الفصل التاسع عشر - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى
النسخة الفصحى
-
مرحبًا.
سلط انظاره بركن بالغرفة لا يعي ماهية
ما ينظر إليه، يتمنى لو كان بإمكانه سماع ما يقوله الآن، هذا الرجل لا يدري لماذا
لا يشعر بالراحة لمجرد فكرة قرابته منها ولا يُطيق أن يكون هناك علاقة تجمعهما،
حتى ولو صلة قرابة أو منافع مشتركة في عملهما، وإلى اليوم وحتى هذه اللحظة لا
يُصدق أنه أراد الزواج منها يومًا ما قد نسيه ونسته هي كما تدعي، فكل امرأة
بداخلها لابد من أن يُصيبها بعض التفاخر ولو القليل بأن هناك من يريدها من الرجال،
ولو لم يفقد عقله بعد، هو يتذكر أنه يمتلك ملامح جذابة قد تُعجب بها الكثيرات وحتى
لو كانت زوجته نفسها!
حاول أن يسيطر على تفكيره وهو يتذكر
الكثير مما تعاهدا عليه، لو كانت تُريده لكانت تزوجت منه قبله، هو يثق بها، ويرى
عشقها له في عينيها، هي مجرد مكالمة عابرة مع ابن خالتها الذي هو زير للنساء
وستنتهي عما قريب، عليه التحمل حتى تنتهي وسيكون بعدها كل الأمور على ما يرام.
نفث دخانه ببطء وهو مشتت بين ثقته
العمياء بها وبين استحالة ثقته بهذا الرجل ليستمع لها تقول:
-
اعتذر لك ولكن كان لدي الكثير في الآونة
الأخيرة وقمت بتغير هاتفي وحدث الكثير من الأمور، ولم اتفقد أي رسائل قمت بإرسالها
لي.
حسنًا، هذه الطريقة التي تُحدثه بها لا
تُعجبه، لماذا تسترضيه؟ فليحترق بالجحيم لو أراد، وما الذي أرسله إليها؟ لم يشعر
بمثل هذا الفضول في حياته أبدًا مثل ما يشعر به الآن!!
-
توقف عن الحاحك يونس، انتظر حتى عودتي
من السفر وبعدها سنرى سويًا ما الذي نستطيع فعله، أتعجب منك حقًا، ألا تزال تُفكر
في هذا الأمر؟
ابتلعت ببعض التوتر، فهي تعرف أن ردة
فعل "عمر" لو علم حقيقة ما يُريده منها ويحدثها بشأنه لن تكون جيدة، لا
تظن أن رجل مثله بأفكاره قد يستهين برجل يريد التعرف على أخته، حتى ولو كان لا
يملك معها علاقة وطيدة، ربما أفضل حل أن يكون حديثها مُبهم وأن تختلق أمرًا ما يخص
العمل ليكون هذا مبررها الوحيد!
-
وما رأي يارا في الأمر؟
لماذا لا يستطيع أن يجد كلمة واحدة
منطقية بين كلماتها، أمر ماذا الذي يتحدثان عنه؟ وما شأن ابنة خالتها بالأمر،
لماذا يشعر بأنه غبي للغاية؟ اللعنة، لقد قاربت سبابته على الاحتراق!!
انتبه لسيجارته التي احترقت وتساقط
رمادها دون أن يلاحظ تآكل النيران لها فالتفت ليلقي بقاياها بالمنفضة بجانب الفراش
الذي لا تزال جالسة عليه ليجدها تبتسم نحوه قاصدة إياه ولكنه لم يُعطها أي اختلاف بملامحه
وحاول أن يُنصت أكثر لعله يتحصل على كلمة من حديث هذا الأحمق إليها ليجدها هي تقول
باستغراب متسائلة:
-
هل قاموا بتعجيل الدفع لك؟ هذا جيد!
سلطت تركيزها على صوته بمنتهى الاهتمام
وتوقفت عن مبادلته النظرات بينما هو لم يفهم ما تتحدث بشأنه ولكن على ما يبدو أنه
أمر يخص عملهما ليجد استغرابها يتحول لملامح تلقائية وتابعت:
-
الجميع يعلم أنني لا أحب التأخر في
دفعاتي، هذا ينطبق على جميع الموردين لدي، وأنا لم اقصد أن أتأخر في الدفعات إليك،
لابد من أن إدارة المالية آتى لها دُفعة لها قاموا بتعديل تاريخ الشيك ليس إلا.
هذا هو التفسير المنطقي الوحيد الذي
اهتدى عقلها إليه بعد أن أخبرها عن السداد المُعجل الذي قامت به إدارة المالية
الخاصة بشركتها، ولم تكن تعلم أن هناك الكثير مما فعله زوجها ذو المزاج المتقلب
ذاك اليوم الذي كانت تكافح به اثار الثمالة بالفندق وحدها ولو عرفت ما نتج عنه
ستجن بالتأكيد!!
انتبهت نحو "عمر" من جديد
فوجدت ملامحه تكتسي بالوجوم لتتنهد وهي لا تريد أن تكون طرفًا في مزاح ابن خالتها
الأحمق الذي لا يتوقف عن الدخول في علاقات قصيرة مع مختلف الفتيات بمختلف اشكالهن
ومستوياتهن الاجتماعية ولا يُكمل أي من علاقته لأكثر من شهر أو اثنين لتحاول
التهرب من هذه المكالمة:
-
حسنًا، سنرى ما الذي نستطيع فعله عند
عودتي، فلتخبر يارا وأبنائها باشتياقي الشديد إليهم.
لمحها تبتسم وهي تستمع لهذا اللعين الذي
لا يعرف ما الذي يقوله لها على الطرف الآخر ليتنفس في النهاية الصعداء وهي تُنهي
المكالمة قائلة:
-
كف عن الحاحك أيها السخيف، عندما أعود
سنتحدث بهذا، سأذهب الآن، وداعًا!
هزت رأسها باستنكار أنه لا يزال بعد كل
تلك الأيام يحاول الوصول إلى "عنود" ويحاول أن يصل لرقم هاتفها أو حتى
يُرسل لها طلب صداقة عبر موقع التواصل الاجتماعي ولكنه باء بفشل ذريع وكأنه يحاول
التوصل لأسرار عسكرية في خضم حرب ضارية!
تركت هاتفها ثم اتجهت نحوه لتجد نظراته
المتفحمة بالسواد الباهت تتابعها وكأنها اجرمت بشيء ما فتعجبت منه، لتوه هو من
ناولها هاتفها، لماذا يرمقها بهذه الطريقة الآن؟!
حاولت أن تتظاهر بالتلقائية وابتسمت له
ثم سألته:
-
هل سنخلد للنوم قليلًا قبل أن نذهب للخارج
أم تشعر بعدم الرغبة في ذلك؟
أوما لها بالرفض فلم تفهم اجابته، ولكن
على ما يبدو أنه لا يريد النوم، وقبل أن تقوم بالمزيد من الاقتراحات توجه نحو
الشرفة لتلعن تلك المكالمة التي آتت في وقتٍ ليس بمناسب تمامًا، لقد كادت لتوها أن
تقترب من الدخول لهذه الغرفة التي تحتوي على أهم ما يُمكنها التفاوض عليه، هذا
بالطبع لو أن "يُمنى" مُحقة فيما أخبرتها به، ولو كانت كاذبة أو قام هو
بتغير مكان تلك الخزينة التي يخفي بها الكثير، سيكون عليها أن تسلك طريقًا لا تعرف
ما الذي قد يظهر به، والكارثة الأكبر، كيف ستقوم بالولوج إليها؟
تبعته للخارج فوجدته يحدق نحو المياه في
صمت وملامحه منزعجة وكأنها سبته بأبشع القول فتلمست يده برقة وتنهدت وهي تسأله:
-
ما بك؟ ما الأمر؟ هل انزعجت لأنني تحدثت
معه؟ أم انزعجت لحقيقة انني يُمكنني التحدث لأي رجل في العموم؟
اكتفى بلمحها بطرف عينيه وعقد حاجباه
وبقي على صمته ثم سلط نظره نحو يدها الملامسة لكف يده فوق سور الشُرفة ليحاول أن
يحتوي هذا الحنق بداخله قبل أن يطغى عليه وعليها ليجدها تُزيد من غضبه وهي تخبره
بإطنابٍ ونبرة معتدلة:
-
عمر، لا أظن أن الفتاة التي ليس لديها
أي علاقة قط مع أي رجل قبل زواجها ستنتظر حتى تتزوج ثم تذهب لتدخل في علاقة بعد
الزواج، ورغمًا عني تعودت أن اتعامل مع الجميع بحدود سواء رجال أو نساء، وهذا في النهاية
ابن خالتي الذي اعرفه من يوم مولدي، وأحيانًا يصادف وجدو بعض الأعمال بيننا أو
رؤيته في تجمع عائلي، هو رجل من العائلة، ولكنني أحبك أنت، وعلى يقين تام أنك
تعشقني مثل ما أعشقك، كما أنك تثق بي، ولكن ما تفعله هذا وارتيابك بكل شيء يجعلني
أشعر وكأننا ليس بيننا حب أو ثقة من أي نوع!
أطبق أسنانه وهو يلتفت لها ليتفحصها
مليًا وعقب بحُجة واهية:
-
اثق بكِ، ولكن لا أثق به ولا أي رجل آخر!
تفقدته بثبات ثم أردفت دفاعها عن نفسها
وعن الموقف نفسه بجدية فهي باتت تعلم الآن أن هذا هو رد معظم الرجال المرضى
بالارتياب بشأن كل ما يتعلق بتعامل زوجاتهم مع أي رجل في حياتها اليومية ولكنها لم
تترك هدوئها:
-
لو تثق بي حقًا ستثق في أنني لن اتقبل
من أي إنسان أن يعاملني بطريقة غير لائقة، يستحيل اتعامل مع شخص يتعدى حدوده معي، أو
اكرر التعامل معه، كما أنك لابد أن تكون واثق لو تعدى أي أحد حدوده معي ستكون أنت
أول من تعلم بهذا.
انطلقت الحروف من فمه دون ادراكه بغضبٍ
شديد:
-
وهل من المفترض أن انتظر مثل هذه اللحظة
العظيمة حتى تأتي وتبلغيني بالأمر؟!
رفعت حاجبيها مندهشة وعقبت بسخرية وهي
تتفقده بانزعاج وكما تفلتت الكلمات منه انطلقت الحروف منها هي الأخرى بتلقائية
شديدة:
-
لا، بالطبع لا تنتظر، لابد أن تتوقف عن
الثقة بي وبالجميع، كما أنك لابد أن تقوم بسجني وأقوم أنا بقطع علاقاتي بالجميع شبه
المعدمة في الأساس، حتى يُصبح زوجي سعيد ومطمئن!
شعرت باختناق أنفاسها فالتفتت كي تتجه
للداخل قبل أن يتحول هذا الاختلاف فيما بينهما إلى شجار عظيم، على ما يبدو أن فكرة
تعديل القليل من ظنونه وافكاره شيء مستحيل، ولكنها وجدته يجذب ذراعها بقوة ودفعها
أمامه وشعرت بانعكاس قسوة قبضته عليها فوجدته يتحدث لها مغتاظًا وأنفاسه المحترقة
بلهيب الغضب تتساقط عليها بصحبة حروفه التي سببت لها المزيد من خيبات الأمل معه:
-
أظن الآن بعد مجرد مكالمة مع هذا الأحمق
تفهمين تمامًا ما اقصده، عندما أخبرتك أنك لا تستطيعي تقبل رجل مثلي، ولن تقومين
أبدًا باستيعاب الكثير والبسيط مما تستطيع أي امرأة في مثل مكانك أن تتفهمه بل وستقدره،
ولو مكانك ستطيعني دون أي جدال، هل قمتِ بالتأكد الآن لولا هدوئي معكِ وتغيري الشديد
لن تقومين بفهم مشاعري وعشقي لكِ؟ لن يُرضيكِ أبدًا أن تتقبلي ما أنا عليه غير بهذه
الطريقة التي ترضي غروركِ في المقام الأول!
حدقته بعسليتين متسعتين من تقززها من
ترهاته، هل هو من يُلقي باللوم عليها؟ أم يمُن عليها بكونه يحاول أن يتغير من
أجلها؟ ما الذي يقوله؟ هل تضرر عقله إلى هذه الدرجة؟ أم أن أفكاره المغلوطة ستستمر
في دفعه لقول هذه الترهات للأبد؟!
نست تمامًا ما تحاول فعله حتى تصل معه
لتلك الغرفة، وتصرفت بسجية شديدة من شدة انزعاجها عندما غلبتها مشاعرها، وتحول
الأمر لمجرد شجار زوجي واقعي بين رجل وزوجته لا يخلو من عدم التفاهم، وانطلقت
الكلمات بصحبة غضبها المتدفق بدمائها من بين شفتيها دون أدنى محاولة للسيطرة منها
على هذا الجدال:
-
لو أي امرأة في مكاني ستتفهم وستقدر هذا،
حسنًا، لماذا تزوجتني منذ البداية؟ لماذا تستمر بهذا الزواج وأنا لا افهمك ولا أقدر
مشاعرك ولا التغير الهائل الذي تقوم به من أجلي؟ لماذا تظن أنه حقك أن تقوم بتحويل
جزري بشخصيتي فقط لأنك تتغير من أجلي؟ ما الذي تريديني أن أصبح عليه؟ نسخة من والدتك
وأختك وارتدي مثلما ترتدين وأظل حبيسة وأتوقف عن التعامل مع الناس، أم تريد أن
تجعلني نسخة من يمنى واركع أسفل قدميك واناديك بسيدي؟ آسفة، ولكن أنا لست مثلهن
ولن أصبح واحدة منهن، ويستحيل أن أكون عمر، وكلامي لك قبل المكالمة التي تلقيتها
هذا لأني أريد أن أسعدك مثل ما تسعدني ولكن في حدود احترامنا لبعضنا البعض
وتفاهمنا، لكن ليس بالطريقة التي تريد أن تجعلني بها شخص آخر تمامًا وتقوم بمحو شخصيتي
التي اعهدها عن نفسي!
رمقها بغضبٍ اختلط بدهشته فلم يمكنها
الصمت بعد أن شعرت أنها لا يُمكنها التحمل بخضم تقلباته التي دائمًا ما تجد بينهما
سبيل وحتى خلال ابسط المواقف العابرة ولو كانا في غاية السعادة لتنفجر بنبرة حادة:
-
اعتقد مثل ما أنت تفكر بأفكارك المغلوطة،
فكرت أيضًا أنني سأكون زوجتك في يوم من الأيام، وعرفت عني كل شيء بما أنك محامي بارع
وتستطيع الوصول لكل ما تريده بأي طريقة كانت، سواء صحيحة أم خاطئة، كما أظن بعد
بحثك عني علمت من هو يونس، ومن هي روان، يونس هذا يستحيل أن اراه سوى انه كأخ لي وتربطني
به صلة قرابة ليس إلا، ولو كان لدي عائلة كبيرة غير خالتي وأولادها اعتقد أنك كنت بحثت
عنهم أيضًا قبل الزواج بي، يا تُرى ألم تعرف أن عملي وشركاتي ليس بها اقل من ألف رجل
وألف امرأة وبتعامل مع الجميع بمنتهى الاحترام وفي حدود معينة لا اتخطاها ولا اسمح
للجميع بتخطيها؟ ألم تعلم أنني فتاة احافظ على اخلاقي واستحق ثقتك وأنا لا أهتم بأي
شيء في حياتي غير عملي، ثم تأتي أنت اليوم تنظر لي بعد هذه المكالمة التي كانت أمامك
وأسفل عيناك وكأني كنت أخونك مثلًا، أو أفعل شيء دون علمك؟ ألم تتعلم من كل
ما مر علينا أن تتوقف عن تلك الأوهام التي في رأسك تلك.. أم لا يزال هناك جزء بداخلك مصمم يجعلني
كبهيمة مقيدة بحبل برقبتها، ليس لديها اختيار ولا قرار ولا تفكير وتنتظر مني السمع
والطاعة العمياء، وأن تكون دائمًا على صواب وأنا المخطئة الوحيدة في حياتنا معًا، وفي
آخر اليوم يجب علي أن أكون ممتنة لتميزك الشديد في الفراش والغزل الرائع الذي تتغزل
به!
التقطت أنفاسها بعد هذه المحاضرة التي
لا تدري كيف غادرت شفتيها ليرمقها بصمتٍ شديد ولانت قبضته على ذراعها فحاولت أن
تهدأ لتتابع بخفوت ونبرة تغلفت بالحزن، الندم يمزقها بداخلها لأشلاء، نادمة بقسوة
أنها تحاول من جديد معه لمجرد لحظة واحدة، كم تكره عشقها الشديد له الذي يدفعها
لأمل بتغيره في بعض الأشياء، ربما عليها أن تنهي هذا الشجار لعلها تستطيع استعادة
بعض الهدوء فيما بينهما مثل ما كانا بالأيام الماضية، ولكن في نفس الوقت بطريقة
تبدو بأنها منطقية وكلمات تتناسب مع تلك المرأة الساذجة التي تزوجته ونضجت قليلًا،
واكتفت من تصرفاته غير المنطقية:
-
لن تصل أبدًا للثقة المطلقة سواء معي أو
مع أي إنسان طالما أنت مقتنع أنك على صواب والجميع هم المخطئون، ولن تتغير افكارك أبدًا،
أنت تحتاج للعلاج النفسي من كل ما تُعاني منه، هذا لو تريد أن نُكمل زواجنا
وحياتنا ونكون بخير، وكي يتواجد نوع من أنواع التفاهم بينك وبين الناس، وبينك
وبيني، وتتوقف عن الشك في كل أمر، وفي كل شخص.. الحب والعشق لن يكون كافيًا أبدًا
أن يقوم ببناء حياة متكاملة الأركان!
انتزعت ذراعها من أسفل قبضته واتجهت
لتتناول رداء طويل غير رسمي وضعته حول ملابسها التي بالطبع لن تليق بالنسبة لنظرة
رجل مثله كي تظهر بها أمام أعين الجميع وتركت الغرفة وغادرت دون أن تتناول أي شيء
يخصها وذهبت لتسير على غير هدى لتأخذها اقدامها أينما يحلو لها!
مجرد مسألة غيرة، من مكالمة استمع لها
بأذنيه، وتابعها بعينيه وهي تتحدث خلالها، مجرد موقف يحدث لآلاف الزوجات، وها هو
يُذكرها أنه لا يستطيع التفكير ولو لمرة واحدة بطريقة صحيحة، وكأن الثقة بينهما
منعدمة!
لن يكون زوج جيد أبدًا سوى بتعديل هذه
الأفكار المريضة برأسه، تقسم أنها لو كانت حاولت أن تناقشه فيما يقوله أو أعطت له
ولو فرصة وحيدة كان ليأمرها كالسلطان المغرور اللعين بأن تنخفض على أربع لتقبل
يديه وقدميه وهي تبكي ندمًا أنها اجابت ابن خالتها، كيف يُمكنها الاستمرار بهذا
الجنون وعدم وعيه بأن أفكاره، وما تربى عليه، وعلاقاته سواء الجسدية مع النساء أو
حتى مع تلك اللعينة التي اوقعها حظها في شر كونها نسخة طبق الأصل منها، كلها
بأكملها خاطئة!
وقفت أمام المياه وتلك النسمات تخلل
خصلات شعرها ثم عقدت ذراعيها وهي تهدأ وتلعن غبائها، لقد تصرفت بمنتهى السذاجة
وتركت مشاعرها للمرة المائة بعد المليون أن تتصرف وتدخل فيما بينهما، غبية، غبية
بشدة، وتكره غبائها هذا!! لو كانت قبلت يديه وهي تخبره بأنها لن تتحدث لأي رجل
مجددًا ولو ظاهريًا لكانت اذكى وكان هذا سيمهد الطريق قليلًا لغرفته حتى تحصل على
تلك الأوراق!
ولكن يبدو أن ما حدث يُذكرها بأن مهما
كانت السعادة التي يعيش كلاهما بها الآن وذاك الهدوء وتلك النسمات من العشق وأزهار
الربيع المتفتحة التي يتهافت عليها فراشات الغرام المتراقصة، لن تستمر إلى الأبد
وسيعود عقله السقم بفكرة مريضة من أوهامه التي لا تنتهي ليُفسد عليهما حياتهما..
كيف لها اصلاح ما افسدته الآن؟!!.
❈-❈-❈
كادت أصابعه أن تتضرر من شدة اعتصاره
لقبضتيه بقسوة وهو يحاول مواجهة هذا الشعور الكاره لتصرفها، صوتها المرتفع، كونها
تصمم على جعله يُذعن لكل ما يحلو لها وعصيان كل ما يُريده، من منهما الرجل بهذا
الزواج؟!
يعشقها، هذا لم يعد تساؤل عابر بعقله
يمر عليه بين الحين والآخر، ولكن أن يختار بين ضعفه وعِشقه لن يقبل بأن يكون رجل
ضعيف، أم أن العشق يكمن بالضعف وهو لا يدري؟ هل كل من عشق امرأة صار ضعيف للأبد؟
لديه آلاف الحلول بعد تمردها ذاك، لديه
آلاف الحيل قد تجعلها تركع أسفل قدميه وهي تتذوق أنواع شتى من العذاب الذي سيدمر
عقلها وبدنها على حد سواء، ولكن ما الذي سيحدث بعد أن يفعل، سيخسرها لا محالة
وسيعودان معًا لنقطة البداية، فهو الرجل سادي الطباع الذي لا يقبل سوى الطاعة وهي
لا تحب هذه السيطرة القاسية منه وسيدخلان دائرة لا تنتهي، ولقد سأم هذا، فلقد حدث
مراتٍ عديدة فيما بينهما ولم يعد لديه الطاقة لفعلها من جديد.
خلل خصلاته للأعلى وهو يحاول السيطرة
على نفوره مما تحول له، فلا هي تريد التوقف عن عنادها ولا هو يعرف من الرجل الذي
تحول له في الآونة الأخيرة، متى حدث كل ذلك؟ وما الذي حدث له؟ وهل مجرد العشق هو
من دفعه لكل هذا التحول؟ ارتيابه بشأن الفترة الماضية يعود من جديد! يعلم أنه لن
يتركه هانئ البال للكثير من الوقت!
لقد كانت لديه خطة محكمة كي يُفسد تلك
القضية الواهية، لقد ادعى أمام الجميع أنهما بخير لهذا قام بدعوة عائلتها بهذا
الفندق، أخبر والدتها أنهما سيحاولان الحصول على بعض الوقت اللطيف لعل هذا يجعلها
تتوقف عن استكمال القضية، لقد ابتاع هدية لأخيها، عرف من هو المحامي الذي ذهبت له
بشأن القضية وهو مجرد شاب يعمل بمكتب محامي لا يكره أكثر منه، كان يُخطط أن يقوم
بإبعادها عن الجميع لحين انتهاء جلسات القضية ومجرد عدم حضورها وحده سيكون كفيل
بخسارتها للقضية، وطبقًا لليوم، هذا لو كانت ذهبت وحضرت جلسة الاستماع لكانا الآن
في مرحلة الصُلح بين الحكمين، ولابد من أن هذا الحقير الذي قامت بتوكيله يعلم أنه
سيقوم بادعاء صورية مقدم صداقها، هو ليس بغبي على كل حال ليقوم بكتابة صداقها
بأوراق الزواج علنًا!
ما الذي حدث وجعلها تتراجع؟ هل يُمكن
أنه ثمل بشدة لدرجة أنه قضى معها ليلة مثل تلك الليالي التي يثرثر بها ولمس شفقتها
عليه أو عشقها له؟ ولو كانت القضية مستمرة إلى اليوم، لقد أخبر "باسم"
أن يبلغه بآخر تطورات الأمر ولكنه بالطبع لا يعرف شيئًا لأنه وببساطة فقد عقله على
ما يبدو أو كان يعاقر الخمر بشراهة، ما الذي حدث له ولها حقًا؟ هل من الممكن أنها
تكون السبب في غياب عقله وعدم تذكره وذهبت لتقوم بالاستمرار بالدعوى وهو لا يدري؟!
ولو حدث ذلك، كيف فعلتها؟!!
نهض سريعًا ثم امسك بهاتفه وسرعان ما
قام بالاتصال بمساعده، لابد من أنه يعرف ما حدث بشأن القضية، ولا يكترث لاختلاف
التوقيت، إن لم يجبه سيقوم بفصله من العمل دون انذار!!
بمجرد إجابته على المكالمة سأله وهو
بالكاد يحاول التحكم في نبرته كي لا يبدو متلهفًا ولكنه لم يُفكر ولو بكلمة ود
واحدة فيما بينهما:
-
ما الذي تم بقضية الخُلع؟
آتاه الجواب في خلال جزء من الثانية:
-
رُفضت لعدم الحضور.
زفر براحة شديدة وقارب على أن ينهي
المكالمة فأردف "باسم" قبل أن يغلق دون كلمة وداع فهذه هي عادته:
-
هناك الكثير من الأوراق المتأخرة التي
تحتاج توقيعك، هل علي أن أرسلها مع محمود؟
عقد حاجباه وتريث لبرهة ثم حاول التهرب
من العمل الذي لا ينتهي ثم أخبره قائلًا:
-
أنا خارج البلاد وسأعود بعد أسبوع، اترك
الأمر لحينها.
أنهي المكالمة ثم تأكد من عدم تلاعبها
في أي شيء، لو كان الانفصال هو غايتها لكانت هي من تخدعه طوال تلك الفترة الماضية،
ولكن من ضمن ما صمم على فعله هو ابعادها عن حياتها ورتابتها ليُفسد القضية
بأكملها، هل هو من ذهب بهما إلى منزله كي يمنعها عن التواجد بأي مكان؟ نعم هو
يتذكر يوم أن أخبرته بعد ابتياعه لتلك السيارة، عقله اللعين يأبى تذكر هذه اللحظة
تحديدًا، هل كان ثملًا؟ لابد أن هذه هي الإجابة الوحيدة على عدم تذكره، ولابد من
أنه بكى كالطفل الصغير بعناق جمعه بها وتوسلها أن تبقى معه، وعاهدها أنه لن يخفي
عنها شيء مجددًا، ولابد من أنها استجابت.
هذا يبدو منطقي إلى الآن، وبعدها ما
الذي حدث؟ هل كان يتناول الشراب وهو يضاجعها؟ لا يستبعد الأمر، فتلك المتعة التي
يشعر بها معها حتى وهي كارهة له لا تضاهيها متعة، ولو هي محقة بأنهما كانا بأفضل
حال فالثمالة أكثر شيء منطقي!
-
كفى اتهامات حضرة المحامي العظيم! ألم
تتهمها بالكثير من قبل وفي النهاية تجدها بريئة من كل التهم التي تُنسبها إليها؟
ارحمها وارحم نفسك..
صوته هذا اللعين الذي لا يتوقف، سيقوم
بفصل رأسه عن جسده حتى يتنعم بالقليل من الراحة بعيدًا عن هذا الصوت!
لمح هاتفها فتوجه نحوه ليجده محمي بهوية
وجهها ويطلب منه ادخال رقم المرور ليلعن بداخله، ما الذي تخفيه بهاتفها ولا تريده
أن يعلمه، هل تخفي أمرًا عن هذا الوقت الذي لا يتذكره؟ أم هو يرتاب بأمرها؟
تساؤلاته وتخميناته ليست منطقية، لأنه
يتذكر عدة أشياء بهذه الفترة، ولكنها ليست واضحة، هل فسد عقله وأصبح مدمر؟ لو فعل
كيف يتذكر تلك التفاصيل القليلة؟ تواجده بمكتب منزله، وقراءته للكثير من الكتب،
تواجده بصحبة برق، تواجده معها، كل هذه الممارسات الجامحة، تشاجره معها بشأن
استيقاظه وعدم النوم، يستحيل أن تكون هي السبب في غياب تلك التفاصيل!!
سأم من شدة التفكير وفرك جبهته ليقع
بحالة من الشتات، لا يتمنى أكثر من أن تعود ليفتك برأسها المتصلبة، ولكنه يعي أن
لو حدث هذا سيزداد تصلب رأسها!
لم يلحظ أنه بمجرد وجود أدنى ما يُثير
الارتياب قد عاد بمنتهى السهولة لتلك الأفكار التي تحدثه بأن يفعل بها ما يؤلمها،
ولم ير أن الزواج شأن عظيم يحدث به آلاف الاختلافات كل يوم، وأيًا كانت هذه الاختلافات
فهي لا تُحل بالعنف، ولا بالعقاب، ولا بتغيره الذي لن يستمر لكثير من الوقت..
الرجال مثله لا يحق لهم الزواج دون الإفصاح عن عقولهم الصدئة ذات الأفكار
المتعفنة، ولمن تشاء قبولها لتقبلها إذن، وفي حالتهما لم يترك لها حتى حق الاختيار
في أن تقبل أو أن ترفض!
انتبه عندما دخلت وهي تصفع الباب بقوة،
ملامحها باكية تدل على انهيار قريب لتوه سيطر عليها، وتلك النظرات منها تبدو
كقذائف مدفعية وهي تطلقها صوبه وكأنها على وشك قتله ثم صرخت به وهي تشير سبابتها
نحوه:
-
اسمعني جيدًا، لقد ارهقت من كثرة
تعاملنا هكذا، أنهكت منذ بداية زواجي بك، وأنا أحاول كل يوم وكل لحظة أن نصبح بخير،
لقد وقعنا في العشق وتعاهدنا على أن يكون بيننا تفاهم وتقبل، ما النفع من غيرتك
التافهة تلك التي لا أساس لها؟ وعليك التوقف عن دفعي والصراخ بي والاقتناع بأنك
على صواب كلما حدث شيئًا ويجب عليك أن تكف عن طريقتك في التعامل معي هكذا، اياك وتكرار
الأمر مجددًا، أنا بالكاد صدقت وآمنت بأننا بخير وتخلصنا من كل تلك المراحل الصعبة
في حياتنا وعلاقتنا وصدقني لم يعد بي ذرة من تحمل للمحاولة من جديد في أي أمر يخص
زواجنا!
تفقدها باستغراب وهو يحاول فهم ما تفوهت
به بين نحيبها الذي ارتفع بمجرد تحدثها منذ ثواني واقترب نحوها ليجدها تواصل
صراخها نحوه:
-
ما الذي تريده بعد كل ما مر بيننا؟ أنا لن
أطالب بخلع أو طلاق، لم يعد أمامي سوى الانتحار كوسيلة تُنقذني من ظنونك وافعالك
وحتى أُخلصك أنا الأخرى من امرأة مثلي واتركك لتعيش في سعادة!
ارتفع صوت بكائها فاتجه نحوها وهي تسلط
عسليتيها الباكيتين نحوه لتجده يضمها إليه دون قول كلمة واحدة لتشعر بالراحة
بداخلها بعد أن رأت اقتناعه جليًا على ملامحه، لقد أرضى ضعفها الظاهري غروره
اللعين، لابد من أنها قد ربحت هذه الجولة بصراخ ودموعٍ لم يكن سببها ما حدث بسبب
مكالمة أو غيرة عمياء، بل كان السبب أنها أجبرت نفسها أن تتذكر أولى مراتها معه
وهو يريد اغتصابها، ليتها صممت على طلب الطلاق منه وقتها، حتى ولو رفض، على الأقل
كان لديها الفُرصة بعدم وقوعها في عشقه، هي من دفعت نفسها لهذا العشق، وهي من
ستتحمل نتيجة طيبتها الساذجة غير المنطقية، ربما في المستقبل هذا الزواج سيكون لها
مرجعًا كاملًا كي تتوقف عن المبالغة في طيبتها التي لم تدفعها سوى للألم المحض!
-
اهدئي واستمعي لي.
لم يعد يستحق حتى ولو قول كلمة واحدة
لتزجره وهي تضمه لها بقوة واختلط صوتها بصوت بكائها الشديد:
-
أرجوك لا تتحدث في أي شيء، لقد أُنهكت
من كثرة التحدث في مشاكلنا التي لا تنتهي، أنا اعشقك عمر، ولا أريد أن نستمر في
هذه الحرب!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
ازعجته ذبذبات هاتفه الذي يعلن عن تواصل
رنين مكالمة مزعجة فنهض يحاول محاربة النُعاس وابعد جسدها للطرف الآخر بهدوء حتى
يستطيع التحرك وجذب هاتفه ليجد أن المتصل والده!
زفر بضيق وهو يحاول أن يتجنب قدره
المحتوم بالتحدث معه، فهو بالطبع لن يتوقف عن تأنيبه ولومه عن عدم عمله بالآونة
الأخيرة، ولكنه لا يدري كيف يخبره أنه لم يعد يطيق المحاماة والقانون بكل ما
فيهما، لقد سأم هذا الأمر.
فكر بأن يتركه حتى يصاب بالملل من عدم
رده ولكنه يعلم أن والده لا يستسلم أبدًا وسيظل يحاول معه حتى تقوم الساعة، وربما؛
لو كان سعيد الحظ، سيتركه وشأنه لو استمع لنبرته الناعسة.
-
نعم أبي.
قالها بعد أن أجاب المكالمة وهو ينهض
تاركًا الفراش ثم جذب سجائره وقداحته وتوجه للشرفة خارجًا حتى لا يدفعها
للاستيقاظ، فهما لم يناما سوى ما يقارب من أربع ساعات وآتاه صوته فارغ المشاعر من
الطرف الآخر:
-
ما اخبار السفر، هل انتما بخير؟
من هذه النبرة الساخرة علم أنه لن يتركه
دون محاضرة لن يملك أمامها سوى السمع والطاعة، فهمهم كإجابة مقتضبة بالموافقة على
سؤاله ليردف الآخر:
-
اسمع عمر، لقد سعدت عندما علمت بأمر
زواجك، وأعلم أنك رجل تملك عقلًا رزينًا وقمت باختيار فتاة من عائلة جيدة، إنما منذ
زواجك الذي قارب على إتمام عام كامل وامورك لا تعجبني، هل تستطيع أن تجيبني
وتخبرني ما الذي أنجزته منذ أن قمت بالزواج؟
كادت قبضته أن تهشم هاتفه من كثرة تكرار
والده لهذا التساؤل ولتذكيره بأنه لم ينجز هذا ولا ذاك، لماذا عليه الإنجاز؟ هل كل
ما انجزه قبل زواجه ولمدة ثلاث سنوات عندما كان عاكفًا على العمل لا يكفي؟ وبكل
تلك السنوات قبلها، لقد تألم عقله وهو يحاول أن يُركز في تلك القضايا ويسأله عنها
ويستشيره بإجراءاتها حتى يحصل على أفضل حكم ممكن لصالح موكله، ألم يكفه كل هذا؟
متى سيراه مدعاة للفخر؟ متى سيتفهم أنه
لم يعد يتحمل المزيد من عبء المحاماة والمجال الذي بات يكرهه بشدة أكثر من الماضي؟
لقد عانى عذاب أليم كي يتمكن من عدم خسارة ولو قضية واحدة، ألا يُكفيه هذا؟!
آتاه صوته من جديد بالمزيد من اللوم:
-
عمر بُني، أنا أتمنى أن أراك أفضل إنسان
في الحياة، سواء كرجل، كمحامي، وكأب ووالد، هل لديك إجابة واقعية لماذا أولا
اعمامك أفضل منك ويملكوا حياة جيدة وأنت لا تفعل؟
واحدة من سجائره لن تكون كافية حتى يعبر
هذه المكالمة بسلام، ربما الثانية ستكون إلهاء حتى لا يصرخ بوالده، هو يعلم أنه
يريد له الأفضل دائمًا وأبدًا، ولكنه ليس بالمزاج المناسب لكل هذا!
-
حياتي بخير أبي، شركة المحاماة بأفضل
حال ولدي الكثير من المحامين الجيدين والجميع يحاول أن يعرض عليهم عروض مغرية للاستفادة
من خبراتهم، كما أن زواجي بأفضل حال!
لو كان يظن أن رده هذا سيتملك مقدرا
أنملة من اقناع والده فهو مخطئ، وهذا ما عبر عنه المزيد من كلمات والده المنزعجة:
-
يا بُني، كم مرة عليَّ أن أخبرك بأن كل
هؤلاء سيصبحون مع الوقت لا شيء دون اسمك وسمعتك أنت، وأنا لم أربك لتعتمد على اسمي
وسُمعتي، لاحقًا سأتوارى في التراب ولن يكون هناك غيرك بعدي، إن لم تكن رجل يهابه
الجميع لن يكترث أحد لك بعدي، وها أنت ترى الجميع يفكرون آلاف المرات قبل أن
يتعرضوا للوقوف أمام يزيد الجندي، لابد لك من أن تحافظ على اسمك وسمعتك وتستمر في
عملك وإما سينساك الناس، ومنذ تلك القضية التي ترافعت بها من أجل زوجتك وكأنك
توقفت عن العمل كمحامي.. والزواج الصائب لا يؤخر الرجل بل يدعمه.
لوهلة شرد بتلك الشهور التي مرت منذ
زواجه، الوقت يمر بسرعة شديدة، لقد قارب زواجهما على بلوغ عام كامل، ربما قضية رأي
عام ستكون الحل الوحيد له حتى يتذكر الجميع من هو، والده محق بهذا، ولكن بداخله
يشعر بأنه ليس لديه الطاقة لفعلها.
-
عمر، هل تسمعني؟
تساؤل والده نبهه من غفلته بالتفكير
فنفث آخر ما استنشق من سيجارته الثانية التي لا يدري كيف انتهت وتنحنح مجيبًا:
-
نعم أفعل، أفكر في كلامك، وأنت معك حق، لا
تقلق، بعد عودتي من السفر سيكون كل شيء بخير
هل هذه هي نهاية المكالمة؟ يتمنى لو
كانت هذه هي النهاية، ولكنه استمع لتنهيدة طويلة من والده، حسنًا، تعليماته
وتوجيهاته لتوها في بدايتها، هناك المزيد في جعبته، السجائر لن تكون كافية، هو
يحتاج للقهوة كذلك!
اتجه لداخل الجناح، وتوقف أمام ماكينة
صنع القهوة، ثم قام بوضع واحدة من الكبسولات شديدة التركيز وانتظر نضوجها بالفنجان
اسفلها وترك كامل الحرية لوالده ليشدو بمتابعته لتوجيهاته ونصحه، فلو تعلم شيء
خلال تلك السنوات بصحبته، فهو عشق والده لتوجيه الآخرين، ولولا عدم استماعه له لما
كان "عمر الجندي" رجل من الأساس!
-
أريد أن افرح بأحفادي عمر واحملهم بعناق
وألاعبهم مثلي مثل أي رجل، لقد بلغت من العمر أربعة وثلاثون عام، أي رجل مثلك لديه
طفل واثنان بل وثلاثة، لماذا تتأخر في أن تجعلني سعيدًا؟ ألا استحق أن أسعد بحملي
لأحفادي؟ أم هناك ما يمنعك صحيًا لتنجب؟ لا تقلقني وطمئن قلبي!
ابتزاز عاطفي رفيع المستوى بدرجة
امتياز، ولكنه؛ وبعد كل ما واجهه مع والده، لم ير حقيقة مشاعره، لا يرى أنه يبتزه،
بل؛ رأى أنه يكترث لأجله، وآتى رده بعفوية هائلة:
-
الأمر ليس هكذا، وليس هناك أية مشكلات
صحية، العكس تمامًا، لقد حملت روان بالفعل بجنين ولكن الحمل لم يكتمل، ولكن عن
قريب ستستمع لخبر يُفرحك
امسك بكوب قهوته التي ملئت الفنجان
وتوجه للشرفة مرة أخرى وسيجارة ثالثة صاحبه ادخنتها عندم استمع لتساؤل والده:
-
لماذا، ما الذي حدث، ذهل تعاني زوجتك من
أمر ما بخصوص الحمل؟
بالطبع، المرأة هي الوحيدة التي تخطأ
وكل الغلطات هي من تفعلها، هذا ما يراه ويُصدق به، لطالما تم الحمل فهي مسئوليتها
والبقية تقع عليها، ليس هناك شيء خاطئ من قِبَّل ابنه إذن فهي التي اضاعت هذا
الحمل!
كيف يبرر له هذا؟ هل عليه التبرير بأن انجذابه
اللعين لها بدد هذا الحمل ودفعها للإجهاض؟ أم عليه اعترافه بأنه لا يستطيع السيطرة
على نفسه أمام فتنتها المُهلكة وولعه بها؟
أجلى حلقه واختلق سببًا بسرعة وجده
منطقيًا:
-
لا لا، ليس هناك شيئًا، لقد سقطت على
الدرج في بداية الحمل، ووقتها لم يكن الجنين ثابت، وانت تعلم أول حمل لأي فتاة قد
يتعرض لهذا
همهم والده بتفهم ثم حدثه بجدية شديدة:
-
أعلم أن الإجهاض أمر كبير وله أسبابه، اذهب
واطمئن على صحتها جيدًا، ولتنتبه عمر انت وزوجتك لستما بصغيرين العمر، أنا صبرت
على مها بالسابق لأنها كانت ابنة عمي، وكان عمرنا حينها صغير، وكان لدينا الوقت
للمحاولة والانتظار وكان من العيب في حقي أن اترك ابنة عمي، ولكن لو زوجتك لديها
أية مشكلات يمكنك أن تتركها وتتزوج غيرها، لا تضيع أفضل سنوات حياتك دون أن تفرح
بأولادك
لوهلة شرد بالمياه أمامه، زواج آخر؟
وامرأة أخرى؟ لن يتحمل، ولن يستطيع أن يقترب من سواها، والده لا يعرف حقًا ما الذي
يتحدث عنه!
-
هناك طبيب معروف وله سمعته يتمنى ولو يرد
لي بعض من جميلي عليه، سأرسل لك رقم هاتفه، فلتخبره من أنت ثم حدد موعد للذهاب وللاطمئنان!
همهم بتفهم متصنعًا الاقتناع وامتن
للغاية بأنه لا يرى ملامحه، وتمنى أن تنتهي هذه المكالمة على خير ثم عقب باقتضاب:
-
حسنًا.
لم يكن هذا ليُكفي والده، هناك بعض
الكلمات التي لو لم يقم بالإفصاح عنها سيظن أنه لم ينصحه بالشكل الكافي، والحقيقة
أن تلك الكلمات لو كانت توقفت بحلقه مسببة الموت له لكان أفضل لكل الأطراف، سواء
ابنه، أو زوجته!
-
أعلم أنك تُحبها عمر، وخصوصًا أنها تشبه
تلك الفتاة التي عشقتها بالسابق، ولكن لا تترك العشق يعميك عن حياتك ومستقبلك، الزواج
الصائب هو من يُكمل الحياة ويدفعها نحو الأفضل، لا يجعل المرء يعاود ادراجه بل
يرفع من شأنه، وعلى ما يبدو زوجتك تفكيرها مثل الفتيات الخائبات اللتين يردن
التحكم حتى في رجالهن، لا تترك لها الفرصة وإلا ستجعلك تفشل، وأنت ترى الكثير من
الأمثلة أمام عينيك، أنا وكل أولاد أعمامك، جميعنا رجال ونحن أصحاب الكلمة مع
نسائنا وأولادنا، لا تجعلها تتحكم بك والا وقتها ستكون قللت من شأن نفسك
من أين يرى هذا؟ لماذا يظن أنها
المتحكمة في كل شيء؟ لابد أنه مخطئ بالتأكيد، ولابد أن يعرف حقيقة الأمر ولو بمجرد
بعض استنكار قليل تجاه الأمر:
-
لا أبي، روان لا تفعل هذا، كما أنها لا
تشبه الفتيات الخائبات، ما الذي يجعلك ترى هذا بها؟
زفرة منه بملل كانت بمثابة عدم اقتناعه
بما يقوله ابنه فلحقه سريعًا بالتبرير الذي أعده مسبقًا:
-
زوجتك لا تشبهنا ولا تشبه والدتك أو
عنود أو أي من بنات أعمامك، نعم أعمل أننا معروفين ولكننا في النهاية نحافظ على
العادات والتقاليد، وتلك الفتاة التي تزوجت منها لا تشبهنا أبدًا، وقت أن اطمئننت
بمن اخترتها وعلمت من هم عائلتها وافقت مبدئيًا، انما عندما تحدثت لها اكتشفت أنها
لا تكترث بعادتنا وأنها تظن نفسها سيدة اعمال، وواجبات البيت ومسئولياته والزواج
والانجاب ليسوا بأولوية لديها، وإما لم انتظرت كل تلك السنوات دون زواج، حتى هي
ليست بذكية وكفؤ في عملها كالرجال، وها أنت ترى الوقت يمر بينكما وهي لا تريد
الانجاب وحقًا بني لا أدري ما الذي تنتظره ولم أنت منتظر وتوافقها على هذا الأمر، ولو
ستخبرني أنها الوحيدة التي تستطيع أن تعمل حتى لا يضيع مجهود والدها هباءًا، يُمكنها
أن تعمل من منزلها ولها أن تقوم بتعيين من يهتم بعملها إلا أن يكبر أخيها، اذا كان
ذاك الفاشل عدي يفعلها أحيانًا ولا يذهب لعمله كل يوم، ما الذي تظنه، أن العمل
سيتوقف إن لم تذهب هي، لابد لزوجتك طاعتك بُني، تساعدك وتُعينك على الحياة، ولكن
ما تفعله هو تأخيرك عمر، انتبه مليًا من هذا والوقت دائمًا يمر في لمح البصر دون
أن نشعر.
لم يكن يقتنع بهذه الكلمات تحديدًا
عندما استمع لها بصوت والده المنبه دائمًا ولكن ازداد قلقه عندما آتاه صوته
المتابع بتحذير:
-
رأيي في الناس صائبًا دائمًا وأبدًا، وزوجتك
هذه، لو تركت لها الفرصة مرة واحدة فقط تتحكم بزمام الأمور في حياتكما، دورك كرجل سيُلغي
تمامًا، وغدًا سترى فتاة مثلها ما الذي تستطيع فعله، فأنت من البداية لا تسمح لها
بذلك، وإما لو حدث لن تستطيع منعها، الفتيات مثلها بهذه التربية والأخلاق وهي لم
تتعلم معنى وجود رجل بحياتها كأب أو أخ وتفعل كل ما يحلو لها لا يتغيرن، ولابد
لفتاة مثلها أن تتفهم انها تزوجت من رجل له ألف حساب، لن يسمح لها بتقصيرها معه
وتركيزها على كل شيء غيره!
❈-❈-❈
ظهرًا نفس اليوم..
سعلت بخفة بعد تسلل رائحة سجائره لأنفها
لتستيقظ رغمًا عنها بصعوبة وهي تعاني من اثار الصداع الشديد عليها فكل هذا البكاء
لم يتركها بخير، لكنها لولاه لم تكن لتستطيع أن تنتهي من هذا المأزق الذي لو كانت
جربت أن تتناقش معه وتحدثه دون ثورتها الزائفة، لما انتهت إلى الآن، وبالطبع كان
سيُشتتها آلاف المرات وكانت النهاية ستكون صداع لرأسها بسبب ثرثرته وفقد طاقتها في
متابعة الحديث معه.
فتحت عينيها تحاول تفقد الغرفة حولها
وبحثت عن مصدر تلك الرائحة الخانقة لتلمحه جالسًا على أريكة صغيرة مقابلة لفراشهما
بهذا الجناح الفندقي وغارق في صمت هائل.
لمحت على تقاسيم وجهه الهدوء والشرود
المبالغ بكلاهما، لا تعرف بعد ما الذي فعلته كلمات والده بعقله، فهو منذ أن أنهى
محادثته معه وكلماته لا تزال تعصف برأسه مرغمة إياه أن يتذكر كل ما مر عليه معها،
وما يمر في هذه الأحيان، ولا يدري هل عليه أن يُصدقه فهو حقًا لا يُخطئ في حكمه
على أي شخصية رجل كان أو امرأة، وبعد تجربته مع "يمنى" يعرف أن والده
محق وبشدة!
تخلت عن نعاسها قدر المستطاع ثم نهضت
جالسة وأخبرته بنبرة تحمل بعض من آثار النوم:
-
صباح الخير
أومأ لها دون ملامح مقروءة ثم أخبرها
باقتضاب:
-
صباح الخير
سلطت تركيزها أكثر على ملامحه لعلها
تتبين ما سبب هدوئه الشديد لتجد الوجوم يسيطر عليه، فتنهدت وهي تغادر الفراش كي
تذهب إليه واهتدى عقلها إلى أنه لا يزال يحمل ضغينة ما حدث بسبب تلك المكالمة مع
ابن خالتها، بالطبع لا تعرف شيء عن مكالمة والده، لذلك قررت أنها لابد من أن تتحدث
معه، وليُعينها الله على ثرثرته وعدم تناوله دواءه، فهي على ما يبدو قد فاتها
افطاره ولم تلحق به.
اتخذت من التلامس ذريعة ثم عانقته
واغمضت عينيها ومررت جبهتها مرارًا فوق صدره لتتحدث بنبرة متعبة:
-
لا استطيع الاستيقاظ وأشعر
برغبة في النوم مجددًا
لم يمانع اقترابها ولكنه لم يبادلها
ليتصاعد قلقها من القادم وخاصة بعد رده المقتضب:
-
نامي
رفعت عسليتيها نحوه ثم سألته باكتراث
وحرص:
-
ما بك؟ هل أنت بخير؟
أومأ لها لتشعر بهدوئه المبالغ فيه،
ومما تعرفه عنه أن هذا الهدوء إما نوبة اكتئاب، وإما هو يضمر لها أمرًا لا تعرف
عنه بعد، فمهما كان عشقها له سيظل رجل خبيث يملك العديد من الحيل!
يستحيل أن يكون بدأ بنوبة اكتئاب في هذه
الفترة القصيرة، فكما اخبرتها "مريم" أنه سيمر نوعًا ما بمزاج طبيعي
لفترة بصحبة العلاج، ولا يمكن أن تخطيه لعلاج اليوم سيؤثر عليه بهذه السرعة
الشديدة، لابد من أن هناك أمرًا ما، هل حقًا هو لا يزال منزعج بسبب ما حدث فجر
اليوم؟!
وجدته يخفض بصره نحوها بتفحص شديد،
ولكنها ثبتت أمامه قدر المستطاع، وتلك اللمسة منه وهي تحتوي يدها بتلك الطريقة
كانت غريبة عليها نوعًا ما، فهذه ليست طريقته، عندما كان يريد أن يكتشف صدقها من
عدمه كان يكتفي بتفحصها بهذه الطريقة، ولكن أصابعه التي تعبث بكف يدها واتصاله
بساعدها جعلتها تشعر بالاستغراب الشديد وبعض القلق!
-
روان، لماذا تريدين أن نقوم بتأجيل
الإنجاب؟
هل هذا كل ما يزعجه؟ حسنًا، لقد تدربت
بالفعل على إجابات عديدة من أجل هذا السؤال، وما نجاها وجعل نبضات قلبها طبيعية هو
تفكيرها بالأمر مرارًا، فحتى لمسته على باطن معصمها وهو يجس نبضها حرفيًا لن تكون
كافية من أجل معرفة الحقيقة على سؤاله.
-
ماذا تظن؟
سؤالها المقتضب لم يجبه، ولكن عدم
ارتفاع وتيرة نبضات قلبها وعدم تغير سرعتها اراحته نوعًا ما، واكتفى بهزة رأس
قصيرة كدلالة على عدم العلم فتفقدته مليًا ثم اطنبت مجيبة إياه:
-
بعد الإجهاض، واختلافاتنا الكثيرة التي جعلتني
انسى كل ما في حياتي واجعلك أنت محور اهتمامي وأولوية قبل أي شيء آخر، هذا جعلني
أقوم بالتقصير في عملي، من ناحية المسئولية التي أحاول اتحملها وحدي إلى أن يكبر
بسام ويبدأ بتحمل المسئولية معي، بالطبع لن استمر في تأجيل الإنجاب إلى أن يكبر
أخي، ولكن في نفس الوقت لن يكون مناسبًا أن ابتعد عن العمل مثلًا ستة شهور ، وأهمل
به، وأهتم بالإنجاب ومسئولية طفل، وعمل لا ينتهي، كل هذا في نفس الوقت، وأنت أيضًا
وعلاقتنا واختلافاتنا، لابد من أفشل في أمر من الثلاثة، وأنا لا أستطيع التضحية بك،
أو بابني أو ابنتي، ولا بعملي الذي يعتمد كلًا من والدتي وبسام على أنني اتحمل مسئوليته،
من وجهة نظرك، هل يمكن أن أقوم بالتقصير أو التضحية بأي أمر من هذه الأمور؟؟
فكر لوهلة، حاول أن يعيد تكرار كلماتها
في رأسه مرارًا، وملامحها لا تزال في انتظار سماع إجابة منه، نبضاتها لا تتغير،
جسدها ليس به طيف تشنج، نظراتها توحي بالثقة وعدم التوتر، مثل تلك الفتاة التي كان
يناقشها وهو يعرض عليها الزواج بمنزله، ربما هي تخبره الحقيقة وتتحدث بسجيتها الشديدة،
ولكن لا يدري، هو مشتت بين أن يُصدق كلماتها وبين أن يُكذب قولها، لا يعرف لماذا
بات كل حديث معها صعب، وكأنها تصبح غير مقروءة له، أو هي تتحلى بالمزيد من الثقة،
أو بالفعل هي لا تكذب، لا يستطيع التحديد ولكن كل ما يلمسه منها لا يدل إلا على
صدقها وصراحتها!
لو كان هو غارق في الحيرة فهي الأخرى
غارقة بدوامة من خيبة الأمل، كم كانت تتمنى أنها بموقف مثل هذا ستجد دعم شديد من
زوجها، حتى ولو بكلمات قليلة أنه سيساعدها، قد يشاركها المسئولية، ولكن كل يوم معه
تدرك أن شروده وعدم تنظيمه لحياته وتلك الطريقة التي يستجيب بها لنوباته وافكاره،
ستصيبها بالفشل والتراجع، حتى صورة المحامي الناجح التي ظنت أنها واحدة من أهم
الركائز التي لفتت نظرها به وجعلتها تُفكر أن الزواج منه أمر ايجابي، واعتمدت على
كونه رجل ناجح ومسئول وكونه رجل جيد بعمله، كل يوم يُفزعها انهيار هذه الصورة
أمامها، على ما يبدو أن كل ما رأته منه كان مزيفًا، وتلك النظرة العملية منها التي
بنت عليها قرارها وحساباتها كانت خاطئة، الأمر ليس أنه كذب بشأن ملامحها المشابهة
لحبيبته السابقة، ولا أنه يسلك طرقًا غير مشروعة لمساعدة المجرمين على الفرار، ولا
حتى كونه سادي، بل كل ما في الأمر أنه لم يعد هناك شيء واحد ظنت أنها ستحصل عليه
معه ووجدته.
فشل كرجل داعم، ليس هناك تشجيع بشأن
العمل، فشل كذلك كرجل صريح، اكتشفت كم كان كاذبًا بكل شيء، ولكنه حقق لها أمنية
وحيدة كانت تدفنها بطيات قلبها، لقد اوقعها في عشقه، وها هي ترى العشق بعينيه، بالرغم
من أنها لا تعلم ما الذي يدور في رأسه، وهي على يقين أنها تخطط للفرار، ولكن
الحقيقة الوحيدة التي تعرفها هي أنها تعشق هذا الكاذب المختل بكل ما هو عليه.. ليت
العشق وحده كان كفيلًا بتعويض الكثير، ولكنه في الحياة الواقعية لن يكون العشق
كافيًا أبدًا..
أومأ في النهاية، موافقة مقتضبة شديدة
تابعها قبلة على جبهتها، ما عساه أن يفعل، أن يصدقها أم يُصدق والده، في هذه
اللحظة لا يريد التفكير ويريد الاستسلام لهذا الخواء بداخله، لبرهة، أو لبعض
الأيام المتتالية، لا يدري تحديدًا ما الذي يريده في خضم هذا الشتات، فهو يعشقها ويُصدقها،
ويعرف أن والده يكترث من أجله ويصدق نظرته وحكمه فيما يتعلق بالأشخاص.. ليته يمتلك
زرًا ليكبسه فيتوقف الوقت وتقرر الحياة التخلي عن الاستمرار حتى يتملك شتات نفسه
ويعود بعدها ليُفكر بوضوح.
استقرت بعناقهما الذي دام لعدة لحظات
متتالية، يقلقها هدوئه الشديد، تريد أن تعرف ما الذي ورائه، ولكن الوقت معه لطالما
كان كفيلًا بكشف كل الحقائق لها، ظنها الوحيد هو ارتيابه بشأن المكالمة التي
استقبلتها فجر اليوم، وسترى ما إن كان ظنها صحيحًا أم خاطئ على مدار اليوم بالرغم
من فضولها الشديد ولكنها ستتبع الهدوء معه.
-
هل تريد أن نذهب لنـ
-
ما رأيك بالعودة بدلًا من البقاء هنا؟
قاطعها ثم نفث بعض ادخنته لتفرق عناقهما
ونظرت له بتلك الطاقة التي تشع من عسليتيها وهزت كتفيها بعفوية وابتسمت له ثم
اجابت:
-
كما يحلو لك.
❈-❈-❈
بعد مرور يوم..
أغلقت عينيها وهي جالسة بتلك الحديقة
الملحقة بهذا المنزل الذي من المفترض أن يكون منزل زواجهما وهي تتمتع ببعض النسمات
قبل أن تشتد حرارة الصيف على مدار اليوم، وفتحت عينيها لتشرد به، جزء بداخلها تألم
ودفع ابتسامة حزينة لترتسم على ملامحها حتى تحول لون عينيها لشفافية شديدة بضوء
الصباح، كم كانت تتمنى لو أن هذا المنزل استمر بسعادة وعشق مثل ما استمر منزل
والدتها ووالدها بيوم من الأيام، ولكنك لا تعرف حقيقة إنسان سوى بقضاء وقت طويل
معه خلال علاقة وطيدة.
هي مغرمةٌ به وتعشق طريقة عشقه بهدوئه
الشديد حينما يكون بمزاج معتدل، تعرف أنه يعشقها، هي على يقين تام بذاك الانجذاب
الجسدي اللعين بينهما الذي لا ينتهي، هذه هي الأمور المشتركة فيما بينهما، وما عدا
ذلك فليس هناك ما يجمعهما.
لا تنفك تقارن بداخل رأسها، هي تعشق
البرمجة وعملها، وهو يكره عمله ولا يجد ما يريد فعله ويرغب به، تحب المرح
والاستقلالية بآرائها حتى ولو كانت مُخطئة بينما هو يريد أن يتحكم في كل ما تفعله،
حظها الجيد لو حصلت عليه بمزاج طبيعي باتت تفتش عنه بطيات عقله وتجبر نفسها على
رؤيته منه بفعل العقاقير، وحظها التعيس لو حصلت عليه خلال نوبة أو خلال كذبة
جديدة، لماذا تعشق رجل مر بكل هذا وهي بالكاد تخطو أولى خطواتها نحو كيفية التصرف
مع كل تلك التعقيدات النفسية الشديدة التي افسدت عقله، ونفسه، وقلبه؟!
اغمضت عينيها لتنساب دموعها في صمتٍ
شديد، تقسم أنها كانت تريد النجاح معه، ولكن كل ما هو عليه صعب للغاية، لن تستطيع
مواكبته، وهو لا يبادر بأي فعل يُطمئنها أنه سيكون أفضل يومًا ما، حتى لو ساعدته
واستمرت في محاولة علاجه، سيأتي اليوم ليكتشف ما تفعله، ولن يوافق، وقد يقابلها
بأسوأ ردة فعل قد تتخيلها، الأمر سيكون مفزع، ولقد باتت خائفة طوال الوقت، ولا
تتخيل حتى ما الذي سيفعله عندما تواجهه برغبتها في الانفصال، هل سيكون هذا دافع
ولو بسيط لإجباره على التغيير؟
الأفكار تتواتر على عقلها ولا ترأف به،
وهذا السكون لا يساعدها، بل يجبرها على تحمل اوجاع لا تنتهي، وهي لا تريد هذا
الضعف الذي اكتفت منه!
-
روري..
انتبهت على صوت والدتها التي التفتت لها
لتجدها أتت بمفردها جالسة على كرسيها المتحرك فحاولت أن تبتسم لها وتجفف دموعها
فاختلفت ملامح والدتها سريعًا وسألتها بحرص:
-
ما بكِ حبيبتي، لماذا تبكين؟
أومأت بالإنكار واجابتها بابتسامة:
-
لا شيء، كنت فقط أتمنى لو أن والدي لا
يزال معنا، كنت أود أن أسأله عن الكثير من الأشياء.ز لقد اشتقت له كثيرًا..
غمامة من الدموع حجبت مقلتي والدتها وسرعان
ما تحولت نبرتها وهي تتحدث بألم:
-
صادق!! ليته كان بيننا، كنت أتمنى رؤية
فرحته بكِ وهو بجانبي ومعنا ويراكِ وأنتِ مع الرجل الذي تحبينه ويرى سعادتك ويفرح
لأجلك، ويرى بسام وهو يذهب للجامعة.. لقد اشتقت له أيضًا، اشتقت لكل ما به، حنانه
وملامحه وضحكته ومزاحه، اشتقت له للغاية روان..
سرعان ما تواترت دموعها بشدة، لتلعن
غبائها الشديد عندما حدثتها عن والدها، فلطالما دخلت بنوبة من الذكريات والحزن
الجارف كلما تذكرت والدها فاتجهت لتُمسك بيدها وابتسمت إليها بمرح ثم حدثتها وهي
تحاول تشتيتها عما تتذكره:
-
ولكن نحن محظوظان بوجودكِ معنا، وها
أنتِ تري بسام بات رجلًا وسنفرح بدخوله الجامعة عما قريب، وبعدها سيذهب للعمل، وأنا
حياتي وزواجي بخير ولقد عدنا من سفرنا ونحن بأفضل حال وكل شيء صار أفضل.. لا تتركِ
تلك الأعين الساحرة يُزعجها البُكاء، لابد من أن تفرح وتسعد كما ترى أبنائها
سعداء، أليس كذلك؟
رفعت كف يدها نحوها وقامت بتقبيله لتربت
والدتها بحنان على رأسها لتحاول ابتلاع ذلك الألم وتحمله بداخلها واكتفت برسم
ابتسامة على شفتيها وانتظرت لترى أي استجابة من والدتها:
-
لقد كنت خائفة للغاية عندما سمعت عن أمر
الطلاق بينكِ وبين زوجك، ولكن الحمد لله، لقد اصبحتما بخير الآن، وكنت في غاية
القلق لو علم بسام، سيحزن من أجلك بالطبع، كما سيحزن من أجل عمر، نحن جميعًا نرى
كيف يعشقك ونحن نحبه لهذا، أريدكِ أن تفكرين بشكل صائب حتى تكون حياتكِ وزواجكِ
بأفضل حال..
أومأت لها بالتفهم ومن جديد قبلت يدها
وأخبرتها بابتسامة متسعة وعسليان لمعتا بالطاقة:
-
اعدك كل شيء سيكون بخير، لا تقلقي، حياتي
باتت أفضل، وبسام درجاته جيدة في دراسته، وبداية من الغد سأعود للعمل وكل شيء
سيكون أفضل حالًا مما كان
ابتسمت والدتها وضيقت عينيها نحوها
لتزفر براحة وهي ترى أنها استطاعت تشتيتها بالفعل عن حزنها ثم استمعت لسؤالها:
-
فلتخبريني، ما الذي كنتما تفعلاه لمدة
شهران بأكملهما؟ لم يخبرني عمر سوى بأنكما ستقومان بأخذ إجازة وستحاولان حل
المشاكل بعيد عن مسئوليات العمل، ومن يراكما الآن يظن أنكما عائدان من شهر عسل
وليست مجرد اجازة!
حافظت على ابتسامتها قدر استطاعتها، وفي
اثناء تلاقي اهدابها ثم تباعدها تخبط عقلها بما تتذكره من تلك الحوادث وهو يفعل تصرفات
غير مبررة، يوشك على قتل نفسه على سبيل تصديقه أنه يمتلك قوى خارقة، انتهاك جسدي
متتابع، نوبة من الجنون المحض، تعذيب لبدنها وعقلها على حد سواء، الكثير والكثير
مر أمام عينيها ولكن يستحيل أن تتفوه بكلمة واحدة قد تُقلق والدتها:
-
لقد كنا سعداء للغاية، السفر كان جيدًا
كتغير، وجلسنا نتحدث بشأن خلافاتنا والأمور باتت أفضل بيننا.
ارتسمت الراحة على وجهها ثم تحدثت
بتنهيدة:
-
أتمنى لكِ السعادة دائمًا معه، ولا أريد
أكثر من رؤيتكِ سعيدة
تمنت لو تستطيع أن تصدق كلماتها التي
تشع بالأمل ولكن مما قد قررته بطيات عقلها وفكرت به يحتم عليها أن تُصدق باستحالة
وجود زواج ناجح سعيد مع رجل مريض مثله، التظاهر بالسعادة والابتسامة هما الحل مع
والدتها إلى أن تحصل على انفصالها منه.
-
بالمناسبة، لقد قامت علا بالاتصال بكِ
منذ فترة، لم تستطع الوصول لكِ.
انتبهت على كلمات والدتها وتغيرت
ملامحها ليعتريها القلق وسألتها بلهفة:
-
هل كان هناك شيئًا؟
أومأت والدتها بالإنكار واجابتها بملامح
طبيعية:
-
لا أعرف، ولكن كل ما قالته إنها لا
تستطيع الوصول لكِ، هذا كان كل شيء.
لم تقتنع بإجابة والدتها وقالت مستفسرة:
-
أمي، علا لم تقم قط بالاتصال بالمنزل
منذ أن بدأت في العمل معنا منذ سنوات، لابد من أنه كان هناك شيء هام ولذلك قامت
بالاتصال!
انزعجت ملامح والدتها قليلًا واخبرتها
باستياء:
-
فلتتوقفي عن القلق من أجل كل شيء بهذه
الطريقة، ها أنتِ منذ سنوات تهتمين بالعمل في المقام الأول، ما الذي تغير، أظن أنه
حان الوقت لتهتمي بزواجكِ وزوجكِ في المقام الأول ولتفرحي قلبي بأحفادي أولًا ثم
تفقدي علا والعمل ولن يذهبان لأي مكان، وفي النهاية بسام سيغدو رجلًا وسيهتم بكل
هذا، حاولي أن تسعدي بزواجك ولتتركي العمل جانبًا الآن.
انبهار وتهكم على حد سواء ارتسما على
ملامحها وحدثتها متسائلة بسخرية:
-
من وجهة نظرك الأحفاد وزوجي أهم من كل العمل
الذي بذل والدي فيه مجهود لسنوات كثيرة؟
قضمت والدتها شفتيها وهدأت من نبرتها ثم
اجابتها باكتراث:
-
ابنتي، منذ زمن وأنا اراك تحبين العمل
وتهتمين به، وصادق كان يساعدك في أنك تكونين متفوقة في هذا، ولكن في النهاية لا
يجب أن يكون ألوية قبل حياتك الشخصية، بالطبع لم نكن لنستطيع الحفاظ على ما كل ما
وصل له والدكِ لولاكِ، وأنتِ الوحيدة التي استطاعت أن تفعلها لأنني لم يكن لدي
اهتمام بالعمل قط وبسام كان صغيرًا للغاية لمثل هذه الأمور، والوقت أصبح مناسب لأن
تجعلين زواجكِ قبل أي شيء، لا تنسي أنكِ في نهاية الأمر امرأة وزواجك وزوجك وبعدها
أبنائك في المستقبل لابد من أن يكونوا أولوية في حياتك..
غليان دمائها بداخل عروقها قد قارب على
دفعها للانفجار الوشيك أكثر مما قد تتحمله والدتها ولكنها حاولت أن تلتزم حدود عدم
اغضاب والدتها وغمغمت بعدم اقتناع:
-
تتحدثين وكأن بسام انتهى من دراسته وجامعته
ولديه خبرة كبيرة بالعمل حتى أستطيع الاعتماد عليه وانتبه لزواجي والانجاب وزوجي
كما تقولين، وما الذي تقصديه بأنني امرأة، هل هذا معناه أنه ممنوع عليّ أن اعمل أو
أنجح في أمر أحبه مثل البرمجة، فلتعتبري أنني قمت باختيار اولويتي وهي الحفاظ على
ما افنيت سنوات اتعلمه، وأن البرمجة والعمل أهم لدي من الزواج والمنزل والأطفال وكل
هذا!
اقترب "عمر" نحوهما ولكن لم
تتوقف والدتها عن تناول أطراف الحديث معها وعقبت قائلة بقليل من الحِدة بعد أن
انزعجت من حديث ابنتها لها:
-
حسنًا، بما أن العمل هو أولويتك وانتِ
ترين أن كلامي خاطئ فلتفعلي ما تريدي، ولكن ستعلمين لاحقًا أن كلامي هذا صواب
وأنني كنت أخبركِ هذا من أجل مصلحتك ولأراكِ أفضل امرأة ليس إلا!
تسرب لأذنيه بعض من كلمات والدتها لها
بالإضافة إلي ملامح كلتاهما المنزعجة فتيقن أنه لابد من أن هناك شيئًا ما أدى لتلك
الهالة من الاحتدام ولكنه جلس بهدوء وهو يتفحص الاعين التي رمقته باقتضاب ثم وجدها
تجبر ابتسامة زيفتها وكأنها تريد أن تقنعه بعدم وجود ما يستحق القلق بشأنه ولكنه
اكتشف هذا بمجرد نظرة واحدة إليها كما اكتشفت هي الأخرى أنه استطاع الحصول على عدم
مصداقيتها لتلعن بداخلها على تلك المباراة السخيفة التي سيتنافسان بها بعد قليل
بمجرد ذهاب والدتها، فهو لا يترك أي أمر ليمر مرور الكرام دون آلاف الأسئلة!
❈-❈-❈
-
لقد اخبرتك عمر أنه ليس هناك شيء، لماذا
أنت مصمم على أن هناك ما أخفيه عنك بشأن كلامي مع والدتي؟
اطال بهزة رأسه التي كانت بمثابة عدم
اقتناعه ولو بحرفٍ واحد من كل تلك التبريرات الواهية التي ظلت تثرثر بها وارح ظهره
بكرسيه وهو يتفقدها تلك النظرة المتفحصة التي تُزعجها بشدة واستمر محافظًا على
صمته وامتلئ باليقين بأن كل ما تحاول اقناعه به ليس له أساس من الصحة، على ما يبدو
التزوج من امرأة مصممة أن رؤيتها لكل الأمور صائبة أسوأ ما قد يواجه الرجل، ولكن
هذا لن يستمر لكثير من الوقت ولن يتوقف هو الآخر عن تصويب الأمور لتتماشى ولو
قليلًا مع ما يراه صائبًا، لقد افسدها بالكثير من الدلال على كل حال!
حدقته بانزعاج هائل وهي تشعر بازدياد غضبها
الشديد وكثرة تحملها لترهات عدة بالإضافة لحديثها مع والدتها وكل شعورها بالخوف
تجاه ما ستعانيه بداية من يوم غد لتقول بنبرة واثقة:
-
عمر، أنا منشغلة ولدي الكثير لفعله، وتتبقى
ساعات فقط وأنا وأنت سنعود للعمل والانشغال، أرجوك تحدث بأمر آخر وإما اصمت واجلس
معي في هدوء دون جدال، يكفي كل هذا، لقد أصبحنا نتجادل أكثر مما نتنفس
أومأ باستخفاف على كلماتها ويكأنه يتفق
على كلماتها لتتطاير كل تلك الخطط بداخل رأسها والتزامها تجاه ما تريد الوصول إليه
معه لتشعر بأنها ستنفجر عما قريب فنهضت لتتركه وتغادر فأوقفها بنبرة مستهزئة ليقول:
-
معك حق، لنتحدث بأمر آخر إذن!
أوقفتها كلماته فالتفتت وصوبت نظرها
نحوه وهي تعقد ذراعيها ووقفت بشموخ منتظرة حديثه لتجده يُشير بعينيه على جسدها
بنظرات متوالية سريعة فلم تفهم ما يشير إليه لتجده يتفوه بنبرة اتهام صريحة لا
يشوبها شائبة:
-
ألا ترين أن ملابسك مبالغ فيها للظهور
بها أمام الجميع
قلبت عينيها وهي تزفر من شدة انزعاجها
ثم هتفت بكلمات متقطعة:
-
هل تقصد، أنا حقًا لا أفهم..
اعادت زفرتها من جديد ثم تحدثت بكلمات
مفهومة نوعًا ما هذه المرة:
-
هل تحدثني عن ملابسي في منزل لا يوجد به
سواك أنت ووالدتي وهدى!
رفع حاجبيه بامتعاض كما صاحب كلماته غير
المتفقة معها ولكن حافظ على بروده الهائل:
-
وعندما يعود أخيكِ؟ هذا القصير الذي
يظهر جسدك لا يُعجبني ولا أقبل أن تجلس به زوجتي أمام أحد!
قلبت عينيها بنفاذ صبر تام ولم تعد
تتحمل تلك الأحداث المتهافتة عليها من قبل الجميع وتسربت الكلمات من بين شفتيها
دون أن تُفكر ولو لجزء من الثانية بالحروف التي تناثرت من بين شفتيها:
-
هل ازداد جنونك أم ماذا بك؟ يستحيل أن
ينطق هذا الكلام رجل واعي لما يقوله ويفهمه، يستحيل انسان لديه عقل يحاول باستماته
أن نتشاجر على أي سبب، مرة بشأن يونس، مرة الحمل والإنجاب، تريد أن تعرف عن حديثي
أن ووالدتي، والآن ملابسي التي أجلس بها في منزلي ولا يوجد أحد معنا، توقف أرجوك
قبل أن تصيبني بالجنون مثل ما أنت مصاب به!
رمقته باستهجان وحاولت احتواء تلك
العصبية الشديدة كي لا تسوء الأمور هذا إن لم تكن ساءت بالفعل من منظوره السقيم،
وقبل أن تشعر بشدة الندم على ما تفوهت به وجدت نفسها تُكرر كلماته بعقلها لتغمغم
باستياء:
-
عندما يعود أخي! أنت فقدت عقلك بالتأكيد!
لا تصدق أن مرضه العقلي أوصله لتلك
الفكرة، أن ينظر لها أخيها نظرة اشتهاء، هل لهذا الحد قد بات عقله خربًا؟
وكيف أنه لا يلاحظ كل تلك الرسائل التي
ترسلها له بكلمات نطقت بها رغمًا عنها؟ ألا يُصدق ولو للحظة واحدة أنه مريض؟ كيف
لا يقتنع ولو باحتمالية ضئيلة أنه مصاب بشيء ما؟ وكيف يُصدق أنه طوال الفترة
الماضية التي نسى بها كل ما حدث له، نسى أيامه بكل تلك الأحداث، هل لهذا
الحد تضرر عقله؟
فرغت من
تحديقها غير الواعي بوجهه وهي لا تدري هل تشفق عليه أم تقتله أم ربما عليها أن
تنهي حياتها بدلًا من مواجهة كل هذا معه ومع عائلتها ومع حياتها السخيفة التي على
ما يبدو لن تصلح أبدًا!
التفتت كي
تغادره حتى لا يحتدم نقاشهما أكثر من هذا وتجد نفسها تتفوه بأنها تتحمله فقط حتى
تستطيع الفرار منه ومن مرضه ومن هذا الزواج فضلًا عن عشقها إياه الذي لن يصلح
أبدًا سوى بتصديقه وإيمانه الحقيقي بأنه مريض للغاية ويحتاج الكثير من الوقت
والمثابرة حتى يُصبح رجل تستطيع أن تعيش معه. ولكن على ما يبدو هي تحلم بالمستحيل.
بمجرد اتخاذها
خطوة واحدة وجدت صوته يوقفها مُعلنًا بمنتهى البرود:
-
لو حدث شيئًا
بسبب أن ما أقوله صحيح وأن كلامك خاطئ لن تكون ردة فعلي جيدة!!
التفتت لتعطيه
نظرة مستهجنة شديدة الاستهزاء على لهجته المُهددة بصراحة واضحة، ثم وجدت أن عقلها
بات شليلًا لوهلة، لا يتحمل شدة امراضه المُرتابة تجاه كل ما تفعله، كما أنه لم
يعد قادرًا على استيعاب مدى ما وصل له من ظنون لن يظنها عقلًا سليمًا أبدًا،
الصدمة لا تزال مُسيطرة على تفكيرها فهي حقًا لن تجد بأسوأ كوابيسها أنه يرتاب
بتصرفات أخيها من ناحية أخلاقية بحتة، على ما يبدو ارتيابه بأخيه يتحول لانعكاس
على علاقتها بـ "بسام"، اسقاط بشع من عقله السقيم، ولكنها لن تقبل به
ولن تسمح له بأن يُصدقه هو نفسه ولا غيره!
❈-❈-❈
دلفت إلى
المنزل وهي تشعر أنها تحترق بداخلها بصحبة الجو الذي بات طقسه حار للغاية، جسدها
بأكمله قارب على الاشتعال من كثرة تفكيرها وما تواجهه مع الجميع، بداية من والدتها
ونهاية بزوجها، تقسم أنها لم تعد تحتمل.
للحظة ابتسمت
بسخرية على تلك الأيام التي ظنت أنها كانت اقصى وأشد ما يُمكن أن تواجهه في
الحياة، ولكن الجامعة والدراسة والعمل ونسيان نفسها لساعات وأيام متواصلة وهي
تحاول أن تُصلح شيفرة فسدت بأحد الأنظمة أهون ملايين المرات من هذا الجنون الذي
باتت تعيش به مؤخرًا.
اتجهت إلى
المطبخ مباشرة كي تسكب بعض العصير ثم استمعت لجرس الباب فلم تكترث، ستتفقده
"هدى" بالطبع أو أحد العاملين بالمنزل.
أغلقت باب
المبرد ثم رفعت شعرها وهي تحاول التخلص من هذه الحرارة الشديدة التي انبعثت بجسدها
ثم ارتشفت البعض وأغلقت عينيها وهي تحاول أن تتنفس بانتظام لعلها تهدئ من نفسها
قليلًا وكررت الأمر وهي تستند على طاولة المطبخ الرخامية وقررت أن تبدأ بالعمل
الآن ولكن ربما عليها الذهاب للاغتسال ببعض المياه الباردة أولًا.
جذبت الكوب
واتجهت في طريقها كي تصعد لتنفيذ ما قررته وارتشفت البعض مجددًا لتسعل بشدة فلقد أصابها
الهلع عندما وجدت "يونس" امامها يبتسم لها ببلاهة ولم يكتمل ابتلاعها
للسائل البارد بشكل صحيح فتوصل البعض منه لمجرى تنفسها.
-
ما بكِ؟ هل
أنتِ بخير؟ هل قمتِ برؤية شيطان ما؟
اشتد سعالها
فأمسك بالكوب منها ووضعه جانبًا ولم تتوقف فاقترب منها ووضع يده على كتفها بينما
اخذت تحاول طرد السائل المتبقي داخل مجرى تنفسها فربت بتلقائية شديدة على ظهرها
محاولًا أن يساعدها ليمزح قائلًا:
-
هل عليّ
الاتصال بالإسعاف؟ هيا روان هذا ليس بوقت مناسب للموت، على الأقل غادري الحياة بعد
مساعدتي!
ربت مجددًا
عليها بينما بدأ وجهها يتضح عليه اثار الهدوء وهي تتنفس بشكل أفضل وتوقف سعالها
ليبتسم لها ابتسامة لم تظهر اسنانه وانتظر إلى أن هدأت لتزفر في النهاية وهي تضع
يدها على صدرها وأجلت حلقها وهي تتمنى لو أن حياتها انتهت في لحظة واحدة من تناول
مشروب خالي من السموم وتنتهي من هذه اللعـ.نة التي تعيش بها!
-
هل أنتِ بخير
الآن؟
سألها فهزت
رأسها بالإيجاب فاتضحت اسنانه بابتسامته فهو يعلم أن هذه الابتسامة مستفزة حد
الجحيم ثم حدثها متسائلًا بنبرة عفوية:
-
هل تعرفين أنني
كدت أفقد عقلي وأنتِ بعيدة واستخدمت كل الحيل بيدي مع هدى وخالتي لتخبراني عند
عودتكِ؟
زفرت بملل وهي
تجيبه قائلة:
-
يونس هذا ليس
الوقت المناسب للتحدث في هذا الأمر
تقدمت خطوتان
وهي تبتعد عنه فأفسح لها المجال واخفض يده عن ظهرها والتفت ليتبعها ولكنه توقف
بناء على توقفها هي الأخرى وشعر بغبائه الشديد حينما وجد تلك النظرات الغريبة التي
لم يفهمها وهي تتبادلها مع زوجها الذي لم يجد بحياته رجل أسخف منه عندما تناول
جميعهم العشاء منذ حوالي شهرين ولكنه لن يذهب اليوم دون الحصول على ما آتى من
أجله، حسنًا.. سيتحمله من أجل أخته الصغيرة التي لن يتوقف حتى يصل لما يُريده
معها!
يُتبع..