الفصل الأول - مرآة مزدوجة
الفصل الأول
كان يحدق بشاشة الحاسوب أمامه بفراغ، يعتصر عقله بلا فائدة، كان قد بقى على هذا الحال لعدة ساعات لا يجد ما يكتبه، أعاد قراءة آخر فصل قام بكتابته عدة مرات دون جدوى، أبعد الحاسوب بضيق عن وجهه، ونهض ينظر للخارج من نافذة غرفته الصغيرة، تأمل السماء التي كانت مظلمة منذ عدة ساعات، وقد بدأ اللون الأزرق المحبب للكثيرين بالظهور تزامنًا مع الخيوط الأولى لشروق الشمس، وقف لبعض الوقت وهو يحاول استعادة أفكاره القديمة، أشهر وهو لا يستطيع كتابة حرف واحد، إما أن يعجز عن الكتابة نهائيًّا، أو يكتب بعض الكلمات الغبية؛ ليقوم بحذفها بنفس الثانية!
«لا شيء، لا شيء على الإطلاق!» تمتم بداخله بغضب، وسخرية.
انتزعه من تفكيره المحبط صوت المؤذن وهو يتسلل من بين سكون الفجر والناس نيام، ليرتفع صوته الرخيم وهو يؤذن لصلاة الفجر، تنهد وفرك عينيه اللتان لم تجدا الراحة منذ وقت طويل، وخرج من غرفته؛ ليتوضأ علّه يهتدي لحل.
بعد أداء صلاته قرر عدم العودة لبيته والركض قليلًا بهذا الطقس البارد في تلك الساعة المبكرة من النهار؛ فلطالما ساعده المجهود البدني على التفكير، ابتسم بتهكم عندما تذكر مشكلته، من يصدق أن عمر سعيد الذي تنتشر رواياته في جميع الأرجاء يعجز عن الكتابة! كان سابقًا إن أراد كتابة عشرة روايات في عام واحد، لفعل، ولحصلت الروايات العشر على المراكز الأولى بالمسابقات الأدبية، والآن قد مر عام ونصف وهو عاجز عن إنهاء رواية واحدة، يا للسخرية.
شعر بالغضب الشديد تجاه ذاته فزاد من سرعته بينما يحاول تنظيم جدول أعماله لهذا الأسبوع.
❈-❈-❈
في الساعة السابعة، كانت قد انتهت من ارتداء ملابسها وتصفيف شعرها، فجلست فوق فراشها وانتظرت شقيقتها التي كانت تجلس أمام المرآة تمشط شعرها، مطت شفتيها بملل، تأرجحت يمينًا ويسارًا ثم قامت بفك شعرها الذي كان مرفوع كذيل حصان وصففته على هيئة كعكة وارتدت وشاحها، نظرت لشقيقتها وقالت:
« انجزي يلا علشان منتأخرش على الامتحان.»
أجابت شقيقتها بهدوء، وهي تمرر المشط بين خصلاتها المتموجة:
« خلاص هلمه أهو.»
عند ذكر الامتحان راودتها فكرة غريبة فقالتها لشقيقتها متسألة:
« ليليان، هو إحنا فنينا عمرنا في الدراسة؟»
عقصت ليليان شعرها في ذيل حصان واستدارت لتواجه شقيقتها وقالت بنبرتها الهادئة المعتادة:
« ليه بتقولي كدا يا ليلى؟»
رفعت ليلى كتفيها وأخفضتهما دليل على عدم معرفتها ،وهي حقًّا لم تفكر في سبب هذا التساؤل؛ فقد راودها للحظة وأباحت به بنفس اللحظة، تنهدت ليليان ونهضت لتجلس أمام شقيقتها على الفراش وقالت:
« إحنا عندنا واحد وعشرين سنة وفي سنة تالتة يعني ناقصلنا سنة ونخلص تعليم نهائي.»
قالت ليلى مصححة:
« تخلصي. »
تابعت ليليان غير مهتمة بتعليق ليلى:
« أيًّا كان، المهم إن رحلة التعليم طولت قصرت كدا كدا ليها نهاية زي كل شيء حوالينا، صح؟»
أومأت ليلى، فتابعت ليليان:
« وإحنا لسة في العشرين، يعني يدوبك لسه طالعين للدنيا، عقبال ما هنخلص تعليم هنبقا صغيرين بردو، صح؟»
أومأت ليلى مرة أخرى فقالت ليليان ببساطة:
« طب طالما أنتِ عارفه كل ده، بتسألي ليه؟»
أجابت ليلى بلا مبالاة:
« مفيش، جه السؤال في دماغي فـ سألت عادي. »
لكزتها ليليان وهي تقول بلهجة جادة:
« أدينا اتأخرنا أهو بفضل فلسفتك قومي يلا علشان منشيلش آخر مادة.»
نهضت كلتاهما بسرعة وسحبتا حقائبهما ووضعتا بهما كل ما تحتاجان، قالت ليليان قبل أن تغادرا غرفتهما:
« يلا علشان عايزة أجيب قهوة قبل ما نروح الامتحان.»
صاحت ليلى متعجبة:
« الله مش كنتِ بتقعدي تقولي مبحبهاش ومش عارفه ايه؟»
تنهدت ليليان وأجابت وهي تلتقط حقيبتها:
« مبحبهاش بس الوحيدة اللي بتفوقني وبتخليني اركز وأنا بجاوب، فـ بضطر ليها وخلاص. »
أومأت ليلى وتقدمت لتخرج من الغرفة وتتبعها ليليان.
❈-❈-❈
وقفت ليليان في الصف تنتظر دورها لطلب القهوة، كانت تراقب من يقفون أمامها بفضول تحاول تخمين قصة كل منهم، أو صنع قصة له كما يتضح لها من مظهره، ربما تلك عادة اكتسبتها من دراستها للأدب الإنجليزي بكليتها، فهي لم تكن ذات خيال واسع يومًا ولم تكن ميالة للأدب بشكل عام، ولكنها لم تجد كلية مناسبة لها سوى آداب فالتحقت بها، لطالما كانت تطمح لحياة هادئة مع زوج رائع يحبها ويفهمها، وأطفال تربيهم على الفضائل، ولكن هذا لم يجعلها تكره التعليم أو تبغضه، فهي علمت أن الأداة السليمة لتنشئة أطفالها بطريقة سليمة هي أن تكون متعلمة ومثقفة؛ لهذا لم تكتفِ بالثانوية مثلما تفعل كثيرات ممن يطمحن بالزواج، بل واصلت تعليمها الجامعي وإن لم يكن لها اهتمام محدد.
لفت نظرها الشاب الذي كان يقف أمامها، كان يرتدي ملابس رياضية وقد بدا أنه قد ركض لمدة طويلة، لم تستطع تبين وجهه لأنه كان يوليها ظهره وبسبب فرق الطول بينهما؛ لهذا لم تفكر في أن تنظر له منذ أن دلفت فقد كان النظر للأشخاص الأبعد يوضح لها رؤية أفضل لهم، فعندما لم تستطع أن تتبين منه شيء أبعدت نظرها عنه وأخذت تتأمل أشياء عشوائية بالمقهى حتى قام ذلك الشاب بأخذ المشروب الذي طلبه واستدار ليرحل فحصلت ليليان على نظرة عابرة منه، وقد رأت ملامحه بسرعة قبل أن يرحل، ولكنها لم ترَ ملامحه بوضوح فتجاهلت جميع ما حدث ببساطة، وتقدمت لتطلب قهوتها.
❈-❈-❈
صعد عمر المبنى الذي يعيش به مع والديه في السابعة والنصف، دلف لشقة والديه فوجد والدته تجلس بغرفة الجلوس تنتظره، وما إن رأته قالت:
« كنت بتجري بردو؟»
تجاهل عمر سؤاله، واتجه ليقبل رأسها ووضع حقيبة بلاستيكية صغيرة وقال:
« صباح الخير يا ماما، جيبت فول وطعمية علشان تفطروا، هو بابا لسه مصحيش؟»
سأل وهو ينظر يمينًا ويسارًا بحثًا عن والده، فقالت والدته باقتضاب:
« صحي من شوية دور عليك بعدها دخل نام.»
أومأ عمر وقال وهو يتجه لغرفته:
« طيب أنا نازل الشغل، افطروا من غيري.»
تنهدت والدته بقلة حيلة، ونهضت تحمل الحقيبة البلاستيكية نحو المطبخ، بينما دلف عمر إلى المرحاض ليستحم قبل أن يذهب لعمله.
❈-❈-❈
انتهت ليلى من امتحانها الأخير وتوجهت لبيتها مباشرة عكس طبيعتها؛ فهي معتادة أن تتنزه بأي مكان كما يفعل معظم الطلاب، إلا أنها أرادت العودة لمنزلها والانعزال، ليس لأن شيئًا سيئًا قد حدث لها، لكنها مزاجية بطبيعتها، فأحيانًا تريد الخروج والتنزه يوميًا، وأحيانًا أخرى تشعر برغبة في الانعزال بعيدًا عن الجميع في غرفتها بجانب كتبها العلمية والروائية، كانت متأكدة أنها ستعود لتجد ليليان بالمنزل بالفعل؛ فهي تفضل البقاء بالمنزل في جميع الأوقات لتساعد والدتهما في إعداد الطعام، رغم كونهما توأمتان، إلا أنهما يختلفان في أشياء عديدة، فقد فضلت ليلى أن تدرس الطب والتخصص في الطب النفسي الذي كان يثير فضولها منذ أن كانت مراهقة، بينما فضلت ليليان شيئًا أقل تعقيدًا وأكثر لطفًا فدرست الأدب رغم أنها لم تكن ولوعة بالأدب في الحقيقة كانت تفضل الزواج عن العمل، وكان هذا أكبر تناقض بينهما، والذي كان يجعلهما تدخلان في نقاشات، وجدالات لا نهائية، بسبب العادة العقيمة التي تتمثل في كليات القمة وكليات القاع، من الذي وضع تلك المعايير اللعينة بالأساس؟ لطالما امتعضت ليلى من تلك المسميات والمعايير السخيفة؛ فقد رأت أن ليليان من حقها اختيار مسارها وطموحها في الحياة، وقد فعلت، لا يحق لأحد أن يتدخل في طريقة حياتها، ليس لأن توأمتها قد اختارت أن تكون طبيبة، فكما كان لليليان الحق في تحديد مسارها كان لليلى نفس الحق الذي لا يُسمح لأحد أن يحاول سلبها إيّاه.
تنهدت ليلى عندما تذكرت الشجار الذي دخلته مؤخرًا مع إحدى «المعارف» عندما حقرت من شأن ليليان؛ لأنها بنظرها ليست ملتحقة بكلية جيدة، كأن رأيها مهم تلك العجوز الشمطاء!
ثم بدأت بقول أن ليليان تغار من شقيقتها؛ لكون ليلى ستصبح طبيبة وهي لا، ومن هنا يمكن تخيل ما حدث بعدها من العراك الذي اندلع بينها وبين ليلى حتى قامت بطردها من البيت، ورغم تعرضها للتوبيخ من والدتها على ما فعلته، إلا أنها لم تندم للحظة على ما فعلته، بل وإن عاد بها الزمن للوراء لفعلتها مرة أخرى دون تردد.
تمتمت بينما وضعت المفتاح بقفل الباب:
« الله يمسيها بالخير كانت ولية صعرانة.»
دلفت للبيت لتنظر والدتها لها بتعجب والتي كانت تمر بجانب الباب وقالت:
« يا ستار يا رب، رجعتِ على طول يعني يا ليلى!»
قبلت ليلى وجنتها، وقالت بمرح:
« مقدرتش أقعد بعيدة عنك أكتر من كدا يا رحومتي.»
زمت والدتها شفتيها بعدم رضى وأحكمت إمساك الملابس التي بين يديها وقالت:
« اتثبت أنا كدا يعني؟»
« المفروض يعني.»
قالت ليلى، ثم ألقت بحقيبتها على الأريكة وقامت بخلع سترتها وألقت بها فوق الحقيبة ثم قالت وهي تتوجه نحو غرفتها:
« أومال البت ليليان فين؟ عايزة أعرف عملت إيه في الامتحان.»
أجابت والدتها وهي تضع الملابس وتجلس لتقوم بطويها وترتيبها:
« في المطبخ، صحيح عملتِ إيه في الامتحان يست الدكتورة؟»
أجابت ليلى بسرعة، وهي ترتدي ملابسها البيتية، وتتجه نحو المطبخ:
« الحمدلله كويس بيسلم عليكِ.»
تنهدت والدتها بنفاذ صبر وقالت:
« بتقلبي أراجوز أول ما بتخلصي امتحانات.»
ولكنها لم تستمع لجملة والدتها الأخيرة عندما دلفت المطبخ وقالت:
« الشيف بتاعنا عاملنا إيه النهاردة؟»
استدارت ليليان لتواجهها بأعين باكية وهي تحمل بيدها بصلة، وباليد الأخرى سكينة بينما أجابت بإيجاز:
« بسلة.»
أمسكت ليلى بصحن الجزر المحضر للغداء وأخذت تأكل منه فسحبته ليليان من يدها وقالت:
« سيبهم دول يدوب على قد الغدا، عايزة تاكلي عندك التلاجة شوفيلك أي حاجه تاكليها.»
توجهت ليلى للثلاجة وفتحتها تنظر لمحتوياتها بينما وقفت ليليان تحضر الطعام، فقالت ليلى:
« هو أنتِ طردتي ماما من المطبخ ولا إيه؟»
نظرت لها ليليان بحدة وأجابت بسؤال آخر:
« مينفعش نريحها شوية يعني؟»
أغلقت ليلى الثلاجة وقالت:
« أوه، شكلك عكيتِ النهاردة صح؟»
نفت ليليان برأسها وقالت:
« بالعكس ده كان سهل جدًّا.»
قالت ليلى وهي تأكل الجبن:
« الحمد لله، طب خلصي الأكل بسرعة بقا علشان جعانة.»
أومأت ليليان بصمت، بينما قالت ليلى وهي تغادر:
« عقبال ما تخلصي هروق أنا.»
❈-❈-❈
ترك عمر الإنجليز الذين كانوا بصحبته داخل محل العطور، لقد اعتاد رؤية الأجانب مبهورين بمشاهدة تلك الأشياء حتى أصبح أمرًا مملًا بالنسبة إليه، وقف ينتظرهم بالخارج مستندًا إلى سيارته، أخرج هاتفه من جيب بنطاله وفتح إحدى مواقع التواصل الاجتماعي يتصفحه بملل حتى وجد منشورات عدة عن معرض القاهرة الدولي للكتاب وتذكر أنه قد افتتح الأسبوع الماضي، تنهد بسخرية وتابع تصفحه، بالطبع لن يتذكر المعرض هذا العام، فما يجعله يتذكر المعرض وتاريخ افتتاحه كانت الرواية التي تصدر بالمعرض كل عام، وهذا العام لا توجد تلك الرواية، إلا أنه علم أنه عليه الذهاب للمعرض شاء أم أبى؛ فعليه أن يجعل علاقته بمتابعيه جيدة بأن يستغل فرصة أن يكون قريبًا منهم وإهداءهم التوقيعات وما إلى ذلك؛ لهذا فتح حسابه الشخصي وكتب الموعد والساعة اللذان سيتواجد بهما بالمعرض وقام بالنشر، ثم أغلق هاتفه ووضعه بجيبه عندما وجد هؤلاء الأنجليز قد خرجوا من المحل، فابتسم لهم بدبلوماسية واعتدل ليستكمل الرحلة.
❈-❈-❈
« هي ماما نامت؟»
سألت ليلى عندما دلفت ليليان الغرفة تحمل كوبين من الشاي، أومأت وهي تعطي شقيقتها إحدى الكوبين ودثرت نفسها تحت الأغطية بجانب شقيقتها، فقد قامتا بجمع السريرين المنفصلين الخاصين بهما ليصبح سرير واحد كبير تنام عليه كلتاهما.
قالت ليليان وهي تنظر لشاشة التلفاز:
« هتشغلي إيه؟»
أخذت ليلى رشفة من الشاي وأجابت:
«مسلسل تركي باين عليه عظمة، هاجر اللي رشحته لي.»
« طيب شغليه نتفرج.»
أمسكت ليلى بجهاز التحكم عن بعد وقامت بتشغيل الحلقة ولكنها تذكرت شيئًا فقالت:
« هو نعناع راح فين؟»
وقبل أن تكمل سؤالها كان قط صغير يقفز فوق قدميها له فرو أبيض جميل يجعله فخور وواثق من مظهره، ما إن قفز حتى ابتعدت ليليان فزعة وقالت:
« ابعدي كتلة الشعر دي عني.»
داعبت ليلى شعره ليصدر صوتًا يدل على سعادته فقالت ليلى:
« أنتِ مش شايفه هو قمر إزاي؟»
« ليلى!»
تنهدت ليلى بقلة حيلة فهي تعلم أن شقيقتها لا تحب القطط، ولن تفعل ولو بعد مائة عام، فأبعدته عنها واحتضنته بذراعها من الناحية الأخرى ليغط في سبات عميق ما إن حاوطه الدفء، ابتسمت ليلى وهي تداعب شعره وتشاهد المسلسل.
جلستا تشاهدان التلفاز بصمت حتى انتهت الحلقة فقالت ليليان بتعب:
« نكمل بكرة، أنا عايزة أنام.»
« ماشي.»
همست ليلى وهي تغلق التلفاز وتفتح المصباح الصغير بجانبها، أخرجت دفتر يومياتها من تحت وسادتها فقالت ليليان:
« نفسي أعرف ليه بتكتبي فيه؟ رغم إنك بتحكي لي أنا وماما على كل حاجة.»
أجابت ليلى بهدوء:
« بحب أخلي الأحداث اللي بتحصلي في شكل كلمات ملموسة وبتتشاف.»
استلقت ليليان وأغمضت عينيها وقالت:
« تمام، تصبحي على خير.»
همست ليلى وهي تنظر لدفترها وتفكر:
« وأنتِ من أهل الخير. »
يتبع