-->

الفصل الخامس - مرآة مزدوجة

 



الفصل الخامس


عاد سليم لمنزله في وقت متأخر، لا ينكر أنه قد قضى وقتًا لطيفًا بصحبة زين وأصدقائه، أو بالمعنى الأصح جيرانه، فقد اكتشف أن زين مثله لا يستطيع تكوين صداقات وليس لديه أصدقاء بالجامعة، ولكنه كان أكثر حقًا منه في كونه قد تربى مع جيرانه وأصبحوا أصدقاء منذ الصغر حتى الآن، ولكن أكثر ما أشعره بالراحة كونه استقبلوه بينهم وكأنه فرد منهم وليس شخصًا غريبًا، في الواقع اليوم هو اليوم الوحيد الذي لا يشعر فيه بالغربة ويضطر للجوء لسماعاته ليعزل نفسه ويهرب من هذا الشعور الكريه، رغم كونه ما زال يشعر بالتوجس تجاه زين، لا يصدق أنه اعتبره صديقًا له بهذه السرعة، ولكن - وكما تصرف مع عدة أمور مؤخرًا - سيترك كل شيء ليأخذ مجراه، كمتفرج وليس كشخص يعيش تلك الأحداث.

بينما كان يتوجه غرفته قابل والده الذي كان يتجهز للذهاب للمستشفى، رمقه والده بحيرة ولكنه آثر الصمت وتوجه للخارج، أغلق سليم باب غرفته ورائه وألقى بثقله فوق فراشه، ما كانت إلا دقائق معدودة حتى سمع صوت المفتاح يدار بالقفل وأحدهم يخلق الشقة، ربما هو علي، فقد سمع صوت والده يتحدث مع أحدهم وهو يعلم أن والدته تفضل للذهاب لقضاء الليلة مع شقيقتها بأيام معينة بالأسبوع، ولكن أذنه لم تلتقط ما قاله والده موجهًا حديثه لعلي:


- لسه راجع من شوية شوفه كان فين.


نظر له علي باستغراب وكرر عبارة والده:


- لسه راجع؟


أومأ والده وقال:


- أه، روح كلمه وخليه يحكي لك.


هز علي رأسه موافقًا، ثم ابتسم وقال:


- ما دام قلقان عليه، ليه الحرب اللي عاملينها في البيت دي؟


تنهد وأجاب:


- أنت عارف إن أخوك رأسه جزمة وعمره ما هيقبل بحاجه اتفرضت عليه.


- بس يا بابا أنت عارف إنه رغم إنه عنيد، إلا إنه طيب وأكيد لو اتكلمت معاه وفهمته هيعدي.


زفر بتعب وقال بيأس:


- يا ريت والله، المهم روح أقعد معاه أنت وأنا ماشي.


أومأ علي وتوجه نحو غرفته، بعد عدة لحظات دلف علي الغرفة مرهقًا وألقى بجسده على فراشه مثلما فعل سليم، نظر لشقيقه بتعجب من ملابسه وقال:


- أومال أنت كنت فين؟


زفر سليم بينما حدق بسقف غرفته وأجاب:


- خرجت مع واحد اتصاحبت عليه في الكلية.


ابتسم علي وقد شعر بالسعادة كون شقيقه قد بدأ يخرج من قوقعته وقال ممازحًا:


- طب كويس والله، كنت بدأت أشك فيك وقولت كلها حبة ونلاقيه بيروق وبيغسل المواعين.


نظر له سليم بغيظ ولكنه عاد ينظر للسقف وقال بنبرة خافتة حزينة:


- بس أنا خايف يا علي.


قطب علي جبينه بتعجب وهو ينظر للسقف بدوره وقال مستفسرًا:


- خايف من ايه؟


تنهد سليم بثقل وأجاب:


- خايف من اللي حصل ده، يعني إن يبقا ليا صاحب، أنت عارف إن عمري ما كان ليا صاحب فـ لما حصل ده بسرعة مخليني خايف.


أخذ علي نفسًا عميقًا وقال بعملية:


- الحياة سباق يا سليم، كل اللي فيها بيجري بسرعة رهيبة، ولو فضلت خايف من السرعة دي عمرك ما هتتقدم ولا تعمل حاجه فيها.


أومأ سليم واعتدل في جلسته محدقًا في الفراغ بشرود، ثم تنهد ونهض قائلًا:


- أنا هقوم أغير وأشوف لي حاجه أكلها قبل ما أنام.


- طيب


همس علي موصدًا عينيه يريحهما قليلًا.


❈-❈-❈




كانت ليلى تنتظر أن تغط ليليان في النوم لتنهض وتبدأ بالكتابة في دفترها مثلما اعتادت أن تفعل، لم ترد أن تراها ليليان اليوم؛ لأنها تعلم أنها ستعود للتطرق لأمر سليم مجددًا وهي أرادت أن تتحدث عنه مع نفسها فقط في تلك اللحظة دون أن تتعرض لأسئلة كثيرة من طرف خارجي؛ لهذا نهضت وجلست فوق الفراش وأضاءت المصباح ذا الضوء الخافت بجانبها والذي لن تشعر ليليان به لأنها ما إن تغط في النوم لا تشعر بأي شيء من حولها عكس ليلى التي تستيقظ إن مرت نملة بجانب فراشها.


أخرجت ليلى دفترها من أسفل الوسادة وكان نعناع الذي أستيقظ مستعدًا لبعض اللعب جعل من مهمتها في الكتابة صعبة لأنها حاولت بينما تكتب أن تبعده عن ليليان لتضطر إلى ترك الدفتر وأخذه بين ذراعيها حتى غط في النوم مجددًا، ذلك النعناع لا يفعل شيئًا سوى النوم والأكل! 


تنهدت ليلى ناظرة له بابتسامة قبل أن تقبله فهي لا يمكنها التوقف عن حب هذا المخلوق الصغير، أخذت ليلى دفترها وفتحته لتبدأ بالكتابة: « لا أعلم لماذا لم أتوقف عن التفكير بذلك الحادث الذي حدث بالأمس والذي أحببت أن ألقبه بحادث لأن جميع الأحداث التي تلته كانت فوضوية وغير مرتب لها، ولا أعلم لماذا لم أتوقف عن التفكير بالطرف الثاني والذي لم أنتبه لملامحه حتى اليوم، فبالأمس لم أهتم للنظر له كل ما اهتممت به هو أنني كنت شخصًا سيئًا يتأخر على محاضراته، أعلم أنني مبالغة قليلًا في هذا ولكني مزاجية بطبيعتي، فتارة يؤلمني أن أكون متأخرة أو أن أترك إنطباعًا سيئًا في نفس أحدهم، وتارة أخرى لا أبالي بحضور تلك المحاضرة ولا أبالي برأي الآخرين أو الإنطباع الذي يأخذوه عني، وأرجح أن تلك التارة الأخرى لا تحدث إلا عندما أكون قد سئمت من هذا العالم والاندماج معه ومع بقية البشر الذين يعيشون به. 


على أية حال لنعود لأصل الحديث، لقد آثار صاحب العدسات الزجاجية -والذي لم أكن أتذكر أي شيء به سوى تلك العدسات بالأمس- فضولي خصوصًا عندما نظرت له بتمعن، كان شعره بني يميل للون الشوكولا الفاتح ووجهه جامد معظم الوقت عندما ينصب تركيزه على شيء ما، وعينان بنيتان تختبئان خلف عدسات نظارته الطبية، كان مظهره يوحي بأنه ليس فاشلًا، كان يمكن تمييز هذا بسهولة، ولكن ربما يعاني من مرض نفسي ما، فهؤلاء المرضى يحبون أن يحافظوا على مظهرهم ويحرصون أن يكون مظهرهم يوحي بالاحترام ويكونوا معظم الوقت جامدين، حسنًا هذا احتمال ضعيف جدًا ولكني أحببت أن أضعه بقائمة الاحتمالات علّي أستطيع أن أحلل شخصيته. 


حسنًا كانت تلك جميعها شكوك عقلي في اللحظة التي كنت أراقبه بها، ولن أنكر أنني أردت إصلاحه في عقلي الباطن رغم إنكاري للأمر أمام هاجر وليليان، كانت جميع الأفكار تلك تشعرني بالخوف منه وتجعلني لا أرغب في الذهاب والتحدث معه، ولكن بنفس الوقت أنا لا أستطيع منه نفسي من محاولة مساعدة الآخرين ودعمهم نفسيًا، هذا ربما منذ أن كنت مراهقة وتعرضت للعديد من المواقف السيئة والخزلان من المجتمع، وهذا جعلني أشعر أن ربما الجميع مثلي، ربما الجميع مخزول وحزين، فاندفعت في رغبتي في مساعدتهم وتقديم الدعم لهم حتى وإن لم يرغبوا في هذا، يبدو الأمر كمرض أو وهي أعاني منه ولكن لا بأس، على أية حال، كنت في تلك اللحظة وكأن جميع تلك الأفكار تحولت لأصفاد تربطني بالكرسي الذي أجلس عليه وتشل حركتي، ولكن هيهات أنا عنيدة كالماعز، وباللحظة التي حولت هاجر بها هذا الأمر لتحدي لم أشعر بنفسي إلا وأنا أجلس أمامه أتجاذب معاه أطراف الحديث، لم يكن مريبًا أو غامضًا، في الواقع عندما أمضيت اليوم معه أمكنني رؤية نقاء بداخله جاهد طويلًا لإخفائه ولمعة حماس وشغف في عينيه بدت وكأنها تحصل على حريتها للمرة الأولى منذ مدة طويلة، إن رآه أحدهم من بعيد لوجده شخصًا جامدًا يكره الدراسة ويميل إلى الفشل، ولكن عندما أجبرته على حضور المحاضرات والدراسة -متحججة بحقي في اعتذار- وجدته شخصًا مقبلًا على الدراسة وبدا لي أنه ربما يهمل دراسته لأنه يكره تلك الكلية وربما لأنه كان يطمح للاتحاق بكلية أخرى، لا أعلم ولا يمكنني تأكيد أي شيء مما حدث بهذا اليوم إلا أنني متأكدة من أنه شخص سوي نفسيًا، وهذا يدفع السرور لقلبي، ولكن بنفس الوقت لا أعلم هل علي أن استمر في محاولة تقديم المساعدة له أم لا، ولكن شيء بداخلي يخبرني بأني ساستمر حتى وإن رفض جزء ما بداخلي. »


أغلقت ليلى دفترها على تلك النهاية ثم أعادته لمكانه أسفل الوسادة، أغلقت المصباح واستلقت لتغط في النوم بدورها. 


❈-❈-❈




دلفت هاجر لغرفتها غاضبة تضرب الأرض بقوة، فقد تشاجرت لتوها مع والدتها كما المعتاد على سبب تافه لا معنى له ومن حسن حظها أن والدها لم يعد بعد من العمل حتى لا يبوخها على شجارها هذا.


أخذت تتنفس بعمق علها تهدأ من روعها، ثم أغلقت الأضواء واستلقت فوق فراشها دون رغبة حقيقية في النوم، ماذا تفعل الآن؟ لن تستطيع أن تهاتف ليلى لأنها لا تبقى مستيقظة لوقت متأخر خاصة في أيام الدراسة، تلقائيًا عادت تفكر بشجارها مع والدتها، لماذا والدتها تصر على تزويجها وهي ما زال أمامها أربعة أعوام حتى تنهي دراستها؟، لماذا تصر على تزويجها عمومًا؟، لطالما كان هناك فجوة كبيرة بينها وبين والدتها لهذا لم تستطيع أيًا منهما فهم الأخرى، وهذا أكثر ما آلم هاجر، فهي ترى جميع الأمهات وبناتهن تكون علاقتهم طيبة ويكونوا متقاربين بشدة، عكسها هي ووالدتها، فهي ترى العلاقة بين ليلى ووالدتها وتشعر بالحزن والحسرة أحيانًا أنها هي ووالدتها ليستا هكذا، وأكثر ما آثار ألمها في تلك اللحظة هو عدم إدراك والدتها لمدى حساسيتها، مثلها مثل الجميع، يظنوها خشنة صعبة التعامل ذات رأس متحجر، ولكنها ليست هكذا هي هشة في الواقع، وتستخدم تلك الطريقة الهجومية والعنيفة في التعامل لكي تحمي نفسها، فهي تخاف أن يؤذيها أحدهم، هي بطبيعتها تثق بالبشر بسرعة، فإن لم تستخدم العنف لابعاد الناس عنها سيتم استغلالها؛ لهذا هي لا تريد الزواج؛ لأنها تخاف أن تثق بشخص قد يؤذيها يومًا، وتخاف أن تفقده في نفس الوقت، جميعها مشاعر معقدة هي شخصيًا لا تفهمها، ولكنها توقعت أن والدتها ستفهمها، على الأقل لأنها هي من قامت بتربيتها.


قطع صوت والدتها الذي يصبح باسمها حبًا أفكارها، ربما قد أتى والدها وشقيقها وتريد منها أن تساعدها في تحضير الطعام، تنهدت بحسرة، هي حتى لم تفكر في أنها ربما قد تكون حزينة من هذا الشجار، تنهدت بقوة بينما جمعت شعرها في ذيل حصان ونهضت اللي نداءها.


❈-❈-❈



جلس زين يعبث في هاتفه بملل بعد أن عاد لمنزله، لم يشعر برغبة في النوم؛ لهذا قرر تصفح إحدى وسائل التواصل الاجتماعي حتى يغفو، كان يفكر هل عليه أن يدرس قليلًا أم لا ما دام ما زال مستيقظًا، ولكن لا هو يشعر بالكسل وعقله خامل ولن يستوعب أي معلومة الآن، تنهد بملل مغلقًا هاتفه ووضعه بجانبه على الفراش، ماذا قد يفعل شخص بهذه الظلمة بينما الجميع من حوله نائم سوى التفكير بآخر شيء فعله؟ لا شيء، وبالفعل جلس يفكر بآخر ما فعله اليوم، والذي كان دعوة سليم للتسكع معه ومع صديقيه وجاريه، آدم وبلال، حسنًا لقد كان هذا قرار جيد، إن سليم شخص لطيف وطيب القلب، رغم دخوله المفاجئ لعزلته بالجامعة، إلا أن زين تمكن بسهولة من الشعور بأنه وحيد دون أصدقاء، مثله، ولكنه على الأقل لديه أصدقاء طفولته الذين يجعلوه يتناسى كونه بلا أصدقاء بالجامعة، ولكن سليم ليس كذلك على ما يبدو، وهذا ما جعله يصادقه؛ لأنه يعلم جيدًا كيف تكون الوحدة مؤلمة، ولأنه لا يحب أن يرى أحد يعاني من شيء هو قد عاناه يومًا وكان صعبًا عليه؛ لهذا صادق سليم وحاول أن يعرفه على أصدقائه الذين رحبوا بالفكرة بدورهم، وقد بدأ على سليم أنه قد بدأ يندمج معه ومع أصدقائه وهذا شيء يسعده كونه السبب في هذا.


تسربت الأفكار خارج عقله تدريجيًا وبدأت عيناه تنغلقان، ليغفو دون أن يستكمل أفكاره.


❈-❈-❈



عندما أغلقت ليلى المصباح وغفت، كانت ليليان ما زالت مستيقظة تفكر، تستعيد يومها بالجامعة والذي لم ولن تبوح به لأحد كعادتها، فهي لا تحب أن تخبر أحد عن أيامها بالجامعة، خاصة تلك الأيام التي تتعرض فيها للسخرية غير المبررة من زملائها مثل اليوم، كانت دائمًا ما تتعرض للسخرية كونها وحيدة ولا تتحدث مع أحد أو لا تتفاعل مع البقية -وكأن هذا شيء قد يدعو للضحك- ولكنها كلما ازدادت تعليقاتهم الساخرة كلما شعرت بالراحة أنها لم تحاول أن تصادق هؤلاء الحمقى السخفاء.

اعتادت وجلست على الفراش ونظرت لليلى التي غرقت منذ وقت قصير محتضنة نعناع، تشعر بالحزن وتأنيب الضمير كونها لا تصارحها بكل ما تشعر به مثلما تفعل هي، تنهدت واستلقت مجددًا، لا يمكنها أن تصارح أحد بما تشعر به أو حتى تسرد له ما تمر به، هي تخاف، تخاف أن تعبر عن مشاعرها لأحد، ليس لأنه قد يستخدمها ضدها - وهذا ليس وارد حدوثه إن صراحة ليلى - ولكنها تخاف أن يتم فهمها بطريقة خاطئة، فهذا هو أكثر شيء قد يدمر علاقتها لأحدهم، أن يفهمها بطريقة خاطئة، وهي بطبيعتها لا تستطيع التعبير عن مشاعرها بطريقة صحيحة، مما يجعلها تُفهم بطريقة خاطئة دائمًا، تنهدت بعمق بينما سخرت من نفسها، منذ متى وهي تتمنى لو يفهمها أحد بطريقة صحيحة؟ هي معتادة على الصمت وستظل تعيش به لوقت طويل، الآن كان وقت النوم حتى لا تتأخر على جامعتها صباحًا.


❈-❈-❈




كان يوم الجمعة قد أتى بكل ما فيه من طقوس لطيفة، بداية من إشعال البخور الذي يضيف دفئًا وعبقًا خاصًا على المنزل، أشعلت ليلى البخور وجلست تشتم رائحته مبتسمة وجلست تقرأ في القرآن، بعدما انتهت من طقوسها الأسبوعية صنعت لنفسها كوبًا من الشاي ملئته بالكثير من أوراق النعناع الخضراء وأخذت دفترها ودلفت بالشرفة لتبدأ يومها بالقليل من الكتابة: « مر الأسبوع الأول من الفصل الدراسي الثاني مرورًا بطيئًا ولكني لم أبئس من هذا، قد بدأت أعتاد وجود سليم في الجوار دائمًا، خصوصًا أنني عرفته على هاجر فأصبحنا نذهب للمحاضرات معًا وندرس معًا، وهناك زين أيضًا، يبدو أن صديق سليم الوحيد، في الواقع لم أكن أتصور أن شخص مثل سليم قد يكون لديه أصدقاء، فعلى حسب تحليلي له، فهو بنسبة كبيرة شخص انطوائي ليس لديه أصدقاء، ولكنه خالف توقعاتي، رغم أن أربعتنا قضينا أسبوعًا مليئًا بالاستذكار ولطيفة، ولكني رغم هذا حاولت وضع بعض المسافات بيننا وأن تكون علاقتنا تقتصر على الزمالة، ولكن بدا أن سليم لن يسمح بهذا فتحولت علاقتنا ببطء إلى صداقة، في هذا الأسبوع أمكنني التأكد من أن سليم لم يحتج للتصليح لأنه ليس مكسورًا من الأصل ولا يعاني من شيء ما، ربما فقط هو كان محتاج الدافع، الشيء الذي يثبت له أن تلك الكلية ليست بتلك السوء وأنها تستحق، ربما، لا أعرف ما زلت لا يمكنني تحديد سبب إهماله للدراسة رغم أنه عندما أُجبر على الاهتمام بها ظهر شغفه بها؛ لهذا لم أمنع نفسي من التساؤل أبدًا ولطالما لاحظ تساؤلي الصامت ولكنه كان يفضل عدم الإجابة عليه، فكلما كان يرى التساؤل على وجهي كان يضحك ويقول بهدوء: « نفسي عقلك يبطل يحلل ويفصص كل موقف. » ولكن هذه الإجابة لم ولن ترضي فضولي! كنت أغضب منه وأصمت حتى قرر في إحدى المرات أن يشبع فضولي فنظر لي برقة، رقة لم أرها تتجلى في أعين رجل يومًا، مما تجعلني اختار في أمر هذا الشاب الغريب، ولكني رأيتها في عينيه في ذلك اليوم للمرة الأولى، لتعطيني مفهومًا جديدًا عن الرقة، رأيت شفتيه تتسعان لتبتسمان بكسل وهمس:


« مقدرش أنكر إني بحب المذاكرة وبستمتع بيها وكنت بقعد أناقش صحابي في الدروس أيام المدرسة زي ما بعمل معاكِ دلوقت، بس فيه فرق بين إنك تذاكري بشغف أو إنك تذاكري بغير شغف والكلية دي أنا مش شغوف بيها. » 


لقد ظهر الحق أخيرًا! لقد أشبع فضولي وأخبرني بما أريد أن أعرفه أو بالأحرى ما أريد أن أتأكد منه، شعرت بنوع من الشفقة تجاهه، كنت أرى أن من يدرس شيئًا لا يحبه وغير شغوف به يعتبر كاللعنة التي وقعت عليه، أي شخص يسمعه وهو يقول أنه يكره الدراسة بكلية تعتبر من كليات القمة كما يُقال يمكنه التكهن بأن والديه هما من أجبراه على الالتحاق بتلك الكلية وما أسوأ تدخل الأهل في حياة أبنائهم والعبث بها، الجميع يعلم أن نيتهم صافية وأنهم يتمنون أن يكون أبنائهم أفضل البشر على هذا الكوكب، ويمكنني القول أن حتى سليم يعلم هذا، ولكن دائمًا يكون هذا بالطريقة خاطئة دائمًا يخفقون في تقدير أن أبنائهم بحاجه لاختيار مستقبلهم ومصيرهم بأنفسهم.


وصلتني رسالة على هاتفي، فتحت لأجدها رسالة من المجموعة التي أنشأها سليم لتضمني أنا وهو وهاجر وزين لنتابع ما ندرسه مع بعضنا البعض، كانت هاجر تسأل حول أمرًا ما وقد قام سليم بتسجيل صوتي ليوضح لها، فتحت التسجيل الصوتي لأستمع لما يقوله، كان عندما يقوم بشرح شيئًا يتحول لشخص آخر، تصبح نبرة صوته أكثر عملية وجدية فيبدو كأستاذ جامعي يُلقي إحدى محاضراته، ودائمًا ما ذكرني صوته بالروايات التي يكون بطلها أستاذ جامعي وبطلتها طالبة لديه والتي اعتدت قراءتها في مراهقتي.


بينما كنت أستمع للتسجيل الصوتي تذكرت شيئًا ما، من المفترض أنني وسليم اتفقنا أنه سيكون ملتزمًا لأسبوع واحد وقد مر هذا الأسبوع بالفعل، هذا يعني أنه لن يكون ملزمًا بعد هذا أن يلتزم وسيعود لما كان عليه! »


❈-❈-❈



عندما انتهى سليم من المذاكرة تنهد براحة وأغلق دفتره وكان على وشك النهوض قبل أن يجد الباب يُفتح ويدخل والده، نظر والده له للحظة بصمت قبل أن يتقدم ويغلق الباب خلفه ثم اقترب من مكتبه بينما حدق به سليم بجمود، قال والده وهو ينظر إلى دفتره:


- شايفك بتذاكر يعني الفترة دي. 


نظر له سليم ولم يتفوه بشيء، كانت نظراته عدائية تطرده من الغرفة دون أن تصدر صوتًا، تنهد والده وقال:


- عارف لما كنت في سنك، مكنتش عايز أدخل طب بردو زيك، صحيح إنك أسوأ مني بمراحل، بس اللي أقصده إننا اتحطينا في نفس الموقف اللي كنا رافضينه، وبإيدنا نتأقلم معاه أو نفضل كارهينه ورافضينه وصدقني الكره مش هينفعك في حاجه. 


قال سليم بحدة:


- وكان ممكن اللي حطنا في الموقف ده ميحطناش فيه من الاصل. 


تنهد والده مجددًا ثم قال هامسًا:


- سليم أنا مش بكرهك ولا عمري ما هأذيك، أنا أبوك. 


ثم تركه وانصرف لينزع سليم نظارته الطبية ونهض ليستلقي فوق فراشه، ما قاله والده يشابه ما قالته ليلى سابقًا، كانت ليلى تحاول أن تثبت له أن الدراسة ليست أمرًا سيئًا أو صعبًا، ولكنها لا تعلم أنه مدرك لتلك الحقيقة بالفعل وأنه فقط لا يريد أن يرهق نفسه بكلية لا يحبها. 


تنهد سليم عندما تذكرها، لطالما كانت عينيها تطالبان بأجوبة، لطالما كانت متسائلة، تريد تحليل كل شيء وأي شيء، وقد ظهر هذا جليًا في معاملتها معه، كانت تريد اكتشافه ولكنها تريد أن تضع حدودًا للمعاملة بينهما، بدت وكأنها تريد أن تصلحه، ولكن كانت المفاجأة أنه لا يحتاج إلى الإصلاح، فرغم علاقته غير الجيدة بعائلته معظم الوقت إلا أن حياته ليست سيئة لتلك الدرجة، فهو يعيش بحي راقي، يرتدي أفضل ملابس ويأكل أفضل طعام، يكفي أنه يتعلم بالجامعة التي لا تخطر في أحلام الكثير، كانت حياته جيدة، وكان عليه أن يحمد الله عليها، حتى وإن كان يمر بنزاعات عدة وتعرض لضغوط بسبب تلك النزاعات فهو في حال أفضل من غيره. 


تنهد مرة أخرى وأغمض عيناه، والآن ماذا؟ لقد مر الأسبوع الذي اتفق عليه هو وليلى، هل يريد أن يستمر بتلك الطريقة ويعود للدراسة؟ لقد اشتاق بحق للدراسة، اشتاق لأن يكون أصدقاء، يساعدهم ويساعدوه، ولكن هل هو مستعد لأن يتخلى عن عناده من أجل ألا يشعر بالوحدة؟ هل هو مستعد للاستماع لنصيحة والده والتأقلم مع تلك الحياة التي فـرضت عليه؟ ربما، إن استمرت ليلى في التساؤل، قد يفعل ليجيب عن تساؤلاتها. 


ابتسم ونهض للقيام بأي شيء، فالكسل سيجعله يغط بالنوم طوال النهار.


يتبع