-->

الفصل الثاني عشر - مرآة مزدوجة


 

الفصل الثاني عشر


جلس عمر في شرفة منزله الصغيرة وأستند على السور الحديدي بينما صدح من الراديو القديم إحدى أغاني العندليب الذي لطالما استمتع والده بالإستماع إليها مثلما يفعل الآن، فقد كان والده عكس الأكثرية ليس من محبين الست أم كلثوم، بل كان يفضل عبد الحليم حافظ ويستمتع بأغانيه وكأنها ما تجعله يشعر بطعم الحياة، كان يراقب والده الذي يستمع لألحان الأغنية مغمض الأعين، وكأنه يوقف جميع حواسه ليقوي حاسة السمع فيسمع الأغنية بكل جوارحه، أغمض عمر عينيه ليستمع للأغنية بدوره، وبعد عدة دقائق صدح صوت العندليب قائلًا: « فاتت جنبنا، أنا وهو، أنا وهو. »


تزامنًا مع صوت العندليب المميز صفعت نسمة هواء باردة جسده فانتابته قشعريرة لم تدم طويلًا، فالطقس في هذا الوقت من السنة كان ربيعي يحتفظ بالقليل من النسمات الباردة من بقايا الشتاء، وكان عمر يرتدي قميصًا خفيفًا أكمامه قصيرة، مما يجعل أقل نسمة هواء تشعره بالبرد الشديد، كان يتعمد أن يرتدي الملابس الخفيفة في هذا الوقت لأنه يظن أن الشعور بالبرد الذي يغلف جسده ويتسرب بخبث إلى عظامه شعورًا لطيفًا، ولكنه لم يعلم أن هذا الشعور هو السبب في آلام عظامه المستمرة. 


لوح والده بيده باستمتاع، ثم فتح عيناه ونظر لعمر وكأنه يلاحظ وجوده للمرة الأولى، اتسعت ابتسامته وقال بنبرة خافتة مثل ابنه ولكنها تتسم بالدفء لا الجمود:


- ايه التطورات الجديدة في مشروعك؟ 


فتح عمر عينيه بدوره وأجاب:


- خلصت معظم الحاجات، لسه فيه حاجات في المكان اللي خدته عايزة تتظبط بس حاجات صغيرة الكبير خلص، ولسه عايز ابتدي اعمل اعلانات للتوظيف. 


كان والده يستمع باهتمام لمعرفة أدق التفاصيل، وعندما انتهى عمر ربت والده على كتفه وقال:


- يعني نقدر نقول أنك هتخلص بعد شهر مثلًا؟  


- مثلًا


ثم على الصمت فعاد صوت العندليب إلى الظهور في تلك الأجواء الهادئة، كان المنزل يتسم بالأجواء الكلاسيكية بشكل عام، ولكن ما يجعلك تشعر أنه منزل كلاسيكي بحق هو ذلك المذياع القديم الذي لا يصدح سوى بأغاني العندليب والذي يُوضع دائمًا فوق الخزانة العتيقة التي تضع بها والدته الصحون والأكواب الزجاجية الثمينة والتي توجد بالقرب من الشرفة حتى يستطيع والده أن يستمع جيدًا للأغاني بينما يجلس في الشرفة مستمتعًا بذلك الهدوء الصباحي، هذا ما فكر به عمر عندما جلس بملل مسندًا ذقنت التي نمت قليلًا إلى السياج الحديدي للشرفة، بينما لم يستمع والده للأغنية بتركيز تلك المرة لأنه كان يفكر به ويفكر بحالة الحرب بينه وبين والدته بسبب الزواج، فتنهد وقال بهدوء ليجذب انتباهه:


- مش عايزك تزعل من كلام أمك يا عمر، هي حاسة إنها مقصرة معاك بسبب إني واخد كل وقتها، فـ عايزاك تشوف دنيتك أنت وتتجوز واحدة تهتم بيك. 


ابتسم عمر وقال ساخرًا:


- وهي يعني علشان حاسة بالتقصير تقوم تلبسني مصيبة. 


ضحك والده وصفعه بخفة على رأسه، كان عمر يعلم أن هذا هو السبب وراء إصرار والدته على تزويجه، فمنذ الوعكة الصحية الأخيرة التي مر بها والده وهي تلازمه وتهتم به حتى لا يشتد مرضه، وقد أهملت عمر في سبيل هذا، ومؤكد أنها تشعر بالذنب تجاهه خصوصًا كونه وحيدًا بلا أشقاء، وقد كره أن يشعر أحدهم حياله بالشفقة حتى وإن كانت والدته التي يحبها ويحترمها.


جذب انتباهه والده الذي قال مبتسمًا بحزن:


- أنا عارف إننا كنا سبب في اللي أنت فيه لما رفضنا نخلف تاني بعدك وفرضنا عليك تعيش وحيد. 


قال عمر بجمود لم يستخدمه يومًا مع والديه ولكنه يعتبر هذا الحديث أكثر شيء قاسي مر به قبلًا؛ لهذا لم يستطع أن يتحكم في نبرة صوته:


- اللي حصل قدر ومكتوب عند ربنا محدش يقدر يغيره. 


أومأ والده موافقًا وصمت، استمع للأغنية بصمت حتى انتهى المقطع المفضل لديه فعاد يقول بفضول وهو يراقب ردة فعل ابنه جيدًا:


- بس أنت يعني مفكرتش بشكل جدي في الجواز؟ 


نظر عمر للشارع وتنهد وأجاب:


- أكيد طبعًا فكرت، ما أنا مش هفضل كدا بقية عمري، بس أنا لسه محتاج وقت لحد ما يكون عندي شغل مستقر أقدر أكون على أساسه أسرة. 


ابتسم والده وقال بأمل:


- وتعتبر دار النشر لما تفتتحها شغل مستقر، صح؟ 


ابتسم عمر وقرر تحطيم آمال والديه وقال:


- لا، لسه هحتاج سنة أو اتنين لحد ما الدار تتعرف ويبقا فيها شغل. 


بدت الخيبة على ملامح والده وصمت مما جعل عمر يضحك بخفوت ضحكته التي تتسم بالوقار والتي دائمًا ما شعر أنها مزيفة ومبتذلة، وفي تلك اللحظة عاد صوت العندليب ليصدح مذكرًا أياهما بالأغنية التي أهملاها: « أنا بفكر ليه؟ وبشغل روحي ليه؟ »


فقال والده موافقًا:


- على رأي عمك عبد الحليم أنا بفكر ليه؟ كدا كدا نصيبك هيجي لك، سواء بكرة أو بعده أو بعد عشر سنين، ممكن تكون نصيبك لسه معدية من شارعنا كانت بتشتري فطار لأهلها، ممكن تقابلها بكرة في الشارع ومتبقاش عارف أنها نصيبك، ممكن تهدي لها توقيع في معرض الكتاب وأنت مش عارف أنها نصيبك، بس في النهاية نصيبك هيصيبك. 


أومأ عمر وشرد في كلمات والده، ولكن استحضره في تلك اللحظة الفتاة ذات الشعر المتموج التي رآها بالمعرض، تلك القطة الجبانة التي بدت كالأضحوكة وهي تخبره بحرج أنها لم تملك نسخة من الأصل، لقد أخذ ثأره منها في هذا اليوم خوفًا وحرجًا ولا يعلم لماذا أراد أن يزيد حرجها، رغم أنه لم يحرجها سوى أمام الفتاتان اللتان كانت معها، فلم يستمع أو يهتم أحدًا من الواقفين بما حدث، كما أنه ليس من محبين تلك اللعبة السخيفة من الاستفزاز والأشياء الأخرى المصاحبة له، ولكنه شعر داخليًا أنها تشبهه، أو تشبه النسخة القديمة منه الذي يحاول أن يخفيها عن أعين جميع الخلق، هي تمثله قبل أن يتخلى عن ذاته ويتحلى بذات جديدة، ذات سوداوية جامدة تعجب الفتيات وتجذب الأعين حوله، هي الشخصية الخائفة المتوترة الوحيدة والتي تشعر أن الجميع من حولها يمثلون نمطًا متناسقًا معًا بينما هي تفسد هذا النمط بداخلها، هذا دائمًا ما كان يشعر به منذ سنوات قلائل، ربما كل ما فعله معها كان كتحذير مستتر منه لها أن تتوقف عما تفعله، أن تحاول التغيير من نفسها قبل أن تكون منسية مثله، ربما. 


« أعرف منين إنها قاصداني أنا، مش هو، مش هو؟ »


ارتفع صوت العندليب تزامنًا مع صوت والده الذي أخذ يغني ورائه ليخترقا أفكار عمر، فاستمع للأغنية باستسلام وقد ترك الأفكار لوقت آخر.


❈-❈-❈


في وقت لاحق من اليوم كان عمر يبحث بين دفاتره القديمة التي كان يكتب فيها عندما كان بالمدرسة فقد تذكر جملة كتبها عندما كان بالثانوية يحتاجها ليضعها في روايته ولكنه نسي كيف صاغها؛ هذا أخرج الصندوق الكرتوني من أسفل فراشه وبدأ بالبحث عن هذا الدفتر الذي لا يتذكر لونه، بينما كان يبحث بإحدى الدفاتر اصطدم بعبارة كتبها منذ وقت طويل متأثرًا برواية ما كانت قد أعطتها له زميلة له في الصف، يتذكر هذا جيدًا، كان في المرحلة الإعدادية آن ذاك وكان قد بدأ شغفه تجاه القراءة ينمو كبذرة تنشق لتخرج نباتًا حيًا، كانت تلك الفتاة قارئة نهمة وقد أحبت أن تجد أحد ما يتحدث معها عن تلك الروايات ويناقشها فيها، ولكن مع تذكره لتلك الذكريات اللطيفة وتلك الابتسامة التي شقت وجهه بحنين إلى الماضي عاد ليتذكر التنمر الذي كان يواجهه بسبب تلك الروايات وكونه يصاحب تلك الفتاة وخاصة أن تلك الروايات كانت روايات عاطفية؛ لهذا لم يتوقف الصبية عن السخرية منه وتشبيهه بالفتيات بأكثر الألفاظ السيئة التي يستخدمها الفتية في تلك المرحلة العمرية؛ ليثبتوا أنهم أصبحوا بالغين، اختفت الابتسامة من على وجهه عندما تذكر صيحاتهم الساخرة وأغلق الدفتر بقوة، ثم عاد للبحث عن الدفتر الآخر وهو يتمتم بغضب:


- حفنة من الرعاع الصغار الذين يظنون أن البشر خُلقوا لخدمتهم وحسب. 


كان يكره هذه الفئة من الأطفال والمراهقين، الفئة التي أفسدها الدلال المفرط والأموال الطائلة التي تنفق لمرحهم ويحتقر عائلتهم الذين ساهموا في ظهور نماذج مقززة في نظره كتلك في مجتمع، وكان يرى أن هؤلاء الأطفال الذين كانوا يجعلوه مادة للسخرية نموذج للأطفال المدللين الذين تحدث عنهم، ولكن في خضم غضبه وأفكاره لم يلاحظ أنه عاد لاستخدام اللغة العربية الفصحى مثلما اعتاد أن يفعل عندما كان يتحدث إلى نفسه في الماضي. 


❈-❈-❈



عادت هاجر لمنزلها بعد يوم جامعي إعتيادي، ولكن ما ميز هذا اليوم هو الابتسامة التي زينت وجهها والتي لم تستطع التحكم فيها، كانت في الواقع سعيدة بالتغير الجديد الذي طرأ على حياتها، فبالشهر الماضي كانت قد بدأت تتحدث مع زين بحرية ودون قيود مثلما كانت تفعل سابقًا، لقد جعلها زين تشعر أن الأمر ليس بهذا السوء وجعلها تكتشف جوانب أخرى من شخصيتها كلما كانت تفكر بالتحدث معه، جوانب أكثر رقة وأقرب للهدوء، كانت تلك التغيرات في شخصيتها مريحة بحق وقد جعلتها تشعر أنها حرة لأول مرة منذ وقت طويل، كان زين محقًا عندما أخبرها إن ما تفعله متعب لروحها، هي بالفعل تدرك أن روحها كانت مرهقة من كل هذا التزييف الذي عاشت به، كل هذا كان ثمين بحق على قلبها، كون زين هو الذي فتح عينيها على تلك القصور جعلها تضعه في مكانة جيدة بقلبها، هذا بعيدًا عن كونها معجبة به، عندما أتتها تلك الفكرة ابتسمت بخجل ووضعت وجهها بوسادتها وكأنها تخفي حجبها من شخص وهمي متواجد معها بالغرفة، هي بالفعل أعترف أن يجذبها، لا يمكنها أن تسمي هذا حبًا ولكنها تمتلك بدلًا صغيرًا من المشاعر تجاهه، كما أنها معجبة بمظهره وطريقة حديثه التي راقبتها عن كثب، ولكنها تشعر أنها مازالت بعيدة، مازالت لا تستطيع أن تمنحه الثقة، عليها الانتظار قليلًا حتى تتبين لها حقيقته ونواياه.


قطعت أفكارها بينما نهضت لتساعد والدتها حتى لا يحدث شجار جديد بينهما بسبب كونها لا تساعدها في أعمال المنزل.


❈-❈-❈


« كان أمرًا لا يصدق حقًا، أن أجد نموذجًا مذكرًا من فكرة يمكنني إصلاحه، كل ما فكرت به في اللحظة التي طلب فيها سليم الاستماع له حول أمر علا تلك، فعندما كنت أعد نفسي لسماع دفاع واهي منه ومحاولة أخرى لإقناعي أن هذا النوع من العلاقات ليس سيء منه، ضرب سليم بكل توقعاتي عرض الحائط مخبرًا إياي أنه على علاقة بتلك الفتاة لأنه فقط يريد تأديبها وأن يُريها أن ما تفعله خاطئ، الأمر كرواية تقليدية مع قصة كُتبت مئات المرات ولكن تلك المرة تنقلب الأدوار حيث يصبح البطل هو الناصح الملتزم والبطلة هي سيئة السمعة، هذا شيء لم يدهشني كثيرًا بعد التفكير بهدوء، فهذا هو سليم وهذا هو ما اعتدته منه، أن يكون بريئًا ووقحًا. »


تنهدت ليلى بينما توقفت عن الكتابة، كانت تعيد سرد أحداث قديمة تارة وتتحدث عن أشياء لم تدونها تارة أخرى حتى تخفف من القلق الذي يراودها، ولكنها لم تستطع أن تبعد تفكيرها عن ذلك الأمر الذي يؤرق راحتها من فترة طويلة، فعادت تكتب:


كلما اقترب موعد الاختبارات أشعر بقلبي ينقبض، وحاليًا » قلبي على وشك الانفجار؛ لأن الاختبارات ستبدأ بعد بضعة ساعات! لهذا قررت أن أكتب قليلًا بعد أن سلبني الخوف الساعات القليلة التي كنت سأنامها قبل الاختبار الأول، علّي أشعر بقليل من الراحة. »


رفعت ليلى رأسها عن الدفتر وتنهدت بتعب، نظرت للسماء الداكنة بينما تشرق الشمس ببطء تغلفها زرقة بسيطة تحارب ظلام الليل لتعلن عن فجر جديد، أغمضت عينيها تستمتع بنسمة الهواء الباردة على وجهها المحمر، ثم عادت لتكتب: « لقد كان هذا أسرع فصل دراسي مر علي، ربما الرفقة التي حصلت عليها جعلتني لا أشعر بمرور الوقت، أجل، أعني سليم وزين، إنهنا شابان صالحان، حتى وإن كان سليم ثور متحضر. »


توقفت ليلى عند كتابة وضحكت بخفوت حتى لا توقظ أحدهم، ولكنها كلما تذكرت كيف كان يتذكر يتذمر عندما تناديه بهذا اللقب.


« لطالما كره هذا اللقب رغم أنه كلما سمعه ضحك، كان يتذمر أحيانًا ويتوسلني أحيانًا أن أتوقف عن مناداته بهذا اللقب ولكني لا أستطيع منع نفسي من رؤية ملامح وجهه المتذمرة والتي تمثل لي أكثر الأشياء المضحكة في الوجود، مثلها مثل شعره غير المرتب الذي يذكرني بشعر نعناع الذي يكره التمشيط، ليس من السهل إيجاد شخص شعره بني اللون مثل لون شعر سليم، فالأغلبية يمتلكون شعرًا أسودًا أو شعرًا بنيًا داكنًا يقارب اللون الأسود، ولكن ذلك اللون القريب من لون الشوكولاتة لم أجد مثله الكثير. »


حامت عينيها في الفضاء بلا سبب محدد، وكأنها تريد أن توقف نفسها عن الكتابة عنه أو تأمل مظهره، ربما لأن هذا خاطئ ولا يجب عليها فعل هذا، تنهدت ليلى وهي تبعده عن تفكيرها وعادت تكتب: « أرى تقدمًا ملحوظًا في علاقة زين وهاجر، بدأت هاجر تنفتح عليه وتتحدث معه بحرية أكثرأكثر وهذا يعني أن خطة زين تجني ثمارها بطريقة لم أتخيلها قط، فهاجر ليست من النوع الذي ينفتح بسهولة، وقد فعلت في وقت قصير جدًا، ربما لأن اسمه زين؟ لا أعلم، ولكن بالوقت ذاته شعرت بالحزن كون إنشغال هاجر بالتفكير فيه وفيما يفعله يجعلها بعيدة عني، أنا سعيدة أن دائرتها بدأت تتوسع وتشمل المزيد من الأشخاص وقد اعتادت أخيرًا على التعامل مع الجنس الآخر، ولكني حزينة أنها لا تشاركني كل هذا وأن معرفتي لكل تلك الأشياء كانت من مراقبتي له ولها وما يقوله لي سليم من حين إلى آخر عندما يضيق بي الذرع وألجأ له؛ ليخبرني بكل شيء. »


رغم ضيقها إلا أنها ابتسمت متذكرة حب هاجر الغريب لهذا الاسم والذي يحمله الشخص الذي يحبها، يالها من صدفة! أم أن الله قد وضع حب هذا الاسم لأنه يقدر لها الزواج من شخص يحمل هذا الاسم؟ ربما.


شعرت ليلى بحركة في الداخل فظنت أن والدتها قد استيقظت لآداء صلاة الفجر، لهذا عندما رأتها تدلف للمرحاض، تسللت ببطء لغرفتها؛ لتحاول النوم قليلًا بعد أن أدت صلاتها قبل أن تكتب في دفترها.


❈-❈-❈


انتهى سليم بعد نصف الوقت فقط فقام بتسليم ورقته وغادر المدرج، خرج ليقف منتظرًا الآخرين، ولكنه لم يجد سوى زين الذي قال ما إن رآه:


- عملت ايه في الامتحان؟


ابتسم سليم وقال ساخرًا:


- أبقى قابلني لو عديت صافي.


ابتسم زين وصافحه قائلًا:


- مع بعض في الملحق، بإذن الله.


وقفا يتحدثان حتى تظهر إحداهن، وبالفعل بعد خمس عشرة دقيقة ظهرت هاجر التي قالت بانفعال:


- ايه الامتحان الزفت ده!


قال زين موافقًا:


- كان صعب جدًا.


فقالت هاجر بسخرية:


- بداية مشرقة هتخنق من الإشراق.


قاطع سليم حديثهما سائلًا:


- هي ليلى إتأخرت ليه؟


أجابت هاجر وهي تبحث عنها بعينيها:


- مش عارفه بس طالما الامتحان صعب احتمال تقعد لآخر الوقت.


وبالفعل بعد انتهاء الوقت خرجت ليلى وهي تبكي، فأسرعت هاجر لها وتبعها سليم.


قالت ليلى بنبرة باكية ما إن رأتهم:


- الامتحان كان صعب أوي.


ثم عادت للبكاء، فأخذتها هاجر نحو المقهى وتبعهما سليم وزين، جلست ليلى تمسح دموعها بينما جلس سليم في مواجهتها؛ ليحاول محادثتها، وقبل أن تجلس هاجر قال زين موجهًا حديثه لها:


- تعالي يا هاجر نجيب لها حاجه تشربها.


نظرت له ببلاهة وقالت بتلقائية:


- طب ما تروح لوحدك آجي معاك ليه؟


نظر لها زين نظرة ذات معنى وقال مشددًا على كل حرف يقوله:


- تعالي يا هاجر نجيب لها حاجه.


تأفأفت هاجر متذمرة وتبعته وهي تحاول معرفة ماذا يريد، فلولا كونها استشعرت أنه يريد التحدث حول أمر ما لما كانت ستتبعه، فهي تفضل أن تبقى بجانب ليلى في تلك اللحظة.


أعطى سليم ليلى منديل ورقي لتمسح وجهها وقال بخفوت:


- ما هو الامتحان كان صعب علينا كلنا، بتعيطي ليه بقا؟


أجابت ليلى باكية:


- علشان سيبت آخر سؤال.


- اللي عليه عشرين درجة ده؟


أومأت ليلى وعادت للبكاء بصوت عالٍ، فلعن سليم نفسه على غبائه، ثم قال محاولًا التخفيف عنها بنبرة مرحة:


- يا ستي أنتِ زعلانة علشان سؤال؟ حضرتك أنا سايب نص الورقة التانية وأنتِ بتقولي سؤال؟


ابتسمت ليلى من بين دموعها، مما جعل سليم يبتسم، تنهد ووضع يده فوق يدها وقال برقة:


- أنا عارف إن كلامي سمعتيه كتير بس مفيش غيره يتقال، مش مهم اللي حصل لأنك مش هتعرفي تغيريه، ركزي على اللي جاي بدل ما تعكي فيه واحنا مش ناقصين، كفاية العك اللي اتعمل النهار ده، ده عك يعيش معانا بقية العمر.


ضحكت ليلى بخفوت وتوقفت عن البكاء، تأمل سليم وجهها المحمر من اثر البكاء وقال ممازحًا:


- وشك كدا لايق على الطرحة البيضاء، ابقي عيطي كتير بعد كدا.


ضحكت مجددًا لتخفف من الخجل والتوتر الذان سيطرا عليها، لاحظت يده الدافئة التي تغلف يدها، فازداد احمرار وجهها ونزعت يدها ببطء، حمحم سليم بحرج وابتعد قليلًا عنها عندما أدرك ما فعله عفويًا، فجلسا كلاهما بصمت كل منهما في دائرة أفكاره المرتبكة جراء التقارب الذي يزداد بينهما يومًا بعد يوم.


على مسافة ليست بالبعيدة وقفت هاجر تنظر لزين بامتعاض وقالت بنفاذ صبر:


- ها كنت عايز ايه؟


نظر لها زين مبتسمًا باصفرار وقال ليستفزها:


- أخيرًا فهمتِ يعني.


قالت هاجر بنبرة هجومية كمن على وشك دخول إحدى المعارك:


- أنا فاهمة كل حاجه على فكرة، أنت اللي..


قاطعها زين سريعًا عندما شعر أنها ستعود مجددًا لنقطة الصفر وقال:


- بس بس، اهدي أنا عايز اتكلم معاكِ مش اتخانق.


عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت باقتضاب لتنهي أي نقاش بينهما، فبالشهر الماضي لم تصل إلى ما يريده منها؛ لأنه كل ما كان يفعله هو أن يتحدث عن نفسه ويجعلها تتحدث عن نفسها بدورها وقد جعلها هذا ترتاب تجاهه:


- ارغي


تنهد زين وابتسم وقال:


- بما إن الفترة اللي فاتت اتكلمنا مع بعض كتير وقربنا من بعض و..


قاطعته هاجر ولم يعد يروقها مجرى حديثه، فرغم أنها بدأت تكن له بعض الإعجاب ولكنها لا تشعر بالراحة لما يقوله كما أن قلبها بدأ يضطرب ولم تعد تحتمل المزيد من المقدمات التي مغذاها يجعلها ترتبك، فقالت:


- المختصر يا زين علشان نروح نشوف البنت المنهارة هناك دي.


أخذت زين نفسًا عميقًا، فهو على وشك أن يخبرها بكل شيء وكل ما يشعر به تجاهها، فحسب نصيحة علي كان عليه التريث قليلًا ولكن لقد المتوافرة التريث ولم يعد هناك وقت، فهم على وشك إنهاء العام الدراسي وهو لن ينتظر ثلاثة أشهر دون رؤيتها ودون أن يعرف ما هو موقعه في حياتها، فقال بعد لحظة من الصمت نتيجة للتردد الذي داهمه بغتة:


- بصراحة بقا أنا معجب بيكِ، مش دلوقت ده من زمان بس مكنش عندي الشجاعة الكافية، ودلوقت بقا عندي وعايز أدخل البيت من بابه وعايز بعد ما نخلص الامتحانات أجيب والدي ووالدتي ونقابل أهلك.


شعرت هاجر بأنفاسها تسحب منها وتملك منها الخجل والتوتر حتى لم تعد تستطيع التفوه بشيء، ظلت تنظر له بملامح مصدومة حتى جفلت وقالت سريعًا:


- أنا رايحة لليلى.


كانت تريد أن تهرب منه بأقصى سرعة ممكنة، فهي لم تظن أنه سيتحدث عن هذا الأمر بطريقة رسمية،وهم ما زالوا صغارًا على هذا، ولكن هذا لم يمنعها من احترامه بخطوات الشجاعة تلك، وعلى الرغم من ذلك لم تترك له فرصة وقامت بالهرولة بعيدًا، فلحق بها زين وهو يقول:


- استني يا هاجر نتكـ..


قاطعته هاجر مجددًا وصاحت:


- هفكر يا زين هفكر.


ثم سرعت من وتيرة سيرها بينما وقف زين ينظر لها مبتسمًا، قبل أن يلحق بها مجددًا.


❈-❈-❈



« مرت فترة الاختبارات بسلام على الجميع، كان كل شيء جيد، لم أفهم لماذا كانت هناك سحابة من اللطف تحلق حول أربعتنا، هاجر تكاد تطير فرحًا منذ أن أخبرها زين بأنه معجب بها، لكنها لا تحبه، أنا أعلم هذا حتى وإن لم تخبرني بالأمر، وهي تعلم أيضًا، ولكن زين سيكون زوجًا صالحًا وهذا أفضل شيء، شخص يتحلى بالأخلاق الحميدة، حسن المظهر وطويل، أطول من سليم حتى، واسمه زين، وتلك جميعها عوامل كافية لجعل هاجر تقبل به دون حب، يكفي أنه شخص جيد حديث الجميع عنه طيب ويمكنه إسعادها، وهاجر على علم بهذا؛ لهذا قبلت به، وكونها سعيدة وستتزوج من شاب يحبها بحق، يجعلني سعيدة. »


قررت ليلى التوقف عن الكتابة قليلًا رغم رغبتها في سرد المزيد، فقد شعرت أن تلك نهاية جيدة لهذا اليوم، كانت ستبحث عن نعناع حتى تمشط شعره، ولكن ما إن سمعت أحدهم يدلف الشقة حتى توجهت للخارج متوقعة أنها ليليان التي خرجت لشراء بعض الأغراض للمنزل، كانت ليلى تود الحديث معها عما أخبرتها به هاجر، فقد أخبرتها أن الكاتب الذي قرأت له روايته سابقًا الذي يدعى عمر قد أنشأ دار نشر ويريد موظفين، ففكرت ليلى أنها ستكون فرصة جيدة لليليان للتدرب والخروج للعالم الخارجي لاكتساب الخبرات بدلًا من الانعزال الذي تفرضه على نفسها، فأخذت برأي والدتها وقد أيدت رغبة ليلى ووافقتها في أن ليليان عليها الخروج من قوقعتها قليلًا حتى تتعلم كيفية التعامل مع البشر؛ لهذا اتفقنا على أن تتحدث معها ليلى اليوم وتحاول إقناعها بتلك الفكرة.


دلفت ليلى المطبخ حيث تقف ليليان وتقوم بغسل الخضراوات التي أحضرتها، قالت ليليان دون أن تلتفت لشقيقتها:


- هي ماما فين؟


- راحت تقعد مع طنط سعاد شوية.


كانت فكرة ليلى، أن تذهب والدتها لمنزل صديقتها وجارتهم سعاد حتى يتسنى لها الفرصة لتتحدث مع ليليان دون أن تتهرب وتحتمي في والدتهما.


أومأت ليليان ثم عادت للصمت، حمحمت ليلى تنظف حلقها وقالت محاولة أن تبدو وكأنها تسأل بفضل ليس إلا:


- ليليان أنتِ مفكرتيش تشتغلي قبل كدا؟


أجابت ليليان متنهدة:


- مش لما اتخرج أبقى أفكر.


جلست ليلى فوق جزيرة المطبخ التي لطالما صاحت والدتها أنها ستكسرها في يوم من الأيام، ولكنها لم تبالي لحديثها أبدًا، صمتت لعدة دقائق بينما كانت تحرك قدميها يمينًا ويسارًا وهي تراقب شقيقتها تضع الخضراوات بالثلاجة بعد أن جففتها جيدًا، انتظرت دقيقة أخرى، ثم عادت تقول بنفس النبرة الأولى:


- بس ما أنتِ ناقصلك سنة وتتخرجي مفكرتيش في الحوار ده خالص؟


استدارت ليليان لتواجه شقيقتها التي شعرت أنها تريد شيئًا ما منها، فهي لا تتحدث بتلك النبرة عبثًا، نظرت لها بريبة علها تتفوه بما تريده، وعندما لم تفعل قالت باستنكار يشوبه السخرية:


- جايبة لي شغل ولا ايه يا ليلى؟


ابتسمت ليلى وقالت:


- برافو عليكِ، صح.


تنهدت ليليان بسأم وعادت لما كانت تفعله دون أن تعلق على ما قالته ليلى، كانت تفكر بينما تقف أمام الموقد، هي لا تفهم كيف كل ما تفكر به يحدث في الواقع، فهي في الواقع بينما كانت تبتاع الأغراض كانت تفكر هل عليها أن تعمل بعد أن تنهي دراستها أم لا، وقبل أن تجد إجابة على هذا تجد شقيقتها تأتي وتتحدث معها عن هذا الأمر؟ هذا مربك.


قطعت أفكارها ليلى عندما قالت:


- ها ايه رأيك؟


عادت تفكر مجددًا، ثم قالت بحيرة بعد دقيقة:


- طب ومين يبقا مع ماما؟


أجابت ليلى بتلقائية:


- أنا، يعني أنا ورايا ايه في الاجازة؟


زمت ليليان شفتيها وقالت بخفوت:


- شغل ايه بقا؟


اتسعت ابتسامة ليلى وأجابت:


- فاكرة الكاتب اللي خدنا منه التوقيع في معرض الكتاب؟ هيعمل دار نشر ومحتاج موظفين.


هتفت ليليان معترضة:


- بس أنا مش متخرجة.


تنهدت ليلى بنفاذ صبر وقالت:


- يا بنتي ما أنتِ ممكن تدربي بس هناك.


بدت ليليان غير مقتنعة بكل ما تقوله ليلى، فقالت ليلى بنبرة هادئة لتحاول إقناعها:


- يا ليليان أنتِ على طول لوحدك وحابسة نفسك وده غلط! لازم تخرجي وتكتشفي العالم وتكتسبي خبرات، مش أنتِ بتفضلي أنك تتجوزي؟ طب ما أنتِ مش هتعرفي تختاري صح لو معندكيش خبرات ومتعرفيش حاجه عن العالم برا، فكري كويس يا ليليان، علشان خاطري لو مش علشان خاطرك، أنا أختك وعايزة مصلحتك بردو.


نظرت لها ليليان بتشوش وقد بدأت تقتنع بما تقوله شقيقتها، ولكن احتمال أن تُرفض كان كبيرًا؛ لهذا قررت أنها ستجرب فقط من أجل ليلى وهي متأكدة أنهم لن يقبلوا بها وهذا يجعلها تشعر بالراحة وفي نفس الوقت تنزل رضى والدتها التي لا يعجبها مجرى حياتها، عصفورين بحجر واحد، قالت:


- هروح أجرب بس.


ابتسمت ليلى وهمست بسعادة لتمكنها من إقناعها:


- تمام


تابعت ليليان قائلة وكأنها تحذرها:


- ممكن أترفض أنا رايحة أجرب بس.


أومأت ليلى سريعًا وقالت:


- المهم أنك موافقة، الباقي بقا ربنا وحده يعلم بيه.


يتبع