الفصل الثاني - مرآة مزدوجة
الفصل الثاني
كان يجلس على الأرضية بالغرفة التي يتشاركها مع شقيقه الذي ذهب للعمل منذ وقت قليل، يمسك بالقلم الرصاص ويقوم برسم كل ما يخطر على باله، والذي كان بتلك اللحظة إحدى القلاع العتيقة التي تعود للعصر الإسلامي، قطع تركيزه صوت والدته التي دلفت الغرفة وهي تقول:
« سليم، أنا..»
بترت عبارتها عندما رأت حال ابنها فأغلقت الباب خلفها وهمست مؤنبة:
« رسم تاني يا سليم مش كان الحوار ده خلص خلاص؟»
خلع نظارته الطبية وقال بجمود:
« أظن إن أنا خدت الأجازة بالفعل، ومش هتحكموا عليا في الأجازة كمان!»
تنهدت، واقتربت لتجلس فوق فراشه الذي كان يسند ظهر عليه، وقالت وهي تداعب شعره بحنو:
« يا حبيبي أنا عارفه إن موضوع الطب ده مكنش عاجبك، وعارفه إننا استخدمنا الطريقة الغلط في التعامل مع المشكلة دي، بس صدقني إحنا مش قصدنا نسجنك، إحنا عايزين مصلحتك بس.»
أبعد رأسه عن يدها، وقال بنفس اللهجة الجامدة:
« تمام وأديكوا اطمنتوا على مصلحتي، ينفع تسيبوني في حالي طول ما مفيش دراسة؟»
نظرت له بأسى، ثم قبلت رأسه ونهضت وهي تقول:
« أنا رايحة الشغل.»
أومأ وادعى اللامبالاة، حتى تركت الغرفة ثم عاد لرسمه وقد سئم تلك الحياة الكريهة التي يحياها، التحكمات والقوانين التي يفرضاها عليه والداه تشعره بالاختناق وتكاد تقتله، وكلما حاول أن يعترض ويقف في وجه أبيه يخسر ويُرغَم دائمًا على القبول، والخضوع لمشيئته، يتمنى لو يجد طريقة للهروب من تلك الحياة، ولكنه يعلم أنه لن يقدر على تنفيذها، لن يستطيع أن يفعل هذا بوالديه، أن يؤلمهما بتلك الطريقة، فرغم جميع النزاعات التي تحدث بينهم، إلا أنهما مازالا والديه، وهو يحبهما ولن يستطيع أن يُلحق بهما الأذى!
نصب تركيزه على لوحته البسيطة وهو يتمتم بسخط: « حياة غبية كلها شكليات ومناصب.»
❈-❈-❈
وقفت ليلى في المطبخ تحضر إفطار خفيف لها وتضع الطعام لـ « نعناع » قطها الذي ما إن رأى طبق طعامه يمتلئ حتى هرول ليتناول إفطاره، ضحكت ليلى بخفوت، وداعبت رأسه بينما هو يأكل ثم أخذت إفطارها وخرجت لتجلس بالشرفة بذلك الصباح الشتوي بالأيام الأولى من شهر فبراير، كانت هي الوحيدة المستيقظة في ذلك الوقت، وكانت تنتهز تلك الفرصة للاختلاء بنفسها وبأفكارها الغريبة، قضمت من الشطيرة التي أعدتها وراحت تتأمل الصباح الهادئ الخالي من الطلاب الذاهبين لمدرستهم أو لامتحاناتهم، فكرت بينما تأملت الشوارع الفارغة أنها حقًّا تحتاج للانعزال قليلًا عن العالم الخارجي، فقد اختلطت به بما فيه الكفاية بالأشهر الماضية بفضل الدراسة، وقد ملأت تلك الفترة نفسها بالاضطراب؛ بسبب خوفها وقلقها المستمر من فشلها الذي يلاحقها أينما ذهبت؛ لهذا كان عليها أن تقرر أنها ستعطي لنفسها هدنة تستريح بها من الثلاثة أسابيع الماضية.
شعرت بشيء ناعم يحتك بقدمها فنظرت للأسفل لتجد نعناع يبحث عمن يهتم به، فحملته وعانقته بحب شديد لكتلة الشعر هذه كما تصفه ليليان، احتفظت بهذا القط الكسول بين عناقها وجلست على كرسي من خشب البامبو والتقطت رواية كانت وضعتها على الطاولة القصيرة -التي تشبه في تصميمها والخشب المصنوع منها الكرسي- عندما دلفت للشرفة منذ قليل، كانت قد أعطتها إيّاها صديقتها هاجر لتجرب نوع جديد من الروايات لم تجربه قبلًا، وأخذت هاجر تعدد لها ما أعجبها بالرواية حتى أثارت فضولها فأخذتها منها بالأمس عندما قابلتها بعد الامتحان، أمسكت الرواية بين يديها تتأملها للحظة «الغراب الليلي» كان اسمها غريبًا وله وقع خاص عليها فقد أثار فضولها لقراءة الرواية، رغم أنها لا تحبذ الروايات الخيالية والفانتازيا، فتحت أولى صفحات الكتاب وهي تقول:
« يلا بسم الله، نشوف أستاذ عمر سعيد كاتب إيه؟»
❈-❈-❈
جلست ليليان أمام المرآة تمشط شعرها وتتأمل وجهها بالمرآة، كانت تعلم أن ليلى مستيقظة وبالخارج ودائمًا كانت تظنها ليلى نائمة، إلا أنها كانت تستيقظ مبكرًا مثلها وتظل بالغرفة حتى آذان الظهر؛ لتحصل على القليل من الوقت بمفردها، ليس لأن ليلى تضايقها أو لأنها لا تشعر بالراحة عندما تكون بالجوار، ولكنها مؤمنة أن الانسان يحتاج القليل من الوقت بمفرده سواء أكانت هي أو ليلى، كلتاهما تحتاجان لوقت بمفردهما حتى وإن كانت علاقتهما وثيقة وتعتمد على صداقة قوية بينهما، ستحتاجان لفترة من الراحة من تلك الصداقة.
وضعت المشط على طاولة الزينة وبدأت بتمرير يديها في شعرها، شعر متموج بني اللون عادي، مثله مثل شعر فتيات كثيرات، عينان بنية بلون البندق، مثل الكثير من الفتيات، بشرة فاتحة مائلة للون القمح، مثل الكثير من الفتيات، وجسد يناسبها ليس بالسمين أو بالنحيف، مثل الكثير من الفتيات، كان حالها كحال فتيات كثيرة، ولكنها شعرت بالتميز لنجاحها بدراستها وحصولها على تقديرات عالية، وفي نفس الوقت تتعلم كيف تكون زوجة جيدة مستقبلًا من والدتها وقد أتقنت هذا الأمر بالفعل، حتى أن غريزة الأمومة بداخلها بدأت تنشط وأصبحت تشعر كأن ليلى ابنتها، وليست شقيقتها التوأم.
ولكن وجود تلك المميزات كان يخيفها ويثير قلقها، كانت تخاف ألا تتزوج أو حتى تجد شخصًا جيدًا عطوفًا محبًا لها ولعائلته مثلما تطمح؛ فهي تشعر وتكاد تؤمن أن الشخص أو الشيء الذي إذا توافرت به جميع العوامل التي قد تجعله ينجح بشكل أكيد ستتسبب في فشله، وكانت تلك الفكرة وإيمانها المتزايد بها يزيد من خوفها من أن تفقد الشيء الوحيد الذي طمحت له بشغف حقيقي، حياة زوجية مستقرة وهادئة مليئة بالمودة والرحمة.
قطع تفكيرها دلوف ليلى غير المتوقع للغرفة فنظرت لشقيقتها بتعجب وقالت:
« ايه ده! هو أنا قلقتك؟»
نفت برأسها وقالت:
« لا أنا صحيت لوحدي.»
وضعت ليلى نعناع على الأرض ليهرول نحو فراشها وينام فوق الأغطية بينما قالت ليلى:
« غريبة، في العادة مبتصحيش بدري في الأجازة.»
شعرت ليليان بالخجل من نفسها على كذبها على شقيقتها، ولكنها أخذت تذكر نفسها أن الأمر كان لهدف نبيل ليس أكثر، فابتسمت وقالت:
« عادي حسيت إني عايزة أعمل تغيير في روتيني.»
ابتسمت ليلى، وجلست فوق الفراش بجانب نعناع فلاحظت ليليان الرواية التي تحملها بيدها، كانت تقرأ إذًا، وانقطاعها عن القراءة في تلك اللحظة لا يعني سوا أنها لا تجد تلك الرواية جيدة، لهذا نهضت ليليان من أمام المرآة وجلست على الفراش أمام ليلى وقالت:
« إيه الرواية اللي في إيدك دي؟»
نظرت ليلى للرواية نظرة عابرة وكأنها تذكرت لتوها أنها ما زالت تحملها وأجابت:
« دي رواية خدتها من هاجر إمبارح.»
أومأت ليليان، وعادت تسأل:
« حلوة؟»
تنهدت ليلى، وقالت بنوع من التردد:
« يعني.. مش أوي.. بصي هي حلوة وكل حاجه، بس الكاتب ده خبيث.»
قطبت ليليان جبينها باستغراب، وسألت عن السبب، فتنهدت ليلى مرة أخرى لتبدأ بالشرح:
« بيدخل مواضيع اجتماعية شائكة في النص وفي غير موضعها في معظم الوقت بس علشان يثبت وجهه نظره.»
« طب ما كدا مش حلو.»
علقت ليليان لتوافقها ليلى وتابعت:
« فعلًا، بس المشكلة أنه مبيحسسكيش بده، يعني بيوهمك إنك بتقرأي فانتازيا عادي، ويدخل بين السطور اللي هو عايزه وصراحة الموضوع بيبقا واضح، بس في نفس الوقت هو مش كاتبها علنًا، ومتقدريش تثبتي عليه حاجة فـ علشان كدا هو خبيث، يعني مثلًا الحاجه اللي خلتني أسيب الرواية دلوقت إنه بيقول فيما معناه إن الجواز نقمة وملهوش لازمة وما إلى ذلك.»
ابتسمت ليليان بسخرية وقالت:
« ما أنتِ مش عايزة تتجوزي، إيه مشكلتك مع رأيه في الجواز اللي مشابه لرأيك شوية بس هو متخذ اتجاه هجومي وأكثر عنفًا منك؟»
أجابت ليلى بانفعال بدون سبب واضح، ولكنه بدا من فرط حماسها في خوض نقاش تبدي فيه رأيها بكل حرية وهي تعلم أن شقيقتها ستستمع لرأيها ولن تهاجمه وستحترمه، حتى وإن تعارض مع رأيها:
« يا ليليان أنا مش بكره الجواز، أنا بس مش عايزة أتجوز، خدي بالك أنا بس.. أنا أقصد إني مش بهاجم الجواز ولا بكرهه، ولا بقول إنه ملهوش لازمة، مبدنسش قدسيته يعني؛ لأن الجواز بشكل عام مش سيئ وشيء مهم جدًّا في الحياة، وأنا معترفة بده يعني مثلًا لو أنتِ قُمتِ اتجوزتِ دلوقت أنا مش هزعل، ولا هقولك لا الجواز ملهوش لازمة متتجوزيش، بالعكس هبقا فرحانة لكِ؛ لأن الجواز مش وحش، أنا بس اللي بفضل إني أنزل وأشتغل أكتر من إني أتجوز، إنما الواد ده بيهاجمه بشكل غريب، كأنه حرفيًّا عايز ينهي حاجة اسمها جواز وكدا، المشكلة إني واحدة عاقلة مثلًا ومعجبنيش فكرة فـ ببساطة مش هقرأله أو هقرأله وهكون حريصة إن أفكاره دي متوصلش لعقلي، إنما المراهقين اللي فكرهم بيبقا مشتت معظم الوقت بسبب إنهم لسة بيبنوا شخصيتهم؟ أكيد هو ليه مراهقين بيقرأوا رواياته وبنسبة كبيرة أفكاره أثرت عليهم، فـ هو كدا حرفيًّا بيدمر جيل كامل في المستقبل بالأفكار اللي بتهاجم شيء مقدس ومهم زي الجواز!»
استمعت لها ليليان بتمعن، ثم ابتسمت ابتسامتها الهادئة المعتادة وقالت:
« خلاص سيبك من الرواية الهبلة دي.»
وأخذت الرواية من بين يدي ليلى وكانت على وشك أن تلقيها بعيدًا، إلا أن ليلى استعادتها سريعًا وقالت:
« لا خليها يمكن تحلو بعد كام فصل.»
هزت ليليان رأسها يمينًا ويسارًا، وقالت:
« مفيش فايدة، ديل الكلب عمره ما يتعدل، يا بنتي مش كنتِ من خمس ثواني بطّلعي القطط الفطسانة في الرواية؟ عجبتك دلوقت؟»
أجابت ليلى بتلقائية:
« الله! مش يمكن تعجبني كمان شوية؟»
تنهدت ليليان وأومأت موافقة، وقالت:
« بس إيه الكلام العاقل اللي بتقوليه ده، لا لا الواحد مش متعود على النضج ده.»
أرجعت ليلى خصلة من شعرها خلف أذنها، وابتسمت بغرور وقالت:
« أقل حاجه عندنا.»
ضحكت الفتاتان معًا، ثم قالت ليلى بجدية لا تناسب الوضع:
« لا بجد يا ليليان أنا مش علشان مش عايزة أتجوز همشي أقول الجواز وحش الجواز فيه الجواز فيه، أنا مش عايزة أتجوز غيري عايزة يتجوز مش هبوظ تفكيره بقناعاتي أنا، وفي الآخر يحس إنه خسر لما سمع كلامي، علشان كدا بحتفظ بالحاجات دي لنفسي، ده بعيدًا عن إني حتى لو عُزت أتجوز فـ طب هتاكل عمري كله، وهخرج منها قربت على التلاتين ومحدش هيرضى يتجوزني. »
ابتسمت ليليان وتابعت بدلًا عنها:
« ده غير إنك ناوية تتخصصي في الطب النفسي، اللي هيخلي أي حد يهرب أول ما يعرف.»
امتعضت ملامح ليلى وقالت:
« شعب جاهل، بالله.»
اتسعت ابتسامة ليليان وقالت:
« ما أنتِ تحفة بردو، حد يتخصص في الطب النفسي في بلد بيعتبر الشخص لما يسرح بيفكر في حاجه مجنون؟ وكل تصنيفهم لأي مرض جنون، تخيلي لما تكوني أنتِ كمان اللي بتعالجي الجنون في نظرهم يعني بالنسبالهم أنتِ أكبر مجنونة، تخيلي كدا لما حد يعجب بيكِ ويسأل عليكِ فـ يعرف إنك دكتورة نفسية ويروح يقول لمامته، هتقوله رايح تتجوز مجنونة بتعالج المجانين يا موكوس يابن الموكوسة؟!»
أنهت ليليان جملتها وضحكت لمجرد تخيلها الفكرة، وتخيلها ماذا قد تفعل بها ليلى إن سمعتها تقول شيئًا كهذا، بينما زمت ليلى شفتيها بعدم رضى وقالت بامتعاض:
« جن أما يلهفها، ولية صعرانة زي أبلة فتكات بتاعت كليات القمة.»
انفجرت ليليان في نوبة ضحك حتى، احمر وجهها بالكامل وقالت:
« فتكات مين يا بنتي؟ اسمها أبلة نعمات.»
هزت ليلى كتفيها بلامبالاة، وقالت:
« مش هيفرق، في كل الأحوال هي ولية حرباية.»
مسحت ليليان الدموع التي تساقطت من فرط الضحك، وقالت:
« لا بس مش قادرة أنسى إزاي هجمتِ عليها ولا أجدعها مصارع وطردتيها من البيت.»
ابتسمت ليلى بزهو، وقالت:
«عمري ما هندم على اللي عملته يوميها كانت تستاهل، حد قالها تفتح بوقها؟»
قطع حديثهما صوت والدتها -التي استيقظت لتوها- تنادي على ليليان التي نهضت وقالت:
« في طريقي إلى المطبخ بقا، أنتِ روقي هنا ونزلي كتلة الشعر دي من على السرير يا ليلى!»
عانقت ليلى نعناع ونظرت لها باستعطاف وقالت:
« يا ليليان الجو برد وهو بيتدفي بالغطا.»
« ميخصنيش.»
قالت وهي تغلق الباب خلفها لتذهب وترى ماذا تريد والدتها.
❈-❈-❈
عقد سليم رباط حذائه الرياضي ثم تأكد من أن شعره بحالة جيدة وترك الشقة التي يعيش بها مع عائلته، هبط السلم الفاخر مثله مثل سائر البناء بذلك الحي الذي يسكن به عائلات مستواها المادي فوق المتوسط مثل عائلته، بالطبع مستوى عائلته يعتبر فوق المتوسط، فهي عائلة الأطباء! والده طبيب، ووالدته طبيبة، وأخوه الأكبر طبيب، حتى هو يدرس الطب! يمكن الآن التكهن بسبب إجبار عائلته على الالتحاق بكلية الطب، لا يفهم لماذا جعل هذا الشعب الوظائف شيء وراثي مثل ولاية عهد مملكة ما، فتجد أن المهندس يجب أن يكون ابنه مهندسًا، والطبيب يجب أن يكون ابنه طبيبًا، وبهذا النظام الأخرق يتم إهمال ميول وهوايات الأبناء على حساب تأمين مستقبلهم في نظر آبائهم.
تنهد بينما قطع الطريق لإحدى المتاجر الضخمة لبيع كل ما يخص الرسم من أدوات وغيرها، كان يحتاج لبعض الأشياء وقد شعر بالملل من التواجد بالشقة بمفرده بينما الجميع بالعمل، دلف للمتجر بصمت وبسبب هيئته الغامضة والقلنسوة التي يضعها على رأسه كان مصدر شك للعاملين بالمكان، مما جعله يبتسم بسخرية ويحضر ما يريده بسرعة، ويدفع ثمنه بصمت ويرحل.
قرر التنزه بلا وجهة بين الشوارع لبعض الوقت ثم عاد لمنزله، وجد والده يسير بغرفة الجلوس ذهابًا وإيابًا وقد بدا عليه الغضب، ما إن رأى سليم حتى قال بغضب مكتوم:
« كنت فين؟»
أجاب بلامبالاة:
« كنت بتمشي شوية.»
حاول والده أن يسيطر على غضبه وقال:
« وسايب موبايلك ليه؟»
« نسيته.»
همس ببرود، ليقترب والده منه وقد بدأ الانفعال يظهر على وجهه:
« كلنا عمالين نتصل عليك، وحضرتك سايب الموبايل في البيت ولا هامك تتفلق أمك اللي قلقانة عليك من بدري!»
لم يجب سليم بشيء، واكتفى بالنظر ببرود لوالده الذي لاحظ الحقيبة البلاستيكية التي يحملها، فسحبها وأخرج أقلام الرصاص الخاصة بالرسم مما جعله يشتعل غضبًا، وصاح به بغضب:
« هو أنا مش قولت مش عايز أشوف حاجة الزفت ده تاني؟»
عقد سليم ذراعيه أمام صدره وحدق بوالده ببرود، وقال:
« أنا في الأجازة حاليًّا؛ يعني أعمل اللي أنا عايزه.»
« والله؟»
سأل والده ببرود مماثل لبروده، وكأنه قد قرر أن يحاربه بنفس سلاحه، حتى أخرج الأخير الأقلام من الحقيبة وقام بكسرهم وألقى بهم على الأرض وقال:
« وأنا في بيتي حاليًّا أعمل اللي أنا عايزه.»
ثم تركه وتوجه نحو غرفته، وقال قبل أن يدلف:
« أنا هدخل أنام شوية يا ريت مسمعش صوت.»
« بيتكلم مع طفل.»
همس سليم بامتعاض بينما أُغلق باب الغرفة، حتى جلس على الأرض يلملم أقلامه، ويرى أيّهم ينفع ثم جمعهم جميعًا في يده، ودلف غرفته متعمدًا صفع الباب خلفه بقوة.
❈-❈-❈
كان يتنقل طوال النهار بين عدة مصالح حكومية يجهز بعض الأوراق ويعد ويرتب جيدًا لخطته الجديدة، لا يعلم كيف راودته تلك الفكرة، ولكنه شعر بالارتياح تجاهها؛ فهي فرصة عمل جيدة مستقرة ليست كالكتابة التي انقطع عنها منذ فترة بدون سبب واضح، كما أنها لا تتعلق بالسياحة التي بات يمقت العمل بها.
بعد ساعات طويلة من البحث والأسئلة وما إلى ذلك قرر العودة للبيت.
ما إن دلف البيت حتى وجد وجه والدته الفضولي يواجهه، تراجع للخلف خطوتين وقال:
« إيه يا ماما خضتيني.»
نظرت له نظرة ثاقبة، وقالت:
« كنت فين؟»
نزع سترته، وأعطاها إياها وقال:
« كنت بجهز للشغل.»
ثم تركها ،وتوجه نحو غرفته، لتسأله:
« هتنزل يومية يعني؟»
أجاب وهو يغلق الباب خلفه:
« لأ، هفتح دار نشر.»
نظرت لظهره باستغراب، وقالت:
« ربنا يعوض عليكِ يا أمل، خلفتي عيل مجنون.»
ثم تنهدت ،وذهبت لتكمل أعمال المنزل.
❈-❈-❈
في المساء جلست ليلى أسفل الأغطية تقرأ الرواية التي بدأتها صباحًا، وحولها نعناع يدور هنا وهناك بأرجاء الغرفة، دخلت ليليان بعد أن انتهت من الأعمال المنزلية، وقالت:
« ما أنتِ بتقرأي أهو في الرواية.»
أغلقت ليلى الرواية، ووضعتها على الطاولة بجانبها، وأجابت:
« خلصتها أصلًا.»
رفعت ليليان حاجبيها بدهشة مصطنعة، وقالت وهي تدثر نفسها بجانب شقيقتها:
« طلعت حلوة في الأخر يعني؟»
أومأت بالإيجاب، ثم اعتدلت في جلستها ورفعت أكمام كنزتها متجاهلة سؤال شقيقتها ومقررة تنفيذ اتفاقها مع والدتها بأن تجعل ليليان تخرج وتتعامل مع العالم الخارجي قليلًا، فقالت:
« عايزاكِ في مهمة.»
«مهو واضح فعلًا.»
قالت ليليان وقد لاحظت حماس ليلى وهي تتابع:
« هنروح معرض الكتاب.»
قالت ليليان بتلقائية:
« طب ما أنتِ وهاجر بتروحوا كل سنة إيه الجديد؟»
أجابت ليلى موضحة:
« أيوة بتروحوا، إنما السنادي هنروح، ملاحظة الجمع.»
امتعضت ملامح ليليان، وقالت:
« أنتِ عارفة إني مليش في الحاجات دي.»
« مش شرط يبقا ليكِ اعتبريها فسحة، وبعدين ما أنتِ بتحبي هاجر.»
تنهد ليليان، وقالت:
« هي مشكلتي مع هاجر يا فزلوكة؟ أنا بتكلم إني مش بتاعت النوع ده من الخروجات.»
قالت ليلى ساخرة:
« أنتِ مش بتاعت أي نوع من الخروجات أصلًا.»
ابتسمت ليليان باصفرار وقالت:
« اتفق.»
حاولت ليلى استعطاف شقيقتها برسم تعابير حزينة على وجهها، وقالت:
« يا ليليان بقا هي خروجة واحدة في السنة، متزعلنيش وافقي بقا والله هنتبسط والله بالله..»
قاطعتها ليليان بعد أن سئمت من محاولاتها قائلة:
« خلاص رايحة، اتهدي بقا.»
قفزت ليلى لتعانقها، وشكرتها كثيرًا، لتبعدها ليليان وهي تتذمر:
« ابعدي كلك شعر من القط.»
قالت ليلى بفخر كأنها تتفاخر بنفسها لا قطها:
« ياختي ده شعره مبيقعش ده.»
تنهدت ليليان، ثم تذكرت شيئًا فقالت:
« لا ويت، وماما؟»
قاطعتها ليلى مطمئنة:
« قولتلها قبل ما أنام، وهي هتروح تقعد مع خالو علشان متبقاش لوحدها، يلا بقا علشان إحنا كمان ننام علشان نصحى بدري.»
نظرت لها ليليان نظرة ثاقبة، وقالت:
« يعني كنتِ مخططة لكل حاجة؟»
قالت ليلى وهي تدعي انشغالها بالقط:
« ما أنا كان لازم آخد موافقة من المجلس الأعلى قبل ما أقولك وكدا.»
نظرت لها ليليان غير راضية، ولكنها تعلم أن ليلى هي ليلى، ولن تتغير ولطالما ستجعلها آخر من يعلم؛ لهذا استلقت لتنام، وتمنت لها ليلة هانئة.
بينما جلست ليلى، وسحبت دفترها من أسفل الوسادة، وبدأت بالكتابة، لقد أثار حديثها حول الزواج مع ليليان صباحًا بعض الأفكار في رأسها، فقامت بتدوينها كالتالي:
« لقد عِشت حياتي بأكملها لا أفهم الكره المستمر من البعض للزواج؛ فأنا وإن كنت لا أريد الزواج، لن أقف يومًا وأحرض الآخرين على كره الزواج، وهذا ما كنت أشرحه لِـ ليليان صباحًا.
ولكن من بين جميع الأشياء المتعلقة بالزواج أن الجميع يصدق من يقول أنه لا يريد الزواج، فتلك برأيي دعابة مضحكة، فأنا أرى أن لا شخص يرفض الزواج أو لا يريده؛ لأن الله خلقنا جميعًا على فطرة واحدة وهي احتياجنا للآخر، فآدم كان يحتاج إلى حواء، وحواء كانت تحتاج إليه لتعمير الأرض، ويمكنني الاعتراف بأني تخيلت نفسي عدة مرات في فستان الزفاف الأبيض، أزف إلى من يختاره قلبي، ويرزقني الله بأطفال، ولكن حتى وإن كان التفكير بتلك الأشياء لطيفًا، إلا أنك بحاجه دائمًا للتذكر أن الزواج مسؤولية كبيرة تقع على عاتقك، وعليك أن تؤدي مهمتك بها على أكمل وجه، وهنا تكمن مشكلتي مع الزواج، فأنا أخاف بشدة من تلك المسؤولية وأخاف أن أُخطئ؛ لهذا لطالما رفضت فكرة الزواج في صغري عندما كانت تروادني، كما أنني عندما وجدت ميولي وطموحي تتجه نحو العمل أكثر من الزواج، وربما هذه هي الأسباب الحقيقية التي تجعلني أرفض الزواج، وربما هناك...»
قاطعتها ليليان عن الكتابة عندما قالت:
« ما كفاية بقا ياست الكاتبة، واطفي النور!»
ابتسمت ليلى، وخبّأت الدفتر، وأغلقت الضوء، ثم عانقت نعناع الذي غطَّ في النوم، واستلقت لتنام بدورها.
يتبع