-->

الفصل الخامس والعشرون - أشواك وحرير



الفصل الخامس والعشرون


انتهوا من تناول وجبة الإفطار؛ فهّم "كامل" ونجله بالذهاب إلى الشركة لمتابعة أعمالهما...أوقفهما نداء "كاميليا" على وحيدها، فألتفت إليها الآخير بملامح متسائلة :


_خير يا ماما؟


استقبلته بإبتسامة سعيده زينت ملامح وجهها الجميل الذي لم تستطع سنوات عمرها التي تجاوزت الخمسين أن تقلل من حُسنه و بهاءه، ثم هتفت بتردد :


_أنا عزمت طنط سميره وبنتها هند هنا على الغداء و عوزاك تيجي بدري النهارده.


جعد حاجبيه بعدم فهم، ثم سألها بإستنكار :


_طب وأنا وجودي هيفيد بإيه؟...دي صاحبتك ودي بنتها!


ابتسمت بخجل، وأردفت بملامح طفوليه :


_أنا بصراحة عوزاك أنت وهند تتعرفوا على بعض يمكن!


قهقه بمرح على حديث والدته؛ فتجهمت ملامحها تلقائيًا، وأردفت بتذمر :


_بتضحك على إيه؟


أقترب منها بخطوات بطيئة، وأمسك كتفيها بكلتا يديه، سائلًا إياها بجدية لم يشوبها أيًا من المرح :


_يعني يرضيكِ على آخر الزمن ابقى جوز هند؟!


طالعته بصدمة، وتدلى فكها لأسفل؛ فلقد انخلطت عليها حيلته وتصنعه للجديه، بينما ضحك والده وأخته اللذان كانا يتابعا اللقاء في صمت وترقب...أخفضت "كاميليا" ذراعيه عنها بغيظ، ورددت بضيق مكتوم :


_ولد أنا مش بهزر!...قولي إيه اللي يعيبها؟


تنهد بنفاذ صبر، وأردف بتذمر هو الآخر :


_يا ماما دي واحده لما كانت بتبطل سجاير كنت أنا بشرب زبادو فراولة!


ضحكت "يارا" من جديد، بينما اكتفى "كامل" بالصمت فهو أيضًا يتمنى رؤية زفاف وحيده في أسرع وقت، ولكن ليس بتلك الطريقة...قبّلها "مجد" بعنف على إحدى وجنتيها، وأردف بمغازلة صريحه :


_مزه يا كامي، كل ما تكبري بتبقي قمر!


لوح لها بكفه في الهواء، مودعًا إياها واتجه للخارج بدون أي حديثٍا آخر؛ مما آثار حنقها أكثر، وأردفت بعصبية :


_شوفت إبنك يا كامل؟!


حرك كتفيه لأعلى ولأسفل بقلة حيلة، ثم أخبرها بحكمه :


_سيبيه على راحته يا كاميليا هو مش صغير!


تبدلت ملامحها من الضيق للحزن، و سألته بإستنكار :


_يعني أشوفه لسه بيحبها و يتعذب واسكت!


طالعها بإهتمام، وأسترسل حديثه بصرامة وتعقل :


_ابنك عاقل يا كاميليا وبيحاول يلهي نفسه في الشغل، والبنت شكلها مش هتيجي الشغل تاني!...يعني الموضوع خلص خلاص!


عاندته قائلة بإصرار :


_بس هو لسه بيحبها وعاوزها!


أسودت حدقتيه بإنزعاج، وحدثها بتأفف :


_الحب مش بينتهي في يوم وليله، وكمان مش هتقدري تنسيه واحده بواحده...كده هتظلميه وتظلمي بنت الناس معاكِ!


اومأت له برأسها في إستسلام؛ فقبّل رأسها بموده ولم يخفى عليه إنزعاجها، واتجه للخارج للحاق بولديه...أما عنها فبقيت في محلها تردد لهم بعض الأدعية كعادة أغلب الأمهات.



❈-❈-❈



وقفت شاردة تطالع الحديقة أمامها بملامح جامده تمامًا وكأنها ميتة ليس بها أيًا من مظاهر الحياة سوى استقامة عودها، وحركة أهدابها من حينٍ لآخر....تتذكر أحداث الأسبوع الماضي "وهل حقًا ستنساها؟! أو ستتمكن من نسيانها؟! "...لم يكف جهازها العصبي عن تشكيل الآلام الجسدية الشديدة بسبب إنسحاب ذلك المخدر اللعين، لقد قاربت على فقدان عقلها من شدة الألم التي لم تعد تقدر على تحمله!...تحسب وتعد الأيام المتبقية من مرحلة الإنسحاب التي أخبرتها بها الأخصائية "لمَ وصل بكِ الحال إلى ذلك المطاف ميرا؟!..آأنتِ سعيدة الآن؟!" الكثير والكثير من جمل العتاب التي باتت تنهش روحها بدون رحمة "فلم تتحمل الإختبار وسقطت في أول بئرٍ واجهها بدون أي مقاومةٍ منها! " لقد عاشت حياة زائفة مرت بوحدتها الموحشة، وانتهت بها نزيلة في إحدى مصحات علاج الإدمان!...سيجن عقلها إن لم يزرها أحد فلقد اكتفت من وجهي الطبيبة الثرثارة، والممرضة المكتظة باللحم ذات الوجه المتجهم؛ تريد رؤية "مجد" وبشدة على الأقل ينتمي لعالمها الخارجي... تُرى لو علم "مازن" بوجودها في مصر للعلاج من الإدمان ماذا سيفعل؟!...هل سيأتي مهرولًا لدعمها أم إنه بات يكرهها؟!...تُرى ما الذي فعله بعدما قرأ رسالتها...انتبهت لدخول الممرضة السمينة المتجهمة، فسألتها بأمل زائف :


_برضه مجد مجاش؟!


نفت الممرضة برأسها، وأخبرتها بإقتضاب :


_من بكره هنسمح لك بالزيارة.


اومأت لها بأنهاك، واتجهت لتناول طعام المستشفي الكريهه الذي لم  تتذوق في حياتها أسوأ منه، و أقسمت بالحفاظ على صحتها بعد ذلك حتى لا تتعرض مجددًا لتناول ذلك الحساء المليئ بالأشياء الخضراء التي تسبح فيه من الأعلى!



❈-❈-❈


كسى ملامحها الحزن والشفقة؛ بسبب حالة شقيقها :


_مكنتش تقدر تبعد شويه بدل ما تفسخ لغاية ما تهدوا أنتو الأتنين؟!...خالك زعلان أوي يا يحيى، ومش عارف إيه اللي حصل؟!


عاتبته بلين؛ فهي تشفق عليه كثيرًا ولم تتمنى أبدًا أن تراه بتلك الحالة، ولم يكن منه سوى أن ابتسم بسخرية ثم أجابها بلامبالاة :


_خليه يسأل بنته!


أمسكت كف يده بجرأة لم تصدر منها مطلقًا تجاهه أو تجاه غيره؛ فدائمًا ما كانت تشعر بالحرج عند تقديم دعم من هذا النوع لأحد حتى وإن كان لإخوتها؛ بسبب نشأتها في بيئة جافة لا تهتم بالمشاعر، ولكن تلك المرة لم تلتفت لخجلها بقدر ما ألتفتت لحزنه وإنكساره الواضحان أمامها و الذي يحاول جاهدًا إخفائهما...ابتدأت حديثها بنبرة دافئة حنون لامست جدران قلبه :


_قولي بس إيه اللي حصل؟...يمكن أقدر أساعدك!


صمتت قليلًا تتابع ردة فعله، فرأت معالم التردد جلية على وجهه؛ مما جعلها تستكمل طريقها بإغواء :


_أنت عمرك قولتلي حاجه وأنا خرجتها برانا؟!...يا ابني إحنا أخوات لو مقولتليش هتقول لمين؟


كان بالفعل يحتاج للحديث مع أي أحد ولكنه يأبى الظهور ضعيفًا منكسرًا أمام الآخرين، وبالطبع لا يجد سواها يخبره؛ فأطلق العنان للسانه أمام إصرارها؛ ليخبرها عن تلك النيران التي أُضرمت بصدره فخّلفت بداخله الرماد :


_شيفاني خدام يا روان، ومش عاوزه ولادها يتعايروا بيا ارتاحتي!


قالها بعصبية مختلطة بنفاذ صبر غير مقصودة فلم يدري أهي بسبب إلحاحها أم من ضعفه و إنكساره، بينما هي تدلى فكها بصدمة، ورددت بإستنكار :


_بس ده أكيد تأثير ريهام.


أومأ لها برأسه مؤكدًا، وأردف بهدوء بعدما تمالك زمام أعصابه :


_عارف، وحذرتها منها كتير الفترة الأخيرة بس واضح إن دي رغبتها.


هتفت "روان" بنبرة خفيضة متردده :


_بس أنتو بتحبوا بعض و....


قاطعها بغضب تملك منه :


_يتحرق الحب اللي يهين صاحبه، أنا مكنتش مالي عينيها أساسًا!


وضعت كفيها أمام وجهه حتى تأمره بالهدوء، وقررت الصمت هي الأخرى فلا تريد إزعاجه أكثر من ذلك؛ واعترتها سكينة نفسية بسبب ابتعاد شقيقها عن ابنة "ريهام" فحتى وإن كان يحبها فهذا أفضل له، فرحت كثيرًا به لأنه لم يحط من قدر نفسه كمثلها...تولى هو دفة الحديث تلك المرة، وقد هدأت ملامحه قليلًا فسألها بإهتمام :


_هتساعديني أسافر ولا إيه؟


بدا عليها التفكير، ثم سألته بتردد :


_يعني مفيش أمل تقعد هنا وتشتغل في شركة كويسه أو حتى نعمل مشروع يبقى بتاعك؟


هز رأسه نافيًا بإصرار :


_أنا خلاص مبقاش ليا عيش في البلد دي أو على الأقل دلوقتي!


زفرت بإحباط، ثم أخبرته بإستسلام مُذعنة لرغبته :


_هعملك اللي أنت عاوزه، بس لو سمحت متزعلش نفسك!


ابتسم لها بود، ثم أردف مازحًا :


_ساعات بحس إنك أمي والله!


فبادلته المزاح هي الأخرى مدعية الإشمئزاز :


_جتك مو!...هخلف كل ده إزاي أنا!


استمرا في جلستهما الودية بضع دقائق؛ فتجهمت ملامح "يحيى" الذي سأل شقيقته بإهتمام :


_كلمتي أبوكِ آخر مره امتى؟


رمشت بأهدابها شاعره بالدهشة من سؤال أخيها؛ فهي لم تكن أبدًا قريبة من والدها مما لا يوجد داعِ لمحادثته من الأساس، وهو ما أشعرها بغرابة السؤال :


_من وقت جوازي، بتسأل ليه؟


أغمض عينيه، ورد بأسف :


_أبوكِ تعبان يا روان، وشكل المرادي بجد!


ظهر التأثر جليًا على ملامحها، وزمت شفتيها بعبوس :


_لا حول ولا قوة إلا بالله!...ربنا يشفيه ويديه الصحة.


أمن على دعائها، وأمسك بمشروبه الساخن يحتسيه في صمت، بينما هي شعرت بالأسى والشفقة تجاه والدها فبالرغم من كل ما حدث بينهما إلا أنها لم تتمنى له السوء أبدًا...فقط تمنت أن يبتعد عنها دون أن يصيبه الضرر...دعت له في سرها، وعادت تثرثر من جديد مع شقيقها غافلةً عن تلك العيون الحاقدة التي تطالعهما من الخفاء بكراهية شديدة!



❈-❈-❈



مازال يجلس على مكتبه يطرق بمؤخرة القلم في يديه بإستمرار؛ يفكر فيما سيفعله معها الفترة القادمة، لقد فعل الصواب عندما أعطاها تلك الأجازة؛ فهو لا يدري "هل سيستطيع السيطرة على أعصابه في وجودها؟..أم سيقوم بقتلها على الفور؟! "...لقد كان ينوي إعطاء علاقتهما فرصة اخيرة حتى لا يظلمها... أدخل إلى حياته حرباء متلونه بدون أدنى مجهودٍ يُذكر منها، الآن فهم كل شئ بدايةً من حفل عيد ميلاد "ميرا" إلى اليوم الذي تناول فيه جرعة المخدرات نيابةً عن ابنة عمه التي مازال لا يصدق إنها مرت بكل ذلك بمفردها؛ وبالرغم من شعوره بالغيرة والإنزعاج الشديد من "مجد" إلا أنه لا يستطيع أن ينكر شهامته معها فلولاه كانت ستظل بمفردها يتأكل في جسدها ذلك المخدر اللعين، ومن المحتمل أنه كان سيتسبب لها في الوفاة!...زفر عاليًا فلم يعد يحتمل كل ذلك الوقت؛ يشعر وكأنه مر عامان كاملان منذ معرفته بالخبر...يحسب الدقائق والثوانِ حتى يُسمح له بزيارتها، ووقتها سيعوضها عن كل ما اقترفه من غباء تجاهها!



❈-❈-❈


ترددت كثيرًا في مهاتفته فهي المرة الأولى منذ فترةً طويلة تبادر بالكلام معه أو مع غيره، ولكنها شعرت بأنها في حاجةٍ ماسة للإطمئنان عليه كما اعتادا في السابق، أو ربما لأنها أول مرة يظل فيها كل تلك المدة دون أن يسأل عنها أو يحادثها مما جعلها تخشى أن يكون لحق به مكروه وليس لأنها اشتقاقت لجلسات أحديثهما الطويلة كما جال بخاطرها!...ضغطت بعض الأزرار، وألقت بأنظارها ناحية زوجها فوجدته منهمك في العمل أو هكذا بدا لها، أتاها صوت الطرف الآخر بعد مرور ثوانِ؛ فخرجت إلى الشرفة حتى لا تقطع تركيزه، بينما هو أنتبه لمكالمتها الهاتفية وعلم هوية محاورها من صوتها المفعم بالحيوية أثناء ترحيبها به، جز على أسنانه بغيظ، واتجه خلفها حتى يستمع لكلامها معه...وانقضت المحادثة في دقائق معدودة لم تخلو من السلامات و الإطمئنان عن الأحوال، بالإضافة لبعض الأحاديث المتطرقة للعمل...أغلقت هاتفها واتجهت لداخل الغرفة مره أخرى فأصتدمت أنظارها بـ "مالك" مما جعلها تبتسم إليه بهدوء، وهمت بالمرور من جانبه؛ فعاق مرورها بذراعه وسألها بوجوم :


_بتكلمي مين؟


رفعت أنظارها إليه؛ شاعرة بالدهشة من نبرته الواجمة، ثم حركت أحد كتفيها و أجابته بلامبالاة :


_بكلم مجد. 


استمر على وقفته، و استفسر بضيق :


_وليه خرجتي البلكونة علشان تكلميه؟!


ازعجتها نبرته التي تحمل الشك، فسألته بإستنكار مصحوب بالغرابة :


_لقيتك مركز في شغلك محبتش أقاطعك، فخرجت بره سلمت عليه وقفلت...فيها إيه يا مالك؟!


نبرتها المستاءة جعلته يعيد حساباته مره ثانية، فلا داعي للعناد معها لأنها ليست من تلك الفئة التي تنصاع بسبب التهديد...سحبها من كفها بهدوء واتجه ناحية الأريكة، واجلسها في مقابلته، ثم ابتدأ حديثه قائلًا بترجي مزيف :


_عاوز أطلب منك طلب!


اومأت له برأسها فما كان منه سوى أن احتوى كفيها بين كفيه، وبات يحرك إبهاميه عليهما بحركات دائرية ناعمة دغدغت روحها :


_عاوزك تنزلي تشتغلي معايا في الشركة!


رمشت بأهدابها عدة مرات واعترتها الدهشة من تغييره للموضوع بتلك الطريقة، ولكنها لم تبالي فرددت بهدوء مُتعجب :


_أيوه بس أنا مشغولة الفترة دي، ومظنش إني هقدر أواكب كل ده!


ترك كفيها مباشرةً، وأردف بتردد :


_ما هو ده اللي عاوز أكلمك فيه!


سلطت أنظاره عليه بإهتمام؛ فتابع هو بجدية :


_الشركة عندي أسهمها وقعت ومحتاجين حد ثقه، وأنا مش هثق في حد قدك، فكنت عاوزك تسيبي الشغل عند الدويري!


_أسيب الشغل؟!


رددتها بذهول وأعين متسعة بعدما استقامت في مكانها؛ فأستقام هو الآخر وأمسك بكفيها قائلًا برجاء ولطف :


_الفترة دي بس علشان خاطري!


عضت شفتها السفلى بتفكير، ومسحت وجنتها بكف يدها بإرهاق ثم رددت بقلة حيلة :


_بس أنا من التيم اللي بيصمم القرية، ده غير إن مجد مش هيسمح لي امشي!


تعالى الغضب بداخله حينما ذكرت إسمه مقرونًا بالإذن لها؛ فنطق تلقائيًا بعصبية أجفلتها :


_ويطلع مين ده علشان يسمح لك أو ميسمحلكيش؟!


أتسعت عينيها بدهشة من تقلباته المزاجية معها، ففي الأيام الماضية إعتادته حنونًا عطوفًا، وكأنه أبٍ لها، واللعنة هذا ما أرادته! والآن يستعرض عليها عصبيته!...لم يرف لها جفن وسألته بضيق مكتوم حاولت إخفاؤه قدر الإمكان :


_هو إحنا كل ما نختلف مع بعض بقى هنتخانق؟!


بقى يطالعها لمدة ثوانِ بدون أي ردة فعل، ومسح على وجهه بنفاذ صبر، ثم اقترب منها محيطًا كتفيها بكفيه دون أن يأبه لسهام عينيها الثاقبة، وردد بحنان فطري :


_يا حبيبتي أنا خايف عليكي، ومش عاوز حد يبص ليكِ نظرة مش كويسة!


طالعته بإستغراب من حديثه "فكيف سيُنظر لها نظرة سيئة أثناء عملها" ولكنه قاطع تفكيرها بما جعل أعينها تتسع بغضب وإستنكار في آن واحد :


_أنا مكنتش هقولك بس مجد ده مش كويس!...بتاع ستات وبتاع هلس!


_نعم؟!


قالتها بإستنكار ممزوج بالدهشة "فمن مجد هذا الذي يتحدث عنه؟! "...أشاح بعينيه بعيدًا "لا يدري هل فعل الصواب بإخبارها أم تسرع في هذا الأمر؟...ولكن كان يجب عليه تحذيرها منه فهو ليس هذا الرجل المرموق كما تظن!! "...عاد بأنظاره إليها محاولًا سبر أغوارها "عما إذا كانت تكن له المشاعر أم لا فهذا الأمر يرعبه وبشده لأنه يخشى فقدانها" ولكنها فاجأته بهجومها عليه بعكس ما توقع منها عندما صاحت في وجهه بسؤالها المستنكر :


_ولما هو بتاع ستات ومش محترم بتشتغل معاه ليه؟!


وضع كفيه بداخل جيبي بنطاله وردد بثقه أغتاظت منها :


_الشغل ملوش دعوه بالأمور دي!


كتفت ذراعيها أمام صدرها، وأخبرته ببسمه متهكمه فقد وصلت إلى ما تريد :


_قول لنفسك!


ابتسم لها بتصنع و ردد بهدوء :


_عارف، بس أنا مش واثق في تعامله مع مراتي!


رمشت بأهدابها عدة مرات حتى تستوعب إلى ما يرمي، ولكنها لم تفهم فسألته بغباء :


_يعني أنت مش واثق فيا؟!


نظر إلى عينيها بقوة و أخبرها بنفاذ صبر :


_يا حبيبتي أنا بثق فيكِ أنتِ لكن مش بثق في الناس!


نفخت أوداجها بإنفعال وأردفت بتذمر :


_بس مجد شخص محترم و كويس ومتربي!


خلل خصلات شعره الطويلة السوداء بنفاذ صبر، وعاد مجددًا يترجاها :


_بعيدًا عنه بس أنا محتاج لك الفترة دي معايا، مش هقدر أثق في غيرك! 


زفرت بضيق من إلحاحه الشديد فهي تكره الإجبار وبشدة، بل والأكثر أن تبدد ثقة الآخرين بها مهما كانت الظروف...أشاحت بوجهها للجانب الآخر، وقررت إستعطافه هي الأخرى، وأردفت بيأس :


_بس أنا عندي شغل والتزامات، مش هينفع أقول لمجد دلوقتي!


أدار وجهها في مقابلة وجهه، وأخبرها بلطف :


_سيبي الموضوع ده عليا أنا!...أنا هفهمه.


همت بالإعتراض، فقاطعها رنين هاتفه المحمول؛ مما اضطره للخروج للرد في الخارج، فتسمرت في مكانها تطالع أثره بملامح قلقه ومتردده للغاية بسبب تلك الخطوة "فلم يكن من شيمها أبدًا أن ردت المعروف بالغدر والإساءة" ولكنها ستحاول جاهدة الإعتذار لمجد ووالده متعلله بإحتياج زوجها لها تلك الفترة، ومن المؤكد أنهما لن يمانعا المهم أن يأتي الإعتذار منها هي وليس من "مالك" 



❈-❈-❈


هبت واقفة سريعًا ترتب شعرها المرهق على جانبي وجهها بعناية، وتحاول هندمة ملابسها؛ فمنذ أن أخبرتها الممرضة بأنها ستتلقى أول زيارة بعد دقائق وضربات قلبها ترتجف بعنف، ها هو سيراها للمرة الأولى بعد خطوة العلاج....تريد أن تظهر قوية أمامه وليست تلك الفتاة المدللة الهوجاء التي أودعها في مصحة علاج الإدمان...طرقات هادئة على باب الغرفة أخرجتها من شرودها؛ فهوى قلبها أسفل قدميها استعدادًا للحظه القادمة، أخرجت صوتها الهامس تأذن للطارق بالدخول...علقت أنظارها بالباب فمنذ عشرة أيام لم ترى أيًا ممن ينتموا لعالمها الخارجي فقط الطبيبة وبعض طاقم التمريض على رأسهم الممرضة السمينة المكتظة باللحم...اتسعت خضراوتيها بصدمة فلم يكن الزائر سوى "مازن" ابن عمها الذي وقف يطالعها بأشتياق حقيقي ممزوج بالحزن؛ فتدلى فكها لأسفل ثم رددت بصدمة :


_مازن!


دمعت عينيه من هيئتها الفوضوية المجهدة، بالإضافة لنقصان وزنها الواضح وشحوب وجهها، فسألها بإقتضاب :


_ليه مقولتليش؟


تخلت عن صدمتها ودمعت عينيها هي الأخرى فلم تكن تريد أن يراها بتلك الحالة حتى لا تنكسر أمامه أو تشعر بالخجل من نفسها!...أجابته بالحقيقة وتحشرج صوتها بالبكاء :


_ مكنتش عاوزه إنك تشوفني مثيرة للشفقة!


تملكت الشفقة من قلبه، فأقترب منها مندفعًا يريد ضمها لصدره فما كان منها سوى أن دفعته بذراعيها للوراء وكتفت يديها أمام صدرها رافعةً رأسها لأعلى بشموخ وكبرياء زائف بالرغم من تذلل روحها بالداخل واشتياقها لذلك الحضن أكثر منه هو، ولكن هذا ليس من حقها!...تفهم حالتها فرفع إبهاميه يمحو دموعها، وأردف بهمس مرتعش :


_أنا آسف...آسف على كل حاجة، ومن النهارده مش هسيبك!


أصابتها نبرته برعشه خفيفه في جسدها، فولته ظهرها بلامبالاة مصطنعه و سألته بجمود :


_عرفت مكاني منين؟


لم يعطي سؤالها أي إهتمام، ولكن استدار في مواجهتها ثم ردد بجدية :


_أنا عرفت كل حاجه، وهجيب لك حقك!


ابتسمت بسخرية؛ فها هو من استأمنته على سرها قد أفشى به بكل سهولة وتخلى عنها في بداية الطريق...بقت صامته على حالها، فتفهم "مازن" ما يدور برأسها، مما جعله يقرر إخبارها بهدوء عله يزيل عنها دوامة التفكير :


_عرفت إنك مسافرتيش بره مصر وإنك مع الفوج في الجلالة...سافرت لك هناك وعرفت إنك مش معاهم وبعد ما هددت مجد إني هحبسه بتهمة الخطف قالي كل حاجه!


أتسعت عينيها برعب من أن يكون لحقه الضرر بسبب مساعدته لها، فسألته بخوف وقلق :


_أنت أذيته؟!


ابتسم بسخرية، ثم أردف بتهكم :


_متقلقيش هو كويس محصلوش حاجه.


تنفست الصعداء، وأنزلت عينيها لأسفل تخشى مواجهة حدقتيه التي تحدقان فيها بقوة وكأنهما على وشك إلتهامها، وبالرغم من تراقص قلبها بفرح من اهتمامه بإختفائها إلا أنها قالت بجمود :


_أنا خلصت أول مرحلة متقلقش هخلص وأخرج كويسه!


لم يرد أن يُصيبها اليأس والإحباط مما عرفه من الطبيبة بأنها ستظل تُعالج سلوكيًا ونفسيًا مع متخصص عقب الخروج وليس بتلك السهولة التي تتوقعها ففضل الصمت، وأردف بدعم :


_أنا مش هسيبك تاني!


_وأنا مش عاوزه شفقة من حد!


رفع رأسها في مواجهته، وطالعها بلوم حقيقي عقب حديثها الفاظ معه، فوجهت أنظارها للجانب حتى تتحاشى النظر إليه :


_دلوقتي بقيت حد؟!


كتفت ذراعيها مره أخري وردت بكبرياء :


_كل واحد ليه حياته وأنا لازم اتعود ابقى لوحدي!


تأثرت ملامحه، ورق قلبه لها لكنه لم يجاري حديثها الأبله من وجهة نظره، فأقترب منها بتأني هذه المرة وقبّل رأسها رغمًا عنها ثم همس بحنان افتقدته منه كثيرًا...خرج من باب الغرفة بعدما وعدها بأنه سيستمر في زيارتها ولن يعلم أحد عنها فطالعت أثره بحزن وشعرت بالعار تجاه نفسها بسبب معرفته ما ألم بها، فأنهمرت دموعها بصمت!



❈-❈-❈


وقفت أمام مرآة الزينة تطالع هيئتها بإعجاب ممزوج بالقلق والتوتر من تلك الخطوة التي أقدمت على فعلها بمحض إرادتها الكاملة...قلبها يطرق بصخب، بالإضافة إلى أعصابها المتهدلة فلم تعطيهم أي إهتمام فهذا الأمر طبيعي للغاية والكل تعرضن له...سمعت قرع أبواق السيارة مما يعني أنه دقائق وسيصبح معها في الغرفة، فأسرعت بإرتداء مأزر أسود طويل يغطي قوامها بأكملها فلا تتعرض للخجل أمامه....بعد مرور دقائق معدودة شاهدته يدلف للداخل بخطى مثقله، وحين رفع عينيه في اتجاهها تدلى فكه لأسفل من هيئتها المثيرة، وتعالت أصوات قلبه حتى أنه كاد أن يستمع إليها "فهل ما توحي به هيئتها صحيح؟!"...اقتربت منه بغنج أنثوي وقبلت وجنته برقه، ثم عادت للخلف ترى تأثيرها عليه، فوجدته يطالعها بصمت وترقب محاولًا سبر أغوارها؛ ثم دنت من أذنه قائلة بهمس مغوي :


_أنا جاهزة!


يُتبع...