-->

الفصل الثاني والعشرون - After Burn بعد الاحتراق


 الفصل الثاني والعشرون

هناك عقدة من الظلم تُكمم معدتك،

لكنك عاجزة عن وصفها في كلمات..

حتى وإن استطعتِ، لا تعرفين كيف تجعلين الناس ينصتون!!

فالوحيد الذي يصغي، هو المسؤول عن عذابك..

الوحيد الذي يفهم، هو مَن أوصلك لهذه الحالة..

خَلَقَ المؤذي عالمًا تلاشت فيه الأصوات،

لذا، حتى وإن عثرتِ على صوتك..

لن يسمعه أحد!!

-لانج لييف-


كَـذبَ مَن قال أن المرض النفسي حدث قهري يقع للشخص؛ ففي بعض الأحيان يكن المرض النفسي اختياري!!.. حتى وإن كانت بدايته إجبارية، ذلك لا ينفي أبدًا لحظة الافاقة التي يُبصر فيها الشخص بعوارض مرضه ويعيّ بعواقبه في حال لم يتخذ خطواته نحو التغيير، نحو العلاج!!..


 وتلك هي لحظة الاختيار!!


وبتلك اللحظة اتخذت فريدة اختيارها، وهي على وعيٍ تام بكل هذا، وبعيدة جدًا عن حيز التنفيذ!!.. ثمة سحابة من السكينة والهدوء تُغلف عقلها.. الصخب والضجيج رويدًا يندثر من حولها، ضجيج كل شيء؛ الاشخاص، ماضيها، حاضرها، وطنين أفكارها المشوهة.. جميعهم اختفوا، وكأن شخصًا ما كبس زر وانطفأ كل ذلك من بعده، حتى لم يبقى سوى صوت خرير الماء وهو يداعب فروة شعرها بتلذذ، بينما هي مستلقية تحت صنبور الماء ومُسَلمة رأسها لإحدى مصفِّفات الشَّعر كي تعتني به..


- انتهينا..


”عودة للواقع المرير من جديد!!“


شكرت فريدة الفتاة بينما تمسك بمنشفة صغيرة مستكملة تجفيف شعرها من قطرات الماء، وفي قرارتها تمنت لو أن الأمر قد استطال أكثر من هذا لتنعم بمذاق الهدوء الذي لم تتوقعه حينما عادت لمُعاقرة تلك الأدوية بعد إيقافها لسنتين.. تعهدت حينها أنها لن تتناولها مجددًا كيلا تدمنها.. كانت تعلم أنها لمجازفة كبيرة أن تخوض في الاعتماد على هذا النوع من المهدئات، وهي على دراية بعواقب المداومة عليه والوقوع بإدمانه، وأنها بذلك تُنفذ انتحارها ببطيء ليس إلا.. كانت على علم بأنها بمرور الوقت ستتحول لمدمنة يائسة، ومحض صورة باهتة عن المرضى الذين قصدوها يومًا للعلاج..

خاصةً، مريضة بعينها لا تنفك تأتي على بالها هذه الأيام..

'صوفيا'!!

تشققت شفتيها بابتسامة باهتة مخضبة بمذاق الألم والسخرية.. 'جاستن' اللعين، كان مُحق في كل حرفٍ قاله، حتى حينما خصها بالشبه مع زوجته!!.. إلى أي مدى يمكن أن تتشابه حياة أناسٍ كانوا يومًا بعيدين كل البُعد؟؟.. فإحداهما كانت مريضة، والأخرى مهمتها علاجها.. والآن، فإحداهما مريضة، أما الأخرى..

قد قُتلت!!

وها هي تسلك سكة الاعتماد على المهدئات، كما سلكته من قبلها 'صوفيا'؛ فقط لأنها مجبرة على التعايش مع واقع فُرض عليها قسرًا وتساقطت كامل دفاعتها النفسية في وهم التأقلم معه، حتى ارتأت الإدمان حصنٍ آمن سيحميها مما يدور حولها.. ولو بشكل مؤقت.. حاليًا يكفيها هذا، أن تراقب العالم بعينٍ خاوية من كل شيء، الخوف، من الألم، وكذلك خاوية من الشغف، والرغبة في الحياة.. هذه المرة ستكون مستسلمة تمامًا لمصيرها ومرحبة به، مخدرة حد الانتشاء لتبتسم في وجهه دون ألم، بينما يحز عنقها مجددًا بسكينه التَـلِم!!

يريدها كجسدٍ حاضر وستكون له كذلك، لكن عقلها ستتكفل بحمايته هذه المرة، تحفظه داخل فقاعة من السكينة الزائفة والراحة الوهمية، وستحفظ معه روحها المنتهكة، ستُخبئ كل ما تبقى منها داخل تلك الفقاعة.. لن ينجح الأمر إلا بهذه الطريقة، ستمنحه كل ما يريد وستمنحه فوقه الكثير من الابتسامات وايماءات الطاعة المحببة لقلبه، لكن لا مزيد من الانهيارات بعد الآن!!

إذا كان عليها أن تفعل ذلك مجددًا، فليس عليها أن تخاف مجددًا، أن تعاني، أن تتألم.. ليس عليها أن تشعر بشيء، وذلك أبسط حقوقها!!

لقد اختارت، وبالنظر إلى الوضع ليس لديها شيئا لتخسره إذا انغمست في الادمان!!.. سيستغل إدمانها؟!.. بلا شك سيفعل، ولكن ما الجديد في ذلك، فمنذ أن عرفته وهي واقعة تحت وطأة استغلاله، حتى بعد أن انتهت!!.. معه، لا وجود لمستقبل، لا عائلة، أو حياة تستحق أن تُعاش.. لا شيء جدير بأن تكون واعية للشعور له.. لا شيء أبدًا، حتى نفسها، ونفسها بالأخص ما يجب ألا تشعر بها!!.. بالمعنى الأدق، ذلك ما تنشد الهروب منه!!

- أجلب لكِ مشروب أم تحلية؟؟

دنت منها مريم لتسألها باهتمام، وقد كانت شاردة للحد الذي نست معه ملازمتها لها، وعندما فعلت، أخبرت أن لا رغبة لها في شيء.. ومن ثم تحول شرودها من داخلها لخارجها، راقبت فيه حركات مريم من خلال المرآة، وهي تراجع مع العاملات قائمة تصميمات الأزياء التي طلبوها، تدقق في كل شيء وتعفيها من التفكير في تلك الأمور التافهة.. عندما انتبهت مريم لمطالعة فريدة لها، منحتها ابتسامة ودوده قبل أن تعاود سؤالها من جديد إذا كانت تحتاج لشيء.. هزت فريدة رأسها بالنفي، وهي تفكر بأنها تبالغ كثيرًا في اهتمامها أكثر من كونها وظيفة وتؤديها، وارجحت السبب وراء ذلك أن أدهم قد أوصاها بها، والسيدة الأمينة تنفذ وصية ربيبها عن ظهر قلب، بعد أن آتى بها إلى قصر العائلة؛ حيث من المقرر عقد القران هنا.. فقط، هكذا، بنبرة تسلطية يقرر موعد زواجهما، للمرة الثانية، دون الرجوع إليها، وكأنها شبح غير موجود!!.. كانت تغلي غيظًا من معاودته لسيطرته الحقيرة، الآن باتت تعرفه أكثر بعد أن خلع قناع النُبل!!

اللعين، مَن يراه وهو يأمرها بتجهيز نفسها لمغادرة المستشفى سيظن بأنها مَن كانت ترقد هناك وليس هو!!.. صدقًا، كان لديها كل الحق في عدم تصديق إمكانية موته، فكانت المرة الأولى التي تراه في موضع ضعف، مريض كمثله من البشر العاديين!! .. وكادت أن تفعلها وتصدق لتنكسر كراهيتها وتلين نيران قهرها، لولا ما فعله اليوم بعد عودته سريعًا لصورته المتجبرة التي تعرفها، ومن قبله ما فعله مع الطبيب!!

- لن أُخفيكِ سرًا، بالكاد أحتوي سعادتي منذ أن عرفت بعودتكما معًا من جديد، أدهم يستحق تلك الفرصة وأنتِ كذلك.. قد تظنين أنني أخبرك بهذا الآن لمَعَزةْ أدهم لدي، لكن صدقيني، أنا مَن شاهد الصورة من بعيد، ورأيت كم أن كلاكما تحبان بعضكما، وكلاكما جدير بفرصة ثانية من أجل ذلك الحب.. أنا لا أضغط عليكِ من أجل أن تسامحيه، وإنما يكفي تعرفي أن أدهم الذي تَزَوَّجْتِ منه بأول مرة يختلف تمامًا عنه هذه المرة!!.. ما حدث فيما مضى قد غيّر فيه الكثير، وبمرور الأيام سيثبت لكِ صدق ذلك..!!


”ها نحن هنا مجددًا..

أدهم تغير،

أدهم أصبح شخصًا آخر،

أدهم يستحق فرصة ثانية،

أدهم الحالي بإمكانه أن يرمم كسرك،

بإمكانه تعويضك عما أتلفه بداخلك..

أدهم حمايتك رغم التهديد الذي يمثله عليكِ!!

تريين ما فعله ويفعله من أجلك؟!

لقد قدم روحه فداءً لكِ عما اقترفه!!

فلتسامحيه، ولتنسي ما فات!!

أليس لديكِ قلب، عليك اللعنة!!“


سحقًا لتلك الأفكار اللعينة، كالخلايا السرطانية تنتشر داخل عقلها بسُمّيَه كلما تستأصلها، لتجد نفسها، ودون أن تدري، تعود لتتبناها وتستخدمها لتُدافع بها عنه أمام نفسها.. تبرر له وتبرر لنفسها من قبله!!.. الحقيقة الجَلية هنا، أنه نجح في سحق إرادتها فالابتعاد عنه.. وبالأساس، كيف السبيل للابتعاد عنه، وهي لا تريد؟!

رأسها آلمها، الأفكار التي تعُج داخلها تعمل بقوة ماكينات مصنع عملاقة ذات ضجيجًا بدأ يطفو على السطح ليعكر مزاجها وينزع منها الهدوء والاسترخاء، لذلك زفرت ما في جوفها بمرارة مُضاعفة لتُداري ذلك، ثم سألت مريم دون مقدمات وكأنما لم تسمع ما قالت:

- أين 'بلوتو'؟؟

أخذت الأخرى بعض الوقت لتعرف أنها تسألها عن كلبها الصغير، وأجابتها:

- آها.. لقد تركته بالمطبخ يتناول طعامه ريثما تنتهين!!

أمرتها فريدة بطرف عينها وهي تراقب عبر المرآة الفتاة التي تعبث بشعرها:

- لم أرسلك لتجلبيه من الشقة كي ترميه بالمطبخ وحيدًا.. هاتيه هنا حالًا!!

لم تفهم مريم ما سر العداء البائن الذي تُعاملها به، فلأول مرة تخاطبها بنبرة الاستعلاء تلك، بطيبة قلبها ارجحت هذا لما مرت به، وإذا كان لا دخل لها ي ذلك!!.. لا تعرف، حقًا عقلها يُتعبها كلما اجتهدت في فهمها، سواء هي، أو أدهم!!

بهدوء وتحفظ، انسحبت لتُحضر لها الكلبة.. وفي أثناء ذلك، تصادفت مع دخول سمر التي أتت بهذا الوقت المبكر كي تتأكد من أن كل شيء يسير وفق ما ترغب..

تفاجأت فريدة بوجودها خلف كُرسيها تحتفظ بابتسامة متكلفة وترمق انعكاسها بالمرآه:

- كِنّتي الغالية، مرحبًا بكِ في عائلة الشاذلي للمرة الثانية!!

تسطحت قسمات فريدة واعطتها ابتسامة متكلفة خالية من الشعور، فقد ظنت بأنها منشغلة بتجهيزات الحفل ولن تراها إلا بالوقت المحدد.. لكن ها هي لم تمضي ساعة على استقبالها لها حينما أوصلها أدهم، وقد اتت لتقف فوق رأسها، وكما هو واضح أنه لا نية لها بتركها!!

استطردت سمر بينما تمرر عينها على هيئة فريدة وما حولها:

- أخبريني، كيف يسير يومك، هل ثمة شيء ينقصك؟؟

تشكلت عقدة بمعدتها ما إن رأتها خلفها، وتلقائيًا تداعت كلمات من حديث أدهم عنها بالمركب لتغتم نفسها ويصيبها الغثيان.. كادت أن تنسى، أجل، كادت أن تنسى ما فعلته تلك المرأة بطفل لم يبلغ عامه العاشر، وإذا كان طبيعيًا أن تنسى هي لأنها لم تمر بالحدث، فمن المستحيل أن ينسى هو!!.. ضاقت جدران صدرها أكثر وبضع خيالات مقززة تطوف بذهنها لتجسد لها ما أقدمت عليه تلك الشيطانة، والتي بدورها صنعت لها المارد الذي ابتلعتها نيرانه والتهمت ألسنتها كل ما بها!!.. لوهلة انقشع أثر المهدئ وعاودها شعور التشتت والانقسام ذاته بين مَن الجاني والمجني بقصتها.. تضارب الأفكار والمشاعر بداخلها كان جنونيًا، لكن ما سيطر عليها تلك اللحظة هو النفور والعدائية الشديدة الموجهة لسمر، وكان لديها رغبة وحيدة، وهي إنهاء أي حوار قد يكون بينهما!!.. ولولا بطيء تعابيرها المعتاد لانجلى تقززها واشمئزازها حتى من لمستها السطحية على كتفها!!

تململت فريدة في كرسيها محتفظة بابتسامتها البلاستيكية لتقول بنبرة موحية:

- وكيف ينقصني شيء وأنتِ فوق رأس الجميع؟؟

ضمت سمر شفتيها ذو الطلاء البني الشاحب لترمقها من خلال عشب عينها بثقة متعاظمة:

- طبيعي حبيبتي أن أكون فوق رأس الجميع، هذا هو الوضع الطبيعي، طالما أني سيدة العائلة الأولى.. لا تنسِ ذلك!!

لم يخفي على فريدة التهديد المبطن في كلماتها السخيفة، لتردف بلامبالاة وبشكل صريح مُعربة استخفافها بما قالت:

- لا داعي للقلق على مكانتك، صدقيني آخر همي أن اتصارع من أجلها.. اطمئني!!

رفعت الأخرى حاجبها المنمق لتُبدي دهشتها أو عدم تصديقها، لم تتبين فريدة ايهما، ولكنها بالنهاية ربتت على كتفها في استحسان اتبعته بإحدى جملها المسمومة:

- يروقني أن الوفاق الذي بيننا، لازال بيننا!!.. لا أُخفيكِ سرًا، كنتُ قد بدأ اظن بأنكِ تتجنبيني منذ عودتك أنتِ وأدهم!!

حسنًا، كانت فريدة بالفعل تتجنبها، بل وتخاف مواجهتها أيضًا بعد ما علمته، متتبعة المقولة التي تقول؛ "لا تخف من الوحش الذي أمامك، بل خف ممَن صنعه!!".. لكنها اصطنعت الاستنكار كرد طبيعي على حرباء متمرسة مثلها:

- ولمّ قد اتجنبك؟!

- أنا أيضًا سألت نفسي ذلك السؤال، لِم قد تخسرين المرأة الوحيدة التي ساعدتك في لَمّ الشمل على ابني الغائب؟!

كلماتها المتوارية خلف الكلمات أصبحت كثيرة جدًا وثقيلة على عقلها لتفسرها، إضافة إلى تأثير المهدئ في جعل اعصابها خاملة لا طاقة لها على الثرثرة، لذلك ارتأت أن تُجاريها؛ فآخر ما كان ينقصها تكوين عداء جديد، يكفيها ما لديها بالفعل:

- بالطبع حماتي الغالية، لن أنكر مجهوداتك في عودة أدهم من غيبته الطويلة!!

طُرق الباب لتفوت مريم حاملة 'بلوتو'، ابتهجت ملامح فريدة على الفور وهي تتلقفه بين أحضانها وتغمره بقوة.. سمعت سمر وهي تغير دفة حوارهما بحماس مصطنع:

- إذا كان كذلك، فدعيني أساعدك بنفسي لاستكمال تحضيراتك..!!

التفتت لمصففة الشعر تسألها بنبرة تسلطية:

- أي تصفيفه شعر ستقومين بها؟؟

- تلك، سيدتي..

اجابتها الفتاة بينما توريها صورة معينة على جهاز لوحي كبير، لتُبدي سمر استياءها وراحت تُقلب في الجهاز اللوحي حتى توقفت عند أخرى، وقالت:

- لا، هذه ستكون أفضل.. ما رأيك، فريدة؟؟

دُهشت فريدة من أنها تُشركها في ذلك وقد خالت أنها تستفزها بتقرير ذلك عنها.. مررت لسانها على شفتيها بدلًا من استخدامه في السباب لتختار الحفاظ على القدر الضئيل من الطاقة النفسية التي لديها وتمرئ ذلك اليوم بأي شكلٍ كان:

- أي شيء سيكون جيد!!

- أي شيء؟!.. أنتِ فريدة الشاذلي، يجب أن نختار أفضل شيء!!.. هيا، ستفعل هذه..

حملقت فيها بجمود دون رد بينما تدلك فروة كلبها بقوة لتفرغ غيظها الذي استثارته تلك الحمقاء بمحض كلمة!!.. اقتران اسمها باسمه كان له الأثر المقبض ذاته المضاهي لحضوره، والمُنبئ بمصير قاتم يعيد كل نكبات الماضي!!.. وأدت ذلك الشعور المرير من فوره بسبب ثِقل رأسها والنعاس الذي يداعب عينها، وتمنت في هذه اللحظة لو يرتكها الجميع وتنام، تبًا، إنها هي الرمة الاولى التي تشتهي النوم منذ أمد بعيد وصُعب عليها عدم استغلالها.. لم تتخيل أن يأتي الدواء بتأثير أكبر من التهدئة ولكنه فعل!!.. تجاهلت رغبتها في النوم حينما انتبهت للمصففة وهي تنوي وضع مزيج أبيض نفاذ الرائحة على شعرها دون أن تعلم ماهيته.. سألتها فريدة بنبرة غير متساهلة:

- ماذا تفعلين؟!

- سيدتي، هناك عدة خصيليات بيضاء، سنصبغها أولًا ونعيد معها حيوية اللون للشعر..

فسرت الفتاة بارتباك، لتستنكر فريدة ذلك وقد حاصرها بالانزعاج من كل زاوية ولا تعرف إذا كان السبب الرائحة الخانقة لخليط الصبغة أم لرغبتها بالنوم التي تمتنع عن تلبيتها بسبب كل هذا الهراء؟!.. ابعدت يد الفتاة بحدة:

- لا، لا يهم.. انجزي عملك على الفور ولا تُطيلي مدة جلوسي على هذا الكرسي!!

- فريدة، ما بكِ؟!.. دعي الفتاة تكمل عملها.. ثم ما رأيكِ أن تغيرين لونه الباهت ذلك..؟؟

استوقفتها سمر باهتمام مفتعل ثم أمرت الفتاة:

- ارينا ما لديكِ من صبغات؟؟

قضت بعد الثواني تتمعن في الألوان المتعددة في الجهاز اللوحي، لتختار منه واحدًا ثم عادت لفريدة:

- ما رأيك بهذا اللون، فريدة؟؟.. سيلائم جدًا بشرتك!!

- نعم، الأشقر البلاتيني سيليق بكِ، سيدتي..

أيدت المصففة ذوق سمر لتتجمد أعين فريدة على اللون الذي انتقياه لها وبلحظة انقشع تأثير النوم واصبحت متيقظة جدًا، ثم تمتمت بهمسٍ ذو بحة فاقدة للحياة وهي تعني كل حرف:

- أجل، بالطبع.. سيليق بي!!.. أليس كذلك مريم؟؟

وسألتها بينما تحدق فيها من خلال المرآة، تنتظر أن ترى بعينها أي شيء يدل أنها ليست وحدها من خامرها الشعور ذاته.. ليست وحدها من تذكرت المرة الأولى التي شَقرّت فيها شعرها!!.. وليست وحدها من تسمع رنين صوته السام يطن في خلفية رأسها بطريقة لاذعة كضربات سوط، عندما هسهس لها قبل أن يجز شعرها دون رحمة..:

”اللون الأشقر لا يليق بكِ، بيبي!!"


❈-❈-❈


تهدجت أنفاس عادل من طريقته وحاول أن يستشف القادم هادرًا من بين أسنانه:

- لو أخبرني أحد من قبل أن نهايتي ستكون علي يدك أنت، أدهم، ما كنت لأصدق قط!!

اندفع أدهم بجسده ليميل عليه مهسهسًا بقهر وتوجع:

- ولو كان نفس الشخص أخبرني أن الخيانة الأعظم بحياتي ستأتيني منك، لكنت قتلته!!.. لنقل أن فريدة لم تعنيك، ولكن أنا؟؟ ماذا عني؟؟.. كنت تراني وأنا أقتلها وانتحر معها، كنت تشهد على احتضاري، موتي بالبطيء، ومع ذلك آثرت أن تخفي الحقيقة!!.. إلى الآن لم أستوعب أنك فعلت ذلك.. أنت كنت صديقي الأوحد!!

- وأنت كنت كل عائلتي!!

جأر بها عادل حتى نفرت عروق نحره وتناثر الرزاز من فمه، بينما يشد قيوده ليقترب من أدهم قدر الامكان.. ازدرد ريقه بعدها وقد بزغت الدموع بعينه ليستطرد بصوتٍ مدمر وحقدٍ مستعر:

- لكن ذلك تغير حينما أتت تلك الأفعى!!.. لقد شعرت بهذا.. شعرت بتغيرك حينما أتت.. لم تعد معي كما كنا، بالكاد كنت أراك.. كل وقتك وتفكيرك معها، حتى العمل أهملته من أجلها.. شعرت أنني أفقد عائلتي حينما أتت هي واستحوذت عليك!!.. شعرت بالخطر، بأنني سأفقدك كما فقدت كل عائلتي، سأعود مشرد وحيد، غارقًا في بؤسي كما كنت قبل وجودك!!.. ما كنت لأخاطر بذلك أدهم، أنت لا تفهم معنى الظلام الذي كنت به قبلك!!.. موت أخي، ثم انتحار والدتي أمام أعيني، ومن بعدها جدتي، ولا وجود لِـ أب!!.. الجميع غادرني ورحل، لم يرد أحد البقاء معي، إلا أنت!!.. وبوجودها فقدتك!!.. وجدت ذلك الظلام يهدد بابتلاعي مرة أخرى.. آسف أخي، لم أكن أملك خيار!!

زمَّ أدهم شفتيه في خط مستقيم وهو يغلق عينه ويصم قلبه عما سمع:

- لا تقلق، الليلة سأمنحك واحدًا!!

زفرها لتغادر حلقه بصعوبة وهو ينهض عنه، وقبل أن يغادر الغرفة أضاف بجمود دون أن يلتفت:

- أنا أيضًا آسف، عادل!!


❈-❈-❈



- أخبرني عادل، هل ما زلت لا تؤمن بالقدر؟؟.. حقًا، عليك مراجعة نفسك بهذا لاحقًا!!.. هذا القدر.. غريب!!.. يرد الضربة الصاع صاعيّن، ودون حتى أن نعلم بهذا!!.. ما أقصده هنا، أنك أردتني أن أرى فريدة خائنة، في حين أنك أنت مَن تعرض للخيانة هنا!!

تسمرت أعين عادل بعدم تصديق.. عن أي شيء يتحدث لم يكن لا يعي بالضبط!!.. أولى نظره لها، يسألها ربما لديها الاجابة ولكن لم يجد سوى تعابيرها المتسطحة غير مكترثة بأي لعنة تحدث.. وهذا تمامًا ما حرك أدهم ليُقبل عليها ويحدثها بنبرة مصطنع التأثر:

- آووه، تبًا، لا تخبريني ليليان أنه لا يعلم بما فعلتيه!!.. تجسسكِ عليه، ومن ثم تقديمك البلاغ ضده!!

رفت عينها لجزء من الثانية.. هذا كل ما حصل عليه، ليعود بنظر إلى عادل الذي لازال في طور الدهشة والانكار:

- لا تعلم عادل حقا؟؟ لقد خمنت ذلك.. مع الاسف هي فعلتها.. خانتك!! .. تلك التي تكفلت بحمايتها طول سنوات.. منذ الليلة التي انقذتها من جاستن، وأنت تتكفل بها وتقف إلى جوارها في كل حماقة تصدر منها.. طالما حذرتك من عشقك لها، أخبرتك أن العهر في دمها ولا شفاء منه، ومع ذلك أنت أخترت ذلك وأصررت عليه.. ألم تلاحظ شيئًا بهذا؟؟.. أنا لم أوقفك عن ذلك، ولم أحجر على اختيارك بدافع حمايتك من نفسك، رغم أنني كنت على صواب!!.. ذلك لأنني ميزت الحب بعينك، وعرفت كم أن تأثيره يُظلم العين ويصم الاذن.. وأتعرف أيضًا ما الجزء الاكثر إثارة بالقصة؟؟.. مَن تكفل بحمايتها وإخفاء هويتها عنا، هو جاستن!!.. ذلك الذي وضعت يدك بيده وتحالفت معه ضدي.. أهناك ما هو أروع من هذا انتقام؟!.. حسنا، كان من الممكن أن أكتفي بعدالة القدر كعقاب لك، ولكني ارتأيت أن أسوء عقاب ، هو أن تخوض ما ألمتني به!!.. أن تكون الشخص المسئول عن إيلام من تحب.. تقتله بيدك، وبكامل إرادتك.. إنك بحاجة لتدرك اليأس الكامل الذي أشعر به.. وستدركه، أعدك بذلك!!


❈-❈-❈


- هاي ليليان، أظن بأنكِ قد فطنتي لماهية هذه الإبر!!.. حسنًا، نعم ما توقعتيه صحيح.. إنه مخدرك الأثير!!.. ما رأيك؟، لابد أنكِ تتوقين ولو لجرعة صغيرة منه، أليس كذلك؟؟

حدق عادل الإبر بصدمه:

- ماذا؟؟.. أدهم.. ماذا تنوي أن تفعل بحق الجحيم؟؟

أردف أدهم بصوتٍ رخيم ليجيبه:

- أخبرتك أنك أنت مَن سيفعل.. أنت مَن بيده الاختيار الليلة!!.. كل إبرة من هاتين الإبرتين معبئة بربع جرام من (الكوكايين) المخلوط.. لا تقلق عليها، فجرعتها حسبما تعرف تتعدى الاثنان جرام يوميًا.. أعنى أن هذه الجرعة لا تُذكر بالنسبة لها.. وبالتأكيد المتعة لم تنتهي هنا!!

الترقب والخوف نهش قلبه من القادم.. طالما كان يخشى ذكاء أدهم الحاد وقسوته، خاصة في الانتقام.. والآن، لا شيء ُ برهبته منه!!

أكمل أدهم بعد أن تأكد من أنه قد حصل على كفايته في إرهابه:

- إحدى هاتين الإبرتين ممزوجة بسُمّ (الكوراري).. وهو سُمّ نادر وقاتل.. يشل الجسد والجهاز العصبي ويوقف عضله القلب خلال 15 ثانية.. الخيار لك الآن.. بأي الإبرتين سأحقنها؟؟


❈-❈-❈


- لا بأس، عادل .. اختر أي واحدة!!

فتح عينه التي كان يوصدها بألم على ما قالته ليليان.. ابتسامه شاحبة أخذت موضعها على شفتيها، ودموع لمعت بعينها بينما تومئ له برأسها مطمئنه:

- أنا مستعده لأي نهاية، عادل!!.. لا تخف أنت لست مسئول عن النتيجة، لن تتحمل ذنبي هذه المرة، يكفي ما تكبدت من أجلي طوال هذه السنوات، وما كنت مستعد لمنحه فوق كل هذا، دون أن تأخذ في المقابل أي شئ!! .. لا بأس، اختر و ضَعْ حدًا لشقائي، من فضلك!!

تفتقت نياط قلبه لحديثها وكم تمنى لو أمكنه غمرها بحضنه هذه اللحظة، طالما كان هذا ما تحتاجه!!.. كم الألم الذي حملته بعينها كان يعرف مصدره.. لم تخبره من قبل عن ذلك، إلا إنه كان يعلم.. يعلم أنها أقوى مَن رأى في حياته!!.. حتى في أحلك لحظات ضعفها لم تشكو لأحد ولم تبكي!!.. فضلت أن يضعها الناس بصورة سيئة، على أن يرون مدى هشاشة قلبها.. وكل ما كانت تحتاجه هو حضن!!.. حضن يطمئنها، دون شهوه أو مصلحة .. حضن صادق ودافئ .. كحضن أخيها!!.. وتشهد السماء أن هذا ما أراد أن يمنحها إياه دون تكليفها أي كِدّ، ولكنها لم تعطيه الفرصة أبدًا!!

- اليمنى!!

تشنجت أعصاب فكه وهو يلفظ هذه الكلمة الثقيلة بصعوبة.. رباه، ما هذا الاختبار الصعب!!.. ليست حياتها فقط، بل حياته هو أيضا متوقفة على اختياره!!.. بات يسمع دوي دقات قلبه التي تهرع بجنون داخل صدره.. عينيه معلقه بها وبابتسامتها الرائعة.. نعم، هذه المرة كانت تبتسم له من قلبها بصدق..!!

 وله فقط!!

غرز أدهم الإبرة داخل أوردتها عنقها بأعصاب جامدة.. وما لبثت أن ظهرت النتيجة!!

العديد من الرغاوى البيضاء بدأ تنساب من فمها مع ارتجاج جسدها بتخشب وبعنف، حتى انقلب بها الكرسي وسقطت أرضًا على جانبها!!.. وبين زيغ عينيها رأته، بملامحه الضائعة والملتاعة.. يُحدج أدهم للحظة، ومن ثم يعود ليرمقها بعدم استيعاب وقد توقفت الكلمات في فمه.. لم يدرك بعد النتيجة!!

”حسنا، إنها النهاية عادل..

هذه هي محطتي الأخيرة في رحلة الألم.. والشيء الجيد بالأمر،

أن لا ألم بعد ذلك!!“

- براين؟!

همست بها أخيرًا دون صوت وقد تحجرت عيناها وسكنت عن الحركة بعدما سُلب من زرقتها نور الحياة..!!

غمغم أدهم في نفس الوقت بجمود ونبرة فاقدة للشعور:

- اختيار خاطئ!!


❈-❈-❈


- اختيار خاطئ!!

في غفلة منه، تمتم عادل بحقد مُضرم ملأ قلبه وروحه قبل أن ينضح به لسانه، لتعبس ريم في وقتها قاطبه حاجبيها باستغراب:

- ما الخاطئ، أوليفر؟؟.. أيعقل لم يعجبك ما أرتدي؟!

على كلمتها، وعيَ على نفسه معها ولكونه قد شرد، كعادته كلما رآها أمامه حاصرته تلك الذكرى اللعينة لتغذي روحه بنيران مستعرة تُحرضه على التهامها.. رمقها من جديد باحتراز شديد بينما يفترش الأريكة بجسده، ليجد أنها قد شرعت في محاولة إرضاءه من تلقاء نفسها، وارتدت ذلك الطقم الأسود المفضل لديه، والذي أتى به خِصيصًا من ألمانيا كي يصل بمتعه أقصاها من ذلك اللقاء!!

توترت ريم في وقفتها، فمنذ أن باغتها بقدومه لمصر قبيل نصف ساعة وهو يعاملها بجفاء شديد على عكس ما توقعت أنه قد أتى ليُصالحها بعد فعلته الدنيئة معها!!.. مضت ساعة منذئذ، قضى نصفها في توبيخها ولم يعطيها أبدًا الفرصة في إبداء الغضب منه، ففور أن أخرج لها من جيبه كيس مملوء بالكوكايين حتى اندثر من قلبها أي أثر للغيظ ولم يبقى داخلها إلا اللهفة لجرعة وانتهاء هذا العذاب.. ليُفاجئها فيما بعد بأن عليها الاعتذار منه وأن تُرضيه بطريقته وإلا لن تحصل على شيء!!.. مصرحًا بسفالة وغطرسة:

”إذا استطعتِ جعلي أسامحك، سأمنحك قد ما تشائين من المخدر.. اقنعيني!!

ولم تفكر مرتين، فدون تردد هرولت لترتدي ما يحب.. في نفسها، كانت تعلم أنه يفعل ذلك كمحاولة متوارية ليُصالحها دون أن يبدو أنه يفعل هذا!!.. فبرغم فارق العمر بينهما إلا أنه كان يحبها، بل يعشقها.. أما هي، فلم تكن ترى في الوجود سواه، يكفي أنه حبها الأول، ولزمنٍ طويل عانت من حُبهِ من طرفٍ واحد!!

كلما أصابها الحزن منه، لا تتذكر إلا تلك الأوقات التي كانت تتلهف فيها لنظرة واحدة من عينيه الآسرة، حرق قلبها برفضه لحبها أول مرة بحجُة صغر سنها، وأنها شقيقة صديقه، ولا يراها سوى كأخت صغرى له!!.. لسنواتٍ، عكفت على متابعة حساباته سرًا ولم تمل أبدًا من تصفح صوره والاحتفاظ بها، وفي بعض الأحيان، كانت تتردد على أدهم فقط من أجل رؤيته!!.. لذلك حتى وإن قالت أنها ستهجره في لحظة غضب غاشمة، ففي الحقيقة، هى تفضل الموت على ذلك!!

- بالطبع، تعرفين كم أحب رؤيتك فيه، وأحبك أكثر عندما لا تناديني بذلك الاسم العربي المقيت!!

أردف عادل ولم تكن قد انقشعت غيمة عينه بعد، وقد علم أنه يسير على خطاه دون تحريف!!.. ثم نفث دخان سيجارته بتلذذ شديد بينما يُشبع زيتونته اللامعة بنظرة ظفر، يُفصل كل شبرٍ من جسدها العاري إلا من قطعتين من الدانتيل المزخرف بإثارة يُوصل بينهما عدة خيوط سوداء رفيعة تحدد رسمة جسدها تحديدًا، وبالأسفل، كانت ترتدي جوارب سوداء شفافة، طويلة تغطي الجزء الأكبر من ساقيها الممتلئين كما يرغب، ومثبته بأشرطة من الستان ترفقها بسروالها التحتي، لتُكمل كل هذا بحذاء أسود لامع ذو نعل عالي للغاية مكونة صورة باهية الإغراء، خاصة مع قِصر قامتها وكنزة حجمها..

ضحكت عيني عادل ببريق عابث معتق بالخبث:

- هيا، تعالي لِـ (دادي) ليُدللك!!

لم تصدق ريم أنه قد قال ذلك، لتُقبل عليه بلهفة وخطوات غير ثابته، فبالكاد كانت تقف أمامه على ذلك النعل اللعين، شعرت بأنها قد تتهاوى في أي وقت الاعياء والألم الذي ينخر في جسدها.. وأخيرًا قد ابتسم لها!!.. فرج عادل ساقيه على اتساع مناسب لها، ودون تردد، ألقت بحِملها لتسقط في حضنه، وبرحابة، أستقبلها يديه، ضغطها إليه يلف ذراعيه حول خصرها، يبعثر بشرتها العارية وينثر عليها من رغبته ليشعل رغبتها.. لكن بديلًا عن ذلك، سمع أنينها المتذمر بينما ترمي ثقل رأسها في صدره تصر أسنانه في يأسها.. لم تكن تتحمل لمسه منه، جسدها بالكامل في حالة استنفار من الألم، وكأن هناك العديد من الإبر التي لا تنفك تنغرز تحت جلدها دون توقف!!

- أرجوك، دادي!!

رفع وجهها ومرر عينه على كل تفصيله فيها ليُحدد إذا كانت قد وصلت لذروة الألم كي يرحمها أم لا.. لكنه لم يقاوم رغبته في الاستمتاع بتعذيبها قليلًا:

- قلب الدادي.. قوليها مجددًا!!

أمرها بإغواء بينما يوزع قُبل متفرقة على سائر وجهها لتصدر همهمة متبرمة من ريم، فلم تكن في وضع يسمح لها بالاستماع بما يفعله، على عكسه هو، فعلى ما يبدو أنه يرغب في التلاعب بها اليوم، لكن ما لم تفهمه، لمَّ؟!.. فمنذ أن أتى وهو لا يفعل شيء سوى أن يتمادى في أوامره الماجنة وإطالة عذابها، وكأنه قد قطع المسافة من ألمانيا لـ مصر فقط من أجل إذلالها!!

شهقت بخفوت حينما جذبها إليها من خصرها لتهتف بلهفة ممزوجة بالتوجع:

- أرجوك، دادي.. أنا متعبة، فقط أعطيني القليل!!

دث عادل أصابعه في شعرها الداكن يعبث بخصلاتها القصيرة الحريرية بشرود، بينما يحدق بعيني القطط التي تطالعه برجاء شديد، وعلى استعداد لفعل أي شيء في سبيل ولو (سطر) من جرعتها، ليقرر بأنه قد حان وقت المتعة!!

رفع حاجبه بلؤم عازمًا على أن يلّوعها أكثر:

- لا يصح، بيبي.. أنتِ أخطأتِ ولابد أن تبذلي مجهود لتُنسيني ذلك!!

تكدرت ملامحها الجميلة وبدت على وشك البكاء مما قال، فقد كان مسترخيًا للغاية ومستخفًا بما تعانيه، لم تفهم ما خطبه ولم تعرف كيف ترضيه!!.. ثمة هالة باردة تحيط به وبدت كحاجز يفصل بينهما حتى خامرها لوهلة شعور بأنها لا تعرفه!!.. لم يكن معها هكذا من قبل، نعم عرفته بطبعه البارد الغير مبالي، إلا أنه لم يصل حد القسوة!!.. خمنت أن يرغب في أن تزيد من تدللها عليه وتُحايله أكثر، وأن الطقم الأسود وحده غير كافي، لذلك لجأت لأن تفعل هذا متعمده أن تعاتبه بشكل رقيق علّها تستميل قلبه:

- وقد عاقبتني بما فيه الكفاية.. ألا يكفي 3 أيام بدون (كوك)، ها؟؟.. أرجوك، 'أُوليّ'، لم أعهدك قاسي إلى هذا الحد، هل هونت عليك تفعل بي هذا؟؟.. هل تستمتع بألمي؟!

حسنًا، إن جاءت للحق، فهو لم يستمتع منذ زمن كما يفعل الآن!!.. رؤيتها هكذا تتذلل له بهذا الشكل الوضيع، كانت كالدواء لِوجعه الأزلي، تُبدد عنه الجحيم الذي أُودِع فيه على يد أخيها اللعين، تُنبأهُ بأن وقت الاقتناص الحقيقي قد قرب، وقريبًا جدًا سيأخذ كل ذي حقٍ حقه!!

ابتسم، لتبتسم هي بالمقابل، ولم تنتبه قط ان الانتشاء الذى انجلى على قسماته حينها كان باطنه التشفي، ليس الحب ولا حتى الرغبة، كما بدت لها هي!!

ضمها إليه أكثر حتى التصق جانب وجهه بوجهها في حميمية شديدة، ليمرر لسانه يتذوق من وجنتيها الشهية ويمسح على صدغها جاذبًا بالنهاية أحد أقراط أُذنها بلسانه لتصدر منها همهمة طويلة، لكن هذه المرة كانت متأججة بالرغبة.. ليعود ويتناول شفتيها في قبلة محمومة، ليبث لها فيها كل ألمه، كل قهره، كل غضبه، وليس أشواقه!!.. وهكذا شعرت ريم، في كل مرة يقُبلها، تحس بجانب آخر غير اللهفة في قُبلته!!.. جانب قاتم ارتأت أن تفسره بأنه إحدى رغباته المظلمة والتي تقبلتها عن طيب خاطر.. فقط من أجل عينيه!!

انتابتها قشعريرة هزت جسدها حينما همس قرب أذنها بصوتٍ اجش جعلها ترتعش بحضنه:

- آوه، بيبي، تعرفين كم أنا ضعيف أمامك ولا يسعني رؤيتك تتألمين.. لكن ماذا أفعل؟، لازلت منزعجًا من فعلتك الحمقاء وتعريض نفسك لخطر الموت بجرعة مضاعفة!!.. ألم تفكري بي وقتذاك؟، هونت عليك تتركيني وحدي بعدما لم أعد ألم في هذه الحياة غيرك!!

ابتهجت ملامحها بمزيج من الخجل والشغف بذلك الرجل الذي هي مولعة بكل ما فيه.. أوقد جسدها دبيب الرغبة ليزودها بالحماس والقوة على بذل كل ما تبقى لديها من طاقة في سبيل إثبات حبها له.. اعتدلت لتحيط خصره بساقيها ثم رمقت بعين تلمع بالشغف ومن ثم بادرت هي بتقبليه بحماس شديد وطريقة عزمت أن تبث فيها كل خبرتها معه.. طافت يديها على عرض صدره تتحسس عضلاته من أسفل القميص، وشرعت في فك ازراره واحدًا تلو الآخر.. فصلت القبلة حميت بينهما لتُمطر وجهه بعدة قُبل صغيرة، همهمت من بينهم بصوتٍ دافئ بالرغبة:

- أنا آسفة.. أعدك، لن أكررها مرة أخرى.. بالأساس، أنا التي لا يمكنني العيش من دونك.. ماذا أفعل أيضًا لتسامحني وترضى عني؟!.. ها؟!

حينما اشتدت وتيرة أنفاسه وشعرت بها تخرج بزفير محموم ومصحوب بحشرجة شهوة، نزلت ببطيء مدروس تنثر قبلاتها على مدار رقبته، ممرر لسانها على خشونة ملمسه، ثم هبطت أكثر لتسير على طول الخط الفاصل بين عضلات صدره، متذوقة كل ما يقابله بنهم شديد.. ودون أن تدري، كانت تقبع بين قدميه أرضًا، ويدها تعمل على خلع حزامه..

رفعت عينها لتقابله، ومن وميضها الذي يشع بالإثارة علم أنه قد وصل لمراده، وقد تملكت منها رغبتها به وفاقت على رغبة المخدر، تأوه بمتعة حينما لمست أسفله عازمة على منحه نشوة لم يحصل عليها قبلها.. إلا أن يديه أوقفتها قبل أن تبدأ، وقبل أن تتساءل، تدلت شفتيها بشبق مرة أخرى، ولكن ليس لاستقبال جسده، إنما لأنه راح يُفرغ بعضٍ من مسحوق الكوكايين على طول رجولته، سامحًا لها بأخذ جرعتها مقدمًا!!

تمامًا كأي عاهرة تأخذ أجرها مقدمًا!!

لعقت ريم لسانها بحركة لاإرادية، إذ بلحظة جف حلقها من فرط الاشتياق، وعادت آلام جسدها بَغتةً بعد أن نسيتها في غمرة استثارتها!!.. حملقت به وقد توقف عقلها لبرهة من جنون رغبته، لكن في اللحظة التي رأت بها تلك النظرة المُظْلِمة وتحرك طرف عينه ليمنحها الإذن، لم ترى أمامها شيء!!

كزّ على أسنانه ليبرز فكه كاظمًا رغبته التي اندلعت في لحظة على إثر تلك الصغيرة، محاولًا تحمل ملمس لسانها الذي يدور ويعبث حول تلك المنطقة، ليلعن وهو يشعر باهتياجها بعدما انتشت من جرعتها.. تمادت في مداعبته بشراسة وإلحاح شديد قبض على رأسها برفق محاولًا التحكم في شهوتها قبل أن تفقده السيطرة.. إلا إنه قد فقدها بالفعل!!.. ليجمع شعرها القصير في راحة يده وبدأ يدفع أكثر إذ تملكت منه الرغبة وألهبته، لكن إنه ما لبث أن أفاق على نفسه فور أن تنبه لمَن بيده بعد أن كان منساقًا وراء حاجته الجسدية!!

ليست هي، ليست كحبيبته ليليان، لم تكن تشبهها حتى، شتان بين كلتاهما!!.. ولذلك لا ينفك يذكرها بكل مرة يكون معها، تلك التي امتلك شعرًا كخيوط الشمس، وعين وكأنها قادمة من قلب المحيط، يوم تطلّ عليه بوجهها الباهي، تضفي الألوان لحياته، تُعطي لحياته معنى.. ورغمًا عنه لم يملك في حبها قرار!!

 أما الآن، أين ذلك الوجه الذي عشقه وأين أنتِ ليليان؟!

أكثر ما يُميت أنفاسه مع كل ثانية، أنه يجهل بأي أرضٍ ترقد هي الآن!!.. حتى رفاهية دفنها وأن يعرف لها قبر، أستخسرها فيه الملعون أدهم!!.. لذلك وعد نفسه، وشدد الميثاق، لن تهدأ روحه إلا إذا أذاق ذلك الوغد من الكأس نفسه!!

وليستخدم جملته ويرد له الجميل يوم اخبره بالحرف:

”إنك بحاجة لتدرك اليأس الكامل الذي أشعر به..

وستدركه، أعدك بذلك!!“


لقرابة الثلاث سنوات يُصبر نفسه بذلك، ويُصبرها هي أيضًا..

ليليان..

ليليان قلبه..!!


تلك التي لم يدخر أدهم جهدًا في تسميم بدنها وتسميمه معها كلما دعاها بـ (العاهرة المدمنة)!!.. وهي التي لم يكن لها يد أبدًا في اختيار أيًا من كلا المصيرين!!.. قريبًا جدًا سيوريه من هي العاهرة المدمنة.. سيوريه صوت وصورة حتى لا يدع مجالًا للنسيان أو محو العار.. سيوريه، ويرى هو كذلك الاسطورة ادهم الشاذلي عملاق الاقتصاد الاشهر وهو يتهاوى من علياءه للدرك الأسفل من الجحيم.. حيث لا أمل في الصعود ثانيةً!!


وهنا، قد أخذ عادل كفايته من تسجيل مقطعه الساخن، من زاويته القريبة للحدث، في غفلة من تلك العاكفة بين فخذيه مغيبة عن الوعي جزئيًا بمزيج قاتل من المخدر ورغبتها.. تركها منهمكة في تأدية عملها كعاهرة متمرسة، ورفع كاميرا الهاتف عاليًا مسلطًا إياه على وجهه المفعم بأثر النشوة ونظرة لا مثيل لها في التشفي والتعاظم!!.. ولم ينس أن يرفع إصبعه الأوسط متخيلًا وجه أدهم أمامه!!


❈-❈-❈



وقفت فريدة تقابل صورتها بالمرآه بعد أن انتهت من زينها وتركها الجميع لترتدي ثوبها.. تأملت مجمل هيئتها، كانت لاتزال بمئزرها الأبيض الحريري، تخللت أصابعها رأسها لتفرق خصلات شعرها البلاتيني متمعنه في تصفيفته الجديدة التي غطت جبهتها بغِرة مستديرة تطول عينيها، فتضفي عليهما بريقًا ذهبيًا.. سعلت بخفة لتطرد الأفكار السوداوية التي تعاودها صُحبة ذلك اللون وانتزعت منها أي أثر للهدوء، وكذلك لتطرد الخشونة التي بطنت حلقها وكأنها ابتلعت حجر جيري، ارجعت هذا للدواء الذي قد يسبب جفاف الحلق كإحدى آثاره الجانبية..

تنهدت مخففة الثقل عن صدرها ولم يفيد اللون الأبيض الذي يحاوطها من كل مكان في تبديد هذا الثقل.. كسى اللون الكريمي على كل شيء بتلك الغرفة؛ الطلاء، الأرضية، الستائر، ولا وجود لأثاث سوى أريكة كلاسيكية التصميم ومرآة طويلة هي واقفة أمامها الآن..

لكن على نقيض المعهود، لم تستشعر الراحة التي يبعثها اللون الأبيض عادةً، ربما لتعارض ذلك هذا مع ما يحتدم داخلها من حرب، تُحيّل الأبيض لقرمزي قاتم، يماثل الثوب الذي انتقته ليوميها هذا!!

أجل، تلك المرة تجنبت اللون الأبيض، فإذا ارتدته أول مرة بسذاجة طامعة في فرصة لحياة زوجية طبيعية، غافلة عن كم الدماء التي تفصلها عن حلمها الساذج ذلك.. أما اليوم، اعترفت بهذا، تعمدت أن تُذكر نفسها بالحقيقة الحتمية في أمرها هذا!!.. أن حياتها مع أدهم قد خُطت باللون الأحمر من البداية، ومُهدت طُرقها بأجساد الضحايا، وإذا ظمأت يومًا معه لن يرويها سوى بالدماء!!

وحياةً كتلك، كان جليّا لها نهايتها حتى ولو أُعيدت كتابتها ألف مرة، فقط لأن ضوء الشعاع الممتد لها من النهاية، لم يكن سوى الأحمر!!

لذلك الأحمر لم يكن بالنسبة لها رمزًا للتجمل وتعمد الإثارة كما يتخيل البعض، ومن بينهم سمر التي لم تتوانى عن الإشارة لذلك، بل كان رمزًا للموت كما تُصوره مشاهد الإعدام.. وذلك هو ما تنتظره اليوم، مهما طالت مدة زوجها من أدهم هذه المرة، لن تنتظر منه أكثر مما ينتظره المحكوم عليه بالإعدام!!

أمسكت بـ(الجمبسوت Jumpsuit) المعلق بالجوار تتمعن فيه، وقد انتقته من بين العديد من التصميمات التي عُرضت عليها، بل وأصرت على لونه الصارخ والذي قد لا يلائم هذه المناسبة، إلا أنها لم تشعر بأن أي لونٍ عداه قد يكون مناسب لها أكثر منه!!..




قُيل لها أنه سيكون مجرد عقد قران يتم في إطار عائلي، ومن ثم سيعقبه عشاء عائلي.. شعرت عندها بالغباء، وهي تراجع ما ذكره أدهم لها هذا الصبح عن أنه سيحرص على أن يصل صيت الخبر إلى مقصده في الجانب الآخر من العالم!!.. لم تفهم كيف سيتم ذلك إذا كان الحدث في إطار عائلي، وبدون حضور الإعلام!!.. توقن بأن ثمة ترتيبات بالأمر لا تعرفها، وإلا لما اهتمت سمر بأصغر التفاصيل في تلك المناسبة!!.. فضلًا عن تدخلها المزعج في كل ما يخصها، لكن بالقدر الذي سمحت به فريدة، وأكبر دليل هذا أنها سترتدي ذلك الثوب رغم أنفها وأنف الجميع!!

الحقيقة أنها لم ترى نفسها في أي زيّ مما عُرض عليها، كم رغبت أن تكون غير مرئية، كانت موقنة من أن لا شيء سيجعلها تبدو جميلة، إما لزيف الزواج نفسه أو لتشوهات جسدها التي كلما نست تذكرها بأنها ستظل دائمًا وأبدًا مشوهه.. لذلك مجددًا كان هذا الثوب أكثر ملائمة لها من زوايا عديدة، يكفي أنه يغطي كامل جسدها عدا رسغيها ومنطقة الصدر والرقبة التي ستتكفل هي بإخفاء الندوب الظاهرة فيها باستخدام أدوات التجميل، ولهذا فضلت أن ترتدي ملابسها بنفسها دون مساعدة أحد.. بالأخير لم يكن بالشيء الجديد عليها، فطوال السنوات الماضية اعتادت فعل هذا لإعفاء نفسها من الحرج والأعين الجارحة!!

أنهت فريدة مهمتها لتصدر زفير عناء ينمّ عن أنفاس كانت تحبسها بين الثانية والأخرى، في محاول فاشلة لحجب تلك الصور الذهنية المؤذية التي تُباغتها كالسهام لتُجسد لها حكاية كل ندبة مما تخفيهم.. تُذكرها بأنها حتى وإن أخفت الندوب، فذلك لا يخفي الجروح التي لاتزال تنزف داخلها، لازالت الضربات تنزل عليها واحدة تلوى الأخرى دون هوادة أو فرصة لتأخذ أنفاسها، تستهدف تلك المنطقة من الصدر وما حولها، ليطوق رقبتها طرف السوط في نهاية الضربة، فيسحبها زحفًا لمسافة أمتار ليسلخ كل شبر من جسدها!!

اعتصرت عينها دقيقة وأكثر رجفت فيها خلجات وجهها وطحنت فكيها معًا، ودون سابق إنذار، ألقت كل ما كان على الطاولة وبعثرتهم في الغرفة بعدما احتدمت المشاهد وتكاتلت أمامها، لتشعر لوهلة بأنها حبيسة ذلك المكان الكريه مجددًا!!.. حضرها اختناق شديد جعلها تقبض على رقبتها بقوة في محاولة بائسة لفكك الضغط الذي تستشعره حولها، وبلحظة تحول وجهها للون الأحمر وبدأ جبينها يندى بالعرق، لتلهث بأنفاس مرتاعة تعرفها جيدًا..

إنها بوادر نوبة فزع!!

فشلت في تنظيم أنفاسها وهي تغرق أكثر وأكثر فيما تتعرض له داخل عقلها، كتمت صراخها وسخطها على ما يفعله بها عقلها، أرادت إفاقة نفسها بأي شكلٍ كان، على الأقل كيلا تُفسد هيئتها:

- لا.. لا.. إياكِ فريدة، ليس وقته، إياكِ!! .. تنفسي، أنتِ هنا، ذلك انتهى!!.. تبًا، ذلك انتهى، أنتِ هنا، سليمة، ليس بكِ شيء، أنتِ بأمان!! .. اللعنة، كلا، لست بأمان!!

لعنت في الأخير بأحرف متلعثمة معترفة بيأس ودموعها تغلبها بانهيار لتُفسد زينتها.. وصلت لحقيبتها بصعوبة لتكب محتوياتها على الأرض ثم انتشلت علبة دوائها على عُجالة وأخذت منها قرص آخر، فعلى ما يبد أن تأثير الأول قد انتهى بعد مضي ساعات، ومن ثم قذفت بالعلبة بعيدًا عنها قدر الإمكان كي لا تبتلع كامل حبوبها وتُنهي مأساتها!!

بالكاد تجرعت قدر من الماء بسبب عقدة البكاء في حلقها، لتسقط بعدها أرضًا تحتضن جسدها الراجف بقوة وثمة أزيز باكي يصدر منها دلالة على مقاومتها للبكاء.. استمرت في إملاء الأوامر على نفسها بانهيار شديد:

- اهدئ!!.. يجب أن تهدئ، لا وقت لهذا الآن!!.. إياكِ والبكاء، لم يحدث شيء، لا يجب أن تشعري بشيء!!.. كفاكِ ما حدث، توقفي عن البكاء!!.. ما تشعري به وهم، كل تلك الأفكار والذكريات مجرد وهم، غير حقيقية، لا يجب أن تشعري بشيء، ما حدث قد انتهى، أنتِ هنا الآن!!.. عليك اللعنة توقفي الآن!!

اعتصرت عينها بقوة لتُحَجِم دموعها المعاندة، منغمسة في ترديد تلك الجُمل بهذيان وصوتٍ خافت يصحبه أنين باكي، وكأنها معركة بين اثنان، أحدهم يُعنف الآخر ليصمت، فيبكي أكثر!!.. كانت منفصلة تمامًا في حالتها تلك، حتى أنها لم تشعر بوجود مَن كان حاضرًا لحالتها منذ أن ألقت عبوة الدواء فور دخوله التي تدحرجت حتى وصلت تحت قدمه، فقط انحنى والتقطها دون صوت مأخوذًا بما تعانيه وعاجزًا عن فعل أي شيءٍ لها.. لكن ما إن قرأ المدون عليها حتى تغضن وجهه وتبدلت ملامحه على النقيض!!

أصوات خطوات خافته من نعل رجالي طرقت الأرضية وجعلتها تنتبها لنفسها وبمشقة فتحت عينها داعية ربها ألا يكون هو، لكنها لعنت فور أن صدمت به يتخطى حاجز أوهامها لينتصب أمامها بكامل هيئته التي تبث الرهبة في بدنها، وكذلك كان أناقته!!.. نهضت بسرعة وعدم اتزان توليه ظهرها محاولة لملمة شتات نفسها كي تُنفي أي ضعف قد يكون رآها عليه.. أي ضعف ينبض بخلاياها الآن جراء حضوره وبهذه اللحظة.. والأهم، محاولة جذب عقلها للوقت الحالي والفصل بين ذكرياتها والواقع!!.. كان مستنزفة بالكامل ولا طاقة لها لإحدى المشادات السخيفة معه، لذلك وجهت كامل غضبها وبقايا أعصابها التالفة لتوبخه بنبرة شديدة العدائية والهجوم تتخللها حشرجة من أثر البكاء بينما كانت منشغلة بإقصاء الدموع عن عينها دون ان تلتفت:

- كيف تجرؤ وتقتحم الغرفة دون إذن؟!

- (فَاليُوم Valium)؟!

كانت هذه إجابته الوحيدة عليه لتتضح الرؤية لها وتلتفت على الفور بصدمة وأول ما التقطته عيناها كان علبة الدواء التي يقبض عليها بين أصابعه.. تلقائيًا اندفعت يديها لتنتشلها منه ولكنه كان أسرع في إبعاد يده عنها مغمغمًا بنبرة محقونة بشرارات الغضب، كما ارعبتها كما استفزتها:

- ما اللعنة التي فعلتيها بنفسك؟!

زوي ما بين حاجبيه يمسح كامل هيئتها الجديدة علي عينه بشكلٍ صادم، وأكثر ما صدمه كان شعرها وقَصّتهُ المختلفة البتة عن شخصية فريدة التي يعرفها.. طالما مقت اللون الأشقر لاقترانه بصورة عاهرة أبيه، بل بصفة العُهر نفسها، أما الآن، فدون أن يدري حضرته ذكرى مختلفة هذه المرة.. ذكرى ذلك اليوم المشئوم الذي قضى فيه على كل شيء جميل يجمعه بفريدة، وما تبعه من قضاءه على فريدة نفسها!!.. ضاق صدره باختناق مماثل لها ليهسهس بصوتٍ باهت بالكاد يميز الحروف التي يلفظها:

- حبًا بالله.. ماذا تفعلين، فريدة!!.. هل تنتقمين مني أم من نفسك؟؟

لم يكن سؤاله محدد أو موجه لشيءٍ بعينه، بل كان استنكار جاحف لكل ما بها، هيئتها الجديدة وكامل أفعالها الهوجاء، لم يفهم بتاتًا إلام تريد الوصول من كل هذا؟!.. رفعت فريدة إحدى حاجبيها وشفتيها ترتعش بابتسامة هازئة:

- حقًا، هل هذه فكرتك عن الانتقام؟!.. إذا كنت تقصد شعري فانا لم اتعمد تغيير لونه، ولم أفكر في ذلك بالأساس، زوجتك أبيك مَن أصرت على هذا!!

زمجر باستهجان:

- وتلك العاهرة ما شأنها بكِ!!.. كيف تسمحين لها بأن تفرض عليكِ ذلك؟!

مطت فريدة شفتيها بعدم اهتمام:

- ومَن قال أنها اجبرتني؟!.. هي فقط اقترحت وأنا لم امانع، أعني الأمر برمته لم يفرق معي!!

ورفعت حاجبها بالأخيرة للإشارة إلى شيءٍ قبل أن تستكمل مشيرة لما في يديه:

- أما هذا فـاا..

قست تعابيره أكثر بينما يحاول معرفة أين وصلت في تعاطي ذلك المهدئ، فربما تتعاطاه منذ فترة طويلة ولا أحد يعلم.. سألها محاولًا التحكم في هدوءه قدر الإمكان:

- هل تعرفين ما هذا؟!..

 ملامحه كانت مخيفة وغير مقروءة، الاستهجان كان جليًا عليه من صدمته في تعاطيها لهذا النوع من العقاقير المهدئة والمشهور بما يسببه من إدمان.. إلا أنها آنذاك كانت بعيدة جدًا عن تمييز ذلك، لازالت دمائها تفور وتنبض بالومضات المؤذية التي هاجمتها قبيل حضوره، والآن، كل ما وصل لها هو إقدامه على منعها من الدواء، كما سبق وقنن استخدامها على المركب.. وعند هذه النقطة، طفح غليها منه وعتم على منطقة التعقل الضئيلة التي كانت لديها، لن تسمح له أبدًا بأن يحرمها وسيلة راحتها الوحيدة مهما حدث!!.. استجمعت جأشها في ثانية وانطلق لسانها محذرًا إياه بلهجة شديدة الجمود:

- لا شأن لك.. هاتِه!!

تضاعف صدمته، وطَن برأسه حديث الطبيب الذي ذهب له صباحًا بعد تركها وقد ارتاب في اخفاءها لشيءٍ ما حينما آتى على ذكر الدواء، لكن لم بتوقع قط أن تكون مختلقه الأمر برمته!!.. أكد له دكتور هشام أنها بالفعل طلبت منه وصفة دواء ممنوعة حينما زارته، وهو ما رفضه، كما أنها ليست أول مرة تُعاقر فيها أدوية دون استشارة طبيب!!.. الأمر الواضح هنا، أن فريدة مُعرضه عن العلاج بجدية وتبحث عن مسكنات مؤقتة ليس إلا!!.. رغم علمها التام بعواقب ذلك، حتى مع تطور أعراضها وانفجارها بأثر رجعي عقب استعادتها الذاكرة!!

- منذ متى وأنتِ تعاقرينه؟؟.. لكم وصلت جرعتك منه؟؟.. كم قرص أخذتِ الآن، تحدثي!!

اهتاجت فريدة وشعرت بحريق ينشب داخلها وأنه الواقف امامها الأن يتعمد استفزازها واستدراجها للجنون حتى بعد ما وصلت له حالتها، فطريقته في التحقيق معها أشعرتها وكأنه يطبق أنفاسها الآن كما فالسابق!!.. هدرت به وهي على وشك فقدان السيطرة واتيان فعل أخرق من أفعالها لتُسكته:

- وما شأنك أنت؟!.. لآخر مرة هاته ولا تتدخل فيّ!!

تقدم منها خطوتان كانتا كفيلتان بجعلها تأخذ حذرها وتتراجع بسرعة، خاصة حينما حدجها بطريقة قاتمة اخترقتها وأرجفت بدنها، كان يثقبها من الداخل وكأنه يفحص ما يدور داخلها.. وذلك أعاد لها مشاعر غير محببة ضاعفت تأثيرها النبرة المتسلطة والمتملكة التي خاطبها بها:

- أنتِ كُلّكِ شأني!!

زم شفتيه بعد ليضبط أعصابه ويربط لجام غضبه الذي انفلت.. سحب نفس من بين اسنانه وليخرج به الكلمات التالية بحرص شديد هذه المرة محاولًا اتباع اللين معها:

- هذا العقار يسبب ادمان إذا لم تعرفي، وأنا لن أقف أشاهدك تتحولين لمدمنة!!

حسنًا، الرجفة بجسدها توقفت حينما أكمل جملته الأخيرة!!.. طالعته بنظرة يعرفها جيدًا، لأنها النظرة التي تُميّتُه في أقل من ثانية!!.. نظرة انبأته برغبتها في قتله إلا أنها لا تستطيع!! .. ارتعش جانب عينها لتتبدد نظرتها تلك وتفاجئه بضحكة مستهزئة لم تنطلي عليه:

- يا رجل، وما المانع؟؟ ها؟؟.. على الأقل هذه المرة ستقف تشاهد فقط، ولن تتكبد عناء حقنك لي بانتظام!!.. حسبما أتذكر لم تبدو لي كمُمَانع فيما سبق بشأن إدماني؟!.. صحيح، نسيت، فقد لديك هدفًا أسمى آنذاك.. قتلي..!!

كم الازدراء والكراهية الذي غلف نبرتها لم يكن بهين، فقد نزل عليه كألسنة لهب تكويه دون تمييز.. لازالت تتذكر كل شيء، وتُذكره معها إذا حدث ونسى، فإذا كان من الطبيعي أن يأتي عليه الوقت وينسى هو فعل دنيء كهذا، فمن الطبيعي ألا تنساه هي!!.. وبلحظة، تسطحت تعابيرها وأصبحت جامدة كالزجاج بينما تضيف بتقلب وكأنها أقلعت عن الفكرة برمتها:

- أتعرف شيء؟، احتفظ به لنفسك، لا أريده!!.. والآن أخرج ودعنا ننتهي من هذه المسرحية!!

أخذ خطوة أخرى قربها لكن هذه المرة لم تتحرك، بالعكس، قد تسمرت أمامه بتحدي وتحفز شديد يتأجج أكثر مع كل كلمة يلفظها:

- بالطبع ستجلبين غيره، أليس كذلك؟!.. دكتور هشام كان محق، يبدو أن لديكِ طرقك في إحضار دواء بدون وصفة طبية!!

التوت زاوية فمها بالكاد لتكسر صلابة وجهها بما يشكل بسمة صفراء متشنجة، وقد انكشف لها كل شيء الآن!!.. الوغد، لم يضيع وقته منذ حديث الصباح وذهب للطبيب إذًا!!.. مهما حدث سيبقى أدهم الشاذلي، بشكه الغير قابل للثقة مهما حدث!!

همهمت بسخرية متوارية وعين تلمع ببريق غريب عليه:

- رائع.. وماذا أخبرك دكتور هشام أيضًا؟؟

- أخبرني بكل شيء عن حالتك، وأنك تعانين من متلازمة ستوكهولم بعد الصدمة وترفضين العلاج!!

غمغم بجدية بينما لازال يتفرس هيئتها الجديدة عليها، تمنى لو بإمكانه أن يقترب أكثر ويُجنب غِرتها التي تظلل حدقتيها كي يأخذ وقته في كشف غموض تلك اللمعة التي بزغت أمامه كالعملات الذهبية الآن!!.. لم يصدق ذلك الطبيب فيما أخبره عن حالتها، وأنها قد طورت أعراض متلازمة ستوكهولم كمحاولة أخيرة من عقلها كي يتأقلم مع الصدمة وما يفرضه وضعها الحالي!!.. فريدة، وستوكهولم؟!.. لم يفهم كيف؟؟.. الأمر كان جنوني بالنسبة له، ماذا يعني أن تتعلق به فريدة أكثر بعدما فعله بها!!

طوال طريقه لهنا ظل يدير الأمر برأسه ويفنده وينفيه، حتى توقف عند ما قالته ليلة أمس بعد إصراره عليها.. ما قالته كان غريبًا صادمًا غير قابل للتصديق بأي شكل لذلك استمع منها فقط ولم يجيب بشيء، فقط لأنه لم يفسر ذلك إلا على قبيل السخرية اللاذعة منه، محاولة لرد الإيذاء له، وحتى وإن كانت صادقة، ففي ذلك الوضع لا يجب أن يأخذ حديثها على محمل الجد لأنها بالتأكيد كانت تهذي!!.. أما أن تصبح مدمنة، هو الشيء الذي لن يتهاون فيه أبدًا!!

- آووه، هل وصلنا لِـ ستوكهولم!! .. حسنًا؟؟.. أراك فارغ اليدين!!

عقبت فريدة وهي تعض على طرف شفتيها لتحافظ على ثباتها اللحظي أمامه، بينما هي في الحقيقة على شفير الانفجار، وعقلها أصبح يعمل بسرعة جنونية بحثًا عن مخرج في حال اصابت التخمين!!

- فريدة، تحدثي مباشرةً وكفاكِ مراوغة واستفزاز!!

هتف أدهم بها في نزق من سخريتها المتواصلة وقد تحولت نبرته للشدة.. هزت فريدة رأسها بخفة وكأنها تؤمن على كلامه لتجيبه بعدها بجمود وجسد متصلب، عبثًا تحاول السيطرة على رجفة فضحت خوفها من صدق حدثها:

- تحدث أنت مباشرةً وقُل لي أنه قد أقنعك بضروري حجزي في المصحة والخضوع للعلاج!!.. ومن ثم أنت هنا الآن، لتجعلني أوقع على أوراق الحجز اللعينة، كما سبق وفعل معي مراد!!

- ما الهراء الذي تهذين به؟!

هسهس باستهجان جمّ، وهذه المرة كانت صدمته كبير، خاصةً حينما وضعته مع الخسيس مراد بخانة واحدة!!.. كان على علم بما أراد الآخر فعله، لكن أن تتهمه هو أيضًا بذلك؟!.. بالأساس، الطبيب لم يأثي على ذكر شيءٍ كهذا، لقد كان متحفظ جدًا بشأن الحديث عن حالتها، وربما قد أخبره ما أخبره به لما سمعه عنه من قبل أن يلقاه!!.. ومن فوره تحولت انفاسه لزفرات من السعير، بينما يتابع استرسالها المتنمر في إهانته ووصمه بالمشين من التُهم، غير منتبهها قط أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن تهب عاصفته هو:

- أم أنك تنتظر حتى يتم عقد القران لتحجزني بصفتك زوجي وتحمل صفة قرابة أولى!!.. أتعرف؟، لن اُصدم هذه المرة، بالعكس، ما سيصدمني أكثر هو عدم استغلالك للوضع!!.. بالطبع، أن أكون فاقدة لعقلي رسميًا، سيخدمك كثيرًا أنت وعصابتك!!.. لما هذا التعبير الآن؟!.. لا تخبرني أنك لن تفعل، ربما تخشى على صورتك العامة.. تخشى أن تنتشر الأقاويل أن زوجة أدهم الشاذلي تتلقى العلاج بمصحة نفسية، معك حق، ستكون فضحية.. لكن الحقيقة إذا سألتني، سأخبرك انها فرصة لا تعوض!!.. لا أعرف، لمّ لم تفكر فيها من البداية فور أن عرفت بفقداني للذاكرة؟؟ بدل لعبة الاختفاء التي مارستها وعصيان جماعتك وكل تلك الأفلام السخيفة.. كنت لتكسب نقطة لديهم، وبنفس الوقت تحتفظ بمظهر الزوج الشهم المُضحي، الذي لم يترك زوجته حتى في مرضها، بل تكفل بعلاجها في أغلى المصحات.. وأنا أثق في ذلك، لم تكن لتقصر معي مطلقًا!!

حاولت.. تبًا، حاولت أن تتمسك بصمودها وابتسامتها المستهزئة وتتجاهل نبيض خوفها.. كانت تتجاهل كل المحاذير التي تبعثها لغة جسده، إلا أنها ابتلعت ريقها بتَوَجُّس باللحظة التي انقلبت فيها تعابيره وباتت قاتمة بالكامل، تطفق عليها مسحة لؤم وشر!!.. فدون أن يشعر، كان قد أقترب منها خطوة وأخرى، ملامح وجه الحالكة تفضح ما ينتوي عليه، ليُفاجئ بها تتعثر للوراء مبتعدة بارتياع حتى سقطت جالسة على الأريكة خلفها، توسعت عيناها عليه باِنْذِعَار بائن مهما جاهت للثبات أمامه!!

غيّم ظل جسده المُرهب عليها بينما ينتصب في وقف أمامها ينظرها من علياءه بخِلاء، واضعًا كفيه في جيوبه، ُبَيّت لها نظرات خبيثة سحبت الدماء من وجهها.. وبالأخص حينما غمغم بجدية وتسلط شديد لا يترك مجالًا للمزاح:

- معكِ حق.. أعدِك سأفكر جديًا بالأمر طالما سيكون هو الحل الأمثل لحالتك، ورغبتك الغبية في تدمير نفسك أكثر وإيقاعها فيما ليس لكِ به علم.. لذا صدقيني، إذا عرفت يومًا أنكِ تعاقرين تلك اللعنة أو أي نوع دواء لم يُوصف لعلاجك، لن أتردد في حجزك، فريدة!!.. أسمعتِ؟؟

راقب شحوبها الذي يزيد دون تأثر وبطرفة عين انحنى عليها يستند بذراعيه على ظهر الأريكة خلفها، ليحاصرها بمزيد من التواقح والغطرسة:

- أو ربما عليّ تركك حتى تقعي تحت وطأة الإدمان بالفعل!!.. تعرفين، حينها سيكون من السهل كثيرًا السيطرة عليكِ ووضعك تحت رحمتي إلى الأبد.. أنا.. وجماعتي!!

أطبقت فريدة جفنيها لتخبئ عينيها عنه، لكن لم تستطع تخبئة قشعريرة جسدها.. وكأنه لم يرى شيء، زاد عليها الضغط وهو يميل مقتربًا أكثر حتى زكم أنفها رائحته، وأغدق عليها من أنفاسه الساخنة، لتنكمش على نفسها قدر المستطاع.. تابع ببحة رجولية مشبعة بعبق الرغبة:

- وسيكون الأمر أسهل وأسهل، إذا وفرت على نفسي جهد التعامل مع مدمنة، واستغليت وضعك الحالي بطريقة أكثر استمتاعًا.. حسبما فهمت فحالة ستوكهولم ليست ببعيدة عن الخضوع!!.. بل تجعلك مُتهيئة تمامًا!!.. ويكفي أنكِ طلبتِ هذا بنفسك أمس.. مما يعني أنكِ لازلتِ تريدينني، وتريدين أي لمسة مني، حتى لو كنت مؤذية وتضيف لآلامك السابقة ألام.. تريدين ذلك ليطهرك، ويخلصك من شعورك العميق بالذنب والمسؤولية!!

عندما وجدها متخشبة على وضعها وكأنها أصبحت تمثال، فقط انفاسها العالية هي كل ما يخبره بأنها لاتزال واعيه به.. لجأ لأن يرفع ذقنها بإصبعيه ربما يجدي هذا معها وتتجرأ وتواجهه عين بعين.. تطلع إليها بابتسامة شيطانية متغطرسة وكأنه يتلذذ بحالتها تلك:

- ما رأيك؟؟.. ربما علينا الاكتفاء بعقد خضوع جديد بدلًا من عقد الزواج؟؟



هذه لفتت انتباهها وجعلها تفتح عينها لتحدقه من أسفل غِرتها بجَهَامَة وكأنها لا تبالي بما يقول أو يفعل!!.. ملامحها كانت صماء تمامًا لا توحي بكونها تشعر بشيء، ومجددًا شكرت داخلها الدواء الذي شرع مفعوله يسري بأعصابها ليُرخيها ويبدد خوفها.. فها هي تحدق بعينه على هذه المقربة دون أن تفر لنهاية الارض، أو تموت من الذعر.. أو تحاول قتله ككل مرة!!.. إلا إنها تشدقت مندفعة دون احتراز:

- وما المشكلة؟!.. لن تكون أول مرة!!

رمقها مطولًا ليستنبط ما تخبئ بداخلها حتى وجد الإجابة بعينها الخاوية!!.. كُحلِها الداكن تحول للون أحمر بطن جفنها من الداخل، ليُذكره بأن التي أمامه لم تنم بشكل منذ عدة أيام، حالتها النفسية غير مستقرة، وهي الآن تحت تأثير عقار مهدئ.. عند هذه النقطة، تراجع انفعاله وانحصر ليتراجع هو ويبتعد عنها معيدًا لها مساحتها الشخصية، ويتحدث معها لأول مرة بنبرة لائمة تقطر ألمًا:

- أجل، بالضبط، كأول مرة!!.. لكني لم أفعل!!.. هناك مئات الطرق لاستغلالك، فريدة، والتي لن أفشل في لعب دور الزوج المضحي بها!!.. فلو أردت ذلك لفعلته من البداية، لكني لم أفعل!!.. لا سابقًا ولا حتى الآن.. ألا يخبرك هذا بشيء؟!.. بربك، ألا تلاحظين أنني قد تغيرت، ألا يخبرك كل ما فعلته أنني لم أعد نفس الشخص آذاكِ واستغلك بأول مرة!!

جاءه صوتها المختنق بينما تُخبي وجهها بيدها وتُسدل خصلاتها فوقهما كضمان زائد:

- بلى، يخبرني، وذلك ما يؤذيني أكثر!!

ليسمع أول شهقة بكاء بعدها وقد انهارت كل دفاعتها التي قاومت للثبات منذ كثير، لتندفع هاتفة بنشيج مزق صدرها:

- أنت تؤذيني بكل ما تفعله.. تؤذيني بحمايتك لي.. بخوفك عليّ.. تؤذيني بالرصاصة التي تلقيتها بدلًا مني.. باسمي الذي تحمله على صدرك.. وتؤذيني بنظرة الحب التي أراها بعينك كلما طالعتني!!

ثم تجرأت ورفعت عينها لتظهر له دامي يلمها الألم.. استكملت وهي تشير بيدهت وكأنها تدينه:

- سألتني ليلة أمس عما أحتاجه لأكون بخير، حسنًا، أنا لا احتاج سوى كراهيتك!!.. احتاج بشدة أن أكرهك!!.. حبك لا يساعدني أبدًا على الشفاء منك!!.. بالعكس، كل مدى أجد نفسي أتورط بك من جديد.. أعود للتعلق بك وأنا لا أريد التعلق بالشخص الذي أذاني.. أعترف أمامك وأمام نفسي بأن هشام محق، وأنني عالقة معك في رابطة الآسر (ستوكهولم).. أفكر بالساعات في الأسباب الذي جعلتك هكذا ودفعتك لفعل كل هذا.. كلما رأيتك، لا أرى أمامي سوى الطفل ذو الثماني أعوام الذي تعرض لكل تلك الأهوال التي تجعلني مشتتة كثيرًا، لا أعرف مَن الجاني ومَن المجني عليه بقصتنا.. ثم تأتي أنت وتفعل كل تلك الأشياء التي تخبرني فيها بأنك تحبني ومستعد للضحية بروحك من أجلي.. لما تفعل كل هذا أدهم؟!.. من الطبيعي أن أكرهك.. إنما ما أشعر به ليس طبيعيًا، فأنا واللعنة لازلت أحبك..!!

تهدجت أنفاسها وحميت بالبكاء حتى ساح كُحليها وكامل زينها لتبدو في حالة مريعة أقرب لشبحٍ يتحدث!!.. ازدردت لعابها الذي تزايد مع البكاء وبدى كل شيءٍ أمامها ضبابي وهي تعرف بحرقة ومرارة شديدة:

- لو كنت تبحث عن سبب وراء بقائي معك، فـهاك السبب الحقيقي!!.. لا يمكنني تركك، ليس خوفًا منك بقدر معرفتي بأن لا حياة لي بعيدًا عنك!!.. وبالوقت ذاته، أنا لازلت أخشاك أكثر من ذي قبل.. أخشاك بشدة، ومع ذلك أشتاق لما كنا عليه بالماضي، قبل بداية العاصفة، وأظل أسأل نفسي؛ ما المانع إذا خضعت لك وعيشت بجوارك سعيدة، كنت سأكسبك وأكسب حبك وأكسب كل شيء، لم تكن معي بذلك السوء الذي رأيته بالنهاية، ومن هنا عقلي يتلاعب بي، وأشكك فيما رأيته.. بأنك لست بذلك السوء، لست الشخص الذي عذبني، وأنك قد تغيرت، ولن تؤذيني.. لكن كلانا يعلم أنك ستفعل!!.. عاجلًا أم آجلًا.. مهما صبرت عليّ، ومهما تحملت جنوني مرة وأخرى، فلن تتحملني كل مرة!!.. سيأتي اليوم الذي ينفذ فيه صبرك وتعود لسيرتك الأولى معي!!.. وأنا تعبت.. لم أحتمل تلك الحالة

بلغت أوج ذروة جنونها وهي ترفع رأسها في رجاء متوسلة إياه بغَلَبة وانكسار لم يراه عليه حتى في أحلك اللحظات بينهما:

- أرجوك، أدهم، افهمني، ذلك الدواء هو الحل بالنسبة لي!!.. لا يمكنني الاستغناء عنه، لا أريد تكرار ما حدث!!.. المهدئ هو الشيء الوحيد الذي ينقذني من جلب الأذى لنفسي على يدك، وينقذني كذلك من الأذى الذي بداخلي.. من حالة الشتات والضياع التي تراوضني كلما أكون معك.. يفصلني عن الشعورين المتناقضين اللذان يقوداني للجنون.. المهدئ هو ما يمنعني عن قتل نفسي للتخلص من كل هذا العذاب.. لذا، حبًا بالله، لا تحرمني منه!!.. لا ترغمني على ذلك.. من فضلك..!!

حسنًا .. قبل قليل لم يكن يصدق شيء عن أنها عالقة في متلازمة ستوكهولم، أما الآن فكم يؤلمه التصديق بالأمر، لقد ذكر ما ذكره على سبيل استفزازها واستدراجها لتنفي عنها ذلك.. حمأتها واندفاعها في البداية جعلته يعتقد في غباء ذلك الطبيب، لكن ما قالته الآن ذبحه!!.. لو كان الأمر كذلك حقًا، ما تحمله له من مشاعر متضاربة ليست حقيقية، إنما يحركها المرض.. إذًا، حريًّا به أنه يعترف..

 لا فرصة له مع فريدة!!

هو عالق الآن بين خيارين، كلاهما أسوأ من الآخر.. أن يكمل ما عليه فعله تجاهها ويساعدها على العلاج لينقذها من نفسها.. والنتيجة ستكون واضحة حينها، فحتمًا هي ستتركه بعد تنجلي غيمة مرضها.. أو يسلكه دربه معها كما اعتاد أن يكون أنانيًا، يستغل ذلك في صالحه، ليس مهم أن تكون مريضة م لا، يكفي أن تكون معه!!

وهذه المرة سيضمن أن تبقى بأمان، حتى منه هو!!

قطع الصمت بينهما لهُنينة، كل ثانية فيها تسرق من أنفاسها بينما تتأهب بأي وقت أن يفتك بها أدهم كعادته في فض الصراع داخله..!!.. إلا إنه قد صدمها عندما انحنى على عقبيه أمامها حتى بدى قريبًا جدًا من وجهها..

وبصوتٍ خافت بالكاد شكت أنه يخصه، غمغم بنبرة بدت وكأنه يربت على جُرجها من بعيد خشية أن يلمسها فيزيد وجعها:

- كنت أعرف أن وجودك معي يؤذيكِ بالقدر الذي يحافظ به على حياتك لكني لم أعد أتحمل رؤيتك تعانين بجواري.. قلت لكِ وسأخبرك مرارًا وتكرارًا.. لستِ مضطرة للهروب بعد الآن، بأي طريقةٍ كانت، حتى لو بالإدمان!!.. السبب الوحيد لبقائي معكِ الآن هو محاولتي للحفاظ عليكِ وتجنيبك أي خطر قد تتعرضين له بسببي.. رغبتي في رؤيتك أفضل وإصلاحك وتعويضك ولو بقدر ضئيل عما اقترفته بحقك.. لكن لو كان هذا سيسبب لكِ المزيد من الايذاء ويدفعك لتدمير نفسك أكثر مما هي عليه، فلا داعي لهذا فريدة..!!

بذهول شديد رفعت وجهها وقد جفت دموعها بغتةً متمتمه بنبرة باهتة:

- هل يعني هذا أنك ستتركني أرحل بعد أن ينتهي كل شيء؟!

استقام لتتشبث به نظراتها في ترقب قبل أن يردف بثقة لا يُستهان بها:

- من الآن لو أردتِ..!! بإمكاني تدبير خروج آمن لكِ، ولن تكوني مجبرة حينها تحمل عناء وجودك معي.. فقط قولي هذا وسأفعل أيما تريدين..!!

ضيقت عينيها بينما تنهض مبهوتة مما سمعت وكأنه صدمها بنهاية العالم!!:

- بإمكانك فعل هذا حقًا.. إذًا لمّا...؟؟

شدد على قولها وهو يثقبها بنظرة متحدية بالغة التصميم:

- جاوبيني فريدة، هل تريدين هذا؟؟

تفرقت شفتيها دون صوت، فلم تعرف بماذا عليها أن تجيبه، لقد توقف عقلها عن العمل بالمعنى الحرفي، لتبتلع ريقها مديرة وجهها عنه في خزي حينما فشلت في تحديد بُصلتها، في أي اتجاه ترغب في توجيه شراعها؟!.. شيئٌا غريب، أن يضع بيدها مفتاح قفصها ويدعوها للخروج منه إذا شاءت.. أما الأغرب فكان عدم تيقنها إذا تريد الخروج حقها!!.. الأمر كان أكبر من تكبيله ليديها بحبلٍ متين؛ ذلك لأن قيودها في الحقيقة كانت وهمية!!.. فحتى وإن أطلق سراحها، ستعود لعبوديته طواعية!!.. كالذي قضى فترة طويلة من حياته بالعتمة فأضحى يخشى أن يفقد بصره إذا خرج للنور!!

وذلك ما كان يراهن عليه بكل ما لديه، ليبتسم في احتفاء هامسًا لها بكلمات أخيرة قبل أن يتركها:

- أتعرفين، ما الشيء الذي لا أمانع في استغلاله بشأن حالتك تلك؟؟.. لن أمنعك أبدًا من البقاء معي طالما لم تعارضي ذلك!!.. فعلى ما يبدو كلانا مريضًا بالآخر.. أنا مريض بكِ.. وأنتِ كذلك مريضةً بيّ!!


يتبع..