-->

مرآة مزدوجة- الفصل الحادي عشر





الفصل الحادي عشر



صاح علي بامتعاض ما إن دلف الغرفة:


- لا بقا ده أنت جايب لي الرابطة بتاعتك!


كان قد دلف للمطبخ ليشرب بينما فتح سليم الباب وأدخل أصدقائه، فعندما أتى علي وجده يجلس مع ثلاث شبان، لينظر له سليم ببراءة وقال:


- جايين يطلبوا العلم من صاحب الخبرة.


زمان علي شفتيه بعدم رضی بينما قام سليم بمهمة تعريفه عليهم حيث أشار لشاب شابه مظهره مظهر سليم من حيث الملابس ولكنه يرتب شعره بعناية عكس سليم الذي يحب أن يُبقي شعره مشعثًا وقال:


- ده زين.


هز على رأسه محييًا، فأشار سليم نحو شاب آخر يرتدي ملابس الحمقى كما يُطلق عليها، تلك الملابس التي يرتديها الشبان المعروفون بأنهم أذكياء ومهذبون وقال:


- وده آدم.


قم أشار نحو الشاب الآخرين والذي بدأ عليه أن غير مكترث لأي شيء يحدث أو ربما شارد، يحدق في شاشة هاتفه ويعبث به بملل وقال:


- وده بلال.


حياهم علي جميعًا بصمت ثم جلس على فراشه إلى جوار آدم وقال:


- أهلًا بيموت يا شباب، دلوقت علشان أنا مش فاهم اشرحوا لي بالظبط أنتوا عايزين ايه؟


أجاب بلال دون أن يحيد بنظره عن الهاتف:


- شوف النحنوح مهبب ايه علشان شكله عامل مصيبة.


وأشار بهاتفه نحو زين الذي حمحم لينظف حلقه وبدأ باخبار علي بما حدث، ليقول علي بعد أن انتهی:


- أيوه بردو فين المشكلة يعني؟


رفع زين كتفيه وأخفضهما وقال بحيرة:


- معرفش بس حاسس إني زودتها عليها.


حك علي مؤخرة عنقه وهو يفكر، ثم قال:


- هو ممكن فعلًا، عارف هي احتمال تكون قاعدة بتفكر في الحوار ده لأنك اتكلمت بس ومخلتهاش تتكلم بس يعني.


عقب سليم على حديثه:


- وعلشان كدا أنا شايف إنك تضرب على الحديد وهو سخن وتعترف لها.


قال آدم معارضًا:


- لا أنا شايف إنك تضرب شوية وتتكلم معاها تعرفها عن نفسك وتعرفها أنت كمان.


ليقول بلال:


- بس أنا شايف إن سليم معاه حق، خليه يخلص مش هيفضل يلمح كدا كتير يعني.


مسح زين على وجهه بنفاذ صبر، فهو لطالما عانى من تناقض آدم وبلال، ليأتي سليم ويعقد الأمور أكثر، فقال عندما أرشد لفكرة ما:


- اللي شايف إني أعترف لها دلوقت يرفع إيده.


رفع بلال وسليم يدهما، فقال زين:


- واللي شايف إني لازم مستعجلش يرفع إيده.


رفع علي وآدم يدهما، ونهض زين وقال:


- أنا ماشي.


أجلسه سليم قائلًا:


- يا راجل اقعد بس الكلام أخد وعطا.


جلس زين بالفعل وقبل أن يتفوه بشيء، صاح بلال بملل:


- يا جماعة بقا بطلوا الكلام الملل ده.


ثم تعادل ليواجه سليم وقال:


- وأنت يا عم سليم معندكش بلاي ستيشن نلعب لنا جيمين.


- طبعًا عندي، قايم أجيبه.


نهض سليم وهو يردد بتلك العبارات بحماس بينما أستمع علي المهمة معترضة من آدم لم يسمعها الآخرون:


- هو مفيش غير الكورة والبلاي ستيشن في حياة النبي آدم ده؟


❈-❈-❈


وضعت هاجر كوبين الشاي لوالدها وشقيقها الذي نظر لها بسخرية نظرة إعتيادية لم تفهمها يومًا، لتتركهما وتذهب لتجلب إحدى الروايات من مكتبته شديدة الصغر وخرجت من غرفتها وجلست على مقعد وثير معروف أنه لها بجانب الأريكة التي جلس عليها والدها وشقيقها، بدأت بالقراءة دون رغبة حقيقية منها في هذا ولكنها حاولت أن تتوقف عن التفكير، ما زال حديثها بالصباح يثير تشتتها وحيرتها، حسنًا لا يمكنها تصنيف هذا الشعور الآن بأنه شعور مزعج، الشعور بأن هناك من يركض خلفكِ يحاول تجاذب أطراف الحديث معكِ لهو شعور جيد يغذي غرور أكثر النساء خشونة، وهي باتت تشعر بالسعادة وهذا بالفعل يغذي غرورها؛ لهذا لا أراديًا أصبحت تترك له مساحة كافية للحديث رغم كونها تعلم أنه يحاول أن يوقعها بشباكه، فهذا بات شيئًا واضحًا وبشدة ولكنها تتركه يستمر لترى ماذا سيفعل مقدمًا. 


ابتسمت بهيام كمراهقة معجبة بأستاذها عندما تذكرت ملامحه، ملامح هادئة شاحبة، بشرته بيضاء شاحبة وشعره وعينيه يتزينان بالأسود، كان يبدو لها وكأنه نسج من الخيال أو شخصية كرتونية، فملامحه تلك غريبة ولا يمكنها أن تشعر أنه شخص حقيقي، كما أنه لبق ولطيف، هل هو شخصية من خيالها الخاص وباتت تتخيله؟ هل هذه هلاوس؟ هي ما زالت لا تصدق أن هناك أشخاص مثله في الواقع، ربما قد تصدق إن شدت شعره الذي لطالما لفت نظرها والطريقة التي يرتبه بها لكي لا تتحرك خصلة منه، اتسعت ابتسامتها عندما تخيلت نفسها وهي تقوم بشد شعرها بينما كانت لا تزال تحدق بنفس الصفحة منذ أن جلست، ما الذي بها الآن؟ ماذا دهاها؟ لا تعلن ولكنه شعور يدعو للضحك، هي تريد أن تتحرر وتضحم عاليًا، وهو من يزيد تلك الرغبة بداخلها دون أن تفهم علاقته بأمنيتها تلك حتى، ولكن لا بأس لتتهور قليلًا ولتنسى صرامتها قليلًا. 


رفعت نظرها عن الكتاب وما زالت تلك الأبتسامة على شفتيها لتجد شقيقها يحدق بها بطريقة غريبة، فاختفت تلك الأبتسامة وعادت تقرأ بتركيز تلك المرة. 


❈-❈-❈


- يعني أنت شايف إن ده الحل حاليًا؟ 


سأل زين ليؤكد على كلمات علي الذي أومأ مؤكدًا، فقال آدم الذي جلس بينهما:


- أيوه أنا بقول كدا بردو، خد شوية وقت كمان. 


- بس متاخدش راحتك جامد، يعني مثلًا فاضل على الترم بتاعكوا  شهر هو يبقا ده الوقت اللي تاخده مش أكتر. 


قال علي محذرًا، ليشرد زين ويحدق ببلال وسليم الذان يصيحا بإنفعال أثناء لعبهما غير مدركان لكل ما يحدث حولهما، أفكاره ذهبت نحو طريق آخر لم يتطرق له يومًا، ما هو الحب وكيف يشعر بهذا المسمى بالحب؟ هو يعجز الآن عن تفسير مشاعره، كلما كان أقرب منها يزداد تشتته في محاولة لتفسير مشاعره نحوها، هو يريدها أن تكون جانبه وأن تدعمه وأن يدعمها لشعوره بأنهما لديهما حاجه مشتركة ونقص مشتركة يمكنهما أن يملآه، ولكنه غير مدرك للحب الآن، في نظره هو ما زال صغيرًا علي فهم المعنى وراء تلك الكلمة ازدواجية المعاني، وهو لا يستطيع أن يتخذ قراره تجاه هذا الأمر، تنهد بثقل بينما راقب شاشة التلفاز، لطالما كره عدم مقدرته على إتخاذ القرارات، فقد إعتاد منذ صغره أن هناك من يتخذ القرارات بدلًا عنه وعن شقيقته داليا والذي تمثل هذا الشخص في والديهما، إتخاذ القرارات وتهميش رأيه في كل شيء حتى أصبح مؤمنًا أنه ليس لديه رأي صائب كانت العوامل الرئيسية التي جعلته يصبح ما هو عليه الآن، شخص مشتت يحتاج للبحث عن تأكيدات على صواب كل شيء يقوله أو يفعله. 


صاح سليم بانفعال ورمى بذراع التحكم على الأرض:


- لا يا عم أنت كدا بتغش، مش معقولة ماشية معاك كل ده. 


جذب انتباه زين صياحه لينظر لهما بانتباه، ضحك بلال وقال بتعجب:


- ذنبي ايه إنك مبتعرفش تلعب؟ 


- تعلمني، أو على الأقل تفوت يا أخي. 


رفع بلال كتفيه وأخفضهما وقال ليثير غيظه:


- مش قد اللعب متلعبش. 


نظر له سليم بغيظ، فنهض زين مبتسمًا وقال:


- وسع لي يا سليم هاجي أخد لك حقك. 


نهض سليم وجلس بجوار آدم ليراقب زين قد سقطت نظارته عن عينيه وتعلقت بطرف أنف مجددًا، أمال على آدم الذي كان يتحدث مع علي حول أمر لم يسمعه وقال مقاطعًا حديثهما:


- أومال دورك جاي أمتى؟ 


أجاب آدم بخفوت:


- لا أنا مليش في الألعاب بشكل عام. 


أومأ سليم وتركهما يتابعان حديثهما ثم عاد يراقب اللعبة ويشجع زين ليأخذ بثأره. 


❈-❈-❈



جلست ليليان فوق فراشها عندما انتهت من مذاكرتها، كانت تقرأ في الرواية التي اشترتها في اليوم الذي أتى أحمد لطلب يدها، كانت لأول مرة تستغرق بها في رواية كبيرة الحجم كتلك، ولكن ذلك الوقح عمر كان يضع أفكارًا غير تقليدية وبعضها كريه حقًا، كانت ليلى محقة عندما قالت أن أفكارًا كتلك قد تؤثر بالمراهقين، فكانت تلقي بالرواية جانبها، ثم تجلس تقضم أظافرها، تنظر للرواية التي بجانبها بفضول والتي دائمًا ما كانت تجذب نعناع فيقفز سريعًا للعبث بها محاولة القبض على الفتاة المطبوع وجهها على الغلاف وكلما بائت محاولاته بالفشل، فتضحك ليليان وتأخذه تعانقه عندما لا تكون ليلى متواجدة لأنها لا تريدها أن تظن أنها تحب القطط، حتى لا تصر على إبقائه؛ لأنها تعلم أن والدتهما لا تحبه وتضايق من وجوده ولكنها تعلم أن والدتها صمتت حتى لا تحزن ليلى، تترك نعناع ليعود للعبث بالغلاف، فتنظر ليليان للرواية بفضول مجددًا ثم تأخذها وتعود للقراءة مغلوبة على أمرها.


ولكنها اليوم لم تعانق نعناع ولم تستطع التركيز في القراءة بسبب ليلى التي حامت بالغرفة وقد بدا عليها عدم الراحة وهي تقضم شفتيها بامتعاض، فتنهدت ليليان وتركت الرواية وقالت:


- مالك يا ليلى؟


ضمت ليلى قبضتها وضربت بها على يدها الأخرى وقالت وهي تفكر:


- الثور المتحضر، جاية واحدة تضحك له بمياصة ويقولي أصلها الجديدة، البجح! 


قلبت ليليان عينيها بملل وقالت:


- طب وأنتِ مالك بيه؟ سيبيه يرمرم براحته وربنا يبقا يحاسبه بقا. 


استمرت ليلى في السير ذهابًا وإيابًا بالغرفة وهي تقول بانفعال وقد بدا وكأنها على وشك الاشتعال:


- ده ربنا هيسخطه قرد! لا مش قرد تور هيتسخط تور علشان يعرف قيمته! 


توقفت ليلى عن السير ووقفت أمام نافذة الغرفة تستند بيديها على الحواف الخشبية تنقر عليها بعصبية وتابعت:


- أنا كل مشكلتي إنه بجح، بيتكلم معايا في الحوار كأنه بيحفظها القرآن، مش بيدور معاها في علاقة عيب وحرام في نظر الكل، لا وكمان بيقاوح! 


نظرت لها ليليان من رأسها إلى أخمص قدميها بلا مبالاة، فهي تعلم أن شقيقتها لن تصمت وستظل تسب سليم وتلعنه حتى تهدأ وإن فكرت في التدخل والتحدث معها فليس من المستبعد أن تنال نصيبها من السباب واللعنات؛ لذلك كان أسلم حل هو التحلي بالصمت؛ لهذا تنهد ليليان بصمت وأخذت الرواية لتقرأها ولكنها أبقت عينيها على ليلى من وقت إلى آخر.


❈-❈-❈


طرق علي على باب غرفة والده وعندما أذن له دلف ليجد والده يجلس فوق فراشه ويقرأ في كتاب ما، نظر له والده بفضول وقد سقطت نظارة القراءة خاصته لتتعلق بأنفه فبدا لعلي أنه وسليم متشابهان بشدة، اقترب علي من الفراش وجلس عليه وقال:


- دلوقت صحابه ماشيين، هو كويس ومفرفش وكدا وشايف إنه أسلم وقت عشان خضرتك تكلمه خاصة إن ماما مش راجعة النهاردة. 


أغلق والده الكتاب ووضعه جانبًا، ثم عقد ذراعيه أمام صدره وقال:


- وده المفروض أكلمه ازاي يعني؟


- إتعامل بتلقائية يا بابا مش لازم تدخل مباشر ده سليم حتى ودي طريقته لما بيصالح حد ودايمًا الطريقة دي بتنفع معاه.


تنهد والده وقال:


- ربنا يستر.


ثم صمت للخظة وحدق في نقطة بعيدة بشرود ليعود وينظر إلى ويقول بنبرة خافتة نادمة:


- علي أنا مش عايزك في يوم من الأيام تكرهني علشان أجبرتك ومديتلكش الفرصة إنك تختار مستقبلك بنفسك سواء أنت أو سليم، أنا والله كان كل اللي دماغي خير وإني كنت عايز أطمن عليكوا بس مأدركتش ده غير متأخر، متأخر أوي.


ابتسم علي بضعف ابتسامة لم تصل لعينيه وربت على ساق والده الممدة وقال بخفوت:


- عارف يا بابا وسليم كمان عارف وأنا وهو مستحيل نكرهك أو نكره ماما، متقلقش ومش عايزك تحزن علشان صحتك.


أومأ والده بصمت وخلع نظارته ليضعها في العُلة المخصصة لها. 


كان علي يدرك أنه يكذب داخليًا، ولكنه كان يريد أن يح قلب والده الذي يعلم أن ضميره يؤنبه والندم يأكله، ربما لما استطاع أن يستفيق لولا عصيان سليم، ولما أدرك خطئه لولا هذا، هو شاكر لسليم على تلك النقطة، فهو السبب في عدول والدهما عن أفكاره. 


رفع علي نظره لينظر لوالده وقال:


- بابا ينفع أسأل حضرتك سؤال؟ 


همهم والده ونظر له بانتباه، فتابع:


- هو حضرتك، يعني، كان ليك في البنات والارتباط وكدا زمان؟ 


شرد والده مبتسمًا في ذكريات مر عليها الكثير من السنوات وأجاب:


- ياه ده أن كنت رمرام بشكل، بس جات أمك واستحلفت لي وبالفعل قعت على بوزي وحبيتها واتجوزتها. 


يا إلهي كم هما متشابهان!، هذا ما فكر به علي بعد أن أجابه والده، ثم ابتسم وقال:


- طب بحيث كدا هحكي لك على حاجه. 


❈-❈-❈


أغلق سليم الباب خلف زين والآخرين الذين رحلوا، إنهم أصدقاء جيدون، على الأقل أصدقاء خارج إطار العائلة، فسليم لم يسعَ يومًا لتكوين صداقات، فانحصرت جميع صداقاته في صداقته بشقيقه علي.


تنهد سليم ودلف المطبخ ليبحث عن شيء ليأكله، كان يفكر بشيء مختلف كليًا في تلك اللحظة، في علا التي يود أن يقطع علاقته بها في أقرب فرصة ممكنة، فبآخر مرة تحدثا بها تعمدت أن تقوم بحركة قذرة أغضبتها مما جعله يصر على أن يقطع علاقته بها نهائيًا وينسى ما كان يريد أن يفعله معها، عندما لم يجد طعام صاح بملل وهو يغلق الثلاجة:


- علي أنا هطلب بيتزا أطلب لك معايا؟ 


- ليه هو أمك معملتش أكل تاني؟ 


كان شريف والدها هو الذي سأله عندما دلف للمطبخ وهو يفرك عينيه ليبعد آثار النوم عنه، فقال سليم بلهجة رسمية كان يختص بها والده عندما يتحدث معه:


- أه مش لاقي حاجه. 


قال شريف مقترحًا:


- طب أنا هروح أطلب لنا كلنا. 


عقد سليم حاجبيه بتعجب ونظر لطيفه والده بذهول، بينما خرج شريف ليجلب هاتفه وهمس لعلي الذي كان في طريقه للمطبخ:


- أديني بعمل اللي بتقوله أهو يكش ينفع. 


ابتسم له علي مطمئنًا ثم اتجه للمطبخ وقال لسليم:


- بما إن الحج شريف قرر يبرز كاشاته تعالى ننزل نجيب بيبسي وشيبسي احتفالًا بليلة الخميس. 


ضحك سليم وقال ساخرًا:


- تيجي نسمة اللي بتهزقها في الرايحة وفي الجاية علشان غلطت في تسجيل كشف تشوف دكتور علي المخضرم وهو نازل يشتري شيبسي. 


لكزه علي وهو يحدق به بغيظ، فتقدمه سليم وهو يضحك.


وبعد حوالي نصف ساعة كانت البيتزا قد وصلت، فأخذها علي من عامل التوصيل وأعطاه ثمنها وزيادة، وعندما انصرف أغلق الباب خلفه وقال وهو يحضر الحقائب البلاستيكي لغرفة الجلوس:


- يلا الأكل جه يا جماعة. 


كان سليم يجلس فوق الأريكة يتصفح هاتفه بملل وشريف بغرفته، وعندما صاح علي، ترك سليم هاتفه، وخرج شريف من غرفته ودلف المطبخ ليحضر الأطباق، فقال علي وهو يضع الأكياس على الأرض:


- لا يا حج شريف مش وقت اتيكيت والنبي، البيتزا بتتاكل في كرتونتها، معروفة. 


رفع شريف كتفيه وأخفضهما وهو يعيد الأطباق لمكانهم، ثم صدحت بعقله فكرة وهو يرى سليم يفرش بساط على الأرضية اعتادوا أخذه في النزهات لتناول الطعام عليه، فابتسم بشيطانية وقال:


- لا بقولك ايه شيله. 


رفع سليم نظره لوالده وحدق به بعدم فهم فتابع شريف مبتسمًا بشر:


- شيله علشان لما تتبهدل السجادة الجديدة، أمك تتعظ وتبقا تعمل لنا أكل. 


ابتسم سليم بشر بدوره وفورًا نزع البساط وجلس على السجاد الفاخر مباشرة وقال:


- والله فكرة، خصوصًا إن السجادة دي ماما بتموت فيها، دي تبيعني أنا وعلي ولا إنها تحصل لها حاجه. 


نظر علي لهما بقلة حيلة ووضع ذراعيه على خصره وضحك من التشابه الكبير الملحوظ بين والدها وشقيقه، وقد أدرك الآن لماذا يستمران في التنازع، لأنهما متشابهان.


- بتضحك على ايه يا علي؟ 


سأله والده فهز رأسه بمعنى لا شيء وجلسوا جميعًا على الأرض، فقال علي قبل أن يبدأوا في تناول البيتزا:


- تعالوا نشغل فيلم حلو. 


وافقاه كلاهما وقد بدأ في تناول الطعام بالفعل، فنهض علي ليشغل فيلمًا على التلفاز وجلسوا يشاهدونه، بينما استمر سليم في السخرية من ذوق علي في اختيار الأفلام، وأنه كان يمكنه اختيار فيلمًا أفضل ولكن علي لم يهتم لرأيه وشاهد الفيلم باستمتاع، حتى قال شريف بعد أن أنهى تناول طعامه:


- ايه رأيكوا أكلم أمكوا وأقولها تبات عند أختها يومين؟ 


وافق سليم فورًا وقال:


- أيوه علشان نكون لحقنا نغسل السجادة بدل ما تموتنا. 


نظر له علي بمكر وقال:


- ما دام خايف عامل فيها اللي قلبه مات من بدري ليه؟


- لا بردو ما هو لكل مقام مقال، وكلنا عارفين إن ماما لو رجعت لقتنا بالحالة دي هتعمل مننا كفتة. 


اعترض علي قائلًا:


- لا بس بردو بابا مسيطر. 


كان شريف بالفعل قد هاتف زوجته ليخبرها بأن تذهب للبيات عند شقيقتها، وقد واقفت لحسن حظهم، أنهى شريف المكالمة وقال:


- كله تحت السيطرة. 


فقال علي مقترحًا وهو ينهض متجهًا نحو المطبخ:


- حيث كدا أروح أجيب البيبسي وسهر بقا للصبح. 


تركهم علي ودخل للمطبخ، فانتهز شريف تلك الفرصة، ربما الآن هو الوقت المناسب للتحدث بشكل مباشر، خاصة أن سليم يتحدث بأريحية دون أن تعكر نبرته الحدة أو التحفظ، فقال:


- وأنت عامل ايه في المذاكرة يا سليم؟ 


عاد سليم لجموده القديم، مما جعل شريف يشعر بالإحباط، وقال:


- كويس 


تنهد شريف واقترب من سليم وقال بجدية دون مراوغة:


- أنا طول عمري صريح وجد فـ مش هاجي ألف وأدور دلوقت يا سليم، أنا آسف، عارف إن أسفي حاليًا ملهوش لازمة بس معنديش غيره أقدمه، أنا لما جبرتك تدخل طب فكرت إني كدا بأمن مستقبلك زي ما عمل معايا أبويا، أنا غلطت يا سليم، بس ده ميمنعش إنك عاقبتني، عاقبتني ببرودك وجمودك وعنادك المستمر. 


تنهد شريف وابتسم ثم تابع بشرود:


- طول عمرك متمرد في كل حاجه عكس علي، بس أنا مقدرتش ده، مقدرتش إن مش علشان علي كان عايز طب من نفسه يبقا عادي لو فرضت عليك الطب، بس ده كان غلط، وأنا عارف إن اكتشفته متأخر، بس أنت بردو مسيبتنيش التلات سنين اللي فاتوا، حزنتني بحق. 


صمت مجددًا وتنهد ثم قال:


- أنت ابني يا سليم، وأنا بحبك زي ما أي أب بيحب ابنه مش بكرهك زي ما أنت فاكر، وعلي اتكلم معايا فعلًا في الحوار ده وقررت إني هبطل أفرض عليك أي حاجه تاني، وهدعمك في أي وقت، اتخرج بس وأنا هدعمك في الرسم وهعملك مرسم لوحدك لو حبيت حتى. 


تنهد سليم عندما انتهى والده من حديثه، خلع نظارته ومرر أصابعه في شعره بينما نظر للأرض، هو لا ينكر حبه لوالديه وتقديره لهما، ولكن هل هو مستعد للتخلي عن انتقامه من والده؟ مهلًا ألم يفعل منذ وقت طويل؟ أليس انصرافه للمذاكرة بشكل جدي والاهتمام بها دليل على تخليه عن انتقامه؟ بلى إنه كذلك، ولكنه مشتت الآن ولا يعلم ماذا يفعل، هو يحب والده ولكن الغفران ليس بالأمر السهل، هل يطيب بخاطره الآن حتى يحسم قراره؟ ربما


تنهد سليم مجددًا ورفع رأسه لمواجه نظرات الرجاء من والده، ابتسم وقرر تفجير المفاجأة فقال بخفوت:


- بابا أنا ناوي أكمل في طب والرسم يبقا موهبة جانبية. 


نظر له شريف بعدم تصديق وقال:


- ايه؟ 


ضحك سليم بخفوت وكرر:


- ناوي أكمل في طب. 


نظر شريف للفراغ للحظة قبل أن يضحك بسعادة، ثم عانق ابنه وقد شعر بسعادة عظيمة بداخله وتمتم بدهشة:


- ده شكل ليلى عاملة لك عمل! 


فصل سليم عناقهما وهو يصيح بغيظ بعد أن سمع ما قاله والده:


- يا علي يا ابن الـ... 


بتر سليم عبارته عندما واجه نظرة حادة من والده، فابتسم بتوتر وأكمل:


- يا ابن الناس الحلوين. 


نزع شريف قناع الصرامة من على وجهه وابتسم وقال بسخرية وهو ينظر للتلفاز:


- ما تشوفلنا يا ابني حاجه عدلة نتفرج عليها بدل الفيلم ده، إليزابيث مين ودارسي اللي علي مشغلهم دول. 


ضحك سليم وأمسك بجهاز التحكم عن بعض ووضع ذراعه على كتف والده كأنه صديقه وقال:


- قولت لك قبل كدا علي ده نحنوح مصدقتنيش. 


كان علي ينتظر أن ينتهي حديثهم حتى ينضم إليهنا، وبالفعل ما إن انتهيا عاد وهو يحمل زجاجة بلاستيكية مليئة بالمشروب الغازي وثلاثة أكواب، وقال بسعادة:


- اتصالحتوا أخيرًا؟ 


ثم لاحظ أن سليم قد اختار فيلمًا آخر فقال بخيبة:


- ايه ده ليه غيرتوا الفيلم؟ 


قال شريف بسخرية:


- رومانسي ايه اللي أنت كنت مشغلة ده؟ أنت بتحب من ورانا؟ 


- لا بس قصة الفيلم حلوة. 


تنهد سليم وهو لا يستطيع التركيز في الفيلم الذي بدأ وقال بتذمر:


- أقعد يا علي، أقعد الله لا يسيئك. 


نظر له علي بتحدي فقام بالجلوس بينهما وفصل العناق الذي كان بين سليم ووالده عن عمد، فهمس سليم بغيظ:


- مش معقولة هيفضل غيران مني لحد امتى؟ 


ثم نظر له بامتعاض فابتسم علي بسماجة وهو يعطيه الكوب الذي ملئة بالمشروب الغازي، فابتسم له سليم باصفرار وتابعوا مشاهدة الفيلم بصمت.


❈-❈-❈



في اليوم اللاحق جلست ليلى وهاجر في المقهى كما المعتاد، كانت ليلى تقول بهمس:


- فكرك أعمل ايه معاه لما يجي؟ أكلمه ولا أتجاهله؟ 


نظرت لها هاجر بحدة وقالت بانفعال:


- تتجاهليه طبعًا هي دي فيها كلام؟ 


قضمت ليلى أظافرها وهي تفكر، ثم قالت:


- طب أقطع علاقتي بيه ولا أتجاهله بس؟ 


أشاحت هاجر بنظرها بعيدًا، ثم عادت تنظر لها وقالت:


- تقطعي علاقتك بيه طبعًا هي دي فيها كلام؟ 


نظرت لها ليلى بازدراء مصطنع وقالت:


- يا ربي تموت في خراب البيوت. 


صاحت هاجر باستنكار:


- الله! مش أنتِ بتسأليني؟ 


أخذت ليلى نفسًا عميقًا وقالت مضيقة عينيه تنظر لنقطة بعيدة من الفراغ:


- طب لما يجي هو وزين خدي زين على جنب بأي حجة علشان أقطع نهائي مع سليم. 


نظرت لها هاجر بتعجب من طلبها هذا، ولكنها فضلت الصمت، لا تفهم لماذا عندما يأتي ذكر زين أمامها تفضل التحلي بالصمت، ربما لأنها لا تستطيع تحديد مشاعرها تجاهه، مشاعرها؟ ما هي تلك المشاعر التي قد تكنها له في هذه المدة القصيرة؟ شردت في أفكارها بينما عزمت على إخبار ليلى بما يحدث لها، ولكن ليس الآن. 


عادتا كلتاهما إلى الصمت كل ما واحدة منهما في وادي أفكارها الخاص، كانت ليلى تنظر إلى ساعتها من حين إلى آخر بامتعاض، لماذا تأخرا؟


عند البوابة الرئيسية وقفا سليم وزين ينتظران قدوم هاجر التي تأتي متأخرة عادةً حتى يتمكن زين من إشغالها قليلًا؛ ليذهب سليم ويتحدث مع ليلى على إنفراد، نظر سليم إلى ساعته ونظر إلى زين، فرقع زين كتفيه وأخفضهما كإشارة على عدم علمه، فأشار له سليم بالدخول وتبعه.


وجدا ليلى وهاجر تجلسات بالمقهى تنتظرانهما، فنظرا لبعضهما البعض بسخرية وابتسما دون التفوه بشيء، تقدما ليجلسا مع ليلى وهاجر، وفورًا لكزت ليلى هاجر فحمحما هاجر وقالت بارتباك:


- ما تيجي معايا يا زين نجيب قهوة؟ 


تبادل زين نظرات ذات مغذى مع سليم ونهض ليذهب مع هاجر، طالعتهما ليلى حتى اختفيا عن الأنظار، ثم أمسكت بهاتفها وعبثت به متجاهلة الجالس أمامها والذي يحاول خلق حديث معها، فقال:


- عاملة ايه؟ 


رفعت ليلى رأسها عن الهاتف وأومأت له بمعنى بخير دون أن تقول شيء، ثم عادت لهاتفها، هز سليم ساقع بعصبية، وضع يديه على الطاولة وقال:


- على فكرة أنا فكرت في الكلام اللي قولتيه يوم الخميس اللي فات. 


أجابت ليلى بلا مبالاة دون أن ترفع رأسها عن الهاتف:


- هايل وبعدين؟ 


كز سليم على أسنانه بغيظ وقال باقتضاب:


- ليلى لو سمحتِ سيبي الموبيل واتكلمي معايا. 


تأفأفت ليلى وتركت هاتفها لتنظر له بجمود دون أن تتفوه بشيء وقد بدت نظرتها مؤنبة أكثر من كونها جامدة، فقال مدافعًا عن نفسه:


- ايه؟ ما أنا قولت لك إني فكرت. 


قالت ليلى بجمود:


- أيوه وبعد ما فكرت؟ 


حمحم سليم وحك رقبته مبتسمًا بارتباك وقال:


- فكرت بس يعني. 


- بس؟ 


كررت فأومأ وهو يعبث بشعره ليخفي ارتباكه، فقالت ليلى بعصبية:


- أنت مستفز ولا عايز تجنني؟ 


ابتسم سليم بحرج ولم يجب، فتنهدت ليلى لتخفف من غضبها وقالت بنبرة حاولت أن تجعلها هادئة قدر المستطاع:


- سليم، متفكرش إني بنصحك علشان جمال عيونك أو علشان عايزة أصلحك والكلام ده كله، إنما أنا بس شايفاك نقي من جوا وحرام الهبل اللي أنت بتعمله في نفسك ده، عارف أنت لو فاسد فعلًا؟ أنا كنت هسيبك زي ما أنت وأقطع علاقتي بيك بكل بساطة، إنما أنت مش كدا ومتستاهلش تعمل في نفسك كدا بحجج واهية زي اللي بتقعد تخترعها دي. 


ضحك بصخب فنظرت له بتعجب وعقدت حاجبيها معًا، خلع نظارته ووضعها بين شعره وقال بعد أن توقف عن الضحك:


- أنتِ بجد صدقتِ كل الهبل اللي قولته من شوية؟ ده أنا كنت بستفزك بس علشان أعصبك. 


ارتخت عقدة حاجبيها تدريجيًا ليرتفعا في استنكار وعدم تصديق وقالت:


- فعلًا؟ 


أومأ مؤكدًا، فتململت في مقعدها دون أن تفهن السبب الحقيقي وراء هذا، وقالت:


- وهتعمل ايه يعني بعد كل ده؟ 


رفع كتفيه وأخفضهما وقال بتلقائية:


- هقطع علاقتي بعلا، بصراحة مش طايقها. 


- أومال ارتبطت بيها من الأصل ليه؟ 


ارتدى نظارته مرة أخرى وقال:


- هحكي لك بس متقوليش عليا عبيط، تمام؟ 


أومأت وضعت مرفقها على الطاولة وأسندت وجنتها إلى كفها لتستمع جيدًا لما سيقوله. 


❈-❈-❈


بعيدًا كانت هاجر تقف صامتة لا تجد ما تقوله، تحاول صياغة ما ستقوله ولكنها لم تستطع، كان زين يراقبها منتظرًا ما ستقوله، فقد أوحت ملامحها الحائرة بأنها تبحث عما تقوله، كانت هاجر ما زالت صامتة، حمحم ليجذب انتباهها وقال بمزاح:


- بعتيني علشان ليلى تقطع مع سليم تاني ولا ايه؟ 


نظرت له هاجر بتوجس وأجابت:


- بصراحة أه. 


ابتسم وقال بتعب مصطنع:


- هو الاتنين دول مش هيبطلوا؟ أنا تعبت لهم. 


صمتت هاجر ولم تعلق، هي لا تعرف ماذا تقول لتبعد زين عنهما الآن. 


تنهد بخيبة عندما وجدها تعود للصمت من جديد، وصلت القهوة حمل الأكواب وتوجه نحو الطاولة بصمت، فأوقفته هاجر وكأنها تدرك للمرة الأولى أنها يبتعد وقالت:


- زين أنا كنت عايزة أقولك على حاجه. 


توقف ونظر لها بصمت حتى تقول ما تريده، استجمعت هاجر شجاعتها وتنهدت وقالت بخفوت:


- أنا فكرت في كلامك كويس وأنت معاك حق. 


ابتسم زين وأومأ لها، فعادت تدافع عن نفسها وكأنها ارتكبت خطأ ما:


- أنا آسفة لو اتكلمت معاك في مرة بطريقة وحشة، فـ أنا أسفة. 


اتسعت ابتسامته عندما وجدها تتحول لجرو لطيف وديع، إذًا هي تفكر بكلماته جيدًا مثلما أخبره علي، نظر لها من رأسها لأخمص قدميها نظرة فاحصة سريعة وقال بأكثر نبرة لطيفة لديه ليتلائم مع الموقف:


- بتعتذري ليه طيب؟ دي باين جدًا إن دي فطرتك وحاجه متعودة عليها، فـ مقدرش ألومك على ده، وبالمناسبة أنا مش مهتم للهجتك العنيفة دي عادي بالنسبة لي مزعلتش. 


ابتسمت هاجر بحرج، لماذا هو لطيف لتلث الدرجة؟  لطفه هذا يشعرها الحرج حقًا، مسحت على وجهها وقالت:


- ما أنا بقول لك إني مبعرفش أتعامل مع الشباب، أنا آسفة. 


قال زين ممازحًا:


- يا ستي اعتبريني ليلى، هيحصل ايه؟ 


ضحكت بخفوت وقالت:


- حاضر هحاول، يلا نروح لهم علشان منتأخرش على المحاضرات. 


- يلا 


يتبع