الفصل السادس - مرآة مزدوجة
الفصل السادس
حضر سليم باكرًا على غير العادة، فلم يجد أحد قد حضر بعد؛ لهذا قرر أن يذهب للمكان الوحيد الذي احتواه داخل تلك الجامعة على مدار ثلاث سنوات، المقهى، ذهب للمقهى واختار بقعة بعيدة كعادته ليجلس ويعبث بهاتفه بملل منتظرًا قدوم أحدهم، ولكن من قد أتى هو آخر شخص رغب في أن يراه الآن، تقدمت الفتاة منه راسمة ملامح معاتبة بدلال مصطنع وقالت:
- كدا تسيبني أسبوع كامل من غير كلام؟
❈-❈-❈
وصلت ليلى الجامعة بعد انتهاء المحاضرة الأولى والتي لم تحبذ حضورها لأنها لا تطيق الأستاذ الذي يقوم بشرحها، بحثت بعينيها عن هاجر التي مؤكد أنها قد حضرت منذ فترة لأنها تحضر المحاضرات الأولى فقط بالمقهى ما إن دلفت، لم تحاول البحث عن سليم لأنها كانت تعلم أنه ليس من حقها التحدث معه مجددًا فقد انتهى اتفاقهما بالفعل، وقد يواجه حديثه معها بالرفض، التقطت عيناها مشهد جعل فكها يسقط بتعجب واستنكار لما تراه، كان غريب الأطوار هذا يجلس مع إحدى الفتيات ويتحدثان، يبدو من تعبيرات وجوههما أنه ليس حديثًا عاديًا قد يحدث بين زميلين، كيف يمكن لفتاة أن تعجب بغريب أطوار مثله؟ خاصة أن تلك الفتاة تبدو من النوعية التي تحب أن تلفت الانتباه من مظهرها ومؤكد أنها ستفضل أن تكون بصحبة شاب جذاب يخطف الأنظار، والذين يكون في معظم الوقت زير نساء، وألم يقل هذا اللعين سابقًا أنه لا يستهوي هذا النوع من العلاقات وأنه لم يكن له سابقة من قبل؟ لكانت كذبت عينيها لولا أنه هو من يجلس أمامها، إذًا هو يكذب، يحاول أن يخدعها ربما، أو يستدرجها، في لحظة تغيرت جميع أفكارها عنه ولإيمانها بنظرية المؤامرة أصبحت تراه مخادع كاذب يستدرج الفتيات ، والأسوأ أنها بدأت تصنف أي مرض نفسي يمكن أن يعاني منه، عادت لأرض الواقع ونظرت له نظرة نارية لم يرها هو، قررت اغتنام الفرصة لمعرفة المزيد عنه؛ لهذا هرولت لتجلس على الطاولة المجاورة لهما وهي حقًا لا تعلم كيف لا يراها، ظهرها يقابل ظهر تلك الفتاة، همست متوعدة:
- قفشتك يا سايكو.
استمعت ليلى لحديثهما الذي بدا كآخر حديث بينهما، فقد قالت الفتاة باستنكار:
- الله! سليم أنت بتهزر صح؟
أجابها بجمود:
- لا مبهزرش، كدا كدا أنا وأنتِ عارفين من الأول إن اللي بنعمله ده لعب عيال، فـ خلينا نخلص بطريقة حضارية أحسن.
- سليم إديني فرصة..
قاطعها سليم بحدة:
- لا فرصة ولا نيلة، نهال أحنا الاتنين عارفين إن علاقتنا طولت قصرت كانت هتنتهي، فـ بلاش دراما بقا!
- تمام
همست تلك الفتاة ثم حملت حقيبتها ورحلت، راقبت ليلى انسحاب تلك الفتاة البطيئ بشفقة، سيطر عليها الغضب، فنهضت واستدارت لتواجهه وهي تقول بنبرة هجومية منفعلة:
- أنت معندكش دم ولا ايه!
نظر لها سليم للحظة قبل أن يبتسم بتكاسل فشعرت ليلى برأسها يحترق، كيف يفعل هذا بإحدى الفتيات؟ حتى وإن كانت ليلى لا تؤمن بتلك العلاقات وتحتقرها إلا أنه ليس من حقه العبس بمشاعر الآخرين!
بينما سليم على الجانب الآخر كان يسخر منها داخليًا، هي لا تعلم شيء عن تلك العلاقة ولا تفهم شيء عنها، مثلها مثل البقيات، جميعهن يظنونه يبحث عن علاقة عاطفية مليئة بالرومانسية والكثير من المشاعر اللطيفة، بينما هو كل ما كان يجعله يلجأ لتلك العلاقات هي حاجته للتحدث قليلًا مع أي شخص وعن أي شيء، فهو لا يكره شيء أكثر من الصمت كما أنه لا يعلم كيف يكتسب أصدقاء؛ لهذا انجرف في هذا النوع من العلاقات التي بنظره ليست سوى علاقات سخيفة وطفولية ولكنها تقضي على وحدته للقليل من الوقت، حتى وإن كان بدايته مع تلك العلاقات الحب بالفعل، فهو الآن لا يراها سوى سبيل لكسر حاجز الصمت والوحدة اللذان يغلفاه منذ وقت طويل، كما أنه أصبح يجعلها في حدود تجعل العلاقة تبدو كصداقة في نظر الجميع، ولكن ليس في نظر تلك الساذجات اللواتي يدخلن معه في العلاقة.
قالت ليلى مستشيطة لتجذب انتباهه:
- بتضحك يا سايكو؟ بتضحك بعد ما دمرت مشا..
قاطعها سليم بجمود وقد اختفت الابتسامة عن وجهه:
- خانتني
حسنًا لقد انتهى وقت الأفكار وعليه أن ينهي تلك المسألة حتى وإن اضطر للكذب؛ فهذا لم يحدث ولكن ما حدث بالفعل أنها أصبحت تتذمر كثيرًا بشأن تلك الحدود التي يضعها بالعلاقة، مما جعله ينهي الأمر، إن كانت تريد كلمات معسولة وهدايا فلتذهب لأحد غيره، هو ليس كذلك، هو شخص قد يجلس مع الفتاة يمازحها، يستمع لها، يحاول أن يخفف من ألمها إذا كانت حزينة، لا يتركها إن كانت تشعر بالوحدة، يقدم لها النصح والمساعدة، هو صديق ولا ينفع أن يكون حبيبًا.
حدقت به ليلى بصدمة للحظة ثم عادت تقول:
- بس أنت قولتلي أنك ملكش..
قاطعها سليم مجددًا:
- وطلع ليا.
هل ستظل تسأل كثيرًا؟ لماذا تمتلك كل هذا الفضول والحب للمعرفة؟، تمنى لو يعلم ما يدور ببالها الآن ليعلم ماذا عليه أن يقول، فهو لا يحب أن يظهر بمظهر سيء أمام أحد، يكفي أن الجميع يراه غريب الأطوار.
صمتت ليلى ولم تجد ما تقوله، كان عقلها مشوش، حسنًا هي تضع اللوم على الفتاة بدورها أنها قبلت على نفسها أن تكون بعلاقة كتلك، ولكنها كانت تلوم سليم على كل هذا، فقد جعلته يكون هو السيء المستغل والفتاة الضحية، ولكن أن تُقلب الأدوار ويصبح هو الضحية؟ هذا بحاجه لطريقة جديدة في التفكير، ثم لماذا لا يبدو عليه الحزن أو الأسى وكأنه لم يتعرض للخذلان توًا؟ لا تعلم، ولكنها تريد أن تعلم ولا تستطيع الابتعاد وادعاء عدم الاكتراث، فهي فضولية وما إن يدخل حياتها شخص جديد حتى تريد أن تعرف تاريخ حياته بأكملها، هذا سيء وسيوقعها في الكثير من المشاكل معه؛ لهذا لا تستحب التعرف على الكثير من الناس.
بينما تنهد سليم لتستفيق من شرودها، راقبته وهو يخلع نظارته ويضعها على الطاولة ثم يقول بهدوء:
- ليلى خديها قاعدة كدا، مفيش راجل ملهوش علاقات حتى لو كيوت ومنعزل وبنضارة ودحيح وكدا، حتى لو ملهوش علاقات هيبقا بيحب مثلًا، وخليني أبقى صريح معاكِ أنا كان ليا علاقات، قليلة جدًا بس ليا بردو.
نظرت له ليلى عن كثب وقالت مستفهمة:
- بس أنت باين عليك مش متأثر يعني، أومال منين خانتني والكلام ده كله؟
أجاب باقتضاب:
- علشان محبتهاش، أنا لو حبيتها فعلًا عمري ما كنت هرتبط بيها أصلًا، أنا اللي هحبها هشوفها أغلى حاجه عندي ومش هحب أحقرها بالشكل ده وأحول علاقتي بيها لمجرد ارتباط صايص ملوش معنى ولا أساس ومش رسمي، طبعًا هتسألي طالما أنا بفكر كدا ليه ارتبط بيها أصلًا، هقولك هي كان عندها قابلية وهي كان ليها سابقة بردو ارتبطت مرة قبل كدا فـ هي معندهاش مشكلة ده غير إني حطيت النقط على الحروف قبل ما تبدأ علاقتنا وهي مستهوتش الحوار فـ تمام ننهي الحوار بس.
أومأت ليلى بصمت، ثم نهضت دون أن تتفوت بشيء وانسحبت ببطء مثل الأخرى، كانت تريد أن تعبر عن رأيها في هذا اللعين في دفترها، ولكنها لم تكن تحضره في العادة معها بالكلية، كلا هي لا تريد الاستسلام لأفكارها، إنها بحاجه للتعبير عنها حتى تتخلص منها نهائيًا، هي لم تتركه لأنه قد أقنعها ولكنها وجدت النقاش معه عديم الفائدة؛ لهذا انسحبت، ليكون انسحابها مؤقتًا حتى تجد ردًا على معتقداته يعجز هو عن الرد عليه.
- قعدت أقول سوي مش محتاج يتصلح، طلعت أنا اللي هبلة.
همست ليلى بامتعاض وهي تبتعد عن المقهى قدر المستطاع، التفتت تنظر إلى الطاولة التي كان يجلس عليها سليم لتجده كما هو لم يتحرك بل يراقبها ببرود، لعنته بداخله بهمس ثم استدارت مجددًا لترى أي محاضرة ستحضرها الآن وقد شعرت بملايين الأفكار الغاضبة تجاهه تضرب رأسها كالعواصف.
كان يحدق بها بحيرة دون أن يفهم ردة فعلها الهادئة تلك، يعترف أنه كان صريحًا أكثر من اللازم، وشعر أنه جعل نفسه يبدو كشخص سيء يعبث بمشاعر الفتيات متحججًا بأنهن يعلمن مصير تلك العلاقة، رغم أن هذا لم يكن مقصده، فهو أراد فقط أن يكون صريحًا وواضحًا بشكل كافي معها ولكنه لم يجيد التعبير، كعادته.
تنهد وقال وهو ينهض ليلحق بها:
- جيت أكحلها عميتها.
❈-❈-❈
بعد انتهاء المحاضرة الأولى خرجت هاجر من المدرج لتجد نفسها تسير بجانب زين دون أن تشعر فحمحمت بحرج كونها علمت أنه قد لاحظها، أرادت أن تبتعد عنه ولكنها شعرت إنه ليس من الذوق الابتعاد دون التفوه بشيء وبنفس الوقت لا تعلم كيف ستقول له أنها تريد أن تسير بعيدًا عنه، لعنت نفسها كونها أبعدت جميع البشر عنها حتى أصبحت لا تعلم كيف تتحدث معهم،وسارت بجانبه بقلة حيلة.
نظر لها زين لوهلة بصمت، ثم قال ليتجاذب أطراف الحديث معها:
- فهمتِ حاجه من المحاضرة؟
آثار سؤاله البسيط المزيد من التوتر في داخلها، فهي بالأصل كانت متوترة من سيرهما معًا هذا والآن يتعين عليها أن تجيب على سؤاله وتتحدث معه؟ هذا كثير، عندما شعرت أنها أطالت الصمت أومأت إيماءة خفيفة كإجابة مختصرة على سؤاله.
ابتسم زين عندما شعر أنها لا تصده مثلما تفعل عادة مع الجميع وتابع:
- أصل أنا بصراحة مفهمتش حاجه.
همست هاجر وهي تنظر للأرض لكي لا تلتقي عينيها بعينيه:
- عادي ممكن أنا أو ليلى أو سليم نشرحه لك.
كانت لا تعلم إلى أين يذهبوا بالتحديد، ولكنها سارت بجانبه بصمت حتى يصلا للمقهى، بينما عاد زين يقول:
- صحيح هي ليلى محضرتش معاكِ ليه ؟
أجابت بإيجاز:
- مبتحبش الدكتور ده.
هز رأسه وصمت للحظة.
كانا يتجولان بالحرم الجامعي دون وجهة محددة، لم تشعر هاجر بهذا، ولكنه فعل، وقد كان هذا الوقت لطيفًا بشدة بالنسبة إليه، هو لم يستطع أن يجذب انتباهها يومًا، ولكنه اليوم يفعلها ببساطة مما جعله يدرك مصداقية الجملة التي سمعها قبلًا « تقدرون وتضحك الأقدار. » الآن يفهم معنى تلك الجملة، فهو قد خطط كثيرًا لطرق مختلفة ليحاول بها التحدث معها وتراجع عنها جميعها، يبدو أن القدر كان يراقبه في ذلك الوقت ويسخر منه عالمًا أن كل ما يفعله سيذهب أدراج الرياح لأنه لن يتحدث معها سوى في وقت معين حدده الله وحده.
نظر لها ليجدها تنظر للأرض وتسير بصمت، هل هي متوترة؟ إذا كانت كذلك سيحاول أن يشغلها عن هذا التوتر، لهذا ابتسم وقال:
- ينفع أقول لك على حاجه؟
رفعت هاجر نظرها له بعد أن تمكنت من التحكم في توترها نسبيًا، كانت الابتسامة التي واجهتها منه توترها لهذا أومأت موافقة ونظرت لنقطة بعيدة بشرود، ليأتيها صوته ذا النبرة المميزة قائلًا:
- ملاحظ إنك هادية النهاردة، في العادة بتبقي يا متحمسة جامد يا متعصبة جامد بردو، في كلتا الأحوال بتبقي منفعلة ده ليه؟
توقفت هاجر عن السير ونظرت له بدهشة، هل هي واضحة لتلك الدرجة؟ يتمكن الجميع من قراءتها بسهولة؟ وهي تظن أنها غير مفهومة ولا يستطيع أحدهم أن يفك شِفرة عقلها، قاطع أفكارها قوله اللطيف عندما وجدها لا تريد أن تجيب:
- أقولك سيبك من السؤال مش لازم تجاوبي طالما مش عايزة.
ابتسمت هاجر بشرود، حسن المظهر، لطيف، ومراعي لمشاعر الآخرين، هذه صفات قادرة على أثرها، ولكنها لن تتأثر به بتلك السهولة، أخذت نفسًا عميقًا وقالت بنبرة لطيفة:
- طب تعالى نحضر المحاضرة التانية، زمان ليلى راحتها.
هز زين رأسه موافقًا ولحق بها نحو المدرج.
❈-❈-❈
انتهت ليلى من محاضرتها وانصرفت من المدرج لتجد سليم يقف منتظرًا فتجاهلته وتابعت سيرها، لحق بها وهو ينادي عليها حتى يلفت نظرها ولكنها استمرت في تجاهله حتى سرع من وتيرة سيره وتقدمها ثم وقف ليعوق تقدمها، فنظرت له ليلى بامتعاض ولم تتفوه بشيء بينما قال سليم:
- ممكن أفهم قلبتِ وشك ومشيتِ من غير ما تقولي حاجه ليه؟
نظرت له ليلى بتعجب وعقدت ذراعيها أمام صدرها وأجابت:
- هو مش واضح يعني؟ معجبنيش كلامك.
- ليه أنا قولت ايه غلط؟
رفعت ليلى حاجبها الأيسر باستهجان وقالت:
- بجد؟ يعني أنت شايف نفسك مقولتش حاجه غلط؟
أومأ سليم، فقالت ليلى مغتاظة وهي تحاول أن تمر:
- طب عديني بقا يا كازانوفا زمانك.
كلما حاولت الابتعاد كان يقف أمامها ليمنعها، تتحرك يمينًا فيتحرك يمينًا تتحرك يسارًا فيفعل المثل حتى توقفت ليلى وزمجرت بغضب، بينما قال سليم بهدوء من يحاول إقناع الذي أمامه بوجهه نظره:
- أنا مش كازانوفا زي ما بتقولي، لأني مبقعدش أوهم اللي قدامي اني بحبها وبموت فيها ومقدرش من غيرها وفي الاخر اغدر بيها واخدعها، ولا بيبقا ليا علاقات متعددة والكلام ده كله، أنا ببقا واضح من البداية، أنا معجب بس والعلاقة دي بنسبة تسعين في المية مش هتكمل وهي ليها حق تقبل أو ترفض، وطالما هي كان ليها علاقات سابقة وعارفه إن حوار الارتباط مبيكملش يبقا سو وات؟
انتظرته ليلى حتى ينهي حديثه الذي لم تقتنع بحرف واحد مما قاله، فبالنهاية هو يقوم بشيء محرم ومقزز في نظرها سواء أكان صريحًا أم مخادعًا، وعندما انتهى قالت:
- ولا كدا بصراحة إتحولت من مجرد ثور إلى ثور متحضر.
اختفت الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه وحدق بها بصمت عاجز عن التفوه بشيء بعد ما قالته، فدفعته ليلى بعيدًا وابتعدت بضعة خطوات، ثم استدارت وقالت بحنق:
- وعلى فكرة بقا دور كازانوفا ده مش لايق عليك، يا ريتك كنت يهودي كنت هتبقا أهون.
ثم تركته ورحل لتعود الابتسامة لتعتلي شفتيه ثم همس وهو يسير عكس طريقها:
- عمرها ما هتقتنع ولو بعد مية سنة.
❈-❈-❈
ضحكت هاجر وقالت ساخرة:
- قعدت أقولك بلاش، بلاش مش ناقصين عقد نفسية مسمعتيش الكلام.
نظرت لها ليلى بحنق وقد ندمت على اتصالها بهاجر لتأتي للتحدث معها؛ لأنها لم تستطع أن تتحدث معها صباحًا وهي كانت بحاجه للتحدث معها بهذا الشأن، ولكنها الآن تتمنى لو لم تفعل.
استمعت ليليان لما قالته شقيقتها بتمعن وفكرت به لوهلة وقالت باستغراب:
- بس يعني حسب كلامكوا ده دحيح ومنعزل على طول، ازاي بقا يبقا ليه في الارتباط والهبل ده؟
أجابت هاجر بدلًا عن ليلى:
- دي خدعة، بيخدع البنات ويخليهم يفكروا إنه إنعزالي وكيوتة وملهوش في حاجه علشان البنات تنجذب ليه ويخدعهم، زي ما المغفلة أختك إنجذبت ايه أسرع من المغناطيس.
ضربتها ليلى بالوسادة وقالت بحنق:
- اتهدي بقا، سيبيني أفكر ههبب ايه مع البقرة الثور المتحضر ده.
- عايزة تعملي ايه يعني معاه؟
كان هذا السؤال من ليليان هذه المرة، فنظرت لها ليلى وأجابت بتوعد:
- معرفش بس هموت وأكسر له سقف معتقداته ده على دماغه يكش يجيله ارتجاج في المخ.
صاحت هاجر بانفعال:
- يا ستي وأنتِ مالك بيه؟ سيبك منه وركزي على مذاكرتك مش ناقصين نعيد السنة واحنا أصلًا هنعجز في الكلية دي.
أومأت ليليان وقالت وهي تنظر لليلى:
- أنا بردو رأيي من رأي هاجر، ملهاش لازمة النصح وهو باين عليه مش هيغير تفكيره.
تأفأفت ليلى وأسندت وجنتها إلى يدها، فقالت هاجر لتتأكد أنها لن تقوم بعكس ما نصحتاها به:
- ليلى، مفيش خطط إصلاحية احنا مش عارفين نصلح نفسنا من الأساس علشان نصلح حد.
نظرت لها ليلى بامتعاض وأومأت مجبرة، بينما زمت هاجر شفتيها بعدم رضى وقالت لليليان:
- أراهنك إن كل كلامنا ده دخل من ودن وخرج من التانية.
❈-❈-❈
دلف علي الغرفة ليجد سليم يجلس فوق فراشه ويعبث بهاتفه، فابتسم بتهكم وقال:
- أومال روح الدحيح اللي بياكل الكتب راحت فين؟
ترك سليم هاتفه وقال باقتضاب:
- أصلي اتخانقت مع اللي كان السبب.
ثم عاد يقول بينما كان علي يمسك بالدفتر الذي يدرس به سليم ويتصفحه:
- إلا أنت صحيح ايه اللي رجعك بدري؟
- نقدر نقول أني هربت لما لقيت العيادة مفيهاش حد.
أجاب علي وهو يغلق الدفتر ليعيده على المكتب ثم التفت وجلس أمامه وقال:
- احكي لي بقا مين اللي اتخانقت معاه وكان السبب؟
تنهد سليم واعتدل في جلسته ليكون في مواجهة شقيقه، هذا اللعين لا تفوته فائتة، ثم بدأ بسرد كل ما حدث منذ أن طُرد من المحاضرة.
عندما انتهى من السرد أمسك علي بياقة قميص سليم وقال بنبرة أقرب للوعيد:
- وأنت من أمتى يلا ليك في البنات والحوارات دي؟
حاول سليم التخلص من قبضة شقيقه وأجاب:
- من أيام المراهقة في ثانوي، بس كله لعب عيال يعني مش حاجه جد.
تركه علي ونظر له بتقزز وقال:
- يا ابني ده أنا حتى الآن مبصتش لبنت وأنت مقضيها من ثانوي؟
عدل سليم قميصه وقال مبتسمًا بمكر:
- مش ذنبي إنك مش بتبص للبنات بتبص لحاجه تانية.
حدق به علي للحظة بعدم فهم قبل أن يزمجر بغضب، فركض سليم ولحق به علي وهو يقول:
- هجيبك يابن اللـ...
ركضا بالشقة كلها، حتى خرج والدهما من غرفته على أثر الصوت الصاخب لركضهما؛ ليصتدم به سليم ويأخذ منه حصن منيع بينما حاول علي الوصول إليه ليصيح والدهما بغضب:
- علي! مش أنا واقف؟
توقف علي وقال متذمرًا:
- بس يا بابا..
قاطعه والده بحدة:
- ولا كلمة، أنا عارف إن اللي ورايا كلب مترباش بس توقعت منك تتعامل معاه بحكمة أكتر من كدا.
قال سليم من خلف والده:
- متشكرين والله، معرفش من غيرك كنت هتهزق ازاي.
استدار والده ليواجهه بنفس الحدة فابتعد عدة خطوات بينما قال والده:
- وأنت عملت ايه لأخوك يا كلب؟
أجاب سليم بأقرب كذبة أمكنه التفكير بها:
- مفيش جرب يذاكر لي وعينك ما تشوف إلا النور.
قال والده متهكمًا:
- لا إذا كان كدا يبقا حقه.
ثم أشار لعلي وقال:
- قدامك أهو.
وتركهما ورحل ليبتسم علي بشر وانقض على سليم؛ ليلكمه، فيحاول سليم رد اللكمات.
بعد ما يقارب الساعة، تحسس سليم وجنته المتورمة بألم، بينما وضع علي منديل ورقي أسفل أنفه ليوقف النزيف، وعندما تلاقت نظراتهما حتى غرقا في نوبة من الضحك لم يفهما سببها ليتنهي شجار آخر بينهما بنفس الطريقة، جلس علي فوق فراشه وقال عندما تمكن من التوقف عن الضحك:
- بقا أنا، علي شريف يحصلي كل ده على إيدك.
استمر سليم في الضحك بارهاق ولم يعلق، بينما سأله علي:
- أيوه بردو مقولتليش، هتعمل ايه في حوارك ده؟
أجاب سليم ببساطة:
- مش هعمل حاجه.
نظر له علي بجدية وقال مستفهمًا:
- ازاي يعني؟ هتسيب البنت مفكراك تور؟
ابتسم سليم بشر وقال:
- آه ليلى؟ لا دي هرخم عليها شوية.
- ربنا يسترها عليها.
همس علي عندما رأى نظرة سليم المتوعدة وكأنه سيعلن قيام الحرب، رغم أنه كان يرى أن ليلى كانت على حق.
❈-❈-❈
تنهد عمر براحة بعد أن كتب الخاتمة الخاصة بروايته، لا يعلم لماذا تنقطع أفكاره عندما يكون متفرغًا ولكن ما إن ينشغل بشيء ما تتدفق الأفكار بعقله بسرعة، مما يؤكد على معتقده بأن المواهب لا يجب أن تكون عملًا، فهي شيء غير مستقر، قد يستمر وقد ينقطع؛ لهذا كان عمر يجبر نفسه دائمًا على العمل بجانب الكتابة حتى لا يعتمد عليها بشكل كلي.
أغلق عمر حاسوبه ونهض ليأخذ حمامًا ساخنًا يريح أعصابه قليلًا، عندما شعر بالمياه الساخنة تسقط فوق رأسه أخذ نفسًا عميقًا براحة، لقد عمل طويلًا بالأسبوعين الماضيين، يبحث طويلًا ويجهز الأوراق اللازمة، يعلم أن ميزانيته ستسمح له بإنشاء دار النشر التي لطالما طمح لها لسنوات، فقد جمع القدر الكافي من المال بالعمل في السياحة ومن الكتابة، إذًا كل شيء قد تم ترتيبه لم يتبقَ سوى التنفيذ والذي سيأخذ منه عدة أشهر.
أغلق عمر صنبور المياه وأخذ منشفة طويلة ليقوم بلفها حول خصره، ثم وقف أمام الحوض وقد انعدمت الرؤية بسبب قطرات المياه على المرآة فقام بمسحها ليرى وجهه المبتل والجامد معظم الوقت، إن لم يكن دائمًا، من ينظر إليه يظن أنه مر بالكثير من الخيبات في الحياة، حسنًا لا يمكن القول أنه لم يتعرض للخيبات يومًا، فجميع البشر يجب أن يتعرضوا للخيبات، ولكنها كانت أمورًا تافهة في نظره حاليًا، إلا أنها لم تكن كذلك عندما كان صغيرًا، فكونه كان وحيد بلا أخوة لم يتعلم كيف يكون اجتماعيًا، وكلما حاول الحصول على أصدقاء كان الصبية الآخرون يسخرون منه بشكل مستمر، حتى نصحته عمته في إحدى المرات أن يتوقف عن المحاولة حتى لا يُرهق روحه، وأن يسجل كل ما يؤلمه في دفتر يخفيه عن الجميع ولا يجعل أحدًا حتى هي تقرأه، لم يفهم أبعاد تلك النصيحة في سنه الصغير، ولكنه اتبعها ليخفف من ألم الوحدة والسخرية، وقد فعل، قرر عدم المحاولة وانعزل وبدأ بالكتابة وربما هذا ما جعله يكتب في شبابه الروايات بسهولة وقد كان سعيدًا بتلك الحياة، رغم أنها علمته الجمود والبرود في التعامل مع العالم الخارجي، يعترف أنه لم يحب أن تكون شخصيته هكذا وقد شعر في ذلك الوقت أنه يخسر روحه، ولكنه عندما مر بفترة المراهقة والشباب وانفتح على العالم بشكل أكبر واختلط بالبشر وتعرض للكثير من الخيبات سواء أكانت بسبب الدراسة أو ضغوط النفسية التي تمر على الشخص في فترة مراهقته، علم أنه يتصرف بالطريقة الصحيحة وأن شخصيته عليها أن تكون هكذا دون تغيير، فقط بعض اللباقة -التي لا يزال يفشل في التحلي بها- والدبلوماسية، تنهد عمر موقفًا عقله عن التفكير وهمس:
- كفاية تفكير في اللي راح يا عمر ركز على اللي جاي.
صفف شعره المبتل بأصابعه ثم خرج من المرحاض.
يتبع