفهم ما يحاول فعله، يريد التحدث ووالدتها واقاربها بالأسفل وكذلك أخيه وأخته، هل يظن أن هذا هو الوقت المُلائم للتحدث، أم يظن أن بمجرد رغبته في الحديث ستنصاع هي لكل ما يُريد؟


زفرة متفاجئة مصحوبة بالمزيد من توترها وهي تضم ذراعيها أكثر إليها لتقول بهدوء:

- ألا ترى  أنه من الأفضل أن نتحدث ونحن بمنزلنا، على الأقل بعد أن نقوم بوداع الجميع، هذا امر غير لائق أن تترك أُناس قمت بدعوتهم بنفسك وتغادر دون الاعتذار أو حتى تحية أو سبب مُقنع لإنهاء الليلة!


توسعت ابتسامته وهو يقترب منها اكثر لتنكمش للخلف مبتلعة من نظراته الثاقبة لأعينها لتجد يداه تُحيط وجنتيها التي شحبتا بمجرد لمسته ليُردف بمنتهى الاريحية:

- أنا رجل لدي الكثير من العمل، سيتفهم الجميع..


التفت متجهًا نحو الهاتف المُلحق بالغرفة بينما هي تتابعه بنظراتٍ مستغربة فعلته ونظراته التي لا تستطيع ترجمتها بعد ليلتفت بغتة سائلًا اياها:

- هل تريدين تناول العشاء، ربما، بعض المُقبلات؟


لوهلة حدقت به كالبلهاء، لا تُصدق سؤاله وتحركت شفتيها بعفوية:

- عشاء ومقبلات.. لقد تناولنا العشاء منذ ساعة تقريبًا!


ضيق عينيه نحوها متفقدًا اياها بمزيد من النظرات الثاقبة وأردف مُعقبًا بثقة قاصدًا معنى خفي آخر:

- لم اكتفِ بعد.. اشعر وكأنني لم اتناول ما يسد جوعي منذ اكثر من شهر بأكمله!


نطق كل حرف بنظرة جائعة من فحميتيه لجسدها المكنون اسفل ذلك الثوب ذو الأنسجة الرقيقة التي ربما لن تصمد لجزء من الثانية أمام يديه التي ستتلاشى في ثوانٍ من تمزيقه لها ولكن ربما هذه النظرات لها ليست بوقتها المناسب الآن:

- حسنًا، سأتناول أنا الطعام!


التفت ورفع سماعة الهاتف ليتحدث به لتجد نفسها تبتلع وجلًا من هذه النظرات لتقرر أن تذهب بعيدًا نحو الباب متخلصة من طريقته الغريبة التي لا تجد ولو ذرة من المنطق بها وامتدت يدها لتفتح الباب فاعترتها المفاجأة من الرجلين الواقفين أمامها ليخبرها احدهما بإحترامٍ ورسمية دون التحديق بعينيها:

- مرحبًا سيدتي..


ناولها سجانها المُعين من قبل زوجها الذي باتت تعتاد عليه الآن حقيبة يدها وتلك الحقيبة التي وضعتها بالسيارة حيث الشعر المستعار الذي كادت أن ترتديه وكذلك الصندوق الخاص بالعدسات اللاصقة لتقول ببعض التعجب:

- شكرًا لك!


وضعت الحقيبتان جانبًا على منضدة جانبية وتذكرت ما تحدث به بهاتفه منذ قليل بينما عادت من جديد وهي تزفر ببعض الإنزعاج لتحاول الخروج بينما وجدت الحارسان يحولان بينها وبين الطريق لتنظر لهما ببعض العجرفة وهي ترفع حاجبيها بتساؤل عن فعلتهما وقبل أن تطالبهما بإفساح الطريق لها شعرت بيده تجذبها خلفها بينما قال لكلاهما:

- طابت ليلتكما..


جذبها للوراء وهو يُغلق باب الجناح لتتحدث سائلة بغضبٍ ولكن بنبرة منخفضة كي لا يستمعا لهما:

- ما الذي تفعله؟ هل نويت أن تقوم بأسري بجريمة ما ارتكبتها بخيالك ولا اعرف أنا عنها شيء؟


دفعها دون عنف للجدار خلفها وهو يُحدق بها مفترسًا تلك الملامح التي لا يستطيع الصمود امامها دون التفكير بالكثير من الأشياء والمناظر التي يجدها بها إما عار ية وإما اسفل قدماه ليبتسم بهدوء استفزها حتى شعرت بغليان دمائها برأسها:

- كلا، سأتناول العشاء وأنا اتنعم بالنظر إليك ايتها الفاتنة وسأنال شرف الحديث إليكِ، وسنقوم بقضاء بعض الأيام هُنا


اغمضت عينيها وهي تحاول استلهام بعض الهدوء وهي تزفر هواء رئتيها ثم نظرت إليه بنفاذ صبر وعسليتان لمح بهما نيران الغضب الذي لم يُحرك به ساكنًا:

- لا اظن هناك ما نتحدث به، ابتعد واتركني كي اذهب!


ابتسامة منه بصحبة نظرات متفحصة بدلت غضبها لخوف في لمح البصر بينما استمعت لتعقيبه المبالغ بهدوءه وثقته:

- بل صغيرتي، هناك الكثير لنتحدث بشأنه..


ظهرت اسنانه وابتسامته تتحول لضحكة خافتة بينما عينيه لا تترك مثقال ذرة بقوامها دون افتراس وهو يهمس مهمهمًا بتلذذ:

- ممم، القضية، يونس، عُدي، ممم وربما هناك امرًا آخر لنتحدث عنه وستخبريني به


تلاشت ابتسامته وظلمتا فحميتاه بنظراتٍ جعلت خفقات قلبها تتصارع وهو يُضيف بنبرة جعلتها تتمسك بالجدار خلفها:

- ساستمع إليكِ وأنتِ تخبريني عن نبيل مسعود، لم ذهبت له خاصة؟ هل فرغت الدولة بأكملها من المحامين كي تذهبين إليه؟ وربما سنتحدث سويًا عن الذي ساعدك في الوصول إليه!!



يُتبع..