-->

الفصل الخامس عشر - مرآة مزدوجة

 الفصل الخامس عشر


دلك عمر رقبته بتعب، فقد جلس طويلًا أمام الحاسوب في تلك الوضعية غير المريحة بالمرة، يتصفح الصفحة الرسمية للدار، يرى التفاعل على المسابقات المجانية التي نشرها والتي يعلم أنها ستجمع تفاعلات كثيرة من الكُتاب المبتدئين.


تنهد بتعب وأرجع ظهره للخلف مستندًا على ظهر مقعده، لقد مضى أسبوعين منذ أن بدأ العمل، كل شيء أصبح مستقرًا أكثر من السابق وهذا شيء طمأنه وجعله يعطي نفسه القليل من الراحة مثلما يفعل الآن، بدأ الموظفون يتأقلمون على العمل والاعتياد على بعضهم البعض، فقد كانوا تائهين في البداية لأن معظهم إن لم يكن جميعهم لم يعملوا يومًا وتعتبر تلك الوظيفة هي الوظيفة الأولى الذين حصلوا عليها، كل شيء كان متناغم مع بعضه البعض إلا من شخص واحد، تلك الكتلة من الصمت والتوتر، ليليان، إنها حقًا تحيره، ما زالت حتى الآن غير متناغمة مع البقية، وكأنها تقف في المنتصف بينما القطيع يسير للأمام لتثبت لهم أنها مختلفة وأنها لن تتناغم مع أشخاص مختلفين عنها، لقد أهملها وتجاهلها عمر معظم الوقت بالأسبوعين الماضيين، فمنذ حديثهم الأول والقدر الكبير من الوعي والثقافة اللذان أبتدهما وهو لا يريد أن يتحدث معها مجددًا، ليس لأنها سيئة بل هي ممتازة، لأنه علم أنه لو استمر في محادثتنا سيريد أن يعرف رأيها في كل ما يكتبه، فهي قد أعطته رأيًا لم يرى مثيلًا له يومًا، لقد انتقدته ومدحته في جملة واحدة، كان رأيها مزيجًا من كل ما هو جيد وسيء، وكأنها مرآة مزدوجة تعكس الجيد والسيء في آن واحد، وهو يريد أن يكون غامضًا ونواياه غير معروفة؛ ليضمن سلامه الداخلي، وليحقق طموح الآخرين الذين يتطلعون إليه، فقد اكتشف منذ مدة قصيرة أنه ليحقق الشهرة التي ينشدها عليه أن يحتفظ بمظهر معين، مظهر الغامض الذي يرتدي الأسود دائمًا ويصعب التكهن بتصرفاته، تلك الأشياء تجذب الآخرين، فهذه هي الصورة النمطية للرجل الناجح في عمله المحفورة في عقول الجميع؛ ولهذا كان على عمر أن يطبق تلك الأشياء ليحظى بحضور مهيب يطابق الصورة النمطية المعتادة، ورغم صرامته في الإلتزام بتلك القواعد التي وضعها ولكنه يريد أن يخرج عن النص، أن يكسر ما بناه سابقًا، فقط ليفهمها، فهو يشعر بالفضول الشديد تجاهها وقد حاول إخماد هذا الفضول بداخله ولكنه فشل، سيحاول أن يجد أي عذر ليتحدث معها.


طرق أحدهم الباب ودلف ليتبين أنه محمد الذي كان يحمل إحدى الملفات في يده، كان محمد أحد زملاء عمر في المدرسة والذي لطالما اعتبر عمر صديقًا له، عكس عمر الذي اعتبر جميع من عرفهم قبلًا مجرد زملاء، إلا أنه كان الشخص الوحيد الذي يكن له الود ويمكنه بطريقة أو بأخرى الاعتماد عليه والوثوق به، فبالنهاية الانسان بحاجه لرفيق يساعده في دربه وهو يحتاج لمحمد الذي كان يعاونه كثيرًا في السابق والآن.


وضع محمد الملف على مكتب عمر وجلس على المقعد الجلدي أمامه وقال:


- مش ناوي تريح شوية يا ابني؟ أنت قربت تبقا روبوت.


تنهد عمر وهو يمسك بالملف وينظر به وأجاب:


- عايز والله، بس مش قبل شهر أكون اطمنت.


زم محمد شفتيه وقال ساخرًا وهو يحك ذقنه:


- آه، لا لو كدا يبقا عمرك ما هترتاح يا عمر، وأدي دقني أهي.


أغلق عمر الملف بعد أن اطلع قليلًا عليه وألقى به في وجه محمد وقال وهو ينهض:


- طب راجع أنت ده بقا وأنا هروح ألف على المكاتب شوية.


تنهد محمد وهمهم وهو يتبعه:


- مفيش فايدة.


توجه محمد نحو مكتبه، بينما بدأ عمر جولته المعتادة حول المكاتب، كانت ليليان تعمل في صمت وقد خلقت هالة حولها تمنعها من إدراك أي شيء يحدث حولها، عدا صوت عمر الذي أخترق مسامعها وهو يتحدث لأحد زملائها الذي يستقر مكتبه على مسافة قريبة منها، تأملته ليليان للحظة دون إدراكها لهذا حتى، كان في الأسبوع الأول يحتفظ بالمظهر الرسمي، فلم يرتدِ سوى الملابس الرسمية، ولكن اليوم ارتدى قميص أسود وبنطال أسود، كان مظهره غير رسمي، فقد تخلى عن ربطة العنق وفتح أول زرين من قميصه، بينما رفع أكمامه لمرفقيه فظهرت بشرته القمحية المائلة للشحوب، وقف مستندًا إلى مكتب الشاب وهو يتحدث إليه، كانت تلك للوقفة تبرز طول ساقيه وقد لاحظت ليليان طوله منذ لقائهما الأول بالمقهى بالطبع، ولكنها لم تتبين ملامحه في هذا اللقاء الأول مثلما تفعل الآن، يبدو شعره للوهلة الأولى أسودًا ولكن عندما يسقط عليه الضوء يتضح لونه البني الداكن، عيناه سوداء قاتمة، بينما عظمتي فكه البارزتان توحيان بالجمود وكأنه إحدى التماثيل المنحوتة باحترافية لتبزر قوة شخصية التمثال، بينما أنفه المستقيم تظهر غروره ونفسه العزيزة.


قطع تأملها له صوت إحدى الفتيات تهمس لها بسخرية:


- ما تصوريه أحسن.


انتبهت ليليان لها ونظرت لها بعدم فهم، فقالت بنبرة ضاحكة:


- علشان تدوم أطول معاكِ.


نظرت لها ليليان بحدة ثم عادت لعملها بصمت ولكنها داخليًا علمت أنها أخطأت عندما ظلت تحدق به بتلك الطريقة، فالجميع الآن سيظن بها الظنون!


تنهدت ليليان ونصبت تركيزها على عملها، عندما مر عمر على مكتبها واستند عليه بجانبها همس لها:


- لما يجي البريك ابعتي لي شغلك على مكتبي.


أومأت ليليان سريعًا وهي لا تعمل، لما شعرت بالتوتر الآن، أهو بسبب نبرته الرخيمة المربكة؟ أم بسبب قربه منها؟ أم بسبب أنها كانت تفكر به منذ لحظات؟ لا تعلم، ولكنها شعرت براحة شديدة عندما ابتعد عنها، وأكمل جولته.


عندما أتى وقت الاستراحة انصرف عمر لمكتبه مثلما يفعل عادة، بينما جهزت ليليان ما طلبه منها واتجهت نحو مكتبه، طرقت طرقات خفيفة ليأذن لها بالدخول، وضعت ليليان الملف على المكتب وكانت على وشك الرحيل إلا أن صوته أوقفها عندما قال:


- رايحة فين؟ تعالي اقعدي عايز أتكلم معاكِ في حاجه.


استدارت ليليان لتواجهه مجددًا وقد شعرت بالتوتر، ماذا يريد أن يقول؟ أولم يكن من الأجدر قوله أثناء جولته مثلما يفعل مع الجميع؟ جلست ليليان وأنتظرت أن يقول ما لديه، ولكنه فتح إحدى الأدراج وأخرج منها نوع من المخبوزات المحشوة والمغلفة ومطبوع على غلافها اسم إحدى الشركات التي تصنع هذا النوع من المخبوزات، رغم أنه في نظر ليليان كانت جميع الشركات تقدم نفس الشيء بنفس الطعم، نظرت لها ليليان بعدم فهم، فقال:


- خديها، أنتِ أكيد مأكلتيش.


دفعتها ليليان بعيدًا وقالت بأدب:


- شكرًا، مش جعانة.


دفعها عمر مجددًا نحوها وقال:


- أنتِ مبتاكليش خالص طول الشغل، مش معقوله بتستني لحد ما تروحي بيتك.


دفعتها ليليان وقالت مجادلة:


- لا معقول، أنا مش جعانة.


فصاح عمر بنفاذ صبر:


- أخلصي وخديها!


حمحمت ليليان وأخذتها بحرج، بينما أخرج عمر من الدرج واحدة أخرى وقال:


- وأنا جايب واحدة ليا بردو علشان جعان، صحيح مباكلش في الشغل بس ده ميمنعش إني بجوع زي بقية البشر.


- هو ده اللي كنت عايزني علشانه؟


سألت ليليان بخفوت، فأجاب عمر وهو ينزع الغلاف:


- لا، بس حسيتك بتبقا عايزة تاكلي وعايزة تشربي وبتنحرجي من اللي حواليكِ، ولسه مش متعودة على المكان ومش عارفه تتعودي، فـ حبيت أتكلم معاكِ شوية يمكن لما تلاقي حد بيتكلم معاكِ تبدأي تتعودي، وده لأنك شاطرة في شغلك وأنا حاليًا مش مستعد أخسر أي حد من الموجودين، وأنتِ بالطريقة دي مش بعيد تقدمي استقالتك بعد أسبوع أو أقل.


كان عمر يتحدث بصدق بطريقة لم يفعلها يومًا، فقد اعتاد أن يزين حديثه لكي يعجب الشخص الذي أمامه، ولكنها بالفعل شخص مهم لا يريد خسارته، فهي تعمل بجد ولا تبحث عن الصداقات أو الزواج مثلما تفعل الأخريات، بينما عملها متقن حسب ما قاله محمد، فمحمد قد درس نفس تخصصها؛ لهذا كان يجعله عمر يراجع عملها بدلًا منه، وقد بدا تلك حاجه جيدة للتحدث معها وإشباع فضوله تجاهها ، قضم عمر من الشطيرة ليشجعها على تناول خاصتها، ولكنها صمتت لبرهة تفكر في شيء ما ثم قالت:


- هو أنا ينفع أسأل سؤال؟


أومأ، فسألت:


- هو ليه حضرتك سميت الدار الرنة؟ 


ابتلع عمر الطعام، ثم ابتسم وأجاب بنبرة قاتمة:


- علشان الرنة بيعيش في ظروف قاسية وبيبقا وحيد ومفيش أي حيوان تاني بيبقا معاه في نفس البيئة.


لا تعلم ليليان لماذا شعرت أنه يتحدث عن نفسه خصوصًا عندما تحولت نظرته للجمود مجددًا، ولكنها تجاهلت هذا الشعور.


شعر عمر أنها لن تتناول شيء في حضرة أحدهم؛ لهذا نهض وقال:


- كلي يا آنسة، أنا خارج أشوف حاجات برا.


- بس..


حاولت ليليان الاعتراض ولكنه قاطعها قائلًا:


- مفيش بس يا آنسة، أنا قولت قبل كدا إني مش عايز أخسر موظفة كويسة زيك، وأنتِ شكلك مش طايقة الشغل أصلًا، بس مش مهم هنجبرك عليه.


ثم فتح الباب وخرج ليمنعها من المعارضة، بينما جلست ليليان بحيرة وهي لا تعلم ماذا تفعل في مكتبه.


❈-❈-❈

قضت ليلى النهار كله مع هاجر تساعدها في التحضيرات للخطبة، كانت التحضيرات بسيطة تليق بالعدد القليل الذي سيحضرها، كان شقيق هاجر هو من تولى أمر التزيين بينما جلست ليلى مع هاجر لترى الفستان الذي اختارته هاجر ورفضت أن تريه لأحد حتى موعد الخطبة، كان الفستان كريمي مع القليل من النقوش باللون النبيذي بينما أحضرت وشاح وحذاء ذو كعب عالٍ بنفس لون النقوش، كان فستانًا بسيطًا يليق بتلك الحفلة البسيطة، كانت ليلى قد أحضرت الفستان الذي سترتديه بالمساء والذي كان فستان أبيض مع نقوش دوار شمس بطول الفستان، جلست ليلى مع هاجر طوال النهار تساعدها ببضعة أشياء حتى بدأت هاجر تستعد للخطبة وارتدت فستانها، بينما وضعت ليلى لها بعضًا من مستحضرات التجميل لتلائم فستانها، ثم تجهزت ليلى بدورها، خرجتا للغرفة التي أعدت للجلوس بها أثناء الخطبة وانتظرتا حضور زين وعائلته الذين حضروا بعد نصف ساعة ليبدأ بعدها الجموع بالتوافد ومن بينهما سليم الذي ارتدى قميص أبيض وربطة عنق سوداء وبنطال أسود دون أن يرتدي سترة، كان قد هذب خصلات شعره البنية عكس طبيعته، فهو يحب أن يبعثره كثيرًا مستغلًا نعومة شعره التي تجذب الأنظار والذي لاحظت طوله، لم تكن هيئته رياضية ولكنها اتسمت بالنحافة والطول إلا أنه كان أقصر من زين بقليل، كان يقف يتحدث مع زين تارة ويضحك تارة، ضحكة أرسلت قشعريرة في سائر جسدها وزجرت نفسها حتى تتوقف عن تأمله، ولكنها لاحظت وقوف أحدهم بجانب سليم يتحدث مع زين وسليم، بدا مشابهًا قليلًا لسليم ولكن ملامحه بدت أكبر سنًا منه، ربما شقيقه الذي أخبرها عنه سابقًا؟ ولكن ما علاقته بزين؟ بارك سليم وذلك الشخص لزين وهاجر بينما وقفا لالتقاط الصور، كانت ليلى تقف على مسافة بعيدة فلم يلاحظ سليم وجودها وسط الجموع الموجودة، ولكنها وجدت الشخص الذي يرافق سليم ينظر لها، ثم اتجه نحوها دون أن يلاحظ أحدهم، شعرت ليلى بالتوتر وادعت تحدثها مع والدة هاجر حتى وقف أمامها ذلك الشخص وابتسم لها وقال:


- أنتِ آنسة ليلى زميلة سليم؟


أومأت ليلى وهي لا تعرف من أين يعرفها ذلك الشخص، فمد يده لها وقال:


- أنا علي أخو سليم، أظن إنه حكى لك عني.


نظرت ليلى ليده باستنكار، ففهم ما تلمح إليه، سحب يده ووضعها بجيب بنطاله وقال:


- طب هو ينفع أتكلم معاكِ في موضوع يخص الدراسة؟


قطبت ليلى جبينها بتعجب، فماذا سيريد أن يقول لها؟ تعلم أنه طبيب أيضًا ولكنها لا تعلم عن ماذا سيتحدث معها، ولكنها أومأت بحيرة وتبعتها نحو منطقة أقل صخبًا.


نظرت له ليلى بترقب وعقدت ذراعيها أمام صدرها، فقال علي:


- أنا كنت محتاجة مساعدتك، آنسة ليلى.


- في ايه؟


نظر لها علي بصمت ولم يجب ،مما زاد حيرة ليلى، إلا أن إجابته كانت آخر شيء قد تتوقعه:


- بصراحة الحوار مش عن الدراسة، الحوار هو إن سليم رجع يكلم علا، كان كويس وقال هبطل لعب وبقيت انسان جديد والهبل ده بس لقيته من حوالي أسبوعين كدا رجع يكلمها، فـ سكت وقررت استنى لحد ما أشوفك بنفسي وأطلب مساعدتك.


كانت ليلى تستمع له بذهول، ذلك الثور اللعين! ألن يكف عما يفعله يومًا؟ كلا هي لن تساعده مجددًا، لقد قدمت له النصح سابقًا معتبراه زميل يمر بمشكلة ولكنه يرفض الاستماع؛ لهذا هي لن تحاول المساعدة مجددًا، فهذا ليس واجبها وهي ليست مجبرة على مساعدته؛ لهذا قالت بجمود:


- بعتذر يا أستاذ علي بس أنا مش هعمل كدا، أنا زميلة سليم من الدكتورة النفسية بتاعته، أنا مش مجبرة إني أساعد، وبعتذر من حضرتك هضطر أمشي علشان وقفتنا كدا مش حلوة.


لم تلحظ ليلى أنها تحدثت بقليل من الحدة، ولكنها شعرت بالضيق مما قاله علي، فلم ترد أن تختلط مع الجموع وهي بتلك الحالة؛ لهذا ذهبت للشرفة علها تحصل على القليل من الهواء، تنفست ليلى الهواء بعمق لتحاول التخفيف من الضيق الذي يعترمها، كانت توًا تتذكره وتفتقده، لقد افتقدته بالفعل وافتقدت حديثه ومزاحه وعلاقتهما اللطيفة التي لم تستطع أن تعطيها مسمى واضح، ولكنه يعود ليهدم كل شيء بعناده، وهي من كانت تلقب نفسها بالماعز العنيد؟ كلا هو قد تخطى عنادها بمراحل، إنه ثور، ثور متحضر عنيد، بحاجه لكسر رأسه، هي لم تعد تريد أن تعرفه أو أن تعرف أي شيء يخصه.


- مختفية معظم الوقت يعني.


جذب انتباهها جملة سليم المازحة، فنظرت له بجمود ولم تعلق، كلا هي لن تستمر على هذا الحال معه، عليها أن تضع حدًا لكل هذا مثلما قالت لها هاجر، ولكنها كانت حمقاء فضولية؛ لهذا قبل أن يبدأ بتجاذب أطراف الحديث معها قالت بحدة:


- أنت رجعت للرمرمة تاني؟


صمت سليم للحظة، ونظر للشارع بشرود، قبل أن يعود لينظر إليها وقال:


- علي اللي قالك الكلام ده؟


- مش مهم مين قالي، المهم ده صح ولا غلط؟


صمت مجددًا، ثم تحولت ملامحه للجمود وقال:


- أه يا ليلى، عايزة حاجه؟


ضحكت ليلى باستهزاء وصاحت به بانفعال:


- مش أنت اللي هتغير هتغير، وانسان جديد وحاضر هسمع كلامك وكل ده؟ كل ده راح! ضاع في الهوا!


صاح بدوره بها:


- أه ضاع وأنا مش مضطر إني يتحكم عليا منك، الموضوع كله ميخصكيش من الأساس!


تراجعت ليلى للخلف خطوتين وقد أدركت عدة أشياء، فقالت هامسة:


- فعلًا، معاك حق، الموضوع ميخصنيش.


هدأ سليم قليلًا بعد أن أدرك ما قاله توًا، بينما قالت ليلى بخفوت:


- أتمنى المعرفة اللي بينا دي تنتهي هنا.


ثم تركته ودلفت للداخل وقد لعنت نفسها داخليًا، فقد خرجت نبرتها متألمة ومخذولة، لم تتوقع أن يتحدث معها بتلك الطريقة مهما كانت حدة النقاش بينهما، هو لم يفعل هذا يومًا، وهذا ما جعلها تأخذ الأمر بمنحنى أكثر عاطفية؛ لأنها تأذت مما قاله، وربما هي غضبت من شعورها بفشلها معه، الآن هي تدرك أنها نظرت له على إنه فأر تجارب مريض عليها أن تعالجه، لقد تبعت مبدأ يمكنني إصلاحه الذي حذرتها منه هاجر وادعت أنها لن تفعل هذا، والآن هي تدرك أنها وقعت في هذا الخطأ، وهذا في نظرها النهاية الحقيقية بينهما.


اصطنعت ليلى ابتسامة واتجهت للجلوس بجانب هاجر التي كانت تجلس مبتسمة باتساع وتتحدث مع زين، لم ترد ليلى أن تفسد فرحتها في يومها المميز؛ لهذا جلست مبتسمة وبدأت بالحديث معها ومع زين قليلًا، بينما دلف سليم بوجه متجهم ووقف بجانب علي يراقب الحضور في صمت ولم يلاحظ نظرات الإعجاب التي تكاد تأكله من شقيقه زين المراهقة، داليا، والتي لاحظتها ليلى لتزيد من ضيقها وامتعاضها.


❈-❈-❈

كان عمر يقوم بتلميع حذائه، بينما مرت والدته من جانبه لتقف أمام المرآة تعدل من وشاحها وتقول بامتعاض:


- أخلص يا عمر، كفاية إننا متأخرين ساعة.


قال عمر بهدوء وهو ينصب تركيزه على مهمته:


- ما البيت طلع قريب، مش هناخد وقت يعني.


تأفأفت والدته وقالت:


- نفسي يبقا عندي نص برودك بس!


ثم صاحت وهي تتجه نحو غرفتها:


- جهزت يا سعيد؟


أجاب والده بشيء لم يسمعه، ولكن أذناه التقطا عبارة والدته المتهكمة والتي قصدته بها:


- زين ابن أختك اللي عنده واحد وعشرين سنة هيخطب وفيه لسه شحط عنده سبعة وعشرين ناوي يعنس.


ابتسم عمر بتهكم وهو ينهض ملتقطًا سترته الرمادية مخترقًا قاعدته لأول مرة، فهو يعلم أنه لن يجد من يهتم بالقراءة بتلك الخطبة ليؤثر عليه بمظهره السوداوي؛ لهذا فضل أن يرتدي شيئًا ملونًا اليوم، انتهى والداه من التجهز ليرحلوا جميعًا.


وصلوا للمنزل وبعد الترحيب الحار من عمته - والدة زين - دلفوا جميعًا ليهنئوا ابن عمته زين، هنئه والداه أولًا وعندما ذهبا ليجلسا، تقدم عمر ليهنئه بدوره ليتفاجأ أن خطيبته هي نفس الفتاة التي رافقت ليليان في معرض الكتاب والتي ما كان ليتذكرها لولا أنها رافقت ليليان، أبدت الفتاة التي تدعى هاجر حماسًا مفرطًا لاكتشافها أنه قريب خطيبها، فظلت تتحدث معه عن عدة أشياء بحماس مفرط بينما كان يجيب عليها بهدوء، حتى رأى صديقتها تلكزها محذرة بطرف عينه فنظر نحو زين بحذر ليجده يشتعل غضبًا، مما جعله يعتذر منها وينصرف بهدوء ليجلس بجانب والده بعد أن أدرك أنه أشعل غيرة ابن عمته العزيز وأنه سيحدث شجار بينهما الآن، كان يراقب ما يحدث بجانب والده بنظرة واثقة وهو يقول في عقله ما سيحدث الآن.


جلست هاجر بدورها لتجد ليلى تنظر لها مؤنبة، بينما انحنى زين وهمس لها بغضب مكتوم:


- كان ناقص تلبسيه هو الخاتم مش أنا.


نظرت له هاجر باستنكار وقالت:


- في ايه يا زين أنا عملت ايه؟


نظر لها زين بحدة وقال وهو يكز على أسنانه:


- اخرسي خالص وخلي الليلة تعدي.


قالت هاجر بعناد:


- لا مش هسكت، فهمني الأول.


نظر لها زين نظرة غاضبة حادة وقال بنبرة لا تدعو للنقاش:


- هاجر خلصنا!


عادت لتنظر للفراغ بشرود وملامح متجهمة ولكنها حاولت تزييف ابتسامة، بينما ظل زين غاضبًا فانحنت هاجر تجاهه قليلًا وهمست:


يا ريت تفك وشك شوية، مش عايزين الناس تتكلم علينا.


قال زين بغضب:


- ملكيش دعوة بيا.


عادت هاجر تتظر نحو الجموع بحزن ولكنها حاولت الابتسام بينما كان واضحًا أن هناك خطب ما قد حدث، حاولت ليلى التي شهدت الحوار بأكمله أن تخفف عنها وتمازحها ولكنها ظلت حزينة حتى نهاية الخطبة. 


وعلى الجانب الآخر كان عمر الذي ابتسم بتهكم عندما علم أن هناك شعور سلبي جديد سيضاف بجانب المشاعر السلبية الأخرى، تأنيب الضمير، رغم كونه كان يعلم أن شجار كهذا محتمل منذ الوهلة الأولى التي سمع بها أن ابن عمته سيعقد خطبته، فهما طفلان ولا يعرفان شيء عن النضوج، كان حدوث شجار كهذا بينهما ليس إلا مسألة وقت.


يُتبع..